Skip to main content

Full text of "ktp2019-bk11114"

See other formats


غونتر غراس ‏ 9#© 





السِي-<ا 
4 24.6 


طبل الصفيح 





غونتر غراس 


منشورات الجمل 


1_طماع !© :121 ]آنلا 1 


ولد غونتر غراس في 1977 بضاحية لانغفور التابعة آنذاك إلى دولة غدانسك 
الحرّة. والتحق في ١144‏ بالجيش الالماني جنديًا في سلاح الج ثم في صنف 
الدروع واخيراً في القوّات الخاصة» وقد جرح ووضع في الاسر الأمريكي. وبعد 
إطلاق سراحه مارس العديد من المهن في مجال الزراعة والمناجم والمقالع قبل أن 
يبدا بتعلّم الحفر على الحجر ومن ثم النحث والطبّاعة الفنيّة (الغرافيك) في أكاديمية 
الفنون بدوسلدورف من ١948‏ إلى ”150517: وتابع دراسته في كليّة الفنون ببرلين. 
وفي ١155‏ بدأ بنشر أولى قصائدهء وبعد ذلك بعام واحد رحل إلى باريس» حيث 
أقام حتى ١5١‏ وأنجز كتابة روايته «طبل الصفيح» التى جليت له شهرة واسعة, 
لتتبعها أعمال مهمة أخرى مثل «القطّ والفار» و«سنوات الكلاب» التي أصطلح عليها 
ذيعا بعد بكلاتية قداسخ. واتخرط غراس في العمل السياسي لضام الحرب 
الديمقراطي الاجتماعي, واركط نغلاقة تسنواقة مع الزعيم الاشتراكي والمستشار 
الالماني الاسبق فيلي برانت. ويعتبر غراس من الكتّاب الغزيريٌ الإنتاج؛ إذ أصدر 
حتى الآن نحو عشرين مجلداء وضمّت إلى جانب أعماله الروائية والمسرحية 
والشعرية:؛ الكثير من المعالجات النقدية والفكرية والخطابات والسياسية. وعرف 
غراس بمواقفه المبدئية الصلبة» ووقوفه إلى جانب الأقليّات القومية والدينية داخل 
المانيا وخارجهاء وبتصديه للأفكار العنصرية العدوانية واستنكاره للمذابح العرقية 
وحروب الهيمنة الاستعمارية» ومنها حرب الخليج الثانية. وحظيت أعماله الإبداعية 
والفكرية باهتمام الرأي العام الألماني والعالمي منذ عشرات الأعوام» وقد توّجت آخيراً 
بجائزة نوبل للآداب في العام 19599. صدر له عن منشورات الجمل: طبل الصفيح, 
رواية (١٠٠25)؛‏ قط وفارء رواية (١١٠5)؛‏ مثويتيء, رواية (؟١٠١٠)؛‏ سئوات 
الكلاب, رواية (*١٠3)؛‏ في خطو السرطانء رواية .)3٠١8(‏ 


ولد حسين الموزاني عام ١155‏ بناحية «الميمونة» - العمارة. غادر العراق إلى لبنان 
عام 1914 ومن ثم إلى ألمانيا عام ١14١‏ حيث يقيم الآن في مدينة كولونيا. درس 
في جامعة مونستر الأدب الالماني والأدب العربي والعلوم الإسلامية والصحافة. 
صدر له: خريف المدن» قصص (كولونيا-بيروت 5571١)؛‏ اعترافات تاجر اللحوم, 
رواية (كولونيا-بيروت 15417)؛ نيكولاس بورن: التزويرء رواية (ترجمة؛ كولونيا- 
بيروت 5194١)؛‏ راينر ماريا ريلكه: وليمة العائلة. مختارات قصصية (ترجمة, 
كولونيا-بيروت .)١598‏ بالإضافة إلى رواية باللفة الألمانية: 713501126006 1065 
(فراتكفورت 1595). 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


غونتر غراس: طبل الصفيح, رواية» الطبعة الثانية ٠١5١64‏ 

ترجمها عن الألمانية: حسين الموزاني 

كافة حقوق النشر والاقتباس باللغة العربية 

محفوظة لمنشورات الجمل» بيروت > يغداد ل لك 

تلفون وفاكس: ١ 555١١5‏ اكؤل١٠٠‏ 
ص.ب: لون اتلد بيروت - لينان 

0 رأءتجرمعاءء |8 ءذط :0:55 ععادنا 
6 عم13اءء 7 1ل1عاذ5 نإ6 1998 © 


0 وهماءء ا اعم خ-4 © 
/5621231) - .71 .3 عتعطاءء 71687 . 1127 طعولئأومط 
عل. أعصوع!-21. بجنت زع زذمء187 
211.66مع )ع 13مة/. أعصدع!21 :18-1111 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الإيقاع وصداه البعيد 


حول ترجمة غونتر غراس إلى اللغة العربية 


حسين المورزاني 


لابدٌ من الإشارة في البدء إلى أننا سنتناول في هذه المقدمة القصيرة 
موضوعاً واحداً يتعلّق بترجمتنا لرواية «طبل الصفيح» للكاتب الألماني غونتر 
غراس والصعوبات التي رافقت هذه الترجمة. وبلا شك أن غونتر غراس 
يعتبر من الأدباء المتعدديٌ المواهب». فهو روائي وقاص وشاعر ومؤلّف 
مسرحيّ ورسّام ونححات وخطيب سياسيّ. لكنّ المنحى الروائي قد غلبَ 
على نشاطه الإبداعي منذ صدور روايته «طبل الصفيح» التي نشرت في عام 
8 للمرّة الأولى. ويتسم أدب غراسء وربّما على العكس من أدائه الفنيّ 
التشكيليّ» بقوّة العبارة ومتانتها وانغلاقها أحياناً» وكذلك إحالاتها التاريخية 
[الفكرية والسائة العليةةة مما نمم هذا الأسلري ضما عفدا سينا 
خصوصيته المحلية الصرف» على الرغم من انتشاره في جميع أرجاء العالم. 
غير أن الصعوبة بحدّ ذاتها لا يجوز أن تكون حائلاً دون نقل الإبداع الأدبي 
العالمي» إنما قد يجد فيها المترجم متعةً فكريةً وتحدياً لغوياً لا مناص من 
خوض غماره. وبالأخص حينما يتمّ هذا النقل من لغة مثل اللغة الألمانية 
المعروفة بتركيباتها النادرة إلى اللغة العربية التي لا تقل عنها تعقيداً وبلاغة» 
وهنا بالذات تكمن معضلة الترجمة كلها. ولكن تتأكد فى ضكة هذا الرأي 
فعلينا أن نبدأ بعنوان الرواية فى الأصل الألمانى وهو أتهدهمعاطاء816 216 
وقد جاء معرفاً بأداة تعريف المؤنث 016+ فهو يتحدث إذن عن طبل صفيح 
محدد ويعبّر تعبيرا شاملا عن محتوى الرواية» بينما نجد مسميّات مثل 
«الطبل الصفيح» أو «طبلة الصفيح» أو «الطبلة الصفيح» لا تعطي المعنى ذاته» 

60 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وسيظل الإيهام يرافقها حتى لو حملت لام التعريف؛ لأننا لو قلنا على سبيل 
المئال: «عندما يدخل الزائر إلى المغرب يجد كذا وكذا»» فإننا لم نعرف 
طبلة الصف فسوف لا ير فى الح فتيه: لهند التيكنيات لا ال 
بد ا ال ا ء إلى 
سملا الفتوان «طبل النيع) يمعتاه ه الشامل. 1 0 حال» 00 لا 
نبالغ في أمر التسمية طالما هناك بدائل تتيحها لنا اللغة العربية عند الضرورة. 
وحسنا فعل المترجم الفرنسي عندما اختار مفردة واحدة هي «الطنبورة» 
المأخوذة من العربية التى اقتبستها بدورها عن الفارسية فجعلها عنواناً. وبهذا 
السياق فإن اسم 07355 01062167 يكتب عندنا بثلاث طرق مختلفة فهو 
كونتر كراس أو غونتر غراس في المشرق العربي أو جونتر جراس في مصر 
حيث عرفت روايته بالطبلة الصفيح . 

أسلوب الرواية يتضح من خلال العنوان أن هذه الرواية تتحدث عن أداة 
أو آلة لها علاقة بالفن والموسيقىء, أي الطبل الذي يقرع أو ينقر عليه. 
وتنتمي حسبما يقرر محقق أعمال غراس فولكر نويهاوس إلى جنس الرواية 
التربوية التعليمية 811011285101231 على غرار «سئوات تدريب فيلهلم 
مايستر» لغوته و«هاينرش فون أوفتردنغن» لنوفالس و«هاينرش الأخضر' 
لغوتفريد كللر و«دكتور فاوستوس» لتوماس مان. بيد أن غراس نفسه أكد في 
أكثر من مناسبة بأنه كان متأثراً بأسلوب الكتابة السائد في المغرب العربي إبان 
العصور الوسطى ومثلما جسدته روايتا لاسبمليسسيموس» ل "لوولت ف نل اوداك 
لغرملسهاوزن و«دون كشيوت» لسرفانتس» هذه الرواية التي استوحى غراس 
الكثير من مقومات بنائها وتقنياتها وأجوائها فيما يتعلق بمعالجة الشخصية ذات 
النزعة السلبية والساذجة أو الفطرية ومراقبة تطورها النفسي والذهني. وعن 
تأثره بهذا الأسلوب يقول غراس اإن من يتمعٌن في قراءة سرفانتس سيلاحظ 
من خلال الإشارات التناصية أن سرفانتس استفاد من إقامته وسجنه فى بلاد 
المغرب استفادة عظيمة» واعتمد أسلوب السرد المشرقي وطوّره». وأشار 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


غراس إلى أنه تأثر بكتّاب عصر الباروك أيضاً في ألمانيا والذين كانوا قد تأثروا 
بدورى بأساليب السره الشادعة في سانيا 6نذاك» تعد أن'اسععاروا شخصية 
«البطل» المتشرد المشاكس أو الظريف أو الشاطر مثلما يطلق عليه أحياناً؛ 
ونقصد به شخصية البيكارو 210350. ونجد هذا النمط في الشخصيات 
المتسمة بالجرأة والقدرة على السخرية والنيل من الآخرين في بعض 
الحكايات العربية السائدة آنذاك في عموم المغرب العربي ومشرقه؛ ومنها 
على سبيل المثال حكاية أبي زيد الهلالي والأمير حمزة البهلوان ومنامات ركن 
الدين الوهراني» وما إلى ذلك من الأدب الشعبي والموروث القصصي . وعلى 
هذه الموروثات والذخائر الفئيّة اعتمد غراس في بناء شخصيته الرئيسية 
«أوسكار» وسرد الأحداث الكبرى من خلالها. والرواية بمجملها قائمة على 
الوقائع المتسلسلة التي لعبت دوراً بارزاً في تاريخ مدينة غدانسك أو «دولة 
غدانسك الحرّة» فيما بعد» حيث ولد الكاتب غونتر غراس وحيث تدور معظم 
أحداث رواية «طبل الصفيح»» بالإضافة إلى روايتي «قط وفأرة و«أعوام 
الكلاب» المصطلح عليها ابثلاثية غدانسغ». وغونتر غراس يكثر من استخدام 
أسلوب التقويم الزمني الذي يتيح التعرّض إلى جملة من الأحداث السياسية 
والعسكرية خارج السياق الروائي وتوظيفها دون أن ينضب معينه التاريخي 
والسياسي. وإذا ما أضفنا تاريخ ألمانيا «البرويسية» و«الاتحادية» 
و«الديمقراطية» إلى تاريخ غدانسك ودولة بولنداء فإننا سنحصل في نهاية 
المطاف على مشروع روائي مفصّل وبالغ الشمول. ونكاد نعثر في كل مقطع 
على عدد من الإحالات التي تتطلب اطلاعاً معيئاً على تاريخ ألمانيا القومية 
وبولندا أيضاًء وبالأخص على التاريخ الحديث لدولة غدانسك التي شت 
ألمانيا النازية من أجل ضمها إلى الرايخ الغالث حرباً على بولنداء معلنةٌ بدء 
الحرب العالمية الثانية التي رسمت الحدود الحالية للقارة الأوروبية برمتها. 


لغة غراس 

صحيح أن (ثلاثية غدانسغ» ليست عملا بيوغرافياً في المقام الأوّلء إلا 
أنّها انطوت على معالم محلية متعددة» تصدرها مسقط رأس غراس نفسه» أي 
موطن الكاشوبيين الذي كان ومازال الكاتب شديد التعلق به والولاء له بحيث 


9 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


استطاع أن ينقذ بعضاً من لغة هذا الشعب الصغير الذي تنحدر منه والدته. 
وفي كتابه «من يوميات حلزون» يخاطب غراس ولده «راؤول» بالقول: «أريد 
أن أبنفك أنكه يا من تهعم بقروع الأشتجار والحدوه :غير المعظمةة بآن 
الكاشوبيين أو الكاسوبيين الذين يرجّح بأن ثلاثمائة ألف منهم مازالوا يعيشون 
اليوم» هم من قدماء السلافيين ويتكلمون لغةٌ مهددةً بالانقراض» لغةٌ مطعمة 
بالمفردات المستعارة من اللغتين الألمانية والبولندية». وبات غراس مولعا 
باللغة الكاشوبية وبذل قصارى جهده بغية إحيائها من خلال اللغة الألمانية» 
لغة الأب إن صح التعبير. لكنّ هذه اللغة التي استخدمها غراس لم تكن عادية 
تقليدية ومألوفة» إنما لغة خاصة به وحدهء أوجدها لنفسهء أو أعاد صياغتهاء 
فصار ينحت ويشتق منها كما يشاء. ولم يكتف بذلك» إنما وضع لها لحناً 
مميزاً يتناغم مع إيقاع الجملة طولاً وقصراًء مولّداً أنغاماً وإيقاعات موسيقية 
وصرخات بشرية وأناشيد جماعية وغير ذلك من الأصوات التي يشهدها المرء 
في الحرب والسلم. وقد عرف عن غراس أيضاً أنه كان يردد ما يدونه بصوت 
عال كما لو أنه يلقيه إلقاء» مما جعله يحظى بإعجاب المستمعين الألمان فى 
أماسيه الأدبية . فالتطبيل إذن هو السرّد وقد اتخذ طابع القرع اللخوي بمضربين 
لا يختلفان عن قلمى الكتابة بغيةً أيقاظ الحواس واستحضار الذاكرة واستنطاق 
التاريخ . والطبل هو الأداة القابضة على الإيقاع والضابطة له منذ بداية الراوية 
وحتى نهايتها. ونورد هنا بعض النماذج المتعلقة بإيقاع الجملة: «كانت بناية 
المسرح البلدي؛ أي مطحنة البنّ الدرامية» قد أغرت أصواتي الجديدة 
المتكلفة التى جربتها فوق سطحناء فوجهتها نحو نوافذها المصطبغة بحمرة 
الشمس الغاربة. وبعد دقائق من الصراخ المتنوع الشحن والاحتقان الذي لم 
يسبب ضرراً تمكنت من استخلاص صوت غير مسموع إلى حدّ ماء فأصبح 
بإمكان أوسكار أن يعلن بفرح وبفخر خائن غدذار: لقد توججب على زجاجتين 
في الوسط من الجهة اليسرى لنوافذ البهو التخلي عن شمس الغروب» حتّى 
أصبح يمكن التعرّف عليهما كمربعين سوداوين؛ يحتاجان إلى تركيب زجاج 
جديد على وجه السرعة». وفي مشهد مؤثر يصف أوسكار حالة الحزن التي 
انعد نيرالةه جاتسرات إثر عذال سليلعه» والدة اسان شقول؟ يدت 
أرى ماتسرات الذي لم يكن يحتسي الخمر في زمن أمّي إلا بصحبة الآخرين» 


م/ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


جالساً بمفرده في وقت متأخر خلف كأس صغيرة مخصصة لجرعة واحدة» 
ويتطلّع بنظرة مخمورة. وكان يقلّب ألبوم الصورء محاولاً» ومثلما أفعل أنا 
الآنء إحياء ذكرى أمّي المسكينة بصور سيئة أو جيدة الإضاءة» ثم يبكي في 
منتصف الليل عندما تحين ساعة البكاء فيخاطب هتلر أو بيتهوفن المتجهمين 
المعلقين قبالة بعضهما البعض.[ . . .] وبدا آيشا كما لو أنه كان يتلقّى إجابة 
من ذلك العبقري الأصم » في حين كان القائد الزاهد بالشرب يلوذ بالصمت» 
لأن ماتسرات الذي كان مسؤول خليّة صغيرة وسكيراً تراءى غير جدير بالتنبؤ 
بالمستقبل». ومن المفيد هنا أن نأتي بمثل آخر على انشغال غراس بهاجس 
الإيقاع وهو المثل الذي يلخص كل ما شهده أوسكارء البطل المركزي» 
ومحتوى الرواية» بعد أن منحه طابع الصلاة الأخيرة: «ما الذي عليّ أن أقوله 
الآن: فتحت اللمباتِ ولدتٌ وفى سنّ الثالئة توقفتٌ عن النمو عمداء وطبلا 
تالس ابيا حطمة وعطل + قانيلا شممتٌ؛ وفي الكنيسة سعلتُ؛ 
ولوتسي أطعمتٌ؛ ونملاً راقبتٌ» وعلى النمو أصررتٌ؛ وطبلاً دفنتُ» وإلى 
الغرب رحلتٌ» والمشرقٌ أضعتٌ» والنحتٌّ تعلمتٌ» وموديلاً وقفتٌ» إلى 
التطبيل عدت فالخرسانة تفقّدتٌ ومالاً كسبتٌ؛ وإصبعاً حفظتٌ»؛ وإصبعا 
أهديتٌ» وضاحكاً هربتُ » ويسلّم طلعتٌ» وللاعتقال تعرضتٌ فحكمتٌ 
وإلى المصحة نقلتُء ثم بُرأتء وآليوم في عيد ميلادي الثلاثين احتفلتٌ» 
لكنني خائف من الطاهية السوداء مازلت - آمين». والترجمة في معظم 
الأحوال هى تفسير للنصّء وأحياناً يوقف هذا التفسير العبارة الأصلية على 
معت واحد لآ غير بح عن تذاعياتها وإبحاداتها ويخل كذلك بتركيبها: 
وعندما يقدم مترجم آخر على نقل نص مترجم أصلاً إلى لغة ثالثة» مثلما 
حدث مع رواية «طبل الصفيح» التي صدرت بترجمتين عن الفرنسية 
والإنجليزية وغير مرخص بهماء فإن هذه التداعيات والإيحاءات الشاحبة في 
الترجمة الأولى ستختفي لا محالة» فضلاً عن وقوع المترجم الثاني في أخطاء 
لا حصر لها. وستكون أسماء الشخصيات والمدن والشوارع والأنهارء أي 
طوبوغرافيا العمل الذي أريد له أن يكون بمثابة طوبوغرافيا قوم ودولة اندثرا 
فلم يخلفا سوى الحنين والأسماء وبقايا لغة تتعرض للانقراض» ستكون هذه 
الأشياء كلها من أول ضحايا الترجمة غير الأصلية. والرواية بمجملها عبارة 


أن 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عن قراءة تاريخية نقدية للأحداث المهمة التي شهدتها أوروبا وألمانيا على 
وجه الخصوص» ولذلك فإن أسماء المواضع تثير حيئما وردت إلى أحداث 
تاريخية مهمة؛ وأي تحريف فيها قد يؤدي إلى سوء فهمء أو إلى التقليل من 
أهمية الحدث ذاته» فضلاً عن أن هذا التصحيف يؤدي بالضرورة إلى اختلال 
الصورة الفنيّة وتداعياتها. 


ثراء السرد وفقر القاموس 

ومن الطبيعى أن الكاتب المتميّز لابد أن يكون له أسلوبه الخاص» 
بصرف النظر عن جود هذا الأسلوب أو عدم جودته» لكنه يظل في كل 
الأحوال يحمل سمات التميّز والتفرّد. والكاتب الحقيقي هو من يجهد نفسه 
ليختط لنفسه أسلوباً ومنهجاً سردياً ومنظورا” متجدداً على الدوام» يصوغ من 
خلاله الوقائع وفق رؤيته الذاتية» حتى لو داخل هذا الأسلوب شيء من 
الاقتباس والتناص. وضمن هذا الإطار يعتبر غراس من المجددين في 
أساليب السرد الحديثة في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية» على الرغم 
من اتكائه على بعض مقومات النثر القصصيّ في عصر الباروك وآلياته. 
وتتضح هذه الجدة والحدائة عبر اختيار غراس لمفرداته وحرصه الشديد على 
أن تكون غير مبتذلة أو مستهلكة من فرط الاستعمال. وأحيانا يضطر إلى 
نحت المفردات؛ مستفيداً من الطبيعة الطيّعة للغة الألمانية في توليد المفردات 
وتركيبهاء مما يتعذر وجوده في اللغات الأوربية المعروفة. واجتماع مفردتين 
أو ثلاث أو أكثر في تركيبة ذات معان متقاربة أو متناقضة هي عملية سهلة 
للغاية في التوليف اللغوي الألماني. ويمكن من حيث المبدأ التنويع على كل 
مفردة بعد إدخال البوادئ واللواحق عليها بما يسمى بمنهج الصيغ الصرفية 
8 وولعل غراس بالغ بعض الشيء في توليداته النحتية» فصار 
ينوع مثلا على اللون الأحمر فيقول أحمر-أزرق و أحمر-أشقر و أحمر-بني 
و أحمر-ذهبي و أحمر-أسود وقهوائي-محمر وما إلى ذلك. أو يقول لون 
الأرض ولون البطاطس ولون العاج ولون اللحم وقديد الخنزير الوردي 
المطبوخ. ولذا ارتأى المهتمون بأدبه وضع فهرست من 78٠١‏ صفحة» يضم 
جميع المفردات المدوّنة في رواية «طبل الصفيح»»؛ ليتمكن الباحث أو 


١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


المترجم من تعبين مواضع ورودها وعدد المرات التي وردت بهاء إضافةً إلى 
وضع تعليق شامل وشروح للأحداث التاريخية وأسماء المدن والأنهار 
والأعلام. ويعبّر هذا الاهتمام من ناحية ثانية عن الروح المنهجية التوثيقية 
0 المؤسسات الثقافية الألمانية على العموم» بينما نجد الباحث 

الع ا ار اف ا ا 
ليضعها مقابل المفردة المراد ترجمتها. وكل ما يستعين المترجم العربيّ 
بالقاموس يخيب أمله» نظراً للعيوب والنواقص الكثيرة التي يحفل بها 
القاموس الألماني-العربي. ولو تناولنا هنا مفردة واحدة مألوفة يمكن أن ترد 
في أيّ نصٌ أدبي مثل 81/م4027:058 وبحثنا عن مقابل لها لأصبنا فوراً 
بالإحباط لأن هذا القاموس الضخم يوقف المفردة على معنى واحد غامض 
وهو «تماحة آدم». فى حين أت صاحب المورد بثلاث مرادفات لمفردة 
عآاممة تسقلف وهي الحرقدة وتفاحة آدم وعقدة الحنجرة. وقد تكون 
الحرقدة مدعاة للإشكال بسبب قدمهاء وقلّة استخدامهاء لكننا لا يجوز أن 
نتخلى عنها لهذا السبب وحده؛ لاسيما وأنّها تعطى المعنى المراد بكلّ دقّة. 
وأشار «لسان العرب» إلى أن الحرقدة هي عقدة ااحتوون والجمع الحراقد. 
وذكر غراس هذه العبارة مرتين ومرة ثالثة في صيغة الجمع . فلو أننا ترجمناها 
في تلك الصيغة لقلنا «تفاحات آدم؛ وهو معنى بعيد للغاية عما نريد» ولو 
تخيلنا مريضاً يقول له الطبيب «إن تفاحة آدمك ملتهبة» فكم سيكون ذلك 
مدعاة للعجب» بل للسخرية حتّى. غير أنْ هذه واحدة من أبسط المشاكل 
التي نحن بصددها هناء فقد أحصيت ما لا يقل عن مائة مفردة وعبارة وردت 
في «طبل الصفيح» ولم يرد لها ذكر في القاموس الألماني-العربي» أو جاء 
معناها مشوها أو غير دقيق» مثل 1610261562 وهي عبارة مركبة وتعني 
العلامة عموما أو علم التفريق بين جيشين متحاربين على وجه الخصوص 
لكننا لا نجد لها أثرا فى القاموس» إلى جانب عبارات مترادفة كثيرة التداول 
مثل ع2 طوعناء7 و 6 ا6 17 التي هي عبارة يومية مهمة وتعني وقف 
إطلاق النار و «اعطء5تعناء1. كما عرب كلمة أقعأقصةصطءاء1همع2] العر كبة 
ب (عيد (خميس) الجسدة وهو تعريب صحيح»؛ بيد أن هناك مرادفا” لهذه 
التسمية وهو عيد القربان. ولعلّ واضعي القاموس كانوا يخشون أن تتطابق 


1١١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


معانيهم مع معاني قاموس «المورد» المشروحة شرحاً جيّداً والمزودة أحياناً 
برسوم توضيحية» فتوخوا التمايز والاقتضاب. ثم إن القاموس الألماني- 
العربى خلا من طائفة من المصطلحات الحربية مثل 132ملاء1 
و عاط ع ددم وغ15ة23211 وعرّب كلمة 561165556052116 بكو أو 
#مزغل» وجمعها مزاغل» إلا أن الباحث أو المترجم لا يستفيد شيئاً من هذا 
التعريب؛ لأن الكلمة الألمانية المركبة تعني بدقة الثغرة الصغيرة التي توضع 
في المتراس لغرض الرماية والحماية معاً. ويعطي اسم غامضاً لمفردة دارجة 
تتعلق بالبيروقراطية وهي كلمة 3516115312 المركبة؛ فجعلها ادشت»» 
والمعروف أن «دشت» كلمة فارسية الأصل تعني السهل أو الأراضي المنبسطة 
أو الصحراوية ولا تفي هنا بالغرض الذي هو تراكم الأوراق وكثرة الإجراءات 
الروتينية. وقد جعلته حمية التمايز يمعن فى الاقتضاب فاختصر كلمة 
01 خطعة< إلى مجرد (قصرية»» بينما هي في الواقع إناء للتبول أو مبولة 
صغيرة توضع في غرفة النوم. وأعطى معنى واحداً مبتسراً لصفة 
طء5ة)2تمعءاطام فأوقفها على صفة «بلغمي»»؛ وهو المعنى القريب» مع أن 
هناك معاني أخرى مثل كسل أو ارتخاء أو لامبالاة. ويتكرر الأمر مع عبارة 
غير متداولة كثيرا' وهي 53115661 فيعربها ب «الموهف». وهو تعريب 
صحيح. لكنه غير مفسّرء في حين يعرفه صاحب «المورد» بأنه «غرفة 
المقدسات وملابس الكهنة فى كنيسة». وقد استخدمنا تعبير الموهف فى 
الترجمة بعدما فسّر في سياق النصّ ذاته؛ تماماً مثلما الحال مع مفردة 
«الرمث» بعدما تحققنا من صحتها تاريخيّاً ولغويًاً. ومع ذلك تبقى مهمّة 
الترجمة؛ وبالأخص الترجمة الأدبية» من المهمات الشاقة التي تتطلب الكثير 
من المهارات اللغوية والفنية والأدبية والتأني وتقليب الرأي قبل وضع الصياغة 
النهائية . لذلك وقعنا نحن أيضاً في جملة من الأخطاء في الطبعة الأولى؛ لا 
يمكن تبريرها بأن الوقت أدركنا إئر حصول غونتر غراس على جائزة نوبل 
للأدب وروايته الشهيرة «طبل الصفيح» لم تترجم بعد إلى العربية» وحاولنا 
تصويبها في الطبعة الثانية من الرواية. 


؟ 1١‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


إلى آنا غراس 


1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الكتاب الأؤل 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الثوب الواسع 


أعترف : بأنني نزيل مستشفى للعناية والرعاية الصحية» حيث يراقبني 
معيني ) وكاة آنل يمرك النظر عنّي» وثمّة عين سحرية في الباب» د 
أن عينيّ معيني ذات لون بنيّ وعاجزة عن اختراقي أنا الأزرق العينين. 
لذلك لا يمكن أن يكون معينى عدوا لى. لقد كسبت ودّه» وكنت أقصٌ 
على ذلك الرقيب المتطلع خلف الباب» حالما يطأ غرفتي» وقائعَ من 
ياتي؛ لكي يستطيع التعرف عليّ؛ على الرغم من العين السحرية التي 
كانت تعيقه. بدا أن هذا الرجل الطيّب كان يحترم ما أرويه عليه ويقدرهء 
فكان يُخرج لي» عندما أكذب عليه. بعضا من تشكيلاته الجديدة؛ لكي 
يكشف نفسه لىء ومن الصعب التأكّد فيما إذا كان فناناً. فمن الممكن أن 
تفيل السجحاقة مدرضن اتكارالها ابطقبالاً حون :وتقرى بعقى الترية: 
وكان يعقد بابتذال خيوط القَنْب التى يجمعها من غرف المرضى بعد انتهاء 
الزيارات ويفككها على هيئة أشباح متعددة الطبقات مرتبطة ببعضها 
البعض» ثم ينقعها بالجبس ويتركها تجف. ليشكها في دبابيس مثبّتة بقواعد 
خشبية. وكثيراً ما كانت تراوده فكرة إنجاز أعماله بالألوان. فكنت أنصحه 
بالعدول عن تلك الأفكارء مشيراً إلى سريريّ المعدني المطلي بالدهان 
الأبيض» متوسلاً به أن يتخيل هذا السرير المتكامل ملوّناً. فكان يصفع 
رأسه بيديه المعينتين من شدّة الهلع» محاولاً في الوقت ذاته التعبير من 
خلال وجهه المنكمش عن مخاوفه» فيبتعد عن خططه اللونية . 

وبهذا المعنى فإن سريري المعدني ذا اللون الأبيض في هذا المصحّةء 
يعتبر معياراً للقياس» بل كان يعني لي أكثر من ذلك: فهو الهدف الذي 


7و1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تحقيٌ أخيرء وهو عزائي وسلواي» ويمكن أن يصبح عقيدة لي» إذا ما 
سعط لق إدانة المصحّة بإجراء بعض التعديلات عليهء كأن أرفع مثلاً 
قضبان السرير المشبكة إلى الأعلى لكي لا يقترب مي أحد. ويحدث أن 
تقطع الزيارة الأسبوعية سكينتي المنسوجة بين قضبان الحديد البيضاء؛ 
فيأتى أولئك الذين يريدون إنقاذي» والذين كانوا يستمتعون بحبهم لي» 
راغبين في التعرف من خلالي على أنفسهم وتقديرهم ومبلغ احترامهم 
وكم كانوا يبدون فاقديٌ البصيرة» متوترين» وعديميّ التربية» حين 
يخدشون بقلأمات أظافرهم قضبان سريريٌ المشبكة البيضاء الطلاء» 
ويخططون بأقلامهم الجافة أو الزرقاء الحبر أشكالاً وقحة على الشراشف. 
وكل مرّة كان المحامي المكلف بالدفاع عنّي يقلب قبعته النايلون فوق 
القائمة اليسرى عند نهاية السرير بعدما يفجر الغرفة بتحيته العاجلة. وبقدر 
ما تستغرق زيارته من وقت - يتمتع المحامون عادة بقابلية مدهشة على 
الحديث - فإنه يسلب مني بهذا العمل القاسي مرحي وتوازني. 

وبعدما يضع زواري هداياهم فوق المنضدة البيضاء المكسوة بقماش 
من المشمّع والمنتصبة أسفل اللوحة المائية لشقائق النعمان» بعد تمكنهم 
من استعراض محاولات الإنقاذ الحثيثة الجارية آنذاك» أو المزمع القيام 
بهاء وإقناعي» أنا الذي يسعون كلهم بلا ككل إلى إنقاذه» بذلك المستوى 
الراقي لحبهم للآخرين وغيرتهم عليهم؛ فإنهم كانوا يجدون لذّة ومتعة في 
رجودهم ذانه فيغادرون غرفتي وخيثد يدخل معيني لعي يهري الغرفة 
ويجمع شرائط الهدايا. كان كثيراً ما يجد بعد انتهائه من التهوية وقتا 
للجلوس على حافة السرير ليفك عقد الشرائط» مشيعاً جوًاً من السكيئة في 
الغرفة» حتى أنني أطلقت اسم السكينة على برونو واسم برونو على 
السكينة . 


لقد اشترى برونو مونستربيرغ - أعني معيني» لكي أتخلّى عن اللعب 
بالكلمات - خمسمائة ورقة من ورق الكتابة على حسابي الخاص. 
وسيقصد برونو الأعزب الذي ليس له أطفال والقادم من ناحية #زاورلاند»» 
في حالة أن يبدو احتياطي الورق غير كافء يقصد مرّة ثانية دكان اللوازم 


18 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المدرسية» والذي كان يبيع لعب الأطفال أنشاكء وسيوفر لي مكاناً عانا 
من الخطوط وضرورياً لذاكرتي التي أتمنى أن تكون دقيقة . 

إنني لم أكن قادراً أبداً على أن أطلب من زوّاريٌ» أمثال المحامي» أو 
كليب» تقديم هذه الخدمة. كنت قلقاً من أن يحضر لي أصدقائي شيئاً 
خطيراً مثل الورق الخالي من الكتابة؛ والذي من شأنه أن يتيح فرصة 
الاستفادة منه لنفسي الترّاقة دوماً إلى إطلاق المقاطع الكلامية» إذ أنهم 
حبهم لي سيمنعهم من إحضاره بالتأكيد. وعندما قلت لبرونو: «آ يا 
برونوء أليس بإمكانك أن تشتري لي خمسمائة صفحة من الورق البريء؟» 
أجابني وهو يتطلع إلى سقف الغرفة؛ رافعاً سبابته في اتجاه بصره. ناشداً 
المقارنة: «تقصد ورقا أبيض يا سيّد أوسكار.» لكنني كنت مصرًا على 
كلمة بريء» ورجوته أن يلفظها هكذا أيضاً فى دكان القرطاسية. حين عاد 
بحزمة الورق في المساء المتأخر أراد أن يتظاهر باعتباره برونو الذي تحركه 
الأفكار. فثبّت بصره مرّات عديدة في سقف الغرفة الذي كان يستلهم منه 
تأملاته وخواطره» ثم قال بعد فترة صمت طويلة : «إنك نصحتني باستخدام 
المفردة الصحيحة» فطلبت ورقاً بريئاًء لكن وجه البائعة اصطبغ بالحمرة 
قبل أن تجلب لي ما طلبت.» 

فشعرت بالندم لأنني أطلقت صفة البراءة على الورق» خشية أن يلحق 
ذلك حديث مستطرد عن البائعات فى محل القرطاسية» والتزمت الهدوء. 
منتظراً أن يغادر برونو الغرفة» وفتحت بعد ذلك الرزمة ذات الأوراق 
الخمسمائة . 

لم أنفق الكثير من الوقت على رفع الكتلة الورقية الصلبة المتماسكة 
ووزنهاء فأحصيت عشر أوراق ثم احتفظت بالكتلة في الخزانة الصغيرة» 
مليكا تاما بالحرء لا تقض فيه» لكن كيف“ سابذا؟ 
متراجعاً إلى الخلف» أبجرأة» مكلنا وراد الحيرة والارتباك. ويمكن أن 
يبدو المرء معاصراً فيلغي الأزمان والمسافات كلهاء ليعلن؛ أو يدع 


19 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الآخرين يعلنون أنه قد حل معضلة المكان-الزمان» وكذلك يستطيع المرء 
أن يدعي» ومنذ البداية» بأن من المستحيل كتابة رواية هذه الأيام» لكن 
يراعه سيجود فيما بعد» ومن خلف ظهره كما يقال» بتسطير عمل لا نظير 
له فيستجل سبقاً أدبيَاًء ثم يتوج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من 
استطاع كتابة رواية. وقلت في نفسيء أنا أيضاء بأن من المناسب» من 
ناحية وديّة متواضعة» التأكيد منذ البداية على أن: لا وجود اليوم لأبطال 
الروايات» إذ ليس هناك شخصيات فرديّة؛ لأن الفردانية قد اختفت» ولأن 
الإنسان بات معزولاً» بحيث أن كل إنسان أصبح منفرداً بالقدر ذاته» 
ومتحروما هق العولة الفردية» مشكلا كعلة فزدكة خالية من الأسماء 
والأبطال. ويمكن أن تكون الأمور كلها سارية على هذا المنوال» 
ومحتفظة بمصداقية معينة» لكن فيما يتعلق بي وبمعيني برونوء فإنني أودّ 
التأكين.على أننا بطلذن مكتاناق تماماء فكاك بروتو قف وراء. عدسة الناب 
السحرية» بينما كنت اضطجع أنا أمامهاء وإذا ما فتح الباب» فإننا لا 
نتحوّل بالضرورة إلى كتلة بلا بطل ولا اسم على الرغم من الصداقة كلها 
والعزلة . 

وسأبدأ بنفسي من مسافة بعيدة» إذ لا يجوز لأحد أن يسرد وقائع 
حياته دون التحلّي بالصبرء فيذكر على الأقل نصف أجداده قبل أن يؤرّخ 
لوجوده الشخصي . وأقدم إليكم» أنتم الذين توجب عليهم أن يعيشوا حياة 
مضطربة خارج المصحّة التي أرقد فيها الآنء أنتم أيها الأصدقاء والزوّار 
الأسبوعيين الذين لا علم لهم بمخزون ورقيء إليكم كلّكمء أقدم جدّة 
أوسكار من ناحية الأم. 

كانت جذتي آنا برونسكي تتربع بثيابها العديدة ذات أصيل من شهر 
أكتوبر على حافة حقل للبطاطس . وفي فترة الفمحى كان يمكن رؤية الجدّة 
وهي تنضٌد الأعشاب الذابلة في باقات منتظمة» وفي الظهيرة وهي تتناول 
قطلمة غيو محلذة بالقبيسن الأسرف. ‏ وكايك قد سدردت الحقل للمرة الأخيرة 
قبل أن تجلس أخيراً فوق ثنيات ثيابها بين سلتين ممتلئتين تقريباً. وأمام 
فردتي حذائها المتخالفتين اللتين وضعتهما بشكل عموديّ كان تتصاعد 


؟” 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أحياناً نيران أعشاب البطاطس» متأججة وخانقة» وتبعث بدخانها فى اتجاه 
قشرة الأرضن الحفيفة الاتخدان على نحو مسطح متكلف: لقد حدث ذلك 
فى العام التاسع والتسعين» فكانت الجدّة تجلس في قلب «كاشوباي'» 
بالقرب من #بيساو» بل كانت أكثر قربا إلى معمل القرميد؛ جلست الجدّة 
آنذاك أمام «رامكاوة» خلف ناحية فيرأك» في اتجاه الشارع المؤدي إلى 
#برنتاو؛؛ ما بين «دير شاو و«كارتهاوس»» جلست مخلفة غابة 
«غولدكروغ» السوداء وراء ظهرهاء وتزحزح بطرف عود محترق من خشب 
البندق حبّاتٍ البطاطس حيث قلب الرماد المتوهج. وقد ذكرت للتو ثياب 
جدّتي بشكل خاصء متمنياً أن أكون قد قلت ذلك بوضوح كاف: لقد 
جلست بثيابها - نعم: إن هذا الفصل يحمل عنوان «الثوب الواسع» وإنني 
على علم تام بما أدين به إلى تلك القطعة من الملابس. لم تكن جدتي 
ترتدي ثوباً واحداء بل أربعة ثياب فوق» رلك ليس بوش اكات 
ترتدي ثوباً واحداً ظاهراً وثلاثة ثياب داخلية مستترة» إنما كانت ترتدي 
أربعة أثواب ظاهرة» أحدها يحمل الآخر تحته» ترتديها وفق نظام بتي 
نوات إفكانة الكتاوي» متديرة نوما بعد الخو فما كان بالأمس ظاهراً 
صبح اليوم مختفياً في الأسفل» وصار الثوب الثاني ثالغاً. وما كان في 
0 الثانية بات اليوم لصيقا بجلدها. وكان الثوب الذي وقف 
يوم أمس في المرتبة الثانية يسفر بصورة جليّة عن شكله ونقشته» أي أنه 
كان يسفر في الواقع عن انعدام الشكل؛ فإن أثواب جذتي آنا برونسكي 
كانت تؤثر كلها لون البطاطس . فلا بد أن يكون ذلك اللون يليق بها. وما 
عدا الطبيعة اللونية» كانت أثواب جذتي تتميز بإسراف ملحوظ في استخدام 
القماش الكثير. وعندما تلامسها الريح» فإنها سرعان ما تستدير وتنفتح» ثم 
تتراخى بعدما تظهر الريح نوعاً من الاكتفاء» وتظل ترفرف حين بعد سكون 
الريح تمامأء وتتطاير أثوابها الأربعة إذا ما هبّت عليها الريح من الخلف» 
وعندما تجلس» فإن الأثواب الأربعة تتجمع حولها. 
وبالإضافة إلى الأثواب. الأربعة المنتفخة دائماء أو المعلقة» أو 
المطوية؛ أو المتصلبة الفارغة والمنتصبة إلى جانب فراشهاء فإن جدتي 


"١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


كانت تحتفظ بئوب خامس لا يختلف قط عن قطع الملابس الأربعة 
الأخرى الرمادية اللون كالبطاطس . وكذلك لم يكن الثوب الخامس في 
الوق الخامس دائماً» بل أنه كان يخضع للتغيير» شأنه شأن أخوته - إذ 
أن الأثواب كلّها كانت تتمتع بطابع رجالي - فيرتبط بالأثواب الأربعة 
الأخرى التي ارتدها الجدّة. وكان عليه أيضاً أن ينقع في برميل الغسيل إذا 
ما حان وقته» لينشر في يوم الجمعة الخامسة على حبل الغسيل أمام نافذة 
المطبخ» وبعد أن يجفٌ تضعه الجدة على لوح المكواة. 

وإذا ما غطست الجدة قدميها في طشت الاستحمام» في يوم كل أحد 
مخصص للتنظيف والخبز وغسل الملابس وكيهاء بعد علف البقرة 
وحلبهاء مفضية ببعض من سرّها إلى الماء المليء برغوة الصابون» قبل أن 
تغادر ماء الاستحمام» لتجلس على حافة السرير؛ فإن الأثواب الأربعة التي 
أرتدها في ذلك اليوم» وكذلك الثوب الخامس المغسول تواً تكون مفروشة 
أماها على الأرضية الخشبية. حينئذ تسند الجفن الأسفل لعينها اليمنى 
بسبابتها اليمنى» رافضة أي مشورة تسدى لهاء حتى لو أتت من شقيقها 
فنسنت» لذلك فإنها كانت تتوصل إلى قرار عاجل» فتقف منتصبة لتزيح 
جانباً بأطراف قدميها الحافية ذلك الثوب الذي فقد الكثير من طراوته وبريق 
لونه الرمادي مثل رماد البطاطس؛ فى تلك اللحظة تحتل القطعة النظيفة 
المكان الذي فرغ للتو. ١‏ 

واحتفاء بعيسى المسيح الذي كانت جدتي تحمل عنه تصوّرات ثابتة؛ 
فإن الثوب النظيف سيشهد؛ صباح الأحدء أثناء زيارة الكنيسة في «رامكار» 
النورٌ من جديد عبر نظارته وطراوته المتجددة المتناوبة. ففي أي موقع 
كانت جدّتي ترتدي الثوب المغسول توًاً؟ إنها بلا شك لم تكن فقط امرأة 
مولعة بالنظافة» بل كانت أيضاً مصابةٌ بالغرور بعض الشيء» لذلك فإنها 
كانت ترتدي أجود القطع على نحو مرئي حين يكون الطقس جميلاً 
ومشمسا. 

بيد أن ذلك اليوم الذي قبعت فيه جدّتي خلف موقد البطاطس صادف 
مساء الإثنين. وقد بدا لها ثوب الأحد قريباً من يوم الإثنين» بينما بدت لها 


37> 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


تلك القطعة التي التصقت دافئةٌ فوق جلدها يوم الأحد» معتمةً حين تنساب 
على ردفيهاء وباهتة مثل يوم الاثنين نفسه. كانت الجدّة تصفر على رسلها 
دون أن تعني لحناً معيئاًء ثم نكشت بعود البندق أوّل حبّة بطاطس 
ناضجة» وأزاحت الرماد بعيداً إلى جانب كومة الأعشاب الكامئة اللهب» 
لكي تمسها الريح فتبردها. وبغصن مستدق الطرف شكت حبّة البطاطس 
الباردة المفلوقة المتيبسة الحواف وقربتها من فمها الذي توقف عن الصفير 
وصار ينفخ الرماد والتراب عن القشرة عبر شفتين جافتين» متشققتين بفعل 
الريح» وأخذت تغمض عينيها أثناء النفخ. وحينما كانت الجدّة تتوصل إلى 
قناعة بأنها نفخت بما فيه الكفاية» فإنها تفتح عينيهاء واحدة تلو الأخرى» 
ثم تقضم البطاطس بقواطعها التي تتيح النظر إلى الداخل» والتي كانت 
سليمة تماما ما عدا الانفراج الخفيف في وسطهاء وتحتفظ في فمها 
المفتوح بنصف حبّة البطاطس الساخنة» العجينية الشكل التي كان البخار 
يتصاعد منهاء ثم تتطلع بنظرة دائريّة عبر منخاريها المنتفخين اللذين كانا 
يتنسمان الدخان وهواء أكتوبر؛ تتطلع إلى الحقل حتى الأفق القريب الذي 
توزعت فيه أعمدة التلغراف. حيث أطل حوالى الثلث العلوي من مدخنة 
معمل القرميد. كان ثمة شيء ما يتحرك بين أعمدة التلغراف» فأغلقت 
جدتي فمها وزمّت شفتيها إلى الداخل وقلّصت عينيهاء ثم أخذت تلوك 
البطاطس . كان ثمة شىء ما يتحرك بين أعمدة التلغراف. شىء ما كان 
يتقو :وثية رجال فل كائرا ينقافزون بين الأعمذة فى اتاد المدحنقة 
وإلى الأمام» وفيما بعد تراجع أحدهم, لكنه انطلق 5 جديد» بدا ذلك 
المتراجع قصيراً وبديناً» وقد وصل إلى معمل القرميد؛ بينما كان الآخران» 
الطويلان النحيفان» قد أوشكا على اللحاق به عند المعمل»؛ لكنهما أخذا 
يتقافزان بين الأعمدة من جديد»ء وكان القصير قد خلفهما مسافة وراءه؛ إذ 
أنه كان على عجلة من أمره أكثر من النحيفين الطويلين الوثابين اللذين 
توجب عليهما الرجوع ثانية إلى المدخنة» لأن ذلك الثالث كان يطوف 
حولهاء فاقترب الآخران منه مسافة فترين» ثم انطلقا يركضان مرّة أخرى 
حتى اختفيا فجأة؛ إذ لم تعد لهما رغبة في العدو؛ هكذا بدا الأمرء 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وكذلك كان الأمر مع القصير الذي سقط أثناء القفز من المدخنة خلف 
الأفق. لبث الثلاثة فترة وجيزة على ذلك المنوال» أو أنهم استبدلوا ثيابهم 
في تلك الأثناء» أو لعلهم صاروا يضعون اللبن في قوالب القرميد 
ليتقاضون على ذلك العمل أجرا. 

عندما أرادت جدتى استغلال فترة الاستراحة فى التقاط حبّة بطاطس 
ثانية أخطأت انها د وك فغرة فسلن ذلك الذي بدا قصراً وبكيناً الأذن 
بثيابه ذاتهاء فأصبح الأفق من ورائه مثل سياج من خشبء وبدا كما لو أنه 
خلف الرجلين القافزين خلف السياجء أو بين القرميد» أو في الطريق العام 
المؤدي إلى ابرنتاو»؛ لكنه على الرغم من ذلك حتٌ خطاهء إذ أراد أن 
يكون أكثر سرعةً من أعمدة التلغراف» فأخذ يقفز قفزات واسعة بطيئة 
الإيقاع عبر الحقول المحروثة؛ وكانت القذارة تتطاير من نعليه وهو يقفز 
مبتعداً عن القذارة» وبقدر ما كان يقفز بخفة وسعة؛ فإنه بات يخوض فى 
الأوحال واخنا بذات وتجلد: وقد بدا في بعض الأحيان وكأنه غرز في 
الوحل» لكنه أعتدل واقفاً في الهواء؛ حش أنه وجلا متسعاً من الوقت 
ليجفف العرق من جبيئه أثناء القفز قبل أن تتشبث ث قدمه القافزة في الأرض 
المحروثة حديثاً والتي كانت أخاديدها : تقود إلى الطريق العام الموازي 
لحقل البطاطس الشاسع. لقد تمكن من الوصول إلى الممر الضيّق» 
وحالما اختفى القصير البدين فى الممر الضيّق تسلق الطويلان النحيفان 
اللذان يمكن أن يكرنا عد قانا حطك رزيارة لمعمل القرميدة تسلقا الأفق» 
فأصبح هذان الطويلان النحيفان اللذان لم يبلغا مرحلة الضعف والهزال 
بعد يحرران جزمتيهما من الوحل ويسحبانها سحباًء وبدت جدّتي غير 
قادرة على شك البطاطس وإخراجها من الموقد؛ لأن شيئاً ما قد حدث في 
تلك اللحظة؛ لم يكن يحدث كل يومء إذ أن ثلاثة من الرجال البالغين 
المتفاوتيّ الحجم والبلوغ كانوا يتقافزون حول أعمدة التلغراف» حتى كادوا 
يهدمون مدخنة معمل القرميد. قبل أن يختفوا وهم يثبون في الممر 
الضيّق. واحداً خلف الآخرء فصار القصير فى المقدمةء وخلفه الطويلان 
النحيفان» يبد أن الثلاثة جميعهم دلوا جهداً خارقاً وصلابةٌ كبيرة» وهم 


322" 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


يجرجرون الأوحال في نعل جزماتهم عبر الحقل الذي جنى فنسنت ثماره 
وأعاد ترتيبه قبل يومين. 

بعد ذلك توارى الرجال الثلاثة» فتجرّأت الجذة على وخز حبّة 
بطاطس أصبحت باردة إلى حد ماء» ونفخت عن قشرتها الرماد والتراب 
على نحو عابر» ودستها كاملة في جوفهاء وفكرت» هذا إذا كانت قد 
ذكرت أصلاً في شيء محدد: أن هؤلاء الرجال هم من معمل القرميد؛ ثم 
أخذت تلوك لقمتها بشكل دائري» إلى أن قفز أحد ما من الممر الضيّق» 
فتطلعت بوحشية إلى ذلك الرجل ذي الشارب الأسود الذي قطع مسافة 
الوثبتين التي كانت تفصله عن النار ليقف أمامها وخلفها ومن ثم إلى جانب 
النار في آن واحدء وهو يطلق الشتائم معبراً عن خوفه وقلقهء ولم يكن 
يعرف في أي اتجاه عليه أن يمضيء إذ أنه لم يعد يستطيع العردة من حيث 
أتى؛ ولأنْ النحيفين الطويلين لاحا في الخلف خارجين للترٌّ من الممر 
الضيّق. فقد قذف بنفسه على الأرض» ثم جثا على ركبتيه. كانت له عينان 
في الرأس أوشكتا على الانفلات من محجريهماء وكذلك كان العرق يسح 
من جبينه. فسمح لنفسه أن يزحف مقترباً من الجدّة أكثر فأكثر» بشاربه 
المرتعشء إلى أن وصل أمام النعل» فزحف ملتصقاً مباشرة بالجدة» 
ورمقها بنظرة كما لو أنه حيوان صغير ممتلئ الجسد. حتى أنها قذفت 
بحسرة» ولم تعد قادرة على مضغ البطاطس» تاركة النعل ينقلب إلى 
الأعلى. بل إِنّها لم تعد تفكر في معمل القرميد ولا في شواة القرميد» أو 
عمّال القوالب» إنما رفعت ثوبهاء كلاء لقد رفعت أثوابها الأربعة دفعةً 
واحدةٌ إلى الأعلى بمقدار مناسب؛ لكي يستطيع القصير البدين الذي لم 
يكن يشتغل في معمل القرميد التوغل في الأسفل حتى اختفى بشاربه» 
بحيث أن مرآه لم يعد مثل مرأى حيوان» فضلاً عن أنه لم يكن من أهالي 
«رامكاو), أو افيرأك» . لقد اختفى بهلعه وخوفه تحت الأثواب» غير 
مضطر إلى الزحف على ركبتيه» ولم يعد قصيراً أو بديناء إلا أنه مع ذلك 
احتل موقعه المناسب»؛ ونسي اللهاث ورعشة الخوف» ووضع اليد على 
الركة: كان عاذكا كما ل أنه كان يبحنا يرمه الأول أوبيوعة الأخير. كية 


30> 
1_طماع !© :11 ]آنلا 1 


شيء من من الريح كان يعبث بنيران الأعشاب» وكانت أعمدة التلغراف تحصي 
نفسها بصمتء وظلّت مدخنة المعمل منتصبة» فرذت جذتي ثوبها الظاهر 
على الثوب الذي يليه بنعومة وتعقّل» بحيث أنها لم تعد تث تشعر بالرجل 
المختبىع تحت الثوب الرابع» ولم تفقه أبداً من خلال الثوب الثالث طبيعة 
ذلك الشيء ء الذي أراد أن يكون جديداً ومدهشاً بالنسبة لجلدها . ولأنْ ذلك 
كان مدهشاًء ورين على نار : وكانياً وكالقا أيضا لأنْ الجدة لم 

تفقه بعد حقيقية ما حدث» فقد ل نبشت حبّتي بطاطس أو ثلاثاً من الرماد» ثم 
تناولت أربع حبّات بظاطن ثينة من الساة المنتصبة أسفل مرفقها اليمنى 
ودستها واحدةًٌ تلو الأخرى في الأعشاب المتوهجة» وغطتها بطبقة من 
الرماد» وصارت تقلّبها حتى تصاعد منها الدخان - إذ ما الذي كان عليها أن 
تفعله سوى ذلك؟ وحالما هدأت حركة أثواب جدّتي» واستقام الدخان 
السائل المنبعث من نيران البطاطس الذي فقد اتجاهه بفعل خفقان الركبتين 
والنبش وتغيير المكان» فصار يزحف من جديد بلونه الأصفر حسبما تشتهي 
الريح؛ متجهاً عبر الحقول صوب الجنوب الغربي» ظهر الرجلان الطويلان 
النحيفان اللذان كانا يطاردان القصير البدين الذي هجع الآن تحت الأثواب 
الأربعة. لقد تكشّف الأمر عن أن الطويلين النحيفين كانا من حيث الصنعة 
منتسبين إلى أولئك الذين يرتدون قيافات الجندرمة الميدانية. فتجاوزا 
جدتي هرولة؛ وقد قفز أحدهما فوق النار. إلا أنهما انحرفا فجأة وفي 
انحرافهما تجلّت رجاحة عقليهماء فتوقفا وأخذا يلتفتان ويدبكان 
بجزمتيهماء شاخصين وسط الدخان بالقيافة والجزمة العسكريتين» ثم سحبا 
قيافتهما الحربية وهما يسعلان؛ فسحبا الدخان معهما من كتلة الدخان 
نفسهاء فازدادت حدّة سعالهما عندما خاطبا جدّتى» لكى يعرفا فيما إذا 
كانت قد راث كولياجك؛ إذ آنها لايد أن تكرن لنسحه طالما جلست هناك 
عند الممر الضيّق» لأن كولياجك نفسه فرّ للتو من الممر الضيّق. 

ولم تكن جدتي قد رأت كولياجكء لأنها لم تعرف أحداً بهذا 
الاسم. وأرادت أن تعرف فيما إذا كان كولياجك من معمل القرميدء فهي 
لا تعرف إلا أولئك الذين يشتغلون في المعمل. غير أن صاحبا القيافة 


ا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الحربية وصفا لها كولياجك باعتباره شخصاً قصير القامة» بديناً» لا علاقة 
له بالمعمل. فتذكرت جدّتي أنها رأت رجلاً تنطبق عليه تلك الأوصاف 
كان قد مرّ على عجل» ثم أشارت بغصن رفيع» شكت فيه حبّة بطاطس 
بعثت بخاراء إلى ناحية «#بيساو» بما تطابق مع الهدف» وحسبما تقتضي 
البطاطس فلابد أن يكون الاتجاه يقع بين العمودين السادس والسابع من 
أعمدة التلغراف» إذا ما عدّها المرء ء من ناحية مدخنة المعمل» نزولا إلى 
ناحية اليمين. وفيما إذا كان ذلك العدّاء يدعى كولياجكء» فذلك أمر لا 
تعرفه الجدة» فاعتذرت لهما عن جهلها وانشغالها بالنار أمام نعلها. لقد 
كان لديها ما يكفي من المشاغل؛ إذ أن النار لم تنشب في الموقد إلا على 
نحو خافت» متوسط القؤة» لذلك فإنها لم تشغل نفسها بالآخرين الذين 
يمرقون من هناك» أو يقفون وسط الدخانء كما أنها لم تهتم قطّ بالناس 
الذين لا تعرفهم» بل تعلم بدل ذلكء بأنها مكتفية بأولئك الناس 
المتواجدين في «بيساو؛ و«رامكاو» وافيرأك» ومعمل القرميد. 

عندما نطقت جدتي بتلك العبارة أطلقت حسرة» لكن بصوت عال» 
لدرجة أن الرجلين المتلفعين بالقيافة الحربية أرادا أن يعرفا سبب تحسرها؛ 
فهرّت رأسها للدار» با يعنى أنها تحسرت يسبب خخفورت النار» وكذلك 
سيب الناين الكفيرين المتصييق ون الدعان» قم اتطيدتك لماك عه 
بطاطس بقواطعها المنفرجة انفراجاً واسعاًء وانهمكت تماماً في المضغ» 
وقلبت عينيها إلى طرف الشمال. 

لم يجد المتلفعان بقيافة الجندرمة في نظرة جدتي الساهمة ما يمكن 
الاستفادة منه. ولم يعرفا فيما إذا كان عليهما البحث عن «بيساو؛ خلف 
أعمدة التلغراف» فطعنا بحربتيهما كومة الأعشاب التي لم تلتهمها النار 
بعد. وإئر خاطرة 5 إلهام مفاجئة قلب الرجلان في وقت واحد سلتي 
البطاطس المليئتين إلى حد ما أسفل مرفقي جدتي». وصعقا لأنهما لم 
يبصرا كولياجك يتدحرج من القفتين أمام جزمتيهماء إنما البطاطس 
وحدها. فطافا بريبة حول أكوام البطاطس كما لو أن كولياجك دخل عليها 
أجيراً لاجئاً لوقت قصيرء عفنا سير نيه وكين + لكنيها على الر شع من 


/1” 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ذلك افتقدا صراخ الهدف المطعون. وأخذ شكهما يتجه إلى كل حرش 
مهمل وإلى كل جحر فأرء إضافة إلى التلال الصغيرة التي كومها حيوان 
الخُلدء ليعودا مرّة أخرى إلى جدّتي القابعة كالنبت» وتقذف بالحسرات 
وتجذب حدقتيها تحت رموشها لتبصر عبر بياض عينيهاء معددةٌ الأسماء 
الأولى لجميع القديسين الكاشوبيين بصوت مشبع بالمعاناة» ارتفع قليلاً 
بفعل النار الخافتة الاشتعال وبسبب قفتيّ البطاطس المقلوبتين. 

تأنضى حناسيا القياتة اللحريية قعره تفه ساعة ) مضديان حي 
ويقتربان من النار ويرصدان مدخنة معمل القرميد كما لو أنهما أرادا احتلال 
«بيساو»» لكنهما أجَلا الهجوم إلى وقت آخرهء وصارا يقربان أيديهما 
الزرقاء المحمرّة من الموقد» ثم تناول كل واحد منهما حبّة بطاطس مفلوقة 
قدمتها جدّتي بعصاها دون أن تنقطع عن قذف الحسرات. وفي منتصف 
المضغ تذكر الملفوفان بالقيافة العسكرية زيهما الحربي فوثبا في الحقل 
مسافة مرمى حجر بموازاة نباتات «الجينستا» الذاوية المحاذية للممر 
الضيّق» فاستنفرا أرنباً من مخبئه؛ أرنباً لم يكن اسمه كولياجك؛ ولم يعثرا 
إلا على حبّات البطاطس الطحينية المفطورة التي بعثت بخاراً ساخناًء فعزما 
بوداعة ودماثة خلق» مصحوبتين بشيء من الإرهاق. على جمع البطاطس 
النيئة من جديد في القفتين اللتين اضطرا إلى قلبهما في بادئ الأمر حسبما 
اقتضى الواجب. - ْ 

وفي الأخير بعدما عَصَرّ المساءٌ سماءً أكتوبر وجعلها تذري مطراً ناعماً 
مائلً» وغروباً كان لونه لون الحبرء شنّ الرجلان بخمول وكسل هجوماً 
مباغتاً على صخرة بعيدة معتمة اللون» ألا أنّهما تخليا عنها حين لاحظها 
بأنها كان هافدة أصلاء تجيرا غلبياينا كقى: وبعدما زاوها قليلة 
بأقدائهما وشرعا يدفتاق أيديهماء ستبركين بالداز الندية المسطورة 
والمستفيضة الدخان»؛ سعلا في معمعة اللهب الخضراء حتى دمعت أعينهما 
بالدخان الأزرق قبل أن يجرجرا أقدامهما منسحبين فى اتجاه #بيساو» 
انسجاباً دامعاً ساعلا: إن رجال الجتدرمة العدانين ل يعرنرة في الراقخ 
سوى إمكائيتين اثنتين لا ثالثة لهما. 


38> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لقد لفٌ دخان النار المحتضرة جدّتى برداء خامس فضفاض» حتى 
لها رجات تنمهاة بوتراتهة السارة وايعنيا بامهاء الأرناء السالحين: 
تحت الثوب نفسهء حالها حال كولياجك. وعندما استحال المجندان إلى 
نقطتين متبددتين» تتأرجحان ببطء فى المساء بين أعمدة التلغراف» نهضت 
جدتى بصعوبة كما لو أنها قريت ودزرها في أعماق الأرض» وأرادت 
الآن أن تقطع النمو النباتي الذي بدأتهء جاذبةٌ معها أنسجة الأرض وتربتها. 

شعر كولياجك بالبرد بعدما أصبح مكشوفاً دفعةً واحدة» بلا قلنسوة 
تحت المطرء هكذا مثلما كان قصيراً وبدينا. وعلى عجل أطبق أزرار 
سرواله التي جعله فتحها تحت الثوب الأخير خائفاً مذعوراً؛ شاعراً في 
الوقت ذاته برغبة عارمة في العثور على مأوى. وعاجل إلى إطباق أزراره 
عنية أن عدرض غرتؤصه إلى البره الجاغف» إذ أن الطقس كاة مشيعا 
بمخاطر الرشح الخريفي. 

وعثرت جدتي على أربع حبّات من البطاطس تحت الرماد» أعطت 
ثلاثاً منها إلى كولياجك واحتفظت بواحدة لنفسهاء وقبل أن تتناولها سألته 
فيما إذا كان من المشتغلين في معمل القرميد» على الرغم من أنها لابد 
وأن أدركت بأن كولياجك قد قدم من مكان آخر لا علاقة له بالقرميد؛ 
لذلك فأنها لم تضف إلى إجابته شيئاً» إنما حملته القفّة الخفيفة وانحنت 
لتحمل القفّة الثقيلة» ومع ذلك مازالت تحتفظ بيد طليقة لحمل المجرفة 
التي كانت تنكش بها الأعشاب وكذلك الفأس. وصارت تتمايل بالقفة 
والبطاطس والمجرفة والفأس وأثوابها الأربعة» ثم يممت شطر وجهها 
صوب ابيساو- أبّا . 

لم يكن ذلك هو الاتجاه الصحيح إلى «بيساو»» بل أنهما خلّفا معمل 
القرميد إلى الشمال» وسارا نحو الغابة السوداء التي تقع فيها اغولدكروغ» 
التي وقعت خلفها «برنتاو». وإلى ذلك المكان تعقب يوسف كولياجك 
القصير البدين جدتي ولم يعد قادراً على التخلي عن أثوابها. 


39> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تحت الزمث 


ليس من السهل آبداً أن أعيد تضوير سحن الدخان التى البعدت من 
نيران أعشاب البطاطس الكاشوبية والخطوط المتوازية لمطر أكتوبر وأنا 
مضطجع هنا في السرير الحديدي المشطوف بالصابون؛ في سرير مصحة 
الأمراض العقلية» واقعاً تحت رحمة العين السحرية المزججة» المسلحة 
الثانوية والضرورية لتدوين الحدث الرئيسي على الورق» إذا ما استخدمت 
الطبل يتأن وإتقان» ولو لم تسمح لي إدارة المصحّة باستنطاق طبلي ثلاث 
أو أربع ساعات يوميّاء لأصبحت إنسانا تعيسأ مسكيناء ليس له أجداد 
يمكن البرهة على وجودهم. وعلى أية حالء» إن طبلي قال: في مساء 
ذلك اليوم من أيام أكتوبر من العام التاسع والتسعين» وبيلما كان «أوهم 
كروغر» السياسيّ الأفريقي يمشط بالفرشاة حاجبيه الكثيفين المناوئين 
لبريطانيا في جنوب أفريقياء عُرزت بذرة أمّي» آغنسء» في رحم جدّتي من 
واكارتهاوز؛؛ بالقرب من معمل «بيساو» للقرميد» تحت أربعة أثواب 
الجندرمة المحلية» تلك الأسئلة المغفلة الساذجة وفى ظلّ نظراتهما 
المنطفئة التى كدّرها الدخان. 

لقد قامت آنا برونسكى؛ جدتى» فى سواد تلك الليلة العتيدة» بتغيير 
اسمها إلى آنا كولياجك بمعونة قسيس كان كريماً في توزيع أقراص القربان 
المقدس» ثم تبعت يوسف,. ليس إلى مصرء إنما إلى العاصمة الإقليمية 


0 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


على نهو «مولتاو»» حيث كان يوسف يعمل في النقل النهري وينعم في 
غضون ذلك بالهدوء من متاعب الجندرمة. 

ولكي أرفع من حدّة التشويق والإثارة قليلاً» فإنني سأحجم الآن عن 
ذكر اسم تلك المديئة الواقعة على مصب «مولتاو»» مع العلم أنها جديدة 
بالذكر في هذه المناسبة باعتبارها محل ولادة أمي . 

وفي نهاية يوليو من العام صفر وصفر - تقرر آنذاك مضاعفة ترسانة 
الأسطول الحربي القيصري- أبصرت أمَي نور الدنيا في برج الأسدء حيث 
الثقة بالنفس والتحليق في عالم الخيال والجود والغرور والغطرسة. كان 
البرج الأوّل المسمّى أيقا برج الحياة 7/1136 100201015 يدور دورة فلكية 
تركت أثرها على برج الحوت. إن تعارض الشمس مع كوكب نبتون» أي 
البرج السابع» أو 09 1125112011 21001115 برج الزوجيّة»؛ من شأنه 
أن يجلب الاضطرابء كما أن تعارض كوكب الزهرة مع رُحل المعروف 
بجلبه لأمراض الكبد والطحال والمسمّى بالكوكب المرّ والذي يهيمن عادة 
على الجَدْي ويحتفي بأعماله التدميرية في برج الأسدء حيث يقدم إلى 
كوكب نبتون ثعابين الماء ويتقاضى بدلاً منها حيوان الخلنن والذي يحب 
الكرن واليضل والشمتد نر والذى يقذف حهماً ويقسيد النيل» هذا الكوككب 
الذي يسكن مع الزهرة في البرج الثامن المميت» نعم؛ إن ذلك التعارض 
من شأنه أن يجبر المرء على التفكير في الحوادث» بينما كان غرس الجنين 
في حقل البطاطس ينبأ بسعادة مهددة» جسورة وتحت حماية عطارد في 
منزل الأقرباء . وعلن أن أضيف هنا احعجاج أنّي التي كانت تنفي بأنها 
عُرست في رحم أمّها فوق حقل البطاطس. لقد حاول أبوها في حقيقة 
الحال - اعترفت الأمّ إلى هذا الحد - لكن حالته آنذاك إضافة الوضع التي 
اتخذته آنا برونسكي لم يتم اختيارهما بشكل موفقء بما يمهد لكولياجك 
المقدمات الضرورية للإنجاب؛ «لابد أن يكون ذلك قد حدث أثناء عملية 
الهروب؛, أو في عربة الخال فنسنتء أو ربما في جزيرة ترويل» حيث 
مستووع الأحشاب» حيك عترتا على جهرة ونلاة لذى الملاتحين .4 كات 
أمّي تؤرخ لحيثيات وجودها بكلمات كهذه؛ بينما كانت جدّتي التي يفترض 


7١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


أنها على علم بالموضوع تهرّ رأسها بأناة قبل أن تبلغ العالم المحيط بها: 
انعم يا بئيتي؛ فوق العربة حصل ذلكء أو في (ترويل)؛ لكن ليس في 
الحقل: الريح كانت قوية» ثم مطرت الدنيا بجنون مثلما يقولون.» 

كان شقيق جدتي يدعى فنسنت» وبعد الوفاة المبكرة لزوجته حجٌ 
فلسنت هذا إلى اجنستوخاو؛ء حيث تسلم البلاغ من ماتكا بوسكا 
جستوخوفسكاء بأنه سيشهد فيها ملكة بولندا المقبلة. ومنذ ذلك الوقت 
صار ينقب في الكتب العجيبة التي كان يري في كل عبارة فيها تأكيداً على 
حقّ المطالبة بعرش مملكة البولنديين من قبل منجبة الآلهة؛ متخليّاً عن 
حقوله الصغيرة لشقيقته. كان ابنه يان الضعيف البنية الذي كان يميل إلى 
البكاء دوماًء يربي البط ويجمع الصور الملوّنة وكذلك الطوابع في زمن 
مبكر ينذر بالشؤم ويضمر قدرا سيئا للغاية . 

إلى ذلك المنزل الريفي المنذور لملكة بولندا السماوية جلبت جدتي 
قفتي البطاطس وكولياجك؛ فعلم الخال فنسنت بحقيقة الأمر وهرع فوراً 
إلى «رامكاو» وصار يطبّل في أذن القسيس لكي يتزود بأقراص القربان 
الربّاني ويعاجل إلى عقد قران آنا على يوسف. وحالما وزّع جناب 
القسيس المثقل بالنعاس بركاته الممطوطة بفعل التثاؤب وأدار ظهره 
المقدس الذي زرُوّد #بهبرة؛ ضخمة من شحم الخنزير» ربط فنسنت 
الحصان أمام العربة وألقى بالعريسين في جوف العربة» ومهّد أرضيتها 
بالتبن والجوالات الفارغة» ثم أردف يان المنتتحب بصوت خافت إلى 
جانبه على مقعد القيادة» وأصدر أمراً للحصان بأن يخبٌ باستقامة تامة 
ليش عنان الليل: لقد كان العريسان على عجلة من أمرهم. وعبر الليل 
المتعب المنهك والذي كان يزداد عتمةً وظلاماً وصلت العربة إلى مرفأ 
العاصمة الإقليمية. واستضاف أصحاب كولياجك الذين كانوا يشتغلون 
ملآحين» مثل شغلته» الزوجين الهاربين. وفى الحال انصرف فنسنت 
متوجهاً بحصائه. ضوب #بيساوة وكان هناك كلب حراسة يغظر وثمان بات 
لابد من إطعامها وثمة معزة وبقرة وأنثى خنزير يجب أن تعلف. إضافة إلى 
تنويم الابن يان» لأنه قد تعرّض إلى حمّى خفيفة . 


7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أمضى يوسف كولياجك ثلاثة أسابيع كاملة متخفياًء استطاع شّعره 
خلالها التآلف مع التسريحة الجديدة» ثم أنه حلق شاربه وزوّد نفسه بأوراق 
صحيحة لا غبار على صحتهاء وعثر على عمل ملاح تحت اسم يوسف 
فرانكا. لكن لماذا حمل كولياجك أوراق الملأح فرانكا الذي قُذف به من 
الناقلة الخشبية أثناء معركة بالأيدي فمات غرقا في نهر «بوغ» بالقرب من 
«مولدين» ولم يتم إبلاغ السلطات بموته؟ ولماذا يقدم نفسه في ورش 
النجارة وأمام تجار الأخشاب بصفته فرانكا؟ لأنه كان قد اشتغل في ورشة 
نجارة في «شفيتس»» بعد أن تخْلّى عن عمله في الأرماث الخشبية» لكنه 
تورّط هناك في مشكلة وخلاف مع رئيس ورشة النجارة الذي صادر سياجاً 
خنيا كان كرلياجك قد دفئة بيده باللوتين اللحير والآنيقن لهاناً بديعا: 
وعلينا أن نمنح في هذا الموضع بالتحديد المثل المعروف حقّه كاملاً» 
ذلك المثل القائل بأن المرء يمكن أن يفججر الصراع من السياج» وبهذا 
المعنى فإن رئيس ورشة النجارة انتزع لوحين أحمر وأبيض من السياج» ثم 
هوق باللوحيق البولنديين على ظهر كولباجك العاشوبي: حتى جعلهها 
حطبأ أحمر وأبيض؛ فتحوّل ذلك إلى دافع للمضروب لإضرام النيران 
الحمراء في ورشة النجارة المعالجة بالجصٌ الأبيض ذات ليلة مرصعة 
بالنجوم» احتفاءً ببولندا المشطورة نصفين؛ والتي كانت تعتبر موحدة لذلك 
5 

لقد كان كولياجك مضرم نيران متعمّد» بل إِنّْه قام بإشعال نيران 
عديدة» لأن ورش النجارة ومخازن الأخشاب المكشوفة فى غرب بروسيا 
كلها كانت تغرض نقسها آنذاك لمشعل التيران باعسارها مشاعر قومية ملتهبة 
بلونيين. وطالما كان الأمر متعلقاً بمستقبل بولنداء فإن مريم العذراء كانت 
حاضرة في كل خريف» باعتبارها جزءاً من العملية؛ وكان ثمة شهود عيان 
- ربما البعض منهم مازال حيّا إلى يومنا هذا - أبصروا أمّ الربٌ مكللةً 
بتاج بولنداء وقد أطلت فوق سطوح ورش النجارة المنهارة التي التهمتها 
النيران. أمَا الشعب الذي كان حاضراً فى كلّ خريف. فإنه كان يردد 
ا نشودة ابوغوروجسكا؛؛ والدة الربّء مكنا الاعتقاد بأن حرائق 


رذن 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


كولياجك قد شهدت احتفالات كبيرة صاخبة: احتفالات كان يؤدى فيها 


القَسَم . 
00 كان كولياجك مطلوباً ومتهماً بجنح مختلفة؛ فإن الملآح 
يوزيف فرانكا كان شخصاً محدود الأفق» يتيم الوالدين» لم يؤذ أحداً قطء 
ولم يبحث عنه أحد» أو يعرف شخصه. وبعدما قسّم يوسف فرانكا تبغ 
المضغ على بضع وجبات يومية» ابتلعه نهر «بوغ»» فخلف فرانكا ثلاث 
وجبات من التبغ موزعة على ثلاثة أيَام؛ إضافة إلى أوراقه الشخصية. 
ولأن الغريق فرانكا لم يستطع الإعلان بنفسه عن غرقه ولأن لم يكن هناك 
من كلّف نفسه بطرح أسئلة محرجة تتعلق بمصيره» فقد سطا كولياجك 
الذي كان جسمه شديد الشبه بجسم الغريق؛ وكذلك كان له شكل 
جمجمته المستديرة؛ سطا في البدء على فراتكاء ثم توغل زاحفا في جلده 
النظيف الثابت رسمياً ثبوتاً ورقيّاً. ومن بعد أقلع كولياجك عن تدخين 
الغليون وصار يعلك التبغ» بل أنه انتزع من فرانكا أشياءه الأكثر 
خصوصية؛ أي تعثره في الكلامء فأخذ يتصرف في.الأعوام اللاحقة بصفته 
ملاحاً حريصاً على عمله ومهذباً؛ ومتلعثماً إلى حدّ ما بالكلام؛ ويخترق 
غابات «نيمين» و«بورب» و«وبوغ» وافيستولا» منحدراً في اتجاه السهوب. 
لابد من الإشارة هنا إلى أنه تدرج إلى رتبة عريف في كتيبة الخيّالة تحت 
إمرة ماكنزن» والتي كانت مكلفة بحماية ولي العهد؛ إذ أن فرانكا لم يكن 
قد دخل الجندية» إلا أن كولياجك الذي كان يكبر الغريق بأربعة أعوام؛ 
ترك وراءه أثراً وسمعة معيبين لدى أفراد كتيبة المدفعية في ناحية «تورن». 
كان القسم الأخطر من الغزاة والنهابين والقتلة ومشعلي الحرائق 
يتحين الفرصة في ذلك الزمن» زمن السلب والنهب والقتل وإشعال 
الحرائق» لممارسة مهنة مستقيمة شريفة. فكانت الفرصة تعرض نفسها 
آنذاك صدفة» أو تقدم نفسها للمعنيين: فأصبح كولياجك الذي انتحل 
شخصية فرانكا زوجاً طيباء بعدما برأ من ذنوبه الحمقاء. لدرجة أن مرأى 
عود الثقاب المشتعل أصبح كفيلا بإلقاء الرعب في نفسه. ولم تكن حتى 
علب الكبريت الموضوعة أمامه على طاولة المطبخ حرّة بزهو وخيلاء تنجو 


35> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


من قبضته أبداء هذا الرجل الذي لو لم تكن عيدان الثقّاب موجودة في 
زمانة لاخترعها بنفسه. فصار يقذف بتلك المغريات الموسوسة من تافذة 
المطبخ. وكانت جدتي تجد صعوبة أحيانا في تحضير طعام الغداء في 
الوقت المناسب. وكثيراً ما كانت العائلة تقرفص في الظلام» لأنّ السراج 
النفطى قد انطفأ فتيله . 

ومع ذلك؛» فإن فرانكا لم يكن رجلاً مستبداً وطاغية» بل كان يرافق 
زوجته آنا فرانكا في أيّام الآحاد إلى الكنيسة في «نيدرشتات»؛ ويسمح لها 
بارتداء ثيابها الأربعة مجتمعة» مثلما كانت تفعل في حقل البطاطس» 
بصفته متزوجاً منها زواجاً شرعياً ورسميا. وعندما كانت الأنهار تتجمد في 
الشتاء»ء بحيث تمرّ على الملآحين ظروفاً صعبة» كان كولياجك يمضي 
الوقت بهدوء وأخلاق حسنة فى ناحية ترويل حيث يقطن الملاحون وعمّال 
الشحن والتفريغ وبناة الشفن؟ كان يجلس فتاه ويراقب ابنته آغنس التي 
بدت وكأنها حملت سمات الأب وصفاته» إذ أنها إذا لم تنزو تحت 
السرير» فإنها كانت تدسٌ نفسها فى خزانة الملابس؛ وإذا كان هناك 
ضيوف» فإنها كانت تقبع تحت طاولة الطعام بعرائسها المخيطة من 
الخرق . 

كانت الضبية اسن فحت الاختقاء» وتجد فيه أمنا وطيآئينة ومتمة 
مختلفة نوعياً عن المتعة التي حظي بها يوسف تحت ثياب آنا. 

كافمعيل الخرائق كولياجك رجلا ملسرعا هلدا بنا فيه العنايةة 
أكثر بكثير من قدرته على فهم الدافع الذي جعل ابنته تميل إلى الاختباء» 
لذلك أقام لها على شرفة الدار ذات الغرفة ونصف الغرفة» تلك الشرفة 
التي سُمرت لتصبح خنّاً للأرانب» أقام لها قمرةٌ خشبية؛ صممها حسب 
قياس البنت. وفي قمرة كتلك أمضت أمّي طفولتها تلعب بالدمى وتنمو. 
ويها يعد عنديا ذخات المدرسة بذا كما ل آنيا نبذت الدمى وصارت 
تلعب بالكريات الزجاجية وبالريش الملونة» معبرةً للمرة الأوّلى في حياتها 
عن ولعها بالجمال الهثل. ' 

وربما يسمح لي المرء هناء أنا المتحرق إلى سرد بداية وجودي 


هم*؟ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الشخصي » أن أعرض عن ذكر تفاصيل آل فرنكا الذين سار مجرى حياتهم 
بهدوء وانسياب حتى العام الثالث عشرء حين دُشنت سفينة #كولومبس» 
قرب «شيخاو»؛ آنذاك تمكنت الشرطة التي لا يمكن أن تنسى من اقتفاء أثر 
فرانكا المزيّف . 

حدث ذلك عندما توجب على كولياجكء مثلما كان يفعل في أواخر 
كلّ صيف» وكذلك فعل العام الثالث عشرء توجب عليه أن يقود رمثاً 
ضخماً من كييف عبر ابريبت2» مروراً بالقناة» فنهر ابوغ» حتى «مودلين» 
ومن هناك كان عليه أن يواصل الانحدار عبر «فيستولا؛. كان عدد 
الملأحين أثنى عشر رجلاًء تصحبهم سفينة الجرّ «راداونا» التي وضعت 
آنذاك فى خدمة معمل النجارة الذي كانوا يعملون فيهء فقدموا مبحرين من 
غرب "نويفيهر صوب ذراع «فيستولا» المطمور حتى «آينلاغه»؛ ثم تابعوا 
تجديفهم في نهر فيستولا طلوعاً نحو «كيزمارك».؛ ومن ثم 
«لتسكاوة. «وجتكاو؛» و«ديرشاو» إلى أن اجتازوا «بيكل» فتوقفوا فى المساء 
عكد لاتزراك؟ + محييق. صملا ركس التعازين الحدين على اغلين التاقلة 34 أله 
كان مسؤولاً أيضاً عن مراقبة عملية شراء الأخشاب من كييف. لمحه 
كولياجك للمرّة الأوّلى أثناء الإفطار على جناح الناقلة. جلسا آنذاك قبالة 
بعضهما يلوكان طعاما ويحتسيان قهوة الشعيرء وعلى الفور عرفه 
كولياجك . 

لقد دعا ذلك الرجل الشديد الضخامة» الذي شاب مقدم رأسه 
الصلع» دعا الملاحين لشرب الفودكاء وملا لهم فناجين القهوة. وفي 
منتصف الشرب والمضغ» أي بينما كان رئيس النجارين يسقي الملاحين 
في طرف جناح الناقلة الخشبية» قذم نفسه قائلاً: «يجب أن تعلموا بأنني 
رئيس النجارين الجديد؛ واسمي دوكرهوف, وأحبٌ الالتزام والانضباط!» 

وبناءً على رغبته ذكر الملآحون أسماءهم؛ واحداً تلو الآخرء وهم 
يفرغون فناجين الفودكا في أفواههم. فاهتزت حناجرهم. كان كولياجك 
أوَّل من احتسى الكأس» فقدم نفسه: «فرانكا؛» ثم ثبت بصره في 
دوكرهرف الذي هرّ رأسه. مثلما كان يهرّه من قبل» مكررا المفردة 


5 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الصغيرة «فرانكا» مثلما كرر من قبلها أسماء الملاحين. ومع ذلك فقد 
تراءى لكولياجك بأن دوكرهوف قد شدد على اسم الملاح الغريق. ليس 
بحدّة» لكن بتأمل واضح . 

أخذت «راداونا؛ تمخر عبابَ الغرين» قاذفة بأكوام الطمي والرمل» 
متفاديةً بمعونة النوتيين المتناوبين السيلٌ العارم الذي لم يعرف سوى اتجاه 
واحد. وعلى اليمين والشمال أراض منبسطة تارةً» ومتموجة بالتلال 
طوراء وقد خصدت غلالها. وثمةً أسوار من الشجيرات ودروب ضيّقة 
وخسوف انتشرت فيه نباتات «الجينستا»» خسوف خال من التعرّج يقع بين 
البيوت الفلاحية المنفردة المتباعدة»؛ وكان معدا لهجوم سلاح الفرسان» 
ولفرقة الرمّاحين المتموضعة شمالا في حقل رمليّ» وللخيّالة الذين كانوا 
يطاردون بعضهم البعض» غائرين عبر الأسوار الشجرية» ولأحلام ضبّاط 
الفروسية الفتيان» وللمعركة التي وقعت والتي ستقع من جديد دائماء 
وللوحة الزيتية: حيث السطح المستوي استواءً تترياًء والفرسان المسلحين 
سلاحاً خفيفا على الخيول المتهيجة» وهى تسقط الخيّالة الممتشقين 
السيوف» والقائد بمعطفه المحلّى بالنياشين والذي اصطبغ بالدماء»: وحيث 
الدرع لا ينقصه ألا زرّ واحدء ذاك الذي قطعه نبيل مازوفين» والخيول 
البيضاء التي لم يشهد لها السيرك مثيلاء تلك الخيول المستثارة المتوترة» 
المشرشبة الأعنة» بشرايينها المرسومة بعناية فائقة» وبمناخيرها القانية 
الاحمرار المنفوخة التي انبعت منها سحب مطعونة بالرماح والحراب» 
ورفرفت فوقها البيارق» وثمة خيول مطأطئة الرؤوس وسيوف مستدقة. 
شطرت السماء والشفق نصفين» وهناك فى الخلف - إذ أن لكلّ لوحة 
خلنية ماس كيه قررة ملعصقة نمام بالأتى: انست نيا الدخاف قر 
مستسلمة وسط السيقان الخلفية للجواد الأسودء وأكواخ منحنية ذليلة 
علاها الطحلب ومسقفة بالقش. وفي الأكواخ نفسها ثمة مصفحات 
جميلة؛ محافظة على رشاقتهاء حالمة بالغد» راغبة أيضاً في الخروج من 
اللوحة إلى السهل الواقع خلف سدود نهر فيستولا كالمهر النحيفة التي 
التصبت بين كتائب الفرسان الثقيلة السلاح . 


”7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبالقرب من «فلوكلافغ» نقرٌ دوكرهوف على ظهر كولياجك: «قل 
لي» يا فرانكاء ألم تكن قد اشتغلت قبل كذا وكذا من السنوات في مطحنة 
(شفيتس)؟ تلك المطحنة التي التهمتها النيران؟» 

فهرٌ كولياجك رأسه نافياً بصعوبة وتثاقل كما لو أنه اصطدم بمقاومة 
ماء لكنه استطاع أن يمنح عينيه تعبيراً حزيئاً ومتعباً. لدرجة أن دوكرهوف 
احتفظ بأسئلته الأخرى لنفسه بعد مواجهته لتلك النظرة. وعندما بصق 
كولياجك ثلاث مرّات وهو متكئ على سياج الناقلة في «مودلين» حيث 
يصب نهر «بوغ» في «فيستولا»» أي في الاتجاه الذي انحرفت فيه سفيئة 
الجرٌ #راداوناة» كان دوكرهوف يقف إلى جانبه» ممسكا بسيجارء وطلب 
منه نار فاخترقت هذه الكلمة ومعها لفظة «عود الثقّاب» جلد كولياجك 
على الفورء فقال دوكرهوف: «يا رجل! إنك لست بحاجة للشعور 
بالخجل عندما أطلب منك النار» لأنك لست فتاق» وإلا؟) 

أثناء ذلك كانوا قد خلّفوا بلدة «مودلين» وراءهم؛ وهناك سرت في 
وجه كولياجك حمرة عجيبة» لا علاقة لها بحمرة الخجل» إنما كانت 
بمثابة انعكاس متأخر لحريق أنشبه كولياجك نفسه في إحدى ورش 
النجارة . / 

لم يحدث ما بين «مودلين» وكييف؛ حينما طلعوا نهر «بوغ» عبر القناة 
التي كان تربط بوغ بنهر «بريبت»» عندما عثرت «راداونا» على نهر الدنيبر» 
قادمة من #بريبت»؛ لم يحدث ما يمكن اعتباره حواراً أو سجالاً بين 
كولياجك-فرانكا ودوكرهوف. ومن الطبيعي أن يحدث شيء ما على ظهر 
سفينة الجرّء أو بين الملاحين أنفسهم, أو بين الوقّادين والملآحين» أو 
بين قائد الدفة والوقادين والربّانء أو بين الربّان والنوتية المتناوبين» مثلما 
يحدث عادة بين جميع الرجال» أو ربما حدث في الحقيقة شيء ما بينهم؛ 
إذ يمكننى أن أتخيل مشاجرة قد تحدث بين الملأحين الكاشوبيين وقائد 
الدقّة المولو د فى ١اشتيتين»‏ الألمانية» أو أتخيّل إمارة من إمارات التمرّد: 
كالتجمع مثلاً على سطح الناقلة» أو إجراء القرعة؛ أو رفع الشعارات» 
لكن دعونا نترك هذه التكهنات» إذ لم يحدث أي نزاع ذي طابع سياسي » 


84> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أو طعان بالسكاكين بين البولنديين والألمان» ولا ضبّة يستلزمها الجوّ 
الذى يسود عادة إثر تمرّد مكشوف ناشئع عن وطأة الظروف الاجتماعية. 

. لقد واصلت «راداونا» طريقهاء ملتهمةٌ الفحم بشجاعة - حتى كادت 
أن تغرز ذات مرّة في طين القاع» حدث ذلك حسبما أعتقد بعد ناحية 
«بلوك» بقليل» إلا أن سفيئة الجرّ حررت نفسها بقواها الذاتية. لم تجر 
سوى ملاسنة حادة وقصيرة بين الربان باربوش القادم من «نويفارفاسر» 
وأحد النوتيين الأوكرانيين» فكان ذلك كل ما حدث - ولم يدرّن أي 
حدث آخر في محضر الناقلة . 

وإذا ما عنّ لى أن أدوّن أفكاراً فى سجلّ الرَمث؛» أو أحرر صحيفة 
غاقية بانسباة الداعلية ادو هوفية المععلتة بركائنة ورشة التجارة ليمكق 
أن أستعرض المغامرات والمنوعات والشبهات أو تأكيدهاء فضلاً عن 
الشكوك التي كانت سرعان ما تتبدد. كان كولياجك ودوكرهوف خائفين 
كلاهماء متوجسين» بل أن دوكرهوف كان أكثر خوفاً من كولياجك؛ 
لأنهما قد دخلا آنذاك الأرضى الروسية» فكان يمكن أن يسقط دوكرهوف 
من سطح السفيئة مثلما سقط فرائكا المسكين من قبله -والآن فإننا قد 
وصلنا إلى كييف - حيث أسواق الأخشاب الضخمة العملاقة التى لا يحيط 
بها البصرء حيث يمكن أن يفقد المرء الملاك المخصص لحمايئه في 
فردوس ذلك الضياع والضلال الخشبيين» أو أن يقع ضحية لوح طويل 
انهار فجأة» أو أن تُنقذ حياته بعد إصابته بلوح؛ ينقذ من قبل كولياجك 
الذي انتشل رئيس النجارين في البدء من غرين نهر «بيربت»» أو نهر 
ابوغ»» حيث جذب دوكرهوف في اللحظة الأخيرة» في تلك العرصة» 
عرصة الأخشاب الواسعة الخالية من ملائكة الحماية» وأنقذه من الانهيار 
الجارف لتيار الأخشاب المتساقطة. فكم سيبدو جميلاً لو أنني أستطيع 
التحدث الآن عن دوكرهرف نصف الغريق» أو نصف المهروس بفعل 
الألواح الخشبية»؛ والمتنفس بصعوبة» والذي حام حول عينيه طيف 
الموت؛ فيهمس في أذن فرانكا المزعومك «أشكرك شكراً جزيلاً يا 
كولياجك؛, تيفيك كه توقف ضرورية: «لقد تعادلنا الآنء واحدة 


8 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


بواحدة» فهيًا اعبر إلى الضفة الأخرى!؟ ولعلهما سينظران إلى بعضهما 
بعضاً بصداقة فيها شيء من المرارة» ثم يبتسمان بارتباك وحيرة» حتى يكاد 
الدمع يترقرق من مآفيهما الرجولية وهما يشدان على أيديهما مودعين 
بعضهما بتردد لا يخلو من الجفاء. 

ونحن نعرف تلك المشاهد من خلال الأفلام المصورة ببراعة تخلب 
الألباب حين يخطر في ذهن المخرج أن يجعل من شقيقين يناصب أحدهما 
الآخر العداء شريكين فى مصير واحد بعد آلاف المغامرات المستمرة 
اللابدمة بيسر'وصعوية :وذلك عب قدراك تكلية بارعة: بيد آذ كرليايك 
لم يجد آنذاك فرصة مناسبة يدع فيها دوكرهوف يموت غرقاً» أو ينقذه من 
مغبة الألواح الطويلة المتساقطة القاتلة. فبكلٌ يقظة وحذرء والتزاماً 
بمصلحة شركته؛ رنّب دوكرهوف عملية شراء الأخشاب في كييف» 
وأشرف على تجهيز ناقلات خشب جديدة؛ ووزع كالعادة على الملآحين 
نقودا روسية صحيحة وغير مزيفة» وبسخاء تام» بغية تسهيل العودة 
الميمونة» واستقل قطاراً أوصله إلى شركته التي نصبت معدات النشارة 
التابعة لها في مرفأ الخشب بين مصنعى السفن فى «كلافيتر؛ و«شيشاواء 
مَاراً بطريقة بمديئة وارسيو وامولين» و#آيلار» الألنائية تم اامارسيورغة 
و«١درشاوا.‏ 

وقبل أن أترك الملأحين يهبطون الأنهار والقناة» ليصلوا أخيراً إلى 
افيستولا» بعد أسابيع من الجهد الشاق؛ عليّ أن أمعن التفكير جيداً فيما 
إذا كان دوكرهوف قد خمّن في فرانكا شخصية كولياجك مشعل الحرائق. 
وأودٌّ أن أقول: طالما جلس رئيس النجارين مع فرانكا الطبّع السليم الطوية 
والمحبوب عموما على الرغم من محدودية فكره» طالما جالسه على متن 
ناقلة ؛ فإنه تمتى بلا شك أن لا يتخذ رفيقاً لرحلته لا يتورع عن ارتكاب 
أبشع الجرائم» رفيقاً على شاكلة كولياجك» وأنه قد تخلّى عن تلك الأمنية 
في المقعد الجلدي لمقصورة القطار. عندما وصل القطار إلى هدفه 
وتوقفت عجلاته في محطة «دانسغ» - لقد لفظتها الآن - كان دوكرهوف 
قد اتخذ قراره الدوكرهوفيّ» فأودع حقائبه في عربة لتنقلها إلى داره 


2 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وقصد مديرية الشرطة القريبة من «فيبنفال» بعزيمة فائقة؛ لأنّه تحرر من 
الحقائب» وصعد الدرجات المؤدية إلى البوابة الرئيسية قفزاء وبعد برهة 
قصيرة من التفقيشن المتمعن عقر على غرفة كانت معدّة ومنظمة بشكل 
يوحي بالمنطق والموضوعية» أتاح لدوكرهوف تقديم تقريره المقتنضب 
الذي لم يتناول سوى الوقائع. ولم يحدث ذلك بمعنى أن رئيس النجارين 
تقدم بدعوى» إنما ناشد بكل موضوعية أن تفحص قضية كولياجك- 
فرانكاء فوعدته الشرطة بتنفيذ تلك الرغبة . 

وبينما كان الرّمث الخشبيّ ينزلق منحدراً في النهر ومعه أكواخ البردي 
والملأحون طوال أسابيع» فقد دوّن أثناء ذلك الكثير من الورق في مكاتب 
عديدة» حتى وصل الأمر إلى الملف العسكري ليوسف كولياجك؛ ذلك 
المدفعي الحقير والذي خدم في كتيبة المدفعية المرقمة كذا وكذاء والتي 
كانت متموضعة في غرب بروسيا. كان ذلك المدفعي الخسيس قد أودع 
الحبس المتوسط الأحكام مرتين لمدة ثلاثة أيَام؛ بسبب ترديده لشعارات 
فوضوية» بلغة نصفها كان ألمانياً ونصفها الآخر كان بولندياًء وبصوت عال 
وفي حالة من الشّكر. لكن لم يتم العثور على تلك الأفعال الشنيعة في 
أوراق العريف فرانكا الذي خدم في كتيبة الحرس الخاص الثانية المعسكرة 
في ١لانغفور».‏ لقد نال فرانكا هذا صيتا حسنا وحظي بانتباه ولي العهد. 
وحين كان ساعياً للكتيبة إبان مناورة حربية» فأتحفه الأمير ولي العهد 
بدرهم أميريّ » كان يحمل في جيبه الكثير من الدراهم الشبيه؛ آنا الدرهع 
الآخر فأنه لم يكن مسجلا في ملف العريف فرانكاء إنما اعترفت جدتي 
بوجوده وهي تتتحب بصوت عال» عندما استّجوبت مع شقيقها فنسنت. 

لم تستطع جدتي مقاومة عبارة مشعل الحرائق بالدرهم الملكي 
وحدهء بل عرضت أوراقاً تغبت عدّة مرّات بأن يوزيف فرانكا كان قد تطوّع 
في العام صفر وأربعة في سلك الإطفاء في منطقة اغدانسك -نيدرشتات» ؛ 
وخلال أشهر الشتاء» حين كان الملآحون يتوقفون عن العمل» كان رجل 
الإطفاء فرانكا يساهم في إخماد بعض الحرائق الصغيرة أو الكبيرة. وثمة 
وثيقة أخرى أعلنت عن أن رجل الإطفاء فرانكا لم يساهم فقط في إطفاء 


١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


الحريق الذي نشب في مصنع قطارات اترويل» في العام صفر وتسعة؛ بل 
أنقذ حياة إثنين من متدربيّ الحدادة» وقد أدلى نقيب رجال الإطفاء هشت 
بشهادة مماثلة» وأضاف إلى المحضر: «أريد أن أعرف كيف يكون شكل 
مشعل الحرائق الذي يقوم بإخمادها في الوقت نفسه؟ ألم أره منتصباً على 
سلّم الإطفاء عندما أتت النيران على الكنيسة في «هويبوده؟ فكان ينبعث 
كالعنقاء من النار والرماد» ولا يخمد النيران وحدهاء إنما حريق العالم كله 
معهاء دري لها مييق المسيح! وأقول لكم حقّاً: إن كلّ من يطلق لقب 
(حنفية النار الحمراء) على الرجل الذي اعتمر خوذة الإطفائيين والذي كان 
له حقّ المرور قبل الآخرين ويتمتع بحب شركات التأمين» ويحمل في 
جبيه وائما حفنة من الرماد سواء أكانتت ثارة: ار 
فإن ذلك الرجل المدعي يستحق أن يربط عنقه إلى حجر الرحى . . 

ريّما لاحظتم أن النقيب هشت كان يعتبر بنظر متطوعيّ طعي 
واعظأ بليغ العبارة» فكان يعتلي كل يوم أحد منبر كنيسة سانت باربرا في 
«لانفارتن» ولا يتورع عن ضرب الأمثلة بكلمات مشابهة لتلك الكلمات 
التصويرية على غرار رجل الإطفاء السماوي ومشعل الحرائق الجهنمي»؛ 
ليرسخها فى أذهان رعاياه مادامت التحريات جارية بخصوص كولياجك- 
فرانكا. 2 

ولأنّ موظفي الشرطة الجنائية لم يذهبوا إلى كنيسة سانت باربراء 
فضلاً عن أن مفردة «العنقاء؛ ستتوغل في أسماعهم باعتبارها إهانة للسمو 
الملكي أكثر مما هي تبرير لأعمال فرانكا؛ فإن نشاط فرانكا التطوعي في 
قزقة الاملقام قة أذر عليه بملينا: فتمّ استدعاء هوه بن ووش ضار 
عديدة) واستعين أيضاً معطيات الدوائز المختصة وتقييماتها: لقد أبضر 
فرانكا نور العالم : في #اتوخل»؛ بينما كان كولياجك «تورنيٌ» المولد» ثم إن 
تضارباً بسيطاً شاب إفادات الملأحين المسنين والأقرباء البعيديٌّ القرابة. 
لكن الجرّة كثيراً ما امتلأت بالماء» فلم يبق لها في آخر المطاف سوى أن 
تنكسر. فعندما بلغت الاستجوابات مداها الأقصى دخلت ناقلة الأخشاب 
الضخمة أراضيّ الرايخ» وبعدما اجتازت ناحية تورن جرى تفتيشها تفتيشاً 


: 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عادياء لم يثر أي شبهة؛ ثم وضعت تحت الرقابة في المرافئ وأماكن 
الرسو. 

لقد انتبه جدي إلى المراقبة بعد أن تخطى «درشاو»» على الرغم من 
أنه كان يتوقع المراقبة» ولعلٌ نوبة سهو كانت تجتاحه بين الحين والآخر 
فتدفع به إلى حافة اليأس» منعته آنذاك من الفرار بالقرب من «لتسكاو». أو 
«كيزمارك؛» والذي كان مقدراً له أن ينجح في ناحية مألوفة كتلك وبمعونة 
الملأحين المتعاطفين معه. وبعل لأآينلاغها, حين توغلوا في ذراع 
«فيستولا» المطمورء حيث كانت الأرماث تسير ببطء وترتطم ببعضها 
البعض» كان ثمة قارب صيد شراعئ ينزلق بمحاذاة الناقلة على نحو 
بلفقه ار عر علفك للش كيد كان غاضًا بالركات والشيظ غلك 
«بليهنندورف؛ انطلق الزورقان البخاريان التابعان لشرطة الموانئع من الضفة 
الكثيفة البردي وشقًا طولاً وعرضاً المياه المالحة الراكدة لذراع «فيستولا» 
الذي كان ينبأ عادةٌ بالوصول إلى المرسى الأخير. وخلف الجسر المؤدي 
إلى «هويبوده» بدأ أصحاب «القيافات الزرقاء» يحكمون طوق الحصار؛ 
كان الرجال «الزرق» حاضرين فى كل مكان: فى مستودعات الأخشاب 
المقابلة لمصنع السفن وفي متشأة الزوارق الصغيرة؛ وميناء الأشاب 
المتسع على الدوام حتى بلغ ناحية #موتلاو»» وجسور الرسو التابعة لورش 
نشارة مختلفة» التي كان يأتي بعدها جسر الورشة التابع للشركة المعنية؛ 
والذي كان أهالي الملآحين وعائلاتهم ينتظرون العائدين» فقط في الناحية 
المقابلة عند «شيشاو»» حيث رفعت البيارق والأعلام» فقط هناك كان 
الأمر مختلفاً؛ إذ لابد أن تكون هناك سفينة جديدة جاهزة للتدشين» 
فاجتمع حشد غفير من الناس؛ حتى أن النوارس نفسها بدت مضطربة» 
فلابد أن يكون هناك حفل ما: فهل كان حفلاً لاستقبال جدّي؟ 

لم ينتبه الجدّ إلى حقيقة الأمر إلا بعد أن أبصر أكوام الأخشاب 
ملغومة بأصحاب القيافات الزرقاء والزوارق البخارية التى كانت تمخر 
المياه؛ منذرة بالشؤمء قاذفةٌ الأمواج على الناقلات؛ حنمل فقط أدرك الجدّ 
بأنْ ذلك البذخ والإسراف كانا مخصصين له وحدهء في تلك اللحظة 


و 
1_طماع1© :عا ]آنلا 1 


بالذات استيقظ قلب مشعل الحرائق» ذلك القلب الكولياجيكي العتيق» 
فنفض عن نفسه شخصية فرانكا الوديع» متنصلاً عن فرانكا المتطوع في 
فرقة الإطفاء» معلناً تخليه ملء شدقيهء وبصوت خال تماماً من التعدّرء عن 
فرانكا المتلعثم اللسان» فأطلق ساقيه للريح» هارباً عبر الناقلات والسطوح 
المتأرجحة» يعدو حافياً فوق الأرضيات الخشبية غير المستوية» قاطعاً 
اللوح الطويل بعد الآخر في اتجاه «شيشاو»» حيث كانت البيارق ترفرف 
بمرح في الريح. مخترقاً أكوام الأخشاب؛ إذ أن هناك دعائمٌ للماء أيضاًء 
تلقى عليها أجمل الخطابات» وحيث لا يهتف أحد باسم كولياجكء. ولا 
تُسمع سوى العبارة التالية: سأعمدك باسم 5045 كولومبسء أمريكاء 
حيث تبلغ القدرة على إزاحة الماء تحت السفينة أربعين ألف طنء» وتبلغ 
القرّة الحصانيّة ثلاثين ألفاً؛ إنها سفينة جلالته التي فيها صالة للدرجة 
الأولى»ء مخصصة للتدخين» ومطبخ للدرجة الثانية في الجناح الشمالي» 
وصالة ألعاب الجمباز من الرخامء ومكتبة؛ إنها أمريكاء سفينة جلالته 
المزودة بنفق للأمواج التي يقذفها المحرّك؛ ومتنزه فوق السفيئة ؛ فحييت 
خالداً تحت غار النصرء حيث كانت البيارق الملونة ترفرف في الميناء 
الوطني» وحيث وقف الأمير وراء دقة القيادة» وحيث كان جدي يركض 
حافياً: وقدماه لا تمسان بالكاد جذوع الأخشاب المستديرة» متجهاً نحو 
موسيقى الآلات النحاسية؛ فياله من شعب يتمتع بأمراء مثل هؤلاء! كان 
الشعب كله يهتف باسمه» وهو يقفز من ناقلة إلى أخرى؛ فحُحييت خالداً 
تحت غار النصرء وتحت صفارات الإنذار في مصنع السفن» وصمارات 
السفن الراسية في الميناء» وصفّارات سفن المهربين وسفن اللذة والمتعة» 
وكولوميس والحريق» وثمة زورقان بخاريان جنا من فرط الفرح وهما 
يمخران المياه إلى جانبه من ناقلة إلى أخرى» حتى قطعا الطريق عليه. لقد 
أفسد هذان المخربان لعبة المطاردة» فكان على الجدّ أن يتوقف. على 
الرغم من أنه كان في فورة الركض» فوجد نفسه يقف وحيداً فوق ناقلة 
وينظر إلى أمريكان فعاجله الزورقان من الناحية الأمامية» فكان عليه أن 
يقفزء ورأت الناس جدّي يعوم صوب ناقلة انحدرت في «موتلاوه. كان 


؛ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


عليه أن يغوص في الماء هرباً من الزورقين» وأن يبقى هناك في الأعماق 
بب الزورقين» فتزحزحت الناقلة فوقه. ولم تبد راغبة في التوقف» 
ذكانت كران ناقلات جديدة على الدوام. وإلى الأبد: ناقلة إير ناقلة . 
أوقف الزورقان محركيهما وأخذت أزواج الأعين الصارمة الحادة 
تفتش فوق ل الماء» بيد أن كولياجك ودع الأشياء والناس كلهم وداعا 
نهائياً» متجاهلا الآلات النحاسية وصفارات الإنذار وأجراس السفن وباخرة 
جلالته وخطبة تعميد الأمير هايئرش ونوارس جلالته المخبولة» غير قادر 
على أن يردد: حييت خالدا تحت غار النصرء ومتجاهلا رغوة الصابون 
بمناسبة تدشين باخرة جلالته؛ متوارياً تحت الخشب اللامتناهي عن أنظار 
أمريكا وكولومبس وعن تحريات الشرطة كلها. 
لم يعثر أحد أبداً على جنّة جدي. وأنا المقتنع تماما بأنه قد لافى 
حتفه تحت الناقلة» يجب علي أن أكلف نفسىء لكى أحافظ على 
الموضوعية» بإعادة سرد التصورات والروايات المدهشة المتباينة والمتعلقة 
بإنقاذه: قيل إنه عثر على فجوة بين أعمدة الناقلة الخشبية»كان حجمها 
كافياً لكى تبقى أجهزة تنفسه طافية فوق الماء. كانت تلك الفجوة ضيقة من 
الأعلى لدرجة أنّ الشرطة التي أمضت الليل كله تفئّش الناقلات وأكواخ 
القصب فوق الناقلات لم تتمكن من اكتشافها. 
بعد ذلك» وتحت جنح الظلام -كما قيل- تسلل إلى ضفة «موتلاو) 
الأخرى, بجهد بالغ وبشيء من الحظ» حتى وصل إلى مبنى منشأة سفن 
«شيشاو؛؛ فعثر على ملاذ في مستودع الخردة؛ وبعد فترة وجيزة تمكن من 
بمساعدة البخارة اليونانيين الذين كانوا يعرضون اللجوء على بعض الفارين. 
وادعى آخرون بأن: كولياجك الذي كان ماهراً جدّاً فى السباحة» 
ويتمتع برئة ممتازة» لم يغص تحت الناقلة» إنما قطع بقية نهر «متلاوة 
الواسع غوصاًء وبلغ اليابسة بعد أن حالفه الحظء ودخل منشأة سفن 
الليشارة حيرت اععلط يمثال البعفاة دون أن كبر رية أحد: ومن ثم 
اختلط بعموم الجماهير المتحمسة. وردد معها أنشودة ااحييت منتصراً 


هه 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ومكللاً بغار النصر»» فاستمع» وهو متأهب للتصفيق» إلى خطبة تعميد 
الأمير هاينرش على متن سفينة جلالته #كولومبس»؛ وانسل خخلسة من 
الجمع بعد التدشين الناجح للسفينة» مغادراً مكان الحفل بثياب كانت مبللة 
إلى حد ماء فاستقل في اليوم التالى - وهنا تلتقي رواية الإنقاذ الأولى 
بالرواية الثانية - استقل باخرة إغريقية شهيرة وسيئة السمعة» ثم اختبأ في 
زاوية ما. 

ومن أجل إتمام الموضوع» فإنني سأذكر الأسطورة التالية التي أشاعت 
بأنّ جدّي انساب مع التيار على جذع شجرة طاف حتى بلغ عرض البحرء 
فانتشله صيادون من محلة «بونزاك»؛ وسلموه إلى قارب بحري سويديٌ 
خارج المياه الإقليمية» ومن هناك جعلته الأسطورة نفسها يستعيد عافيته 
ببطء وبصورة مدهشة على أرض السويد» ليواصل رحلته إلى مالمو؛ إلى 
آخره. . .لكن ذلك الكلام كلّه كان مجرد هراء وثرئرة حريّة بصيادي 
الأسماك . 

لذلك فإنني لا أعير أدنى قيمة لأقوال أولئك الشهود غير الجديرين 
بالثقة والمنتشرين في موانئ المدن الساحلية» والذين ادعوا بأنهم رأوا 
جدّي في «بوفالوة» بالولايات المتحدة الأمريكية» عقب الحرب العالمية 
الأرلى بفترة قصيرة» وأنّه أطلق على نفسه اسم جو كوجك؛ وجعل 
المتقولون تجارة الأخشاب مهنة له؛ كما أنه يمتلك؛» حسب الادعاءء 
أسهماً مالية في مصانع الكبريت وعيدان الثقّاب» وأنّه صار أحد المقربين 
من شركات التأمين ضد الحرائق» وأصبح رجلا ثريّاً فاحش الثراء؛ 
ومعزولاء يقبع وراء مكتبه في إحدى ناطحات السحاب» ويضع في 
أصابعه كلها خواتم مطعّمة بالأحجار الكريمة الومّاجة؛ ويتمرن مع حرّاسه 
الشخصيين الذين يرتدون قيافات رجال الإطفاءء ويجيدون الغناء باللغة 
البولندية» ويطلقون على أنفسهم لقب «حرّاس العنقاء؛ . 


ك5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الفراشة والمصباح 


كان هناك رجل قد ترك كلّ شيء وراءه» وقطع البحار العظيمة» 
وحط ركابه في أمريكاء فأصبح ثرياً. وإنني أودّ الآن الاكتفاء بهذا القدر 
من الحديث عن جدّيء» بغض النظر عمًا إذا كان قد لقب نفسه بغولياجك 
باللغة البولندية» أو كولياجك باللسان الكاشوبي» أو جو كوجك بالصيغة 
الأمريكية. فمن الصعب جدّاً النقر على طبل من الصفيح بسيط للغاية» 
والطواف به فوق الناقلات المنتشرة على امتداد النهر حتى الأفق البعيد؛ 
ومع ذلك فقد تمكنت من قرع الطبل في موانئ الأخشاب والألواح 
العائمة» متجولا حول الشواطئ» مقلبا قصب البردي» حتى وصلت» 
وبجهد يسيرء إلى أجزاء السفن والمراكب التي لم يكتمل بناؤها بعد في 
منشأة «شيشاو». ومن ثم مصنع «كلافيت» للسفن». وكذلك ورش تصليح 
الزوارق» ومستودع خردة الحديد في مصنع عربات القطارات» ومخازن 
جوز الهند العطنة الرائحة التابعة لمعمل الزيوت» وجميع الأركان 
والمخابئ المعروفة لي فوق جزيرة العنابر والمستودعات . 

لقد فارق جدّي الحياة» فلم يعد يجاوبني» أو يظهر اهتماماً بالتدشين 
القيصري للسفن الجديدة» أو بغرق سفينة بدأ بتدشينها واستمر عشرة 
أعوام؛ سفينة تدعى في هذه الحالة «كولومبس» والتى كان يطلق عليها لقب 
«مفخرة الأسطول»» تلك السفيئة التى أبحرت بكل بداهة صوب أمريكاء 
وتم إغراقها فيما بعدء أو أنها هي التي أغرقت نفسها بنفسهاء ولعلها 
اتتقلف من جديد وأعيد بناؤها وعمدت ثانية» أو تحولت إلى خردة من 


ع 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حديد. ومن المحتمل أيضاً إنها طفت مرّة أخرى على السطحء تلك 
السفينة التي كان اسمها «كولومبس»» مقلدةٌ جدّي» وريّما إنها تتجول اليوم 
بأطنافها الأريعية أقاء وهالة تبخيدياء ,وقاعة الشارين الرياقنية ادر 
من المرمرء وحوض السباحة؛ وقمرات التدليك؛ دعونا نقول إِنّها تتجول 
في عمق ستة آلاف متر عند منخفض الفليبين» أو في خليج «أمدنتيف»؛ 
كما أن من الممكن الإطلاع على هذه التفاصيل في كتاب «فاير؛ عن 
الأساطيل» أو في تقويم الأساطيل - أظنّ أن «كولومبس» الأولى أو الثانية 
قد أغرقت نفسها بنفسها؛ لأنّ القبطان لم يعد راغباً في مواصلة الحياة» 
بسبب حالة العار التي أسفرت عنها الحرب. 

لقد قرأت على برونو جزءاً من حكاية الرّمث» ثم طرحت عليه 
سؤالاء طالباً منه الإجابة عنه بموضوعية؛ فقال بحماس: (إِنّه لموت 
رائع!؟ وعاجل فوراً إلى تحويل جدّي الغريق إلى توليفة من الأشكال 
المعقودة التي كان يركبها من شرائط الهدايا. فكان عليّ أن أقتنع بإجابته 
وأن لا أهاجر إلى أمريكا مترصداً ميراث الجدّ. 

اليوم زارني صديقاي كليب وفيتلار. وجلب كليب معه أسطوانة جاز 
تتضمن مقطوعتين لكنغ أوليفر» وناولني فيتلار بتكلّف (قلباً) من 
الشيكولاتة معلّقاً بشريط ورديٌء ثم أخذا يعبثئان ويقلدان مشاهد من قضية 
محاكمتي» فتظاهرت أمامها بالارتياح وخلو البال من الهم والغمّ؛ لكي 
أدخل الفرح إلى قلبيهماء مثلما أفعل عادة في أيّام الزيارات؛ معلناً عن 
استعدادي لتلقى أكثر النكات سخفاً بالقهقهة. وقبل أن يلقى كليب 
محاضرته المي حول علاقة موسيقى انعا العار كس يدات أقصّء 
وبخفية تامة» حكاية رجل اندس ذات مرّة تحت ناقلة خشبية عملاقة بشكل 
مهول. وقد حدث ذلك في العام الثالث عشرء أي قبل فترة قصيرة من 
اندلاع الحرب؛ لكن الرجل لم يظهر على السطح ثانية» وكذلك لم يتم 
العثور على جثته قط . 

ورداً على سؤال غير متكلّف طرحه بضجر شديد» أدار كليب باستياء 
رأسه المعقود إلى رقبته الكثيرة الشحمء وفك أزراره ثم أطبقها من جديد» 


4 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وصار يقلّد حركات السباحة» ففعل ذلك كما لو أنه نفسه اندس تحت 
طرّافة خشبية. وأخيراً نفض يده عن سؤالي» وألقى بذنب التخلي عن 
الإجابة على المساء المبكر. وبدا فيتلار في جلسته مثابراً تماماًء واضعاً 
ساقاً على ساق» حذرا هن آن تتكس ننيات سرواله. جكدرفا تبطا عه 
السخرية الهجينة الشديد النعومة والسخرية بملائكة السماء: «إننى موجود 
الآن على ظهر الناقلة. والجو أصبح رائعاً جدّاً على سطح الناقلة» فصار 
التعوطن يقرفتن:. إنه إذا لآمز سند عنما أكون تت الناقلةء. تحرى ل 
يقرصني الحو وهذا أمر مريح للغاية. وأعتقد أن الحياة ممكئة تحت 
الناقلة» إذا لم يكن المرء راغباً في البقاء على سطحها لينهشه البعوض .» 
وتوقف فيتلار عن الكلام توقفاً عتيداً أثبتت التجربة الطويلة فعاليته» 
وتفحصني بنظرة» ثم رفع حاجبيه اللذين كانا مرفوعين أصلاً بالفطرة» لكي 
يبدو مظهره شبيها بمظهر طائر البوم» وقال مشددا على عباراته بشكل 
مسرحي : «إنني أفترض أن الغريق» أي الرجل الذي انزلق تحت الناقلة» 
هو شقيق جدك,ء إن لم يكن جدك نفسه. ولأنه كان يشعر بالمسؤولية 
إزاءك باعتباره شقيق جدك» أو جدك بصورة أوضح؛ فإنه لاقى حتفه؛ إذ 
لبين غدالة كنىء أشة يقفا اليك هخ أنّ يكون لك جد حنى. وعليه فإنك 
لدت نفل قال اقيق يوذك» بل قاكل دك تقنية | ولآته أرا أن فاتك 
قليلء مثلما يفعل كل جدّ حقيقي» فإنه لم يخلّف لك ما من شأنه أن 
يدخل البهجة إلى قلوب الأحفاد. بحيث يجعلك تقف على الجنّة الغريقة 
المتفسخة والمترهلة. لتشير أليها بفخر واعتزاز» ثم تستخدم كلمات مثل : 
انظروا إلى جدي الميّت! لقد كان بطلا حمّا؛ فاقتحم الماء عندما كانوا 
يطاردونه . لقد اختلس جدَّك الجنّة من العالم ومن الحفيد معأ لكي 
ينشغل به الحفيد والأجيال القادمة زمنا طويلا.» وبعد ذلك ينقلب فيتلار 
الطبيعي إلى فيتلار الماكر المنحني قليلاً إلى الأمام؛ موحياً بدزعة 
المصالحة؛ قافزاً من نبرة مسرحية مصطنعة إلى أخرى: «إنها أمريكاء فكن 
فرحا يا أرسكارا لقد أصبح لك هدفاً في الحياة» ومهمة. وسيحكمون 
عليك هنا بالبراءة وسيطلقون سراحك؛ فإلى أين ستذهب إن لم تذهب إلى 


1 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أمريكاء حيث يستطيع المرء العثور على كل شيء مرّة أخرى؛ بما في ذلك 
الجدّ المفقود!» 

ومهما غرقت إجابة فيتلار بالتجريح والتهكم المرّير؛ فإنها كانت 
تمنحني ثقة أكبر بكثير من تبرم كليب الضبابي العائم والذي لا يفرق بين 
الموت والحياة» وكذلك أفضل من إجابة الممرض الذي أطلق صفة الرائع 
على موت جدّيء لسبب واحد ليس إلاء وهو أن 5245 كولومبس قد 
دُشّنت بعد رحيله بفترة وجيزة» وغمرتها الأمواج. حينئذ امتدحتٌ أمريكا 
فيتلار المحافظة على الأجداد, أمريكاء ذلك الهدف المكتسب سلفاًء 
والمثل الأعلى الذي يجب أن أضعه نصب عيني إذا ما ألقيت بالطبل 
وريشة الكتابة جانباً ذات يوم ضجراً بأوروبا: «عليك أن تواصل الكتابة يا 
أوسكار! أفعل ذلك من أجل جدك كولياجك الثري والمتعب في آنء 
والذي يشتغل الآن في تجارة الأخشاب ويعبث بعيدان الثقّاب فى جوف 
إحدى ناطحات السحاب!» ْ 

حالما ودعني كليب وفيتلار» منصرفين أخيراًء قام برونو بطرد رائحة 
الصديقين المزعجة من الغرفة عبر عملية تهوية فعَالة ومؤثرة. بعد ذلك 
تناولت طبلى وطبلّت» ليس لأخشاب الناقلات التى كانت تطبق على 
الموت؛ إنما عزفت ذلك الإيقاع السريع الشديد التبدل الذي لابد أن 
ينصت له جميع الناس في شهر أغسطس من العام الرابع عشرء ولهذا فمن 
الصعب عليّ أن أتفادى هناء في هذا النضّء وصف ذلك الطريق وصفاً 
أوليًاً تلميحياً على الأقل: قبل الوصول إلى ساعة ولادتي» ذلك الذي 
كانت تقطعه جموع المشيعين المفجوعين الذين خلّفهم جدي وراءءه في 
أورويا. فبعدما اختفى كولياجك تحت الناقلة اجتاح الخوف والقلق جدتي 
وابنتها أغنس وفنسنت برونسكي وابنه يان ذا التسعة عشر عاما والذين بقوا 
بين أهالي الملآحين وأقربائهم عند جسر المرسى التابع لورشة النجارة . 

كان غريغور كولياجك» الشقيق الأكبر ليوزيف» والذي استدعي أيضاً 
للتحقيق والاستجواب» يقف بعيداً عن تلك التطورات. غريغور هذا الذي 
لم تكن لديه سوى إجابة واحدة مستعد لترديدها أمام الشرطة كل مرّة: 


0 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


«إنني أكاد لا أعرف شيئاً عن شقيقي. بل إنني لا أعرف في الحقيقة سوى 
أن اسمه يوزيف» فعندما رأيته لآخر مرّة كان في العاشرة» أو في الثانية 
عشرة من عمره. وكان ينظف حذائي ويجلب لي البيرة» إذا ما رغيتٌ» أو 

إن إجابة غريغور كولياجك لم تنفع الشرطة شيئاً حتى لو كانت والدة 
جدّي عاشقةً للبيرة حم لكنّ وجود كولياجك الأكبر قد نفع جدّتي كثيراً. 
فبقي غريغور الذي أمضى شطرا من حياته في اشتيتين» وبرلين وأخيرا في 
«شنايدهمول» فى غدانسك وعثر على عمل فى مطحنة بارود «القلعة»)2 
وبعد انتهاء مهلة العام وإيداع الأمور المعقدة التي ترتبت عن زواج جذتي 
من فرانكا المزيف أضابير الشرطة وملفاتهاء عقد غريغور قرانه على جدّتي 
الثاني لو لم يكن غريغور كولياجيكيًا. وهكذا صان العمل في مطحنة 
البارود غريغور من مغبة الثوب الملون الذي كان يلحق دائما بالثوب 

وأقام الزوجان ومعهم أمَى فى الدار نفسها ذات الغرفة ونصف الغرفة 
الرجلين كولياجك لايشبهان بعضهما البعض بالضرورة» فبعد أقل من عام 
على الزواج اضطرت جدتي إلى تأجير الدكان الذي فرغ للتوٌ في قبو الدار 
في ترويل» لتعرض فيه جميع الحاجيات القابلة للبيع من الدبوس إلى 
الكرنب» لتحصل على بعض النقود؛ لأن غريغور الذي كان يتقاضى في 
الحقيقة أجراً كبيراًء لم يجلب إلى الدار ما هو ضروري للعيشء إنما كان 
ينفق ماله على الشرب. وبينما كان غريغور معاقراً للخمرء ربما تحت تأثير 
بين الحين والآخر. ولم يشرب غريغور الخمر بسبب الحزن» بل كان 
يشربه حتى فى حالات فرحه النادرة؛ ولأنه كان يميل دوما إلى الكابة 
والانطواء فقد كان يعبٌّ الخمر ليس بتأثير الفرح وحده. فقد أحبٌ الشرب 
أيضاً لأنه كان يحب الوصول إلى قاع الأمور كلها وإلى قرارهاء بما فيها 


6١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


الخمرء ولم يشهد أحد أنه رأى غريغور كولياجك تخلّى طوال حياته عن 
ثمالة فدح واحد من عرق العرعرٌ . 

آنذاك أظهرت أمّي ذات الخمسة عشر عاماً والممتلئة بعض الشيء» 
أظهرت نفسها باعتبارها فتاةً نافعة» فكانت تساعد أمّها فى الدكان» فتلصق 
الأسعار على المواة الغدائية وتؤتع البضاغة على الزبائن بام السبت 
وتكتب إنذارات خالية من اللباقة» لكنها مليئة بالفنطازياء لكي تدفع 
المقترضين المقصرين إلى التعجيل في تسديد ديونهم . 

ومما يؤسف له إنني لم احتفظ بواحدة من تلك الرسائل المتوعدة 
المنذرة» فكم سيبدو الآمن منمتعا لو أننن اقتبست طعا طن صرخات 
الاستغاثة الصبيانية تلك التي سطرتها فتاة يتيمة الأب في خطابات عنيفة 
اللهجة؛ إذ أن غريغور كولياجك لم يكن صالحاً لتعويض الأب المفقود 
تعويضاً كاملا . 

كانت جدتي وابنتها تجدان صعوبة بالغة في إخفاء صندوق الدخل 
المليء أحياناً بالقطع النقدية النحاسيّة والفضيّة؛ والمؤلف من طبقتين 
خفيفتين من الألمنيوم؛ عن الأنظار الكولياجيكية السوداوية الشديدة 
الاكتئاب؟ أنظار طحّان البارود الدائم الظمأ. وعقب وفاة غريغور كولياجك 
في العام السابع عشرء إثر إصابته بالإنفلونزاء ارتفعت نسبة الأرباح التي 
كان يدرّها دكان العطارة» لكن ليس إلى حدّ كبير؛ إذ ما الذي كان يمكن 
أن يباع في العام السابع عشر؟ : 

أمَا الحجرة الصغيرة فى الدار والتى ظلت خالية منذ رحيل طححان 
البازوة» لأناجدتي له ترد السكن فيها حكن الجحين» ققد شعلها يآ 
برونسكيء ابن خال أمّيء ذو العشرين عاماً آنذاك» والذي ترك «بيساو؛ 
وأباه؛ عازماً على تمضية فترة التدريب في دائرة البريد التابعة للمدينة 
الفبكلية» يعد نبل شتهتاةة تخي جدة من المدرسة المعرسظة فن 
«كارتهاوز». لكنه قَدِمَ آنذاك إلى دائرة البريد المركزية في غدانسك رقم 2١‏ 
ليعد نفسه إلى وظيفة إدارية من النوع المتوسط . وبالإضافة إلى حقيبته 
جلب يان معه طوابع كثيرة إلى بيت خالته. فكان يجمع الطوابع منذ صباه 


,6 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


المبكرء ولذلك فإن علاقته بالبريد لم تكن مجرد علاقة مهنية» بل شخصية 
أيضاًء ومتأنية على الدوام . 

كان لذلك الفتى النحيف» المحدودب الظهر بعض الشىء» وجه 
وسيم بيضاوي الشكل» ولأنّه كان وسيماً وذا عينين زرقاوين» فقد شغفت 
به أمَي ذات السبعة عشر عاماً ووقعت في غرامة. لقد أخضع يان ثلاث 
مرّات للفحص الطبىّ العسكريء إلا أنه كان يعفى من الخدمة كل مرّة 
بسبب قامته المعوجة وحالته السيئة على العموم التي انتشرت حولها شنّى 
الأقاويل» في ذلك الزمن الذي كان يساق فيه الأصحًاء ذويٌ القامة 
المستقيمة إل نأغية «فردان»4» حيث كانت أجسادهم تمهد هناك في التراب 
الفرنسي على نحو أفقي . 

كان على المغازلات أن تبدأ في الواقع أثناء التفرّج على ألبومات 
الطوابع» أي أثناء مقارنة الرؤوس المسننة للنسخ النادرة الشمينة؛ غير أنها 
بدأت» أو جاءت بالأحرى» إثر استدعاء يان للفحص الطبىّ للمرّة الرابعة. 
فرافقته أمّي التي أرادت المرور بالمدينة لحاجة ماء وانتظرته أمام مبنى 
القيادة العامة للمنطقة» حيث وقفت إلى جانب قمرة الحراسة التابعة للدفاع 
المدني؛ وكانت متفقةً مع يان على أنه سيساق هذه المرّة إلى فرنساء 
ليشفي قفصه الصدري السقيم في هواء ذلك البلد المتخم بالرصاص. 
وربما أحصت أمَى آنذاك أزرار الحرس المدنى مرّات عديدة» وخرجت 
بنتائج متباينة. وأستطيع أن أتخيّل أزرار اينات القيافات العسكرية 
ميخنسوية بطريقة ماء بحيث أن الزرٌ الذي يحسب في الأخير كان يعني 
يحركة «فردان»» أي أحد هضاب هارتمانسفالير كربف الكثيرة» أو نهراً 
صغيراً مثل سوم أو مارن. 

وحين فتح الشاب الظريف المفحوص للمرّة الرابعة بوابة القيادة العامة 
للمنطقة بعد حوالي ساعة» وهبط درجات السلّم الأمامي متعثراًء طرّق جيد 
أمي بذراعيه؛ ثم همس في أذنها مردداً تلك المقولة التي كانت محبوبة 
انذاك : «لا مؤخرة ولا عنق» سنة كاملة إلى الوراء!» 

فحضنت أمّي يان برونسكي لأوّل مرّة في حياتهاء ولا أعرف فيما إذا 


ود 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أخذته فى أحضانها بسعادة غامرة بعد ذلك مثلما فعلت في تلك اللحظات. 

إنني لم أطلع في الواقع على تفاصيل علاقة الحبّ الشابة تلك التي 
نشأت أبّان الحرب. فقد باع يان جزءا من مجموعة طوابعه» ليرضي 
رغبات أمّي المولعة بكل ما هو جميل وأنيق وثمين» وفي ذلك الوقت بدأ 
أيضاً بتدوين يومياته التي قدت للأسف الشديد. وبدت جدّتي راضية 
بتحالف الشاب والفتاة» ذلك التحالف الذي يمكن أن يقال عنه إنه ذهب 
أبعد بكثير من مجرد صلة القرابة» لأن يان برونسكي سكن في ذلك البيت 
الصغير في ترويل حتى فترة قصيرة قبل اندلاع الحرب. وقد انتقل من 
هناك بعدما بات من الصعب إنكار وجود سيّد يدعى ماتسرات» وهو 
الوجود الذي اعترف به حمًا. لابد أن تكون والدتي قد تعرفنت على ذلك 
السيّد أثناء خدمتها كمساعدة تمريض فى المستوصف العسكري 
رهام قرب أوليناا, كان القريد ماتسراظة النزلوه فى حوفن تهر 
الراين راقداً في المستوصف إثر إصابته إصابة بالغة بشظية اخترقت فخذهء 
فأصبح بمرور الوقت محبوباً من قبل المضمدات جميعهن حبّاً مبهجاً 
جديراً برجل قادم من منطقة الراين؛ ولا يمكن استثناء الممرضة آغنس من 
ذلك الحبّ. فكان يتكئ على ذراع هذه الممرضة أو تلك» ويعرج في 
الردهات قبل أن يتمائل للشفاء؛ وكان يساعد الآنسة آغنس في أعمال 
المطبخ» لأن قلنسوتها البيضاء كانت متناسقة تماماً مع نحهها الممقديه 
ولأنّهء بصفته طاهياً متقاعداًء كان قادراً أيضاً على تحويل المشاعر الحسيّة 
إلى حساء . 

بعدما اندمل الجرح بقي ألفريد ماتسرات في غدانسك» حيث عثر 
فوراً على عمل كوكيل تجاريّ لشركته الرينانية الكبيرة التي كانت تصنع 
الورق. وحين خفتت حدّة الحرب» بدأت الناس تتسلى بتحضير معاهدات 
للسلام. من شأنها أن تشكل منطلقاً لحروب قادمة: فتم إعلان قيام الدولة 
الحرّة في المنطقة المحيطة بمصب افيستولا»» بدءا من «فوغلزانغ»» 
امتداداً بموازة «نوغات» حتى «بيكل؛؛ ومن هناك انحداراً مع «فيستولا' 
إلى #جاكتاو؛؛ وضمّت من ناحية الشمال مثلثاً يمتد رأسه إلى 


6 
1_طماع1© :1121 آنلا 1 


«شونفليس»؛ وقوساً منحنياً يحيط بغابة «ساسكوشينر»» وينتهي ببحيرة 
«أوتمين» مستغنية عن الأراضي الواقعة في اماترن» و«رامكاو» #وبسياو - 
جدّتي»»؛ ثم واصلت الدولة الوليدة طريقها حتى «كلاين-كاتس؛ على بحر 
البلطيق» ثم وضعت تلك الدولة تحت وصاية عصبة الأمم المتحدة. ومنح 
إلى بولندا ميناء حرّ في أراضي غدانسك ذاتهاء إضافة إلى الرصيف الغربي 
الذي كان يضم مستودع الذخيرة وإدارة القطارات ودائرة بريد مستقلة في 
ميدان «هيفيليوس» . 

وبيدما كانت طوابع الدولة الحرّة تمنح الرسائل شعارات ورسومات 
سفن شراعية بأبهة تتناسب وأبهة المدن التجارية الألمانية» فإن البولنديين 
كانوا يكتفون بلصق المشاهد الجنائزية على رسائلهم» تلك المشاهد التي 
تصور تواريخ كازيمير وباتوريس. 

وقد انتقل يان برونسكي إلى البريد البولندي» فبدا انتقاله تلقائيا 
وكذلك اختياره لبولندا. فكان هناك الكثير من الناس الذين رأوا في حصول 
أي على الجنسية البولندية سبباً رئيسياً لسلوكها. وفي العام العشرين هَرَّمَّ 
مارجالك بيلوزودسكي الجيش الأحمر بالقرب من وارسوء وظهرت 
المعجزة عند نهر فيستولا فاعتبرها الناس من أضراب فنسنت برونسكي من 
معجزات السيّدة العذراء» فى حين اعتبرها الخبراء السكريون من 
معجزات الجنرال سيكورسكيء أو الجنرال فايغاند؛ في ذلك العام 
البولندي الصرف تُخطبت أمّي من قبل ماتسرات المحسوب على تبعية 
الرابخ الألماني . وإنني مازلت مقتنعاً إلى حدّ ما بأن جدتي آناء شأنها شأن 
يان» لم تكن متفقة مع تلك الخطوبة» فتخلت عن الدكان» الذي انتعش 
انذاك» إلى ابنتهاء ورحلت لتقيم مع شقيقها فنسنت في «ابيساواء 
البولندية» واستلمت إدارة حقول البنجر والبطاطس. مثلما كانت تفعل فى 
الحووة ها قل الكر لا سكنةه ميعة القرية لعقيقها الذى حلت بد الرسهمة 
والبركة التحدث إلى ملكة بولندا العذراء ومناجاتهاء ومقتنعة بالتربع بثيابها 
الأربعة أمام نيران أعشاب البطاطسء» متطلعة إلى الأفق الذي مازال يفصل 
أعمدة التلغراف عن بعضها البعض . 


606 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


بعدما وقع يان برونسكي على فتاته هدفغ» الكاشوبية الأصل والقادمة 

من المدينة نفسها نفسهاء والتي كانت تمتلك حقلاً زراعياً في «راسكواء وزواجه 
تهاء تحسنت العلاق ين وبين أت . وقيل إنها قدّمت يان إلى ماتسرات 
أثناء حفلة راقصة تشبه الحفلات التي يلتقي فيها الناس ببعضهم البعض 
بمحض الصدفة. وفي الحال أظهر السيّدان» المختلفان في الطبع» 
والمتفقان في علاقتهما بأّي إعجاباً متبادلاً بنفسيهماء على الرغم من أن 
ماتسرات قد وصف انتقال يان إلى البريد البولندي بلهجة الرينانية العالية 
النبرة والقاطعة بأنّه تصرف أحمق. ثم رقص يان مع أمّي في حين رقص 
ماتسرات مع هدفغ الخشنة العظامء الضخمة الجسدء والتي كانت نظرتها 
طافحة مثل نظرة البقرة؛ فكانت تشيع لدى الحاضرين المحيطين بها اعتقادا 
بأنها حبلى على الدوام . 

لقد رقصوا مع بعضهم وخلاف بعضهم بعضهاًء فبدا كل منهم يفكر 
أثناء الرقص في الرقصة القادمة» فصاروا يستبقون الإيقاعات في رقصة 
«الزحزحة»» ويتوقفون في رقصة «الفالس» الإنجليزية» إلى أن استعادوا 
عي حر رقصة «الجارلس»» بل إِنَّهُم وجدوا في رقصة «الثعلب؛ 

وحين تٍٍ ألفريد ماتسرات أمي في العام الثالث والعشرين» الذي 
كان يمكن أن يكسو فيه المرء ورق جدران غرفة نومه بثمن علبة ثُقَاب» أي 
بلا ثمن في الواقعء حضر يان شاهداًء أمَا الشاهد الآخر فكان تاجراً 
لبضاعة المستعمرات ويدعى مولن. وأنا ليس لدي الكثير مما يمكن أن 
أرويه عن مولن هذا الجدير بالذكر فقطء فهو قد سلّم أمّي وماتسرات 
متجر بضائع المستعمرات الكاسد والموشك على الإفلاس بفعل كثرة ديون 
الزبائن» والذي كان يقع في ضاحية لانغفور. فتسلما المتجر في الوقت 
الذي دخلت فيه العملة الجديدة. وخلال فترة قصيرة تمكنت أمّي التى 
اكتسبت خبرة ممتازة في التعامل مع الدائنين على اختلاف أصنافهم أثناء 
إدارتها للدكان في ترويل» لأنّها كانت تتمتع بحس تجاريٌ وبروح السخرية 
وسرعة البديهية» نعم» تمكنت من إنعاش المتجر المهمل إلى الحدّ الذي 


605 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


دفع بماتسرات إلى التخلّي عن وظيفة الوكيل التجاري في صناعة الورق 
المكتظة آنذاك بالعاملين والتفرّغ للعمل في المتجر. 

كان كل منهما يتمم الآخر على نحو مدهشء فكان ابن الراين يصل 
في تعامله مع الوكلاء أو عندما يشتري البضائع من أسواق الجملة إلى 
القدرات والجهود ذاتها التي كانت تبذلها أمّي في تعاملها من زبائن 
المتجر. إضافة إلى ذلك جاء حبّ ماتسرات إلى مئزر الطهاة الذي كان 
صالحاً دائماً للعمل في المطبخ»؛ أي العمل المتضمن غسل الأطباق 
والأرائن أبشاء مباخفت السه غن اتى العن كاتتك تؤثر الونيات 
الحنيعة ب كاتقيشنة الدفن املس بالمتجر ضيقةٌ في الواقع ومنسمة 
بطريقة سيثة» إلا أنها كانت تعتبر شقّة برجوازية بقدر كاف» مقارنة بالشقّة 
في ترويل» التي عرفتها عليها من خلال الأحاديث» بحيث أن أمّي لابد أن 
تكون قد شعرت بارتياح عميق هناك في الأعوام الأرّلى من زواجها. 

وفيما عدا الممر الملتوي قليلاً الذي كُدست فيه علب مسحوق 
الغسيل؛ كان ثمة مطبخ واسعء امتلا نصفه كذلك بالبضائع وبعلب الطعام 
المحفوظ وأكياس الطحين وقطائف الشوفان؛ أمّا غرفة الجلوس ذات 
النافذتين المطلتين على الشارع والمشرفتين على الحديقة الأمامية الموشاة 
صيفاً وشتاء بأصداف بحر البلطيق فقد شكلت عماد تلك الشقّة في الطابن 
الأرضي. وإذا ما كان ورق الكساء يشم لون أحمر خمريّاًء فإن المصطبة 
المنجدة كانت أرجوانية اللون. وثمة طاولة طعام قابلة للسحب» بأطراف 
مستديرة» أحاطت بها أربعة كراسى مكسوة بالجلد الأسودء إضافة إلى 
مقينة برشي في ستغيرة المكان باجمران وكانكف تدك الأقياء كلها 
تنتصب بقوائمها السوداء فوق سجادة زرقاء» وثمة هناك ساعة سوداء مذهبة 
قائمة بين النافذتين» وبيانو أسود استقر عند المصطبة الأرجوانية» كان قد 
أستأجر في البدء» ثم سُدد ثمنه بالتقسيط؛ ومقعد عزف دوّار وضع على 
جلد طويل الوبر. وفي الجهة المقابلة ثمة بوفية سوداء مشبكة بقضبان 
بوقزارية حو لواو اب سكب غانها عبرو قاكية كانية البيوات تقرف 
خلفها الأواني وشراشف السفرة» وقد رُكبت البوفية على دولاب أسود 


لاه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


اللون؛ وكانت هناك فجوة صغيرة بين ببح إنأء هخ البلوو وكأس سباق أخضر 
ربحه الزوجان في اليانصيب» واكتملت الغرفة»؛ بفضل أمّي وشطارتهاء 
بجهاز راديو ذي لون بني. 

كانت حجرة النوم مطلية بالدهان الأصفرء وتطل على فناء البناية 
المؤجرة ذات الطوابق الأربعة. أرجو أن تصدقوا إذا قلت لكم إن قبّة سرير 
القلعة الزوجية كانت زرقاء فاتحة الزرقة» وتحت الضوء الأزرق الخفيف 
كانت ثمة صورة مؤطرة شفافة الزجاج تمثل مريم المجدلية وهي تكمّر عن 
ذنوبها فى المغارة» شاحبة الجسدء تنفث بحسراتها إلى اليمين نحو الزاوية 
العليا للصاررةة وقد برزت أطرافها العديدة من ناحية الصدرء لدرجة أن 
المرء كان يضطر كل مرّة إلى إحصائها من جديد لاعتقاده بأنها أكثر من 
عشرة أطراف. وقبالة سرير الزوجية ربضت خزانة الملابس البيضاء بأبوابها 
المزودة بالمراياء وعلى شمالها منضدة أدوات الزينة» وعلى يمينها 
كومودينو ذات سطح من الرخام» ابر 
الخزف الصيني» لم يربطا بالقماش مثلما ربطت الأطباق الخزفية الأخرى 
في غرفة الجلوسء إنما بذراعين من النحاس الأصفرء طبقان من خزف 
ورديّ تراءت من ورائه المصابيح الصغيرة جليةٌ للعيان» ناشرةً الضياء في 
كل مكان: هكذا كانت أضواء غرفة النوم. 

لقد قرعت طبلي اليوم طوال فترة الضحىء طارحاً عليه الأسئلة» إذ 
أردت أن أعرف فيما إذا كانت مصابيح غرفة نومنا بأربعين» أم بستين 
واطاً. ولم تكن تلك المرّة الأوّلى التي طرحت فيها هذا السؤال الجوهري 
عليّ وعلى طبلي في آن واحد. وكنت غالباً ما أحتاج إلى ساعات طويلة 
لكي أجد طريقي إلى المصابيح من جديد. ألم يتوجب عليّ كل مرّة أن 
أنسى آلاف الأضواء أثناء دخولي ومغادرتي المنازل الكثيرة التي كنت أبعث 
فيها اليقظة» أو النوم» من خلال أزرارها الكهربائية المناسبة ) لعلي أخرج ١‏ 
عبر التطبيل الخارق للعادة» من غابة الأجساد الضوثئية العادية المألوفة» 
متلمساً طريقي إلى غرفة نومنا؟ 

لقد وضعت أمي في البيت» وعندما جاءتها الآم المخاض كانت تقف 


4م 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فى المتجرء تعبئ السكر في أكياس الورق الزرقاء ذات نصف الكيلو أو 
ع . وقد تأخرت عملية نقلها إلى مستشفى الولادة. لذلك استدعيت قابلة 
عجوز كانت تسكن في شارع هيرتاء قريباً من دارناء والتي لم تعد تمارس 
مهنتها إلا نادرا؛ فقدمت لنا المساعدة في غرفة النوم لكي ننفصل» أنا 
وأمّي» عن بعضنا البعض . 

إنني أبصرت نور العالم هذا في هيئة مصباحين كل واحد منهما بقرّة 
ستين واطأ. لذلك فإن نصّ الكتاب المقدس يحضرنيى الآن: «أمر الربٌ 
بالضوء فجاء» ثماماً ععلما كانت الدغاية النخطتة التاجخة لشركة 
«أوسرام». وما عدا الشرخ الإجباري الذي حدث في الشرج» فإن ولادتي 
تمت بيسرء فتحررت بسهولة من الوضع الرأسي الذي كثيراً ما امتدحته 
الأئهات وخبراء الأجنّة والقابلات على السواء. ودعوني أقول على 
الفور: إنني كنت من الأطفال الرضّع المرهفيّ السمع والذين حسم 
تطورهم الذهني والروحي منذ الولادة فلم يعد أمامهم سوى أن يؤكدوا 
شخصيتهم ويثبتون وجودهم على الدوام. وبمقدار ما كنت متحررا من 
جميع شكل من أشكال التأثير عندما كنت جنيناً؛ فإنني لم أصغ قط إلا 
لنفسي وحدهاء مقدراً في الوقت ذاته أهمية اللهو والعبث بسائل الرحم . 
فكنت أتنصت بحس نقديٌ إلى التصريحات التلقائية الأوّلى التى كان 
يطلقها والداي تحت المصابيح. كانت أذنيَ متيقظتين مرهفتين إلى حد 
بعيد» ومهما شيع عن صغرهما وانثنائهما والتصاق صيوانيهما وظرفهماء 
فإنهما كانتا تحتفظان لي بكل هتاف أو نداء مهم يطرح نفسه بصفته انطباعا 
أولبًا. بل أكثر من ذلك: لقد كان دماغي الشديد الصغير يحلل كل ما 
كانت تلتقطه أذناي» لأقرر بعدها فيما إذا كنت سأنفذ تلك الفكرة» أو أن 
أتخلى عنها بالضرورة. 

قال السيّد ماتسرات الذي أعتبر نفسه والدي: (إنه ولدء وسيستلم 
المتجر في المستقيل. أخيراً أصبحنا نعرف لماذا كنّا نكد ونكدح طوال 
الوقت.» لكن أمّي لم تفكر في المتجرء إنما في تجهيز لوازم ابنها: «كنت 
أعرف أنه صبي» حتى لو كنت قد صرّحت بعض المرّات بأنني سأنجب 


94 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بنتاً.» وهكذا نشأت علاقتي المبكرة بالمنطق النسائي» وكنت سمعت آنذاك 
كلاماً من وراء ظهري: «إذا بلغ أوسكار سنّ الثالثة فسيحصل على طبل. ») 

عندما كنت أعقد المقارنات والموازنات بين وعود الأمّ والأبٌّ وقتاً 
طويلاًء راقبت خلالهاء أنا أوسكار شخصياًء فراشة ليلية ضلّت طريقها إلى 
الغرفة وكنت أصغي إليها بنفسي. فكانت تحوم» متوسطة الحجم ومشعرة» 
لتخطب ود المصباحين» وتلقي بظلالها على المكان بجميع محتوياته؛ 
حتى أنها أطبقت علية بحركات ظليلة مرتجفة؛ لم تكن تتناسب مع حجم 
جناحيها وامتدادهماء وأخذت تتحسسه وتجعله واسعا. لم تكن لعبة 
الضوء والظل أثارت اهتمامي بقدر ما أثاره الصوت الذي كان يتصاعد في 
المجال الفاصل بين المصباحين وخفق جناحيّ الفراشة. وصارت الفراشة 
تزبد» كما لو أنها لن تحصل أبداً على فرصة ممائلة في وقت لاحق 
للتحدث ساعةً إلى الضوءء كما لو أن محاورتها مع المصباح كانت آخر 
اعتراف لهاء ونوعا من الغفران وزعته اللمبتان» غفران لا يتيح فرصة قط 
للوثم والجنوح . 

واليوم فإن أوسكار يقول بسذاجة: إن الفراشة كانت تُطبل. وقد 
سمعت الأرانب والثعالب والسناجب تطبل. كما أن بإمكان الضفادع جلب 
الزوابع والأمطار عبر التطبيل. ويقال عن نقّار الخشب إنه يستدرج الديدان 
من مخابئها بالتطبيل. وأخيراً فإن الإنسان يضرب على النقّارة الضخمة 
والصئّاجة والرقٌ والطبل» ويتحدث عن مسدسات التطبيل ونيرانه» كما أنه 
يتحدى الإنسان الآخر بالتطبيل» أو يشاركه القرع؛ وكان هذا ما يفعله 
صبيان التطبيل ومراهقوه. بيد أن هناك مؤلفين موسيقيين يدونون النوطات 
لعازفي الآلات الوترية والإيقاعية» ولعلّي أستطيع هنا التذكير بالمعزوفات 
الموسيقية الكبرى والصغرىء والإشارة أيضاً إلى محاولات أوسكار حتى 
ذلك الوقت. وهذا الكلام لم يكن موجهاً إلى عربدة التطبيل التي أقامتها 
الفراشة الليلية على لمبتين بقوتي ستين واطا بمناسبة ولادتي. وربما هناك 
زنوج في أفريقيا السوداء. أو زنوج يعيشون في أمريكا دون أن - 
أفريقياء وربّما هناك أناس منتظمو الإيقاع يضاهون فراشتي في العزف» أو 


وه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


يقلدون الفراشات الأفريقية - التي هي عادةً أكبر حجماً وأشدّ فتنةَ من 
فراشات أوروبا الشرقية - أناس يطبلون بجموح صارم وبانتظام أيضاً» 
لكنني سأحتفظ بمقاييسي الأوروبية الشرقية» متمسكاً بفراشتي الليلية 
المتوسطة الحجم والمنقطة باللون البئي والتي حامت ساعة ولادتي؛ تلك 
الفراشة التي أعتبرها أستاذة لأوسكار. 

وقع ذلك الأمر في الأوّل من سبتمبر: كانت الشمس تقف في برج 
العذراء» فقدمت الرعود والأعاصير الصيفية المتأخرة من بعيد»ء واهترّت 
لها الصناديق والدواليب في الدار طوال الليل. لقد جعلني عطارد أتمتع 
ببصيرة نقدية مرهفة» وجعلني الكوكب السابع أتمتع بسرعة الخاطرة» 
ووهبني كوكب الزهرة نعمة الاقتناع بالسعادة الصغيرة» ودفعني المريخ إلى 
التمسك بتفوقي والإيمان بطموحيء ثم ارتفع برج الميزان في مواجهة 
الأفق الشرقي؛ فصيرني حساساًء وحثني على المبالغة. وحلٌ نبتون في 
مجال الكوكب العاشرء أي برج منتصف العمرء فغرسئي بين أرض 
المعجزة وخيبة الأمل. وكان زحل الذي وقف في مجال الكوكب الثالث 
قبالة المشتري هو الذي وضع أصلي ونسبي موضع الشكٌ والتساؤل. لكن 
من ذا الذي أرسل الفراشة وسمح لهاء وللجلبة التي ولّدتها الرعودٌ 
والأعاصير ذات النكهة التعليمية» أن تصعدا فى ذلك الصيف المتأخر من 
حدّة الرغبة في اقتناء طبل الصفيح الذي وعدتني به أمّي» وتجعل من تلك 
الآلة المخقهاة شيعا علموساً ومدركا وسهل الاستعمال؟ 

وأثناء تظاهري بالصراخ وتصنعي لبراءة الطفل الرضيع الأزرق 
والأحمر الجلدء توصلت إلى قرار يقوم على رفض اقتراح أبي المتعلق 
بمتجر بضاعة المستعمرات رفضاً قاطعاً» وتفحصٌ الرغبة التى أفصحت 
عنها أمَى والمتعلقة بعيد ميلادي الثالث بعين الرضا وفى الوقت المناسب 
أيضاً وإلى.حانت: تلاك العاملاك النظرية المرتبطة بمستقيلئ اصبحت 
متأكداً من أن أمّي ومعها الأب ماتسرات لم يتمتعا بالعضو الجسدي اللازم 
لفهم احتياجاتي وقراراتي» والقبول بها عند الضرورة. وهكذا ظل أوسكار 
راقداً تحت المصباح دون أن يفهمه أحد. متوصلاً إلى نتيجة تفيد بأن الأمر 


5١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


سيبقى على هذا المتوال خمسين أو ستين عاماء إلى أن يحدث التماسٌ 
الكهربائيّ الذي يقطع التيّار الكهربائي عن مصدر النور. لهذا السبب 
بالذات فقدت القابلية على الفرح والنشوة قبل أن تبدأ هذه الحياة تحت 
ضوء اللمبات» بيد أن الطبل الموعود هو الذي منعني من إعطاء فكرة 
العودة إلى الوضع الجنيني الرأسي أهميةٌ خاصةً؛ فضلاً عن أن القابلة قد 
قطعت آنذاك حبل السرّة» فلم يعد هناك في نهاية الأمر ما يمكن القيام به. 


11 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ألبوم الصور 


إنني أحتفظ إلى اليوم بكنزء كنت أحرسه طيلة الأعوام الشداد التي 
يتألف منها التقويم اليومي» فأخبئه حيناً وأخرجه حيناً آخر. وأضمه إلى 
صدري بإجلال أثناء الرحلة بعربة الشحن. وكلما غفوت كان أوسكار نفسه 
يغفو على كنزه» أي على ألبوم الصور. فما الذي كنت سأفعله بدون هذه 
المقبرة العائلية التي تجعل كل شيء واضحاً للعيان ومكشوفا تماما؟ 

كان الألبوم يحتوي على مائة وعشرين صفحة.؛ وفي كل صفحة 
لُصقت أربع أو ستّ صور وأحياناً صورتان» وكانت الصور متجاورة أو 
فوق بعضها البعض بشكل مستطيل» وموزعة بعناية» ومتناظرة في هذه 
الصفحة وخالية من الانتظام في الأخرى. وكان الألبوم مغلفاً بالجلدء 
وكلما ازداد عتقاً اشتدت رائحته قوة. وقد مرّت عهود تعرّض فيها الألبوم 
إلى العواصف والأعاصير» فتزحزحت الصور من أماكنهاء وأصبح وضعها 
الحائر المضطرب يجبرني أحياناً على البحث عن لحظات الهدوء وعن 
الفرص المناسبة» لأعيد تلك الصور الموشكة على الضياع إلى وضعها 
الأصلي . فأيّ شيء في هذا العالم» بل أي رواية» يمكن أن تتمتع بسرد 
ملحميٌّ مثلما يتمتع ألبوم الصور؟ 

كنت أسأل الله العزيز الذي كان يلتقط لناء نحن الهواة النشيطين فى 
يام الآحاد؛ الصورٌ من الأعلى» على نحو مقتضب بشكل مرعب» ليلصق 
الجيدة والسيئة منها على السواء» أسأله أن يمنحني الثقة ويحميني من هذه 
الإقامة الطويلة؛ حتى وأن كانت مغرية» وأن يأخذ بيدي عبر هذا الألبوم؛ 
وأن لا يغذي في قلب أوسكار حبّه للمتاهة. إنني أرغب الآن» وبسرور 

7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تام» في إعادة الصور إلى أصولها؛ وثمة ملاحظة في هذا السياق: وكانت 
هناك قيافات عسكرية مختلفة» إذ أن الموضة كانت تتغير بسرعة آنذاك 
وكذلك تسريحات الشعر» وكانت أمّي تزداد بدانة ويان يزداد يرك 
وثمة أناس لم أستطع التعرف عليهم» لذلك على المرء أن يقوم بعملية 
تخمين حول من قام بالتقاط هذه الصورة أو تلك. وفي الأخير وصل 
الألبوم إلى مرحلة الانحدارء فتحولت الصور الفنية الملتقطة خلال دورة 
القرن إلى صور استهلاكية كما هو سائد فى أيّامنا هذه. فدعونا نأخذ 
النصب التذكاري الذي مثلته صورة عدي كر اكه وصورة صديقي 
كليب. ويكفي أن نضع بورتريه جدّي المقلم باللون البّي إلى جانب صورة 
كليب المعدة للهوية الشخصية والتى كانت تصرخ بغية الحصول على ختم 
رسميّ» ليتضح لي المستوى الذي أوصلنا إليه التقدم التقنيٌ على صعيد 
التصوير الفوتوغرافي» فيا لهذه الجعجعة التي جلبها لنا التصوير السريع! 
لكن عليّ في الواقع أن أوجه اللوم إلى نفسي أكثر مما أوجهه إلى 
كليب ؛ لأنني ملزمء بصفتي صاحب الألبوم. على المحافظة على مستواه. 
وإذا ما ازدان بنا الجحيم ذات يوم» فستكمن إحدى وسائل التعذيب في 
حجز الإنسان العاري وصوره المؤطرة فى مكان واحد. وأضيف هنا بصيغة 
عاطفية وعلى وجه السرعة القولٌ: أه منك أيّها الإنسان المنتصب أمام 
اللقطات الخاطفة وصور جواز السفر؛ أنت أيها الإنسان الواقف أمام 
الضوء الخاطف لآلة التصويرء والمنتصب باستقامة أمام برج بيزا المائل؛ 
والقابع في حجرة ة التصوير والذي يجب أن يصل الضوء إلى أذنه اليمنى 
دوماء لكي يصبح جديراً بصورة جواز السفر! والآن أتحدث بصيغة غير 
عاطفية: ربما سيكون ذلك الجحيم محتملاًء ؛ لأنْ الصور البالغة الرداءة قد 
خُلِمَ بهاء لكنها لم تلتقط أبداًء وإن كانت قد التقطت فأنها لم تحمّض. 
لقد التقطناء أنا وكليب» الصور فى المرحلة الأوّلى من علاقتنا فى 
إوليشر شترانية؟ غندما كنا اول المعكررية» فم سحمشنا الصرو' وطيعناها 
هناك أيضا. فكنت حزينئاً يومئذء إذ كان علىّ أن أذهب إلى مكان آخرء 
لأقدم طلب الحصول على جواز سفر. وبسبب عدم قدرتي على تمويل 


5 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


رحلة سياحية جيدة إلى روما ونابولي» أو على الأقل رحلة تتضمن زيارةٌ 
لباريس» فقد شعرت بفرح لذلك العجز المادي» إذ ليس هناك أكثر حزناً 
وتعاسةً من القيام برحلة سياحية في وضع مالي حرج . 

وَبمًا أننا كا تمتلك تقوداً كافية للذهاب إلى السيشماء» فقد ؤرث آنا 
وكليب «دور الألعاب الضوئية» التي كانت تعرض فيها أفلام رعاة البقر 
الأمريكية التي كان كليب يحبهاء وأفلاماً كذلك كانت تتناسب مع ذائقتي» 
حيث ظهرت فيها ماريا شيل ذات مرّة بدور ممرضة أجهشت في البكاء. 
بينما وقف بطل الفيلم» الذي كان رئيساً للأطباء يعزف سوناتات بيتهوفن 
على شرفة يمكن رؤيتها من خلال شقّ في الباب» مظهراً قدراً من 
المسؤولية إزاء ماريا. وكا نعاني كثيراً من قصر فترة العرض التي كانت 
تستغرق ساعتين ليس إلاء بينما كنا نودّ مشاهدة تلك الأفلام مرتين. فكثيراً 
ما كنا ننهض بعد انتهاء الفلم مباشرة» لنقطع بطاقة دخول جديدة من شبّاك 
التذاكوة لرؤية العرهن السيمماتن نفينه عه غائية. وكتا حالنا تقادر ضالة 
العرض» ونرى طوابير المنتظرين الكثيرين أو القليلين أمام شبّاك التذاكر, 
تختفي جرأتنا على الفور. فقد كنا نخجل ليس فقط من نظرات قاطعةٍ 
التذاكر» إنما من نظرات تلك النماذج البشرية المتوحشة التي كانت 
تتفحص مظهرنا الخارجي بوقاحة حقيقية» لدرجة أننا لم نكن نجرؤ على 
الاصطفاف في الطابور ونجعله أكثر طولا. آنذاك كنا نذهب بعد انتهاء 
الفلم إلى محل للتصوير بالقرب من ميدان غراف أدولف؛ لكي نلتقط 
لأنفسنا صوراً وثائقية. كان الناس هئاك يعرفونناء» فيبتسمون لنا حين ندخل 
الأستوديو ويطلبون منّا بلطف الجلوس أمام آلة التصوير. لقد كنا زبائن 
محترمين» وذلك يعني أناساً محترمين. وعندما تصبح حجرة التصوير 
خالية» تعاجل إحدى الفتيات التي لم أعد أتذكر منها سوى أنها كانت فتاة 
لطيفة؛ إلى دفعنا برفق واحداً خلف الآخرء ثم تزحزحنا وتجذبنا من هذه 
الناحية أو تلك. مبتدئة بكليب» ثم تأمرنا بأن نعتدل في جلستنا وننظر إلى 
نقطة معيئة» حتى يبلغنا الوميض المرتجف والجرس الصغير المرتبط به 
بأننا قد تمّ طبعنا على اللوحة الفوتوغرافية ستٌ مرّات متتالية . 


56 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وساقرة بع الوسر ) كانت الآنسة تقودناء ونحن متشنجيّ الأفواهء 
لطيفة أيضاً - أن نصبر خمس دقائق» فكنًا ننتظر بسرور؛ لأننا كنّا ننتظر 
شيئاً ما: ننتظر صورنا التي كنا متلهفين إلى رؤيتها. وبعد مضي سبع دقائق 
كانت الآنسة التي لم تزل محافظة على لطفهاء والتي لا يمكن أن تنعت إلا 
بتلك الصفة وحدهاء تناولنا كيسين صغيرين» فنسارع إلى تسديد الحساب» 
فكنت ألاحظ علامات النصر ياذية على عيئ كليب الجاحظتين. وحالما 
نحصل على الكيسين كنا نجد فيهما باعثا للدخول إلى أوّل حانة لشرب 
البيرة» إذ ليس هناك من يستطيع تأمل صوره الوثائقية في عرض الشارع 
المترب وسط الصخب والضجيج » حيث يعر قله تيار المشاة. ومثلما كنا 
أوفياء لمحل التصويرء فإننا بقينا أوفياء كذلك إلى الحانة الواقعة فى 
فريدريش شتراسه . وكنا نضع الصور الرطبة بعض الشيء على حافة الطاولة 
الخشبية بعدما نوصي على البيرة والخبز الأسمر والسجق النيء المخلوط 
بالبصل» ونمعن النظر بملامحنا المجهدة ونحن نحتسي البيرة ونلتهم 
السجق فى تلك الحانة التى كانت تلبى الطلبات على الفور. 

وكنًا نحمل معنا باستمرار تلك الصور التي كنا التقطناها بمناسبة 
زيارتنا الأخيرة لدار السينماء وهكذا كانت تتاح لنا فرصة جيدة للمقارنة» 
وحالما تتاح تلك الفرصةء فإننا نطلب كأساً ثانياً وثالثاً ورابعاً من البيرة» 
لكي ندخل البهجة إلى أنفسناء أو لكي نخلق «جوَّاً رائقاء» مثلما يقال في 
لغة أهل الراين. 
من حزنه وكآبته عبر صوره الوثائقية وحدهاء إذ أن الحزنَ الحقيقى هو فى 
الواقع حزن غير ماديّء أو على الأقل مثل حزنيٌ وحزن كليب الذي لا 
يمكن إرجاعه إلى شيء مادىٌ ملموس؛ ذلك الحزن الذي برهن» من 
خلال الانعدام التام لتجسده المادىٌ» على احتفاظه بقوة هائلة لا تصل 
إليها المنغصات أبداً. وإذا كانت هناك إمكانية لمداعبة حزننا فإنها لا تمد 
إلا عبر الصورء لأننا كنا ننظر إلى صورنا المتسلسلة والملتقطة بسرعة» 


315 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بالطبع ليس بوضوح ودقّة» إنماء وهذا هو المهم» بسلبية وحيادية تامتين. 
وكنًا نتصرف بأنفسنا حسبما نشتهي» فنحتسي البيرة ونتعامل بقسوة مع 
السجق النيء» ونخلق جوَاً رائقاً ونعبث» ونثني الصور ونطويها ونقصها 
بمقصّ كنا نحمله معنا لتلك الغاية» ثم نخلط اللقطات القديمة بالجديدة » 
فنظهر تارة بعين واحدة وطوراً بثلاث أعين» ونضع لأنفسنا أنوفاً بدل 
الآذان» أو نخترع مشهداً صامتاء أو مشهداً آخر تحدثنا فيه بآذانناء أو نبرز 
الجبين لنتحدى به الذقن؛ وكان كليب يستعير مني التفاصيل وأنا بدوري 
كنت استمد منه الملامح والطباع. وعلى هذا المنوال» نجحنا في ابتكار 
ميكلرقات جديناة» وتمينا أن تكون تخلوقات سغيدة» وآحاناً كان دنا 
يهدي الآخر صورة ما. 

كنا - وهنا أعني نفسي وكليب على وجه الحصرء متخلياً عمداً عن 
الشخصيات المركبة الأخرى: - تهلاق صورة ما لنادل حانة البيرة الذي 
أطلقنا عليه اسم «رودي» الذي كان يرى وجهينا مرّة واحدة في الأسبوع 
على الأقل. 

و«رودي» هذا الذي كان يصلح أن يكون أباً لإثني عشر طفلاًء ووصياً 
على ثمانية أطفال آخرين» قد عرف احتياجاتنا ومعاناتناء فتفهمها. فصار 
يحتفظ بعشرات الصور الملتقطة من الجانب» وبعدد أكبر منها من الصور 
الملتقطة للوجه. وبدا كلّ مرّة شديد الانشغال منهمكاًء فيقول شكراً بعدما 
نهديه صوراً كنا اخترناها بدقة متناهية حدّ اللعنة وبعد مداولات واستشارات 
لم يهد أرسكار في الواقع صورة واحدة أبداً إلى عامل البوفيه» ولا 
إلى تلك الفتاة الحمراء الشعر التي كانت تتجول حاملةً صندوقاً لبيع 
السجائر. إذ لا يجوز أن تهدى الصور إلى النساء» لأنهن سيعبئن بها بلا 
شك. أمَا كليب الذي لم يكن يتورع» على الرغم من تثاقله عن التفاخر 
بنفسه أمام النساءء وعن استعداده لإفشاء أسراره وحماقاته أيضاً بشكل 
كامل أمامهن؛ فإنه لا بد أن يكون قد أهدى إلى بائعة السجائر صورة دون 
علمي؛ إذ أنه خطب تلك المخلوقة الجسورة المستهترة المخضرة الوجه» 


57 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ثم تزوجها ذات يوم لأنه أراد أن يستعيد منها صورته. 1 

لقد استبقت الأمور وأفردت لأوراق الألبوم الأخيرة كثيرأ من 
العبارات. والصور الغبية لا تستحق هذا الاهتمام؛ إلا من باب المقارنة 
التى من شأنها الكشف عن عظمة صورة جدّي كولياجك الملتقطة بفنية 
عالية منقطعة النظير والتي ما زالت إلى اليوم تخلّف أثراً كبيراً في نفسي 
كلّما تأملت الصفحة الأولى من الألبوم. 

كان جدي القصير القامة» مربوعهاء يقف إلى جانب طاولة من 
الخشب المخروط . لكنه» وهذا ما يؤسف له» التقط الصورة بوصفه فرانكا 
المتطوع في فرقة مكافحة الإطفاء» وليس بصفته مشعل الحرائق» فضلاً عن 
أن الشارب كان يعوزه. بيد أن بذلة الإطفائيين المفصلة على جسده بإحكام 
ودقّة» والتى علق على صدرها نوط الإنقاذ وكذلك خحوذة إخماد النيران 
الى اتشلاح من الطاولة مليسا كنين] , قله هوخا لوا ماعن تارب 
مشعل الخراكق'فكان ينظر بجدنة: مركا نهاية الفرنا» .ويدت اتارته 
الواثقة المترفعة» على الرغم من المأساة التي أتت بها دورة القرن 
المنصرم» كما لو أنها نظرة مألوفة تماماً ومحبوبة في زمن المملكة 
القيصرية الثانية» لكنها كشفت عن غريغور كولياجك؛: طخان البارود 
الغريق؛ الذي كان يبدو صاحياً بعض الشيء في الصور. وثمة لقطة 
صوفية» لأنها أخذت في «جنستوخاو» تمثل فنسنت برونسكي وهو يمسك 
بشمعة مقدسة» وصورة أخرى أظهرت يان برونسكي الهزيل البنية أيّام 
شبابه وقد التقطت بوسائل التصور الفوتوغرافي القديمة» كوثيقة كشفت 
بوعي عن الرجولة والفحولة المكتثبتين. ونادراً ما كانت نساء ذلك العهد 
ينجحن في إطلاق نظرة تتناسب مع وقفتهن أمام الكاميرا. وحتى جدتي» 
آنا نفسهاء التي كانت شخصية بحقّ كانت تبدو متمنعة في الصور عشية 
اندلاع الشورت الغالقية الأوَلى؛ مختفية وراء ابتسامة ده ومغفلة» لم 
تتح للرائي أن يستشعر مقدار السعة المانحة الملاذ واللجوء التي انطوت 
عليها أثوابها الأربعة المردودة على بعضها بصمت وسكون. 

وكانت جدّتي تبتسم للمصور الذي أخذ يطقطق بأزرار آلته متراقصاً 

714 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


تحت الوشاح الأسود. كما أنني شخصياً أدخلت الحياء في نفس ثلاث 
وعشرين ممرضة» من ضمنهم أميّ» مساعدة التمريض في مستوصف 
سيبلرهامر العسكري وهن يتدافعن للالتصاق بالطبيب الميداني» ليمنحنهن 
سنداً ومتكثاًء على ورق من المقوّى يعادل حجمه معايدتيّ بريدء في حين 
رلك مكدات الحبع رج بازتكاء تي لخطة باعي كان القرشن جديا 
الاحتفاء بالفساتين» وقد ساهم في ذلك المشبهد بعضٌ المحاربين 
المتمائلين للشفاء. وقد تجرأت أمّي على الغمز بعين واحدة» وعلى لم 
شفتيها كما لو أنها أرادت أن تمنح أحداً ما قبلة» وتقول على الرغم من 
أجنحتها الملائكية وشعرها المسبل الشديد اللمعان: إن الملائكة تتمتع 
أيضاً بجنس معيّن. لقد اختار ماتسرات الذي جثا على ركبته أمام أمّي زياً 
كان يتمنى في قرارة نفسه لو يجعله لباسا يوميا له؛ فكان يلوح بملعقة كما 
يفعل الطهاة» واضعاً على رأسه طاقية الطباخين المنشّاة. غير أنّه بدا على 
العكس من ذلك في قيافته العسكرية المزينة بنوط الصليب الحديدي من 
الدرحة العانية وعر ينظ زلن الأمام باستقامة مثل نظرة كولياجك 
وبرونسكي» تلك النظرة المأساوية؛ مان ال تر 
كلّها. وعقب الحرب أصبحت الوجوه مختلفة ومتباينة» فكان الرجال 
يطلون من الصور منهكين إلى حدّ ماء وصارت النساء يدركن سر الوقوف 
في قلب الصورة» فكنّ يتطلعن بجديّة» حتى وإن ابتسمن» فكان ذلك 
الدافع الأساسي لوقوفهن أمام آلة التصوير؛ لأنهن لم يرغبن في إنكار الألم 
الذي كان يليق بنساء سنوات العشرينات. أفلم تنجح أولئك النسوة في 
إقامة صلة بين حالة العذرية وبيع الهوى وهن يجلسنء أو يقفن» أو 
يضطجعن بمقدار النصف» بخصلات شعرهن الأسودء تلك الخصلات 
المنحنية على الصدغين انحناء الهلال؟ 

كانت صورت أمّى التى بلغت آنذاك الثالثة والعشرين عاماً - ربما 
التقطت قل الحمل بكرة قصيرة - تكسف عن أمرأة شانة» فمبل فليلة 
برأسها المستدير المرتخي بتناسق على جيدها المكتنز المشدود الأديم» 
وتحدق مباشرة بالرائي» مفصحة عن معالمها الحسيّة المجردة بتلك 


54 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الابتسامة المنكسرة الآنفة الذكرء وبعينين اعتادتا تأمل أرواح البشرء فضلاً 
عن روحهاء كما لو أنهما كانتا تتأملان جسماً مادياً - بل دعونا تقول 
صحن فنجان قهوة أو عقب سيجارة» بعينين ضاربتين إلى اللون الرمادي 
أكثر من الأزرق. وإذا ما عن لعبارة (الامتلاء الروحي) أن تكون قاصرة عن 
الوصف. فإنني سأجعلها هنا صفةً لنظرة أمَّي . 

ولم تكن الصور الجماعية في ذلك الزمان مثيرة» بيد أن من الممكن 
الحكم والتعليق عليها ببساطة» ومن هذه الزاوية فهي ذات دلالة كبيرة. 
ومما يثير الدهشة هو أنّ فساتين الزفاف آنذاك بدت أكثر جمالاً وعذريةٌ مما 
هي عليه اليوم؛ كان ذلك أثناء التوقيع على معاهدة «رابالو» بين الألمان 
والسوفيت. وكان ماتسرات يرتدي ياقة منشّاة فوق بذلة زفافهء فبدا وسيما 
وأنيقاً ومتعلماً إلى حدّ ماء وهو يقدم ساقه اليمين خطوة إلى الأمام؛ لعلّه 
أراد التماهي مع ممثل سينمائي من زمانه» ربّما كان هاري ليتكه. وكانت 
الثياب قصيرة آنذاك» وكان فستان زفاف أمّي الأبيض العذريّ ذو الثنيات 
الألف لا يكاد يغطي ركبتيهاء فكشف عن ساقيها الممشوقتين وقدميها 
المتدربتين على الرقص والملمومتين بالحذاء الأبيض ذي الإبزيمات. وفي 
لقطات أخرى يمكن رؤية ضيوف الزواج وهم يتدافعون. وكان مما يلفت 
النظر كلّ مرّة هو ذلك المظهر الريفي الصارم والاضطراب الذي نم عن ثقة 
بدت على ملامح جدتي آنا وشقيقها فنسنت المبارك وهما يقفان وسط 
المدعوين ذوي الملابس والوقفات الحضرية المظهر. أمّا يان برونسكي» 
الذي كان ينحدر من حقل البطاطس ذاته مثل أمّي وعمته آنا وأبيه الهائم في 
حبٌ السيّدة العذراء المقيمة فى ملكوت السماء؛ فقد عرف كيف يخفى 
أصله القروي الكاشوبي وراء البريق الاحتفالي لسكرتير في دائ ة البريد 
البولندي. ومهما كان نحيفاً وعليلاً في وقفته بين الأصحاء وشاغلي 
الأماكن في الصورء فإن عينه غير العادية ووجهه المسطح والمستوي 
استواءً أنثوياً كانا يشكلان دائماً؛ حتى لو وقف في الهامش» بؤرة الجذب 
والاستقطاب في كل صورة. 

وقد تمعنت في مجموعة من الصور التقطت بعد مضي فترة وجيزة 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


على حفلة الزفاف» وعليّ الآن أن أهرع إلى الطبل لأستحضر من خلال 
عصيّ القرع على الصفيح المطليّ أولئك النجوم الثلاثئة المطبوعين على 
الورق السميك في المربع البّي. ربما جاءت الفرصة المناسبة لالتقاط هذه 
الصورة في زاوية ماغدبورغرشتراسه -هيرسأنغر» بمحاذاة بيت الطلبة 
البولنديين» أي في دار برونسكي؛؟ حيث حيث أطلت في خلفية الصورة شرفة 
مشرقة؛ عُطي نصفها بالنبات المتسلّق على الطريقة التي كانت تزين بها 
الشرفات في المستوطنات البولندية. وكانت أني جالسة بينما وقف 
ماتسرات ويان برونسكي. لكن كيف كانت جلستهاء وكيف وقف 
الآخران! وكم كنت أحمق عندما صرفت وقتاً طويلاً قمت خلاله باتخاذ 
القياسات لذلك المجلس الثلاثي بالمسطرة والمثلث والفرجار المدرسي 
الذي اشتراه لي برونو - لقد عوضت أمّي عن غياب الرجل الثالث في 
المجلس تعويضاً تاماً. فبدأت أوّل الأمر بقياس زاوية ميل العنق» ثم قست 
مثلثاً غير متساويّ الأضلاع. فحدث انحراف في المتوازيات» لكن حدث 
أيضاً تطابق بالإكراهء ورسوم دوائر بالفرجار كان محيطها يلتقي بعيداً تماماً 
عن خضرة النبات المتسلق» مخلفة نقطةً ما؛ إذ أنني كنت في الواقع 
أبحث عن نقطة محددة» لأنني كنت مؤمناً بالنقطة ومدمناً عليهاء وكنت 
أسعى بغية الحصول على نقطة ارتكاز واحدة» أو نقطة انطلاق حتى» وأن 
كانت نقطة تحمل وجهة نظر. لكن لم يتمخض عن هذه القياسات الساذجة 
البدائية سوى ثقوب صغيرة مزعجة حفرتها بإبرة الفرجار في المواضع 

المهمة لهذه الصورة النفيسة . فما هى إذاًٌ الخصوصية التى تمئعت بها هذه 
اللقطة؟ وما الذي دفعنى إلى البحث عن غلاقات رياضية وكونية تدعو إلى 
السخرية من هذا المربع» بل إلى إيجادها هناك؟ كانوا ثلاثة: امرأة جالسة 
ورجلان واقفان: المرأة بالتسريحة المتموجة لشعرها الفاحم السواد. 
وماتسرات بشعره الأشقر المجعّد ويان بشعره الكستنائي الناعم الممشط 
إلى الوراء . كان ثلائتهم يضحكون: حيث ضحك ماتسرات أكثر من 
برونسكي» فبرز كلّ منهما أسنانه العلوية التي كانت أشدّ قوء وحضوراً من 
أسنان أمّي بمقدار خمس مرّات» حيث لم يكن في زاويتيّ فمها سوى أثر 


ا/ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


صغير للأسنان» بينما اختفى ذلك الأثر من عينيها. وكان ماتسرات يرخي 
يده اليسرى على كتف أمي اليمين» واكتفى يان بملامسة مسند الكرسي 
بيمناه ملامسةً خفيفة» وقد حرفت أمّي ركبتيها إلى الشمال» في حين 
جعلت جسمها مستقيماً اعتباراً من الردفين» ووضعت في حضنها دفتراً» 
كنت أحسبه لوقت طويل ألبوم طوابع آل برونسكيء, ثم ظننته فيما بعد 
مجلة أزياء» وفى الأخير اعتبرته الكتاب المصوّر لسجائر مشاهير أبطال 
النكما» تظهرت بدافا وكانيما عال :رشك أذ حمتها الكتات خالنا تناز 
لوحة التصوير فتلتقط الصورة. بدا الثلاثة سعداء» مستأنسين ببعضهم بعضاً 
ومتأهبين لدرئ الطوارئ التي لا تقع إلا إذا ما خبّأ أحد شركاء الاتحاد 
الثلاثي أشياء خاصة؛ أو تستر عليها منذ البداية. ولم يكن أولئك الثلاثة 
بحاجة إلى الشخصية الرابعة» أي زوجة يان» هدفغ برونسكي» المولودة 
باسم «لمكه؛ والمرجّح أنها كانت حاملاً بشتيفان الذي أنجبته بعد ذلك 
بفترة قصيرة؛ فلم يكنوا بحاجة إلى الشخصية الرابعة» إلا إذا كانت آلة 
التصوير موجهة عليهم ثلائتهم وعلى سعادتهم؛ لكي يتم على الأقل 
تسجيل تلك السعادة الاستثنائية المضاعفة التي شعت من وجوه ثلاثة 
أشخاص عبر وسائل التصوير الفوتوغرافي. 

لقد انتزعت لقطات مربعة أخرى من الألبوم وألصقتها إلى جانب هذه 
الصورة» وكانت عبارة عن مشاهد لأمي برفقة ماتسراتء أو يان 
برونسكي . غير أن التحليل والتحميض الختاميين لم يكنا بارزين في أي 
صورة من تلك الصور مثل بروزهما في صورة الشرفة. وإذا ما ظهرت أمّي 
مع يان في صورة فوتوغرافية فإن ذلك يمكن أن يُشْمّ منه رائحةٌ مأساة» أو 
رائحة تنقيب عن الذهبء, مغالاة في الوقفة تصل إلى درجة القنوط. ومن 
ثم إلى القنوط نفسه الذي يقود بدوره إلى المغالاة. وإذا ما وقف ماتسرات 
إلى جانب أمّي؟ فيمكن رؤية الطاقة الجسدية لنهاية الأسبوع» متأرجحةً» 
تضوع رائحتهاء وكذلك يمكن سماع فرقعة شرائح اللحم المحمرة على 
طريقة فييناء حين أظهرٌ بعض التذمّر من الطعام وبعض التثاؤب بعد تناوله» 
وحين يكون أحد الحاضرين قد روى نادرة قبل الذهاب إلى الفراش» أو 


:7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


درّن السجل الضريبي على الحائط» لكي تتخذ الزيجة خلفية فكرية 
محددة. ومع ذلك فإنني كنت أفضل لحظات التذمر والضجر البادية في 
تلك الصور الملتقطة خلال الأعوام اللاحقة والتي كانت تصوّر أمّي جالسة 
فى حضن يان برونسكي قبالة «كواليس أوليفرفالد» بالقرب من 
«فرويدنتال». لكنّ تلك التصرفات القذرة - كان يان قد أخفى يده ذات مرّة 
تحت ثياب أمّي - لم تتضمن سوى لحظات العاطفة الجيّاشة لهذين 
الخليلين التعيسين اللذين كانا يمارسان الخيانة منذ الأيام الأولى لزواج 
ماتسرات الذي سلمهما بيد المصور المتبلّد الإحساس» حسيما اعتقدت؛ 
فلو يق آثر للرزانة أو الحشمة. ولا التلقائية أو الطمأنينة» أو حتى 
للتلميحات المتعلقة باتخاذ الحيطة والتي كانت جليّة تمامأ في صورة 
الشرفة» تلك التلميحات التي لم يكن لها أن تتحقق عادةٌ إلا بعد وقوف 
الرجلين خلف أمّيء أو إلى جانبهاء أو الجلوس تحت قدميهاء مثلما 
كشفت صورة الشاطئ الرملي الملتقطة في مصيف استحمام «هويبوده». 
انظر الصورة! 

كانت هناك أيضاً لقطة مربعة الشكل» عرضت أولئك الأشخاص 
الثلائة الذين تركوا تأثيراً علىّ في أعرامي الأوّلى والذين شكلّوا في 
الصورة مثلثاً غير منقوص» حتى لو كانت الصورة خالية من التركيز؟ فإنها 
مع ذلك شعّت بالسلام المترع بالشوق والإثارة والذي لا يمكن الاتفاق 
على بنوده ومن ثم التوقيع عليها إلا بين أشخاص ثلاثة. ومن حقٌّ المرء 
أن يكيل الشتائم؛ كما يشتهي» إلى موضوعة المسرح الثلائية المنظور 
والأبعاد» لكن ما الذي يفعله شخصان لا ثالث لهما على المنصة أكثر من 
أن يصدّع أحدهما رأس الآخر بالجدل والنقاش؛ مشتاقين في السرّ إلى 
حضور الشخص الثالث» لكنّ أولئك قد اجتمعوا ثلاثتهم في صورتي. 
كانوا يلعبون الورق» ذلك يعني أنّهم كانوا يحملون الورق بأيديهم 
كالمراوح اليدوية المضفورة بدقة» لكنهم لم يتطلعوا إلى أوراق «الطرنيب» 
الرابحة؛ لكي يكسب أحدهم الجولة؛ إنما تطلعوا إلى آلة التصوير. كان 
يان يضع يده على قطع النقود بارتخاء» بحيث لم ترتفع من أصابعه سوى 


7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


السبابة وحدهاء وكان ماتسرات يضغط بأظافره على غطاء الطاولة» في 
حين بدت أمّي وكأنها أطلقت نادرة جيّدة. كانت قد سحبت ورقة» لكنها 
لم تعرضها على اللاعبين» بل على عدسة الكاميرا. فكم كان بسيطاً 
التأكيد على أحدّ الرموز الملحّة وإثباته عبر إشارة واحد» وهي عرض 
الورقة التي طبع عليها قلب وبنت أمام العدسة» فمن ذا الذي لا يقسم 
بالقلب والبنت! 

لم تكن لعبة «الورق4» التي يلعبها عادةٌ ثلائة أشخاصء بالنسبة لأمّي 
وللرجلين أيضاً مجرد لعبة متكافئة تماماًء بل كانت ملاذاً لهم ومرفاً 
يجتمعون فيه كلّما أرادت الحياة إغرائهم بقبول هذا الوضع أو ذاك الذي 
يتيح لشخصين إثنين إمكانية الاجتماع دون رقابة الشخص الثالث» ليمارسا 
لعبة غبية مثل الخمسة والخمسين»» أو أحد أنواع النرد. 

والآن اكتفي بالحديث عن أولئك الثلاثة الذين أتوا بي إلى هذا العالم 
على الرغم من أنهم لم يكنوا بحاجة إلى شيء جديد. وقبل أن أعرّج إلى 
الحديث عن نفسي أودّ أن أذكر بكلمة واحدة غريتشن شفلر» صديقة أمَّي» 
والكسندر شفلر» زوجها الخبّاز الأصلع» وغريتشن التي كانت تضحك 
ملء طقم أسنانها المصنوع نصفه من الذهب والذي يشبه قواطع الفرس . 
وكان للكسندر ساقان قصيرتان وحين يجلس فإن قدماه لا تمسان البساط 
قطء بينما كانت زوجته ترفل بثيابها المليئة بالنقوش والزخارف التي كانت 
تطرّزها بنفسها. 

كانت هناك صور جمعت بين غريتشن وزوجها وهما مستلقيان على 
كرسيين للاضطجاع؛ أو يقفان أمام زوارق الإنقاذ التابعة للباخرة «فيلهلم 
غوستلوف:.؛ أو سطح السفيئة «تاننبيرغ» العائدة إلى الخدمات البحرية في 
شرق بروسيا. كان آل شفلر يسافران كل عام ويجلبان معهما هدايا 
تذكارية» لم تتضرر على الرغم من طول الرحلة التي قاما بهاء يأتون بها 
من بيلاو والنرويج وجزر الآزور وإيطالياء فيعودان إلى دارهما في جادة 
كلاينهمر؛ حيث كان الزوج يخبز أقراص الخبز والزوجة تطرّز بياضات 
الوسائد بنماذج تشبه أسنان الفأر. وكان الكسئدر إذا ما توقف عن الكلام 


:7و3 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يبلل شفته العلياء مما كان يثير امتعاض غريفه, بائع الخضر الساكن قبالة 
دارناء وصديق ماتسرات» الذي كان يعتبر تصرف الكسندر تصرفا بذيئا 
خالياً من الذوق. 

وعلى الرغم من أن غريف كان متزوجاًء إلا أنه كان قائداً للكشّافة 
أكثر مما هو زوج. وهناك لقطة كانت تظهره ببدانته وجفافه وعافيته 
الممتازة وسرواله الكشفي القصير وأربطة القيادة وقبعة الكشافين. وإلى 
جانبه وقف في البذلة الكشفية ذاتها صب في الثالثة عشرة من عمره» أشقر 
الشعرء واسع العينين» وكان يمسك بيده اليسرى كتف غريف, معرباً عن 
ودّه له. إنني لم أستطع التعرف شخصياً على هذا الصبي. لكنني تعرفت 
فيما بعد على غريف هذا بواسطة زوجته لينا فوقعتٌ على سرّه. 

لقد أضعت نفسى الآن بين هذه اللقطات العاجلة للمسافرين تحت 
شعار «القرّة عبر السعادة»+ ولشهادات الشهوة الكشفية الشديدة الرقة» إذْ 
يجب عليّ أن أقلب بسرعة بضع صفحات لكي أصل إلى نفسي» أي إلى 
صورتي الفوتوغرافية الأوّلى. فقد كنت بلا شك طفلاً جميلاً حين أخذت 
لي الصورة في عيد العَنْصّرة في العام الخامس والعشرين؛ في شهري 
الثامن» أي أكبر بشهرين من شتيفان برونسكي المطبوعة صورته بالحجم 
ذاته في الصفحة اللاحقة. حيث شع وجهه بنمط من العادية غير القابلة 
للوصف . وكانت هناك بطاقة بريدية ذات حافة متموجة ومخرّمة الطرف 
بفنية عالية» وقد رسمت خطوط مستقيمة على ظهرها لكتابة العنوان» لعلّها 
طبعت آنذاك بنسخ كثيرة» لغرض الاستخدام العائلي. كان الجزء المصور 
من البطاقة المربعة الشكل الكبيرة الحجم يتضمن شكلا بيضاويا متناسقاً. 
كنت عاريا فى الصورة» مجسدا صفار البيض تجسيدا حيّا. وممددا على 
بطني فوق فراء أبيضء لا بد أن يكون قد تبرع به أحد الدببة القطبيين 
لمصور محترف من مصوريٌّ أوروبا الشرقية المختصين بتصوير الأطفال 
ومثلما كان الحال مع صور ذلك الزمان فقد اختاروا لصورتي لوناً بنيّا دافئا 
غير ملتبس» أود أن أسميه لوناً إنسانياًء على العكس من الصور السوداء- 
البيضاء المسطحة واللاإنسانية في أيّامنا هذه. وثمة أوراق خضراء كابية 


36ى 2‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


اللوة ومظموسة المعالم إلى خد هاء زيما وُسعت رسماء كانت 'تمثل 
الخلفية المعتمة التي خففت عتمتها بضع نقاط من الضوء. وحين كان 
جسدي السليم يرقد بهدوء سطحيء وفيه انحراف خفيف عن الخط 
القطري للفراء» مستسلماً للتأثير الذي خلفه موطن الدبّ القطبي في 
نفسي» فقد كنت أرفع بمشقة رأسي الطفولي المستدير» محدّقاً بعينين 
ساطعتيّ البريق في كلّ من كان يتطلع إلى عربي. ويمكن أن يدعي المرء 
أن هذه الصورة لا تختلف عن صور الأطفال الأخرىء, لكنني أرجو من 
حضرتكم أن تتأملوا يديّ: لتعترفوا حينئذ بأن مظهري الطفولي المبكر كان 
يختلف اختلافاً جوهرياً لا يفارق الذاكرة كالأثر المطبوع؛ نعم كان مظهري 
يختلف عن براعم الزهور اللامعدودة التي أشارت كلها إلى نمط ظريف من 
الوجود في جميع الألبومات على اختلاف أنواعها. ويمكن أن يراني المرء 
بقبضتين مكورتين» إذ لم تكن أصابعي غليظة كالسجق, فتنصاع بفعل 
النسيان» وكذلك بفعل غريزة لمس غامضة:؛ تدفعني إلى العبث بشعيرات 
فراء الدب القطبي. وكانت قبضتاي الصغيرتان المكورتان بجدية تحومان 
حول صدغيّ وتخفقان» ثم تهبطان مصدرتين صوتاء ولكن أي صوت كان 
ذلك؟ لقد كان صوت الطبل! 

فكان الطبل يعوزني يومئذ» لأنني وعدت بالحصول عليه في عيد 
ميلادي الثالث» وبمناسبة ولادتي تحت المصابيح الكهربائية» لكن بكرة 
من السهل تماماً بالنسبة لمركب صور متمرّس أن يلحق بي طبلة أطفال من 
خلال كليشة صغيرة مناسبة للصورة» دون إجراء أي رتوش على وضعيّ 
الجسدي, لكن عليه أيضاً أن يبعد عنّي لعبة القماش الغبية التي لم أعرها 
أدنى اهتمام؛ فهي كانت عبارة عن جسم غريب دخيل على تلك التوليفة 
الموفقة التي يمكن أن يشتغل عليها المرء باعتبارها موضوعاً ماء مقترناً 
بسن الألمعية والفطنة» ذلك السنّ الذي تنبت فيه الأسنان اللبنية» ومنذ 
ذلك الوقت لم يقدم أحد على وضعي فوق فراء الدبٌ. 

ويرجّح أن أكون قد بلغت العام ونصف العام عندما أدخلوني في عربة 
أطفال كبيرة العجلات» رأيتها تقف آنذاك أمام سياج من الألواح الخشبية 


كو 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


المسننة الرؤوس» وقد رسّم عليها بشكل واضح للعيان طبقةٌ من الثلوج. 
مما حملني إلى الاعتقاد بأن الصورة تلك التقطت في شهر يناير/ كانون 
الغاني من العام السادس والعشرين. وجعلتني طريقة عمل السياج البدائية 
التى أوحت أخشابه برائحة القطران» أرتبط بالضرورة بضاحية اهوخشتيس)» 
التي كانت ثكناتها العسكرية المترامية الأطراف فيما مضي مقرًاً لأفواج 
الخيّالة «المكنزيين» الذين أصبحوا في زمني شرطة لحماية الدولة الحرّة. 
وبما أنني لم استطع التعرف على أي شخص كان يقيم في تلك الضاحية 
المذكورة» فلابد أن تكون تلك الصورة قد التقطت بمناسبة زيارة يتيمة قام 
بها والداي لبعض الناس الذين لم يعد أحد يراهم فيما بعد أو يلتقي بهم. 
إلا بشكل عابر. 

ولم يرتد ماتسرات» أو أمّيء اللذين وضعا عربة الأطفال بينهماء 
معاطفٌ شتوية على الرغم من برودة الفصل» بل إنني رأيت أمّي وقد 
ارتدت بلوزة روسية بأكمام طويلة ومطرزة بنقوش تعطي انطباعاً كما لو أن 
تلك الصورة الشتوية التقطت لعائلة القيصر في أعماق روسياء وقد أمسك 
راسبوتين شخصياً بآلة التصويرء وكنت أنا بمثابة ابن القيصرء بينما قبع 
وراء السياج المناشفة والبلاشفة» ليقررواء وهم يصنعون القنابل» القضاء 
على عائلتي المستبدة بالحكم . وكان مظهر ماتسرات البرجوازي الصغير 
والأوربى المتوسط الشديد الانضباط» الذي كان ينبئ بمستقبل واعدء 
مثلمًا سترق فيا بعدة يكسر من حدة البعد الجنائزي القاسي الذي هيمن 
على الصورة. كانوا فى «هوخشتيس» الضاحية المتطامنة قروا منزل 
المضتف انترة 'قضيرة» دون أن يرتدوا المعاطلف الشدرية» كان والداي قذ 
طلبا من صاحب الدار أن يصوّر أوسكار الصغير في الوسط. حيث تطلع 
أوسكار بطريقة بعفت على الشفحك: حسيما كانوا يشتهون: لكن يرجعوا 
بعد ذلك» ليتناولوا القهوة والكعك والقشدة بدفء زلذة وسروو - 

كانت هناك دزينة من اللقطات التى أظهرت أوسكار مضطجعاً وجالساً 
وزاحفاً وعاكيا: أظهرت أوسكار وق تن هاه الأول وفى عامه الثانى وبعد 
بلوغه العامين ونصف العام. وكانت اللقطات جيدة إلى هذا القدر أو ذاك» 


/ا/ا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


مشكلة على العموم الخطوة الأوّلى للصورة الشخصية الكاملة التي التقطت 
لي بمناسبة عيد ميلادي الثالث . 

كنت قد حصلت الطبل» وها هو معل الآن فوق بطني» جديداًء 
مسئن الأطراف بالأبيض والأحمر؛ وها أنا أذا أقرع على الصفيح بمطرقتين 
خشبيتين صغيرتين» أقرع بوعي تام وبملامح مليئة بالجدّ والحزم. وها أنا 
أذا ارتدي بلوزة مقلّمة وحذاء لامعاً. وقد وقف شعري كالفرشاة التى 
أدمتك السسلقي #انتكيت :فى تعيض الززقاريى إزلفة اللطةة تللق التى 
بقدو أنرها بستستهاتوزة خابعة إلى آنباع وأنضار. .وكنك حكنت الذالة:من 
الحصول على منصب لم أر حاجة ماسة للتخلّي عنهء فقررت أن أقول» بل 
عقدت العزم على أن أكون سياسياً في كلّ حال من الأحوال» وليس تاجراً 
لبضائع المستعمرات» إنما يتوجب عيّ أن أضع نقطة محددة وهي أنني 
سأبقى كما أناء محافظاً على حجمي الصغيرء ومحتفظاً بهذه اللوازم 
والتجهيزات بضعة أعوام طويلة قادمة. وبغض النظر عمًّا إذا كان هناك 
لسان بحريٌ صغير أو كبيرة وحروف أبجدية صغيرة أو كبيرة وهانس 
الصغير أو شارلمان الكبير وداود أو العملاق» فإنني بقيت على حال القزم 
نفسه الذي بلغ طول الإصبع؛ وبقيت ذلك القزم ذا الأعوام الثلائة والطفل 
الصغير غير القابل للمدٌ أو الإضافة» بغية التحرر من أساليب التفريق التي 
تقوم بها التعاليم المسيحية كبيرها وصغيرهاء حتى لا أكون رجلا بالغاً يبلغ 
طوله متراً وواحداً وسبعين ستتمترأأ» خاضعاً لنفوذ رجل آخر يطلق على 
نفسه لقب «أبي» أمام المرآة حيث يحلق ذقنه» ملتزماً بإدارة متجر لبضائع 
المستعمرات؛ وهو المتجر الذي كان سيعني بنظر أوسكار ذي الواحد 
والعشرين عاماً عالمَ الكبار البالغين. ولكي لا أضطر إلى العبث بخزانة 
النقود فقد تمسكت بالطبل» وتوقفت عن النمو منذ عيد ميلادي الثالث» 
فلم يزدد طولي مقدار إصبع واحد. وكنت في أعوامي الثلاثة متفوقاً 
بالذكاء مرّات عديدة على أولئك البالغين الذين لا يجوز أن أقيس ظلَى 
بظلّهم؛ على الرغم من أنني كنت ناضجاً تماماً وجاهزاً من الداخل 
والخارج معاء بينما كان على الآخرين أن يصلوا إلى مرحلة الهذيان بفعل 


,> 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


التطوّر حين يبلغون سنّ الشيخوخة. واتضحت أمامي تجربة الآخرين 
المريرة الشاقة التي لم يتوصل إليها إلا عبر الألم والمعاناة» فلم أجد 
ضرورة لارتداء أحذية وسراويل كبيرة الحجم من عام إلى آخرء لأثبت بأن 
هناك شيئاً ما يواصل النمو. 

فى تلك الأثناء نما شيء ما - لابد أن يقرّ أوسكار بهذا التطوّر-. 
شىء لم يكن لمصلحتي كالعادة؛ بلغ في الأخير حجماً مسيحيّاً هائلا. 
لكن أي شخص بالغ كان يتمتع في زمني بسمع وبصر جيدين» فيبدي 
تفهماً لأوسكار ذي الأعوام الثلاثة» أوسكار القارع الدائم لطبل الصفيح؟ 


24”ى,ق 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


زجاج وزجاج محطم 


إذا كنت قد فرغت للتو من وصف صورة أظهرت أوسكار بهيئته 
الكاملة وطبله ومضربيه الخشبيين» معلناً عن قراراته البالغة النضج إبان 
اللقطات الفوتوغرافية» بحضور ضيوف عيد الميلاد الذين أحاطوا بالكعكة 
ذات الشمعات الثلاث؛ فإن علي الآن - بعد أن صمت ألبوم الصور الراقد 
إلى جانبي - التعرض إلى تلك الأشياء التي حدئت بفضلي أنا شخصياًء 
لكنها لم تفسر في الواقع استمرارية وضعي الثابت على الأعوام الثلاثة. 

كان رسام دريل بأن: الكبار سوف يعجزون عن فهمي» 
فإذا نموتٌ أمامهم بشكل مرئي فإنهم يسمونك متخلفاً. ثم يجرجرونك» 
ومعم نقودهم, 9 الأطباء ليبحثوا على الأقل عن تفسير لمرضك إذا لم 
تتمائل للشفاء. يجب أن أسوق هنا من ناحيتي تعليلاً معقولاً لفقر النمو 
الجسدي» ار الاستشارات الطبيّة إلى حجم مقبول قبل أن أفسح 
المجال للطبيب للإدلاء برأيه في هذا الشأن. جاء عيد ميلادي في يوم 
مشمس من أيَام سبتمبر/ أيلول» فكان ثمة نفخ دقيق في الزجاج» نفخ ما 
بعد فصل الصيف. طغى حتى على قهقهات السيّدة غريتشن شفلر. كانت 
أمّي تجلس أمام البيانو» مترنمة بأغان غجرية؛ وكان يان يقف خلف كرسي 
العزف» ماسأ كتفهاء راغبأ فى دراسة النوتة الموسيقية؛ وكان ماتسرات 
يجهز العشاء في المطبخ». وقد اجتمع الكسندر شفلر وهدفغ برونسكي 
وجدّتي حول غريف, بائع الخضر؛ لأن غريف كان يجيد رواية 
الحكايات» حكايات الكشّافة» والتي يجب أن يتمتع فيها الإخلاص 
والشجاعة بالصدق؛ وثمة ساعة كبيرة قائمة» غير متخلية عن أي ربع ساعة 


م 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


من ذلك اليوم السبتمبريّ المنسوج بدقة متناهية. وبما أنْ الحاضرين كانوا 
نتشغلين كما الساعة بالإضغاء إلى حكاية الكشافين الذين كانوا يجوبون 
جبال غريف بائع الخصرء تلك الجبال الكثيفة الشجرء منطلقين من بلد 
الهنغار» مروراً بمطبخ ماتسرات» حيث كان الفطر والبيض والشحم يفرقع 
في المقلاة؛ حى وضلوا إلى المتجر عبر الدهليز؛ فتعقبت مسيرة الهرب 
تلك بخفة» يشحولا بالطبل؟ إلى أن وقفت في الدكان خلف طاولة البيع : 
بعيداً عن البيانو وعن الفطر وعن جبال خريفت المشجرة» فلاحظت أن 
الباب الأرضيّ المؤدي إلى القبو كان مفتوحاً» ولعلّ ماتسرات قد أخرج 
قبل فترة علبة فاكهة محفوظة ليقدمها تحليةً للضيوف بعد الطعام» فنسي أن 
يقفل الباب. فاحتجت حينئذ إلى دقيقة تفكير كاملة قبل أن أدرك ما الذي 
كان يطلبه مئي الباب الأرضيّ المؤدي إلى قبو المخزن» فهر بل شك لم 
يطلب مني الانتحار» أقسم بالله! لأنْ ذلك الأمر سيكون سهلا للغاية 
فعلاً» بيد أن الشيء الآخر الذي طالبني به كان صعباً ومؤلماء يستلزم 
التضحية» » فجعل العرق ينضح من جبيني كما هي العادة دائماً عندما 
يتوجب عليّ القيام بتضحية ما. وقبل كل شيء يجب ألا يصاب الطبل 
بضررء إنما لابد أن يبقى سالماً حين أهبط به درجات السلّم الست عشرة» 
لأضعه بين أكياس الطحين» متحسباً لئلا يصاب بضررء ثم أصعد من هناك 
الدرجة الثامنة» كلاء إنما © أو ربّما تكون الدرجة الخامسة 
كافية. لكن من الصعب أن يجتمع الأمن والسلامة والضرر المحدق من 

ذلك الارتفاع . ا ل العاشرة» لت 
رقا مليئاً برجاجات مربى التوت» فسقطت أنا على راس فرق الأرفية 
الإسمنتية لقبو المخزن. وقبل أن أردّ السعارة على إدراكى ووعىّ تأكدت 
من نجاح التجربة: لقد أصدرت زجاجات مربى التوت التي جذبتها معي 
عمداً صوتاً عاليً؛ كان كافياً لاستدراج ماتسرات من المطبخ ومعه أمّي من 
الة البيانو» وبقية ضيوف عيد الميلاد من رحلتهم الكشفية الجبلية» فهرعوا 
إلى الدكان ومن ثمّ إلى الباب الأرضيّ؛ حيث هبطوا السلّم. وقبل أن 
يصلوا إليّ جعلت مربى التوت يترك أثرآء فتيقنت بأن الدم سال من رأسي 


١م‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أيضاًء وفككرت عندما كانوا فوق السلّم فيما إذا كان الترت حلو المذاق» أم 
أنَّ دم أوسكارء وأيهما جعلني متعباًء لكنني» مع ذلك؛ كنت سعيداً بأن 
كل شيء تم بنجاح وأن الطبل لم يصب بعطب بفضل احتراسي . 

أعتقد أن غريف هو الذي حملني إلى الأعلى. حيث أستيقظ أوسكار 
في غرفة الجلوس وأطل من الغمامة التي كان نصفها من مربى التوت 
ونصفها الآخر من دمه الطفولي. ولم يكن الطبيب قد حضر بعدء 
فصرخت أمَى وضربت ماتسرات الذي أراد أن يهدأ من روعهاء ضربته عذة 
مرّات» ليس يكنها وحسبء بل بظاهر يدها أيضاًء وزعقت به ناعتةً إياه 
بالقاتل. كنت قدّمت بسقطتى الوحيدة تلك - وذلك ما أكده الأطباء كل 
ملاس جذيد- فلك البفظلة الى تكن خفيقة» لعن قذرت غندنها 
بنفسي» قدّمت ليس فقط تعليلاً وافياً لتفسير توقف النموء إنما تعدى الأمر 
ذلك». وهنا تم يكق بإراقية إلى جد توجيه الانهام إلى ماتسزات 
المسكين الطيّب القلب!؛ إذ أنه ترك الباب الأرضيّ مفتوحاًء فحملته أمّي 
الذنب كاملاًء وبذلك أتيحت له الفرصة لتحمل الذنب أعواماً طويلة. 
فأخذت أمّي تتهمه بقسوة حتى وأن كانت الانهامات لم تصل إليه دائماً. 
ومنحني السقوط إقامة أربعة أسابيع في المستشفى ووفر عليّ نوعاً ما 
فحوصات الأطباء» ما عدا فحوصات الدكتور هولاتس في أيّام الأربعاء. 
وبمناسبة التطبيل الأوّل تمكنت من إعطاء العالم إشارة ماء فاتضحت 
حالتي الصحية» قبل أن يدرك الكبار الوضع الحقيقي الذي كنت خلقته 
بنفسي. ومنذ ذلك الوقت كان يقال دوماً: إن صغيرنا أوسكار سقط من 
حل القتون اليقيت الفضاؤه كلها سليمةء لاتقب عن التمو: 

بدأت آنذاك بقرع الطبل» وكان بيتنا المؤجر يقع في بناية تتألف من 
أربعة طوابق» فكنت أطبّل البناية» من الطابق الأرضى إلى السقفء طلوعاً 
وهبوطاًء ومن لابسفيغ إلى ميدان ماكس هالبه؛ ومن هناك إلى محلة 
اسكتلندا الجديدة وجادة أنتون-مولر مارين شتراسه وحديقة كلايئهمر 
والبُركة فمصنع البيرة فحقول فروبل ومدرسة بستالوتسي ونويه ماركت» 
ومن ثم أعود مرّة أخرى إلى لابسفيغ . فكان طبلي يتحمل ذلك الجهد 


47م 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كلّهء بينما كان الكبار يظهرون قليلاً من التحمل» راغبين في أن تطغي 
أصواتهم على صوت الطبل» والتصدي من ثمّة إلى صفيحة التطبيل 
واعتراض طريقها ووضع أقدامهم عثرة أمام مضربيّ الطبل - لكن الطبيعة 
منّت على بالحماية اللازمة . 

لقد تجلّت القدرة على خلق مسافة ضرورية بيني وبين البالغين من 
خلال التطبيل بطبل الصفيح الطفولي . تحرو جلت تبك القدرة جعي قير 
قصيرة على سقوطي من سلم القبوء وجاءت في وقت واحد مع حدة 
الصوت التي مكنتي من الغناء المتواصل والمتهدج والقوي الذبذبة والمرتفع 
الطبقة. ومن الصراخ ‏ أو الكام بالمتراع + بحيث لم يستطع أحد قد أضرٌ 
الطبل أذنيه انتزاعه من يدي عنوة. وإذا ما انتزعه أحد من يدي فإنني كنت 
أصرخ» وإذا ما صرخت فإن كل ما هو نفيس كان يتحطم: إذ كنت قادرا 
على تحطيم الزجاج بالغناء» فكان صراخي يميت المزهريات» ويجعل 
زجاج النوافذ يكبو على ركبتيه كسيرا مندحراء ويتبح لتيار الهواء أن يسود. 
وكان صوتي الذي يشبه الماس الخجول» الصارم في ان بسبب خجله. 
فيقصٌ الواجهات الزجاجية ويجوس في أعماقها دون أن يفقد براءته. 
ويعبث بأقداح الخمرة الحلوة» تلك الأقداح المتناغمة التكوين» المهذبة 
الطول» المتربة بعض الشيء والتي كانت قد أهدتها يد كريمة ذات يوم. 

ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بانت قدراتي ومواهبي معروفة في 
شارعنا من جادة #بروزن؛ إلى مساكن ساحة الطيران» أي في منطقة المربع 
برمتها. وكلّما رآني أطفال الجيران الذين لم أكن أشاركهم ألعابهم مثل 
علبة السردين الحامضة» واحدء أثنين» ثلاثة»؛ أو «الطاهية السوداء؛ أهى 
هنا؟» أو «أنا أرى ما لا تراه أنت4» كانت ينطلق حينئذ زعيق جوقة كاملة 


متسخة الثياب مردداً : 


- 


«زحاج» زجاج محطم» 
سكر بلا بيرة» 

والسيّدة هوله تفتح النافذة» 
ثم تعزف على البيانو. ») 


؟لىم 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بالتأكيد كانت هذه أنشودة أطفال تافهة» ساذجة» فلم أشعر بامتعاض 
إزاءها عندما كنت اخترق الجوقة بطبليء مار بالزجاج وبالسيّدة هوله. 
مردداً الإيقاع البليد ذاته؛ الذي لم يكن خالياً من الإثارة» مطبّلا (زجاج» 
زجاج؛ زجيّج محطم)؛ دون أن أتحوّل إلى «قنّاص الفئران» الذي كان 
يضلل الأطفال فيستدرجهم وراءه. 

واليوم أيضاًء عندما يقوم برونو بتنظيف نوافذ غرفتي» تراني أسارع 
إلى توفير مكان صغير لتلك الأنشودة ولإيقاع طبلي. بيد أن القضية الباهظة 
التكاليف» الأكثر إزعاجاً وقلقاً بالنسبة لوالديّ من الأنشودة الساخرة 
لأطفال الجيران» هي أن الناس يحملونني» أو على الأرجح يحملون 
يعود فى الحقيقة إلى المشاكسين العابثين ذوي التربية السيئة . 

كانت أمىّ في بداية الأمر تعرّض الأضرار النامة غالباً عن قذف نوافذ 
المطابخ وتحطيم زجاجها بأحجار المصائد المطاطية؛ فكانت تدفع 
التعريضات بأدب جم وبأمانة» إلى أن انتبهت في الأخير إلى ظاهرة صوتي 
أيضاً. فصارت تطالب بتقديم الأدلة والبراهين على كلّ طلب للتعويضات» 
مظهرةً كلّ مرّة موضوعيةً صارمة» مشعَّةٌ من عينيها الرماديتين الباردتين. 
لقد اتهمني الجيران ظلماً وبهتاناً. إذ لم تكن هناك دعوى جوفاء أكثر عبثاً 
من تلك التي قالت بأنني أمتلك نزعة تحطيم طفولية؛ لأنني كنت أرى 
الزجاج ومنتجاته جديرا بالكراهية بشكل عصيّ التفسير» مثلما كان الأطفال 
يعبرون عن غضبهم المنفلت والمدمر والمرتجل. فليس هناك من يقوم 
بأعمال التخريب إلا من كان يعبث. لكنني لم أكن عابثء بل كنت أشتغل 
على الطبل. أمّا فيما يتعلق بصوتي؛ فإنه لا يستجيب إلا لنزعة الدفاع 
الذاتي المحض . كان الخوف والقلق هما اللذان دفعاني إلى استخدام أوتار 
حنجرتي استخداما هادفا. فلو أتيحت لي إمكانية تمزيق شراشف الطاولات 
المملة والمطرزة بالطول والعرض والمنبثقة من فنطازية النماذج التي كانت 
تجود بها مخيلة غريتشن شفلر» أو إزالة الطلاء المعتم لآلة البيانو بواسطة 
الأصوات والوسائل المشابهة» لكنت تخليت عن كل ما هو زجاجيٌ» 


:م 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ولتركته سليماً برنينه. إلا أن الأصباغ وشراشف الطاولات بقيت بعيدة عن 
اهتمامات صوتي . 

إنني لم أتمكن بصراخي الذي لا يكل من إزاحة نماذج كساء 
الحيطان» أو إشعال النار من خلال الحرارة المتولدة بفعل احتكاك أصوات 
شاقة وقديمة قدم العصر الحجري» لكي أصنع منها في آخر المطاف شرراً 
يكون ضروريا لإشعال الستائر المشبعة برائحة التبغ والجافة لدرجة تغري 
بحرقهاء وجعلها تتراقص في نوافذ غرفة الجلوس بلهب مزخرف أخخاذ؛ 
وكذلك لم أتمكن مرّة واحدة من أن أقطع بغنائي قائمة من قوائم الكرسي 
الذي كان يجرس فيها ماتسرات أو إلكسندر شغلر. 

كنت أتمنى الدفاع عن نفسي بطريقة بريئة» أقلّ سحراً من هذهء لكن 
لم يقف في خدمتي ما هو بريء» ما عدا الزجاج الذي انصاع لرغبتي» 
فتوجب عليه أن يدفع الثمن. 

وقدّمت أوّل عرض ناجح من هذا النمط بعد مضي مدّة قصيرة على 
عيد ميلادي الثالث» فامتلكت الطبل آنذاك حوالي أربعة أسابيع» كانت 
شديدة الثراء» حتى أنني مزقته خلالها بمثابرتي المعهودة. وعلى الرغم من 
أن الإطار المصبوغ بالأحمر والأبيض كما اللعب ظلّ محتفظاً بالإطار 
ورقعة التطبيل» غير أنه لم يعد من الممكن إخفاء الثقب في منتصف الجهة 
المولدة للصوتء بل صار يتسع على الدوام إثر تجاهلي لإطار الطبل؛ 
وأصبح في حالة يرثئى لهاء مهلهلا؛ وبشعاف مسننئة» وقد بليت جزيئات 
الصفيح وصارت رقيقة ثم تقشرتء ساقطة إلى الداخل» فكانت ترتجف 
بمزاج سيئ إثر كل ضربة» وبات من الممكن رؤية قشور الأصباغ البيضاء 
تتلألأً فوق سجّجادة غرفة الجلورسء أو على أرضية غرفة النوم البنيّة 
الحمراء؛ تلك الفضلات التي لم تعد تحتمل البقاء على صفيحة التطبيل 
المبتلية بالعذاب. وأبدى البعض خشيته من أن تعلق بي حواف الصفيح 
الحادّة الخطرة» لا سيما ما تسرات الذي كان يزداد حذراً يوماً بعد آخر بعد 
سقوطي من سلّم القبوء بحيث أنه نصحني باتخاذ الحيطة أثناء التطبيل. 
ولأنني كنت في الحقيقة أقترب باستمرار من الفوهة المسئنة عبر حركاتي 


هم 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


العنيفة» فلا بدَّ من الاعتراف بأن مخاوف ماتسرات انطوت على بعض 
المبالغة» لكنها لم تكن بلا أساس. حينئذ بات ممكناً تجنب المخاطر 
جميعها بالحصول على طبل جديدء غير أنهم لم يفكروا في طبل جديد 
أبداًء بل أرادوا على العكس من ذلك انتزاع طبلي القديم العزيز الذي سقط 
معي في وقت واحدء والذي كان يقطع السلّم بمرافقتي صعوداً ونزولاً 
ويسير معي على أحجار الطرق والأرصفة» مروراً بأناشيد «علبة السردين 
الحامضة» و«واحدء اثنين ثلاثة» و«أنا أرى ما لا تراه أنت» و«الطاهية 
السوداء»؛ لقد أرادوا انتزاع الطبل من يدي بلا تعويض» محاولين إغرائي 
بقطعة من الشيكولاتة الغبية التي أمسكت بها أمّي وكوّرت لها فمها. 

كان ما تسرات هو الذي همّ بانتزاع الآلة المحطمة من يدي بعنف»ء 
لكنني تشبغت بهيكلهاء فصار يجذبه وأنا أشده إليّ حتى تراخت قواي 
المخصصة للتطبيل» فانزلق مئى اللعب الأحمر ببطء» لسائاً بعد آخرء 
وأوشك الإطار المدوّر أن يسقط من يدي؛ وفي تلك اللحظة أطلق أوسكار 
الذي كان يعتبر حتى ذلك اليوم طفلاً هادا ووديعاً إلى حدّ ماء أطلق 
الضمرخة الأولى المدوتة المؤكزة والمداقرةهعا: فاتهارت الاجاحة 
المستديرة الصقيلة التي كانت تحمي الميناء الأصفرء صفرة العسل» 
لساعتنا القائمة» صاددةً عنه التراب والثياني: فتحطمت, متشظية مرّة أخرى 
فوق الأرضية ابنيّة الحمراء؛ إذ أن السجادة لم تمتد إلى موضع الساعة» 
غير أن أحشاء الآلة الثمينة لم تصب بعطب؛ فتابع البندول ‏ إذا صححت 
تسميته بالبندول ‏ ترنحه المألوف» وكذلك فعل الرقّاص. بل حتى 
الجرس الحسّاس عادة» الذي كان يبدأ القرع بعصبية إثر أي حركة» بما 
فيها حرة عربة البيرة في الخارج» لم يعبأ بصرختي؛ فقط الزجاجة الواقية 
انفلتت وحدهاء قافزةً بدقة متناهية» فهتف ماتسرات: «لقد تحطمت 
الساعة»! وتخلّى عن الطبل. وعبر نظرة خاطفة اقتنعت بأن صرختي لم 
تصب الساعة بأذى» ولم تنتزع منها سوى الزجاجة؛ وبدا الأمر لماتسرات 
وأمّي وخالي يان برونسكي الذي كان يزورنا عصر كل أحد أكثر من مجرد 
تحظيم الواقية الزجاجية لميناء الساعة. فصار أحدهم يرمق الآخر بنظرات 


كم3م 
1_طماع1© :11 آنلا 1 


زائغة حائرة وهم يتحسسون المدفأة الحجرية» ثم توقفوا عند البيانو» فأخذ 
يان يحرك شفتيه المتيبستين تحت عينيه المتضرعتين الزائغتين» بحيث أنني 
ما زالت أعتقد إلى يومنا هذا بأن جهود الخال كانت قد انصبت آنذاك على 
إيجاد صيغة صلاة تنشد المعونة والرحمة مثل: أنت يا حمل الربٌ» يا من 
يتحمل ذنوب العالم وخطاياه 2015 841565656 ؛ وقد ردد هذا النص ثلاث 
مدّات» ثم أعقبه بآخر: يا إلهي إنني لست آهلاً للدخول تحت سقف 
داري» لكن حدثني بكلمة. . . 

غيرٌ أن الربّ ظلّ صامتاً بطبيعة الحال» ثم أن الساعة نفسها لم تكن 
أصيبت بعطب» إنما الزجاجة وحدها. إن علاقة الكبار البالغين بساعاتهم 
ما هي إلا علاقة عجيبة جداً وصبيانية بالمفهوم الذي لا ينطبق عليّ. ولعل 
الساعة كانت من أعظم إنجازات الكبار واختراعاتهم. وكيف ما كان الأمر 
فإن: الكبار هم مبدعون وخالقون بفعل الكدّ والجهد والطموح وبعض 
الحظء بالقدر ذاته الذي يكونون فيه بعد عملية الابتكار» مخلوقات 
لاختراعاتهم التاريخية. وبهذا القدر أيضاً فإن الساعة اليوم هي مثلما كانت 
عليه في السابق بحاجة إلى الإنسان البالغ» ليملأها ويقدمها ويؤخرها 
ويجلبها إلى الساعاتي ليفحصها ويختبرها ويصلحها عند الضرورة. كان 
الأمر شبيهاً بصياح ديك الساعة الذي هده.التعب في وقت مبكرء وشبيها 
النحس) حسب الأنشودة الألمانية» وشبيهاً بلوحة الخال الزيتية التي 
سقطت من الجدار؛ لأن مسمارها ارتخى في جص الجدار» وشبيهاً بالمرآة 
التي يرى الكبار خلفها الكثير من الأشياء؛ وكذلك الساعة التى كانت تمثل 
لهم أكثر من مجرد ساعة. 

لكنّ أمّي عثرت يومئذ على عبارة الخلاص» تلك الأمَّ الصاحية 
الذهن المتيقظة» الطائشة في الوقت نفسه كما يستلزم الأمر» والتي كانت 
تَقَيّم كل إشارة مفترضة لمصلحتها على الرغم من بعض الملامح الفنطازية 
المتحمسة التي كانت تطغي على شخصيتهاء فهتفت وهي تطقطق 
أصابعها: «الشظايا تجلب الحط والبركة»! ثم جلبت وعاءً صغيراً مسطحاً 


لضم 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ومكنسة يدوية لتجمع بقايا الشظايا ومعها الحظ أيضاً. وإذا ما حقٌّ لي 
الاستناد إلى عبارة أمّي فإنني أكون قد جلبت كثيراً من الحظ إلى والديّ 
وإلى أقربائي وإلى معارفي وإلى الناس المجهولين» في كل مرّة عندما 
يحاول أحد منهم انتزاع الطبل من يدي» عبر تحطيم زجاج النوافذ 
والكؤوس المليئة بالبيرة والزجاجات الفارغة وقوارير العطور الممهدة 
لحلول الربيع وآنية البلّور التي وضعت فيها فاكهة الزينة» وباختصار كل ما 
هو زجاج يقع خارج ورش الزجاج» أي الزجاج المنتج بفضل أنفاس 
العمّال النافخين. والذي كان يعرض في الأسواق باعتباره قيمة زجاجية 
صرف. أو نمطاً من النتاج الزجاجي الفئي؛ كنت أحطمه كله وأشرخه 
وأشظيه بالغناء. وحتى أسبب أضراراً كثيرة في المنتجات الزجاجية الجميلة 
الشكل التي أحببتها وما زلت أحبها إلى اليوم؛ فإنني كنت أسارع ‏ إذا ما 
أراد أحد انتزاع طبلي في وقت المساء ‏ إلى استئزاف قوى المصباح 
الملحق بسريري الصغيرء أو استنزاف قوى جملة من المصابيح التابعة 
للثريا البلورية المعلقة في غرفة الجلوس التي كانت تجهد نفسها أربع مرات 
أكثر من طاقتها الاعتيادية . 

لقد أدخلت في عيد ميلادي الرابع مطلع شهر سبتمبر/ أيلول من العام 
الثامن والعشرين ضيوف عيد الميلاد المجتمعين آنذاك» وهم أبي وأمي 
وجدني كولياجك وآل برونسكي وآل شفلر وآل غريف الذين جلبوا لي 
جنوداً من رصاص وزورقاً شراعياً وعربة لمكافحة إطفاء ‏ لم يكن من 
ضمن الهدايا طبل ‏ أولئك الضيوف الذين أرادوا إرضائي بجنود من 
رصاص0ء أنا الذي كنت أحسب جنون الإطفاء حرياً باللعب؛ أوليك الذين 
ضِنوا علي بالطبل المهذب والممزق؛ وسعوا إلى مصادرة صفيحة القرع 
تلك؛ واضعين في يدي زورقاً شراعياً تافهاً لا معنى له ولا فائدة؛ أولئك 
كلهم الذين كانوا يتمتعون بأعين» لكنهم تجاهلوا رؤية رغباتي» أدخلتم 
إلى ظلمة العصور البدائية بصراخي الدائري الذي أباد المصابيح الأربعة 
لشريتنا المعلقة . 

وكما هي طباع الكبار دائماًء فقد اعتادوا جميعهم على الظلام مباشرة 


4م 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


إئر صرخات الرعب الأولى الصاعقة والساخنة المطالبة بإعادة النور» 
وعندما جلبت جدّتي كولياجك التي لم تستسغ العتمة شأنها شأن شتيفان 
الصغير الذي علق بأذيال ثوبها وهو يزعق فزعاً؛ عندما جلبت شموع 
الشحم من الدكان وأضاءت بها الغرفة حال عودتهاء وجدت ضيوف عيد 
الميلاد المخمورين في أوضاع جماعية غريبة للغاية. 

ومثلما كان متوقعاًء فقد تربعت أمي التي انزلقت بلوزتها عن كتفها 
في حضن يان برونسكي. وبدا منر الخبّاز ألكسندر شغلر القصير الساقين 
مثيراً للقرف وهو يكاد يختفي بين ساقيّ السيّدة غريف. وكان ماتسرات 
يلطع ذهب السيّدة غريتشن وأسنانها الذهبية التي تشبه أسنان الفرس» بينما 
جلس يان برونكسي بعينيه البقريتين الخاشعتين تحت ضوء الشموعء مرخياً 
يديه في حضنه» على مقربة من بائع الخضر غريف الذي لم يثناول 
الخمرة» لكنه مع ذلك كان يغني بصوت شجيّ مترع بالأسى» داعياً السيّدة 
هوفغ برونسكي إلى مشاطرته الغناء» فغئّت مع أنشودة الكشّافة التي كان 
نصها يتحدث عن الشبح المخيف «رويهتسال» المتجول في جبال بوهيعيا. 
أنَا أنا قثن أصيضت مسا ماما 0007 خاملا مغة 
بقية طبلهة .ميخاولة إخراج إيقاع من الصفيح الممزق» فبدت أصوات الطبل 
الشحيحة المنتظمة مريحة وممتعة بالنسبة لآذان أولئنك المسحورين 
المضطجعين أو المتربعين الذين تبادلوا الأدوار والمواقع: إذ أنّ صوت 
التطبيل طغى مثل غطاء كاذب على أصوات المصّ واللحس التي تسربت 
أثناء تقديم البراهين المحمومة المتلهفة لجهدهم ومثابرتهم. ومكثت قابعاً 
تحت الطاولة حين دخلت جدتي وكأنها ملاك غاضب؛ حاملة الشموع 
بيدهاء لتستطلع بضوئها سدوم وعمورة» ثم أخذت تزعق بشموع مرتعشة 
اللعب» ناعتة تصرفهم بالرعونة» منهيةً ذلك المشهد الممتع الذي كان يشبه 
تجوال روبهتسال في جبال بوهيمياء فوضعت الشموع في أطباق صغيرة 
وتناولت ورق اللعب من البوفيه ورمت به على الطاولة» محاولة فى الوقت 
نفس تهترعة عفان الباكي» معلنة عن يده النجو الغاني من خَدَلة عي 
الميلاد . 


48 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بعد ذلك قام ماتسرات بتثبيت مصابيح جديدة في الإطارات القديمة 
للثريا المعلقة» ثم تزحزحت الكراسي وارتجت زجاجات البيرة التي فارت 
رغوتهاء وبدأ المحتفلون يطرقون الورق فوق رأسي. كان أحدهم اقترح أن 
يفتئح اللعب بريع فلس» لكن هذا المبلغ بدا بنظر الخال يان مبالغا فيه 
وينطوي على مجازفة؛ ولولا لعبة الثنائي» وأحيانا لعبة «النزلة الكبرى» 
الرباعية التي أدت إلى ارتفاع ملحوظ في قيمة الرهان» لبقي اللعب يدور 
في إطار عشر الفلس الواحد. وشعرت بارتياح تحت الطاولة» في ظل 
الشرشف المتدلي من أركانهاء وصرت أواجه القبضات المنهالة بالورق 
على رأسي بالتطبيل؛ مخضعاً نفسي بصورة منتظمة لمجرى اللعب في 
الأسفل؛ معلناً عن وجودي بعد حوالي ساعة من بداية طرق الورق: 
عرفت أن يان برونسكي قد خسرء على الرغم من أن أوراقه كانت جيّدة؛ 
ولم يكن ذلك بالأمر المستبعد» لأنه لم يتخذ الحيطة الكافية. وكان ذهنه 
مشغولاً بأشياء أخرى لا علاقة لها بورقة «الديناري». ومنذ بداية اللعبة» 
عندما تحدث إلى خالتهء محاولاً تسفيه المشهد الإباحي الذي رأته قبل 
لحظات» كان يتلمس الطريق إلى ركبة أمّي التي جلست قبالته؛ وقد خلع 
فردة حذائه اليسرى السوداء القصيرة» ثم عبر من فوق رأسي بقدمه ذات 
الجورب الرمادي. حتى عثر على الركبة. وحالما لامسها ازدادت أمي قرباً 
من الطاولة» لدرجة أن يان الذي استفزه ماتسرات في تلك اللحظة مما 
اضطره إلى النزول عند الرقم ثلاثة وثلاثين» أصبح قادراً على رفع أذيال 
ثويها بأطرافه أصابعهء ثم أدخل قدمه المغلفة بالجورب الجديد الطازج 
الذي حمل تاريخ اليوم نفسه» وأخذ يتجول بين فخذيها. فنالت أمّي 
الإعجاب الشديد, لأنّها وعلى الرغم من المضايقات ذات الملمس 
الصوفيّء التي حدئت فوق شرشف الطاولة المشدود بتوترء ومغامرتها 
بلعبة ورق كانت من أخطر الألعاب وأكثرها جرأة» كسبت اللعبة بثقة عالية 
بالنفس وهي تتحدث بكلام مرح متهكمء بينما خسر يان فوق الطاولة 
لعبات كثيرة كان حريًاً بأوسكار أن يكسبها بثقة السائر في نومهء لكن يان 
كان يزداء جرأة وعرماً في أسفل الطاولة: '"حيسد زحف عفان الصخير 


9 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


المتعب تحت الطاولة أيضاًء فغفا على الفورء ولم يدرك بفعل النعاس ما 
الذي بحثت عنه ساق السروال التابعة لأبيه تحت ثوب أمَي . 

كان الطقس آنذاك يتراوح بين الصحو والتلبد بالغيوم » وقد سقطت 
بعض الأمطار الخفيفة في العصر. وفي اليوم التالي قدِم يان برونسكي إلى 
الدار وأخذ معه هدية عيد ميلاديء تلك السفينة الشراعية الواهية» 
ليستبدلها بطبل من الصفيح لدى زيغسموند ماركوس في ممر 
تسويغهاوسء وعاد إلينا فى المساء المتأخر حاملاً معه الطبل الأليف 
المصبوغ باللونين الأبيض والأحمر مثل ألسنة اللهب. وقدمه لي» وهو 
يمسك بهيكل الصفيح القديم الرائع الذي لم يبق منه سوى الطلاء الأبييض 
بالصفيح الجديد. بقيت أعين يان وأميّ وماتسرات مسلطة كلها على 
أوسكارء فكنت على وشك أن أبتسم. لكن هل ظنّوا بأنني كنت متمسكاً 
بالقديم وأحمل مواقف ومبادئ في نفسي؟ 

لقد تخليت عن الطبل المحطم دون أن أطلق الصرخة المرتقبة» أو أن 
يرتفع صوني بالغناء الذي يبيد الزجاج» وفي الحال تفرغت للطبل 
وانهمكت أقرعه بيديّ معاً. وبعد ساعتين من التطبيل المتمعن البصير 
أصبحت قادراً على العزف». غير أن الكبار البالغين في حينا لم يظهروا 
الخامس في العام التاسع والعشرين ‏ كان الناس آنذاك يتحدثون كثيراً عن 
انهيار البورصة المالية في نيويورك» حتى أنني فكرت في أن يكون جدي 
كولياجك المتاجر بالأخشاب في بوفالو النائية قد تعرض للخسائر ‏ بدأت 
أمّي , التي بانت عليها علامات القلق بسبب توقف نموي الجسدي بحيث 
لم يعد خافياً على أحدء تأخذني أيّام الأربعاء إلى عيادة الدكتور هولاتس 
في شارع برونسهوفر. لقد تقبلت تلك الفحوص المزعجة التي لا آخر 
لها؛ لأن رداء التمريض الممتع للنظر الذي ارتدته الممرضة إنغا التي 
وقفت إلى جانب هولاتس تعاونه فى مهمته» ذلك الرداء الذي همت 
إعجاباً به آنذاك؛ لأنه ذكرني بزمن مهنة التمريض التي مارستها أمّي إبان 


5١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


الحرب العالمية الأولى مثلما شهدت على ذلك الصور الفوتوغرافية. كنت 
استطعت أن أصمّ سمعي عن سيل الكلمات الزاعقة البالغة الحذة والإزعاج 
الشبيه بثرثرة الأعمام المشبعة بالحماس» تلك الكلمات التي تشدق بها 
الطبيب» وانشغلت برداء التمريض الذي كان ينطوي متكسرأ على الدوام . 

كان هولاتس قد هر رأسه بارتياب بعد الفحوص وأخذ يورّق في 
سبل المستشفيات التي راجعتهاء وقد انعكست محتويات العيادة أثناء ذلك 
على زجاجتي نظارته. كان هناك الكثير من معدن الكروم والنيكل 
والمعاجين» إضافة إلى رفوف دواليب زجاجية وضعت فيها قوارير عليها 
كتابة واضحة واحتوت على الثعابين والسلمندر والسلاحف وأجنة الخنازير 
والبشر والقرود. فكان هولاتس يقبض بزجاج نظارته على جميع تلك 
الثمار المنقوعة في محلول الإسبرتوء تاركاً أمّي تقصٌ عليه من جديد 
حكاية سقوطي من سلم القبو؛ فكان يطمئنها كلما جاءت على ذكر 
ماتسرات الذي ترك الباب مفتوحاًء كائلةً إليه الشتائم المقذعة بلا وازع» 
محملة إياه الذنوب جميعها إلى أبد الآبدين. 

عندما حاول هولاتس انتزاع الطبل من يدي بعد أشهر عديدة؛ 
وبمناسبة زيارتي الأربعائية لعيادته» ولعله أراد أن يبرهن للممرضة إنغا على 
نجاحه في معالجتي حتى ذلك الوقت؛ حطمت القسم الأعظم من مجموعة 
ثعابينه وسلحفاته؛ إضافة إلى كل ما كان قد جمعه من أجنة مختلفة 
الأصول والمصادر. وباستثناء أقداح البيرة الممتلئة والمكشوفة وقارورة 
عطر أمي ؛ فإن تلك كانت المرّة الأولى التي حاول فيها أوسكار تحطيم 
كميجة كبيرة من الأقداح الممتلثة والمغلقة بدقة وإحكام. فكان النجاح 
رائعاً وساحقاً ومفاجثاً بنظر المعنيين المساهمين كلّهم. وحتى بنظر أمّي 
التي خبرت من قبل علاقتي بالزجاج. ودفعة واحدة شرخت بأوّل صرخة 
مشذبة بحرص دولابٌ الزجاج الذي حفظ فيه هولاتس مخلوقته الغريبة 
المثيرة للتقززء وقطعتها طولاً وعرضاًء وفتحت بوابة مربعة إلى حدّ ما في 
واجهة الدولاب وجعلتها تكبو على أرضية العيادة المفروشة بالمشمّع» 
فانهارت على نحو أفقيّ واحتفظت بشكلها المربع» ثم تشظت ألف شظية 


لك 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


ويد ت الصراخ ملمحاً خاصاً وإلحاحاً مسرفاء ثم أخذت تلامس بذلك 
الصوت المسلّح» وببذخ مفرط» أنبوبة اختبار بعد أخرى» وقفزت الأقداح 
ييحيكة عله وفرقعةء فتدفق الكحول المخضر» المتخثر بعض الشيء 
وساح جارفاً معه الكائنات المحنطة الشاحبة والمتطلعة بهم وكآبة فوق 
مشمّع العيادة الأحمرء وعبأت المكان برائحة» يمكن وصفها بالرائحة 
الملموسة المجسّدة» فشعرت أمي بالغثيان؛ فهرعت الممرضة إنغا إلى فتح 
الشبّاك المطلّ على شارع بونسهوفر. 

غير أن الدكتور هولاتس عرف كيف يحوّل خسارة ممجموعة مخلوقاته 
إلى قضية مربحة. فبعد أسابيع قليلة على محاولة الاعتداء التي قمت بها 
خرجت من يراعه مقالة كاملة حول الظاهرة الصوتية لأوسكار والتي كانت 
قادرة على تحطيم الزجاج بالغناء» ونشرت المقالة في المجلة المختتصة 
«الطبيب والعالم»؛ ولفتت فرضية الدكتور هولاتس المفصلة في أكثر من 
عشرين صفحة أنظار الأوساط العلمية المتخصصة في الداخل والخارج» 
ولافت اعترافا واستحساناً أيفغاً من لدن هذه المرجعية العلمية المقتدرة أو 
تلك. وشعرت أمي التي أرسلت إليها نسخ عديدة من المجلة بالفخر 
بطريقة دفعتنى إلى التأمل وإمعان الفكرء فصارت الوالدة لا تترك مناسبة إلا 
وتقرأ فيها مقطعاً من المقالة على آل غريف وآل شفلر وكذلك على خليلها 
يان» أو تطلع بعلها ماتسرات بعد وجابت الطعام على بعض الفقرات من 
المقالة كلّ مرّة. ولم ينج من قراءتها لنص المقالة حتى زبائن متجر بضائع 
المستعمرات» فكانوا يعبرون عن إعجابهم بأمّي التي كانت تلفظ 
المصطلحات العلمية بطريقة خاطئة» لكن بنوع من التشديد الفنطازي» 
حسبما يقتضي الأمر. أمّا بالنسبة لي» فلم تعن لي قضية نشر اسمي الأوّل 
في مجلة ما شيئاً البتة. وجعلني شكي الثاقب آنذاك أقيّم إنجاز الدكترو 
هولاتس مثلما هو أو بدقة أكثر مثلما كان يعرضه: أي مجرد لف ودورن 
صاغهما طبيب بأسلوب لا يخلو من براعة في صفحات طويلة» طمعاً في 
الحصول على كرسيّ للتدريس في الجامعة. واليوم فإن أوسكار الذي لم 


0 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


مصحّة الأمراض العقلية» حيث كان الأطباء الذين يشبهون الدكتور هولاتس 
يدخلون عليه ويخرجون». مخضعين أوسكار إلى ما يسمى بطريقة 
«رورشاخ» التحليلية» أو طريقة التداعي» وغيرها من الفحوصء لكي يتخذ 
تحويله الإجباري إلى المصحّة اسم رائجا في آخر المطاف. 

نعم: إن أوسكار يستعيد الآن بفرح غامر ذلك الزمن المبكر المنسي 
الذي عاشه صوته. وإذا كان أوسكار يحطم في تلك المرحلة الحياتية 
الأولى منتجات الرمل الزجاجى عندما يقتضى الأمر وبدقة حاسمة؛ فإنه 
أضبح فيما بعد أي افي. مزحلة ازذهار فته واتخظاطه» وستخدم قدراتة 
ومواهبه دون أدنى شعور بالإكراه أو بالعسف الخارجي . وانصياعاً لنزعة 
عبثية» حين كان أوسكار خاضعاً لتأثير مرحلة متأخرة من الأدب البرجوازيٌ 
المتكلّف. ومنغمساً في نظرية الفنَ للفن» صار يستخدم الأقداح لتحقيق 
رغبة داخلية» فأصبح يتقدم في السنّ شيئاً فشيئاً على هذا المنوال. 


455 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


جدول الدروس 


كان كليب يقتل الساعات أحياناً فى تخطيط جداول الدروس . أمّا 
حقيقة أنه كان يلتهم السجق وحساء العدس معاً فقد أكدت بشكل قاطع 
نظريتي القائلة: بأن الأشخاص الحالمين هم الآكلون النهمون. فحقيقة أنه 
كان يملأ الحقول الفارغة على الورق بهمّة ومثابرة أكدت نظريتى الأخرى 
القائلةةربآة العتابلة المتقيقيين هو وحدف الجنديزوة بالنوضل إلى 
اختراعات موفرة للجهد العلمي. ففي هذا العام بالذات أنفق من وقته أربعة 
عشر يوماً لكي يجدول يومه في ساعات. وعندما زارني في الأمس قام 
بتصرفات غامضة لوقت طويلء ثم انتشل من جيب سترته الأمامي ورقةً 
مطوية تسع طويات وناولني إياها وهو يشعٌ مستبشراً ومعجباً بنفسه؛ إذ أنه 
أوجد اختراعاً جديداً لتوفير الجهد العلمي. 

ألقيت على قصاصة الورقة نظرة سريعة؛ فلم أكتشف فيها شيئاً 
جديداً: الإفطار في الساعة العاشرة؛ ثم مداراة الفكر حتى وقت الغداءء 
ويعد تناول الطعام تأتي فترة القيلولة لمدة سويعة؛ ومن ثم تناول القهوة - 
من الأفضل تناولها في الفراش - وبعد ذلك تأتي فترة العزف على الناي في 
وضع الجلوس على الفراش» وكذلك النفخ على القربة قرابة الساعة وقوفا 
وسيراً في الغرفة» تعقب ذلك نصف ساعة نفخ على القربة في فناء الدار؛ 
وبعد كل يومين القيام بزيارة إمَا للسينما أو للحانة لتناول البيرة والسجق 
لساعتين أيضاً وبالتناوب. وفي كلّ الأحوال لا بِدَّ من القيام بأعمال دعائية» 
غير ملفتة للنظر. لصالح الحزب الشيوعي الألماني السرّي ‏ لمدة نصف 
ساعة أمام دار السينماء أو أثناء شرب البيرة» وليس هناك أي داع للمبالغة! 


46 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وملأ كليب ثلاثة أيَام من الأسبوع بالموسيقى الراقصة مساءً في حانة 
ااوحيد القرن»» وفي يوم السبت قام 8 شرب البيرة المصاحب للدعاية 
لصالح الحزب الشيوعي الألماني إلى وقت المساءء لأنْ فترة العصر كانت 
محجوزة للاستحمام والتدليك في «غرون شتراسه4؛ وبعد ذلك الذهاب 
إلى «النفق رقم 244 وتمضية ثلاثة أرباح الساعة في أعمال الوقاية والرعاية 
ع د وتناول القهوة الألمانية والكعك مع الفتاة نفسهاء 
وصاحبتهاء ثم القيام بحلق الذقن قبل إقفال المحلات» وقصٌ الشعر عند 
الرورة» والتقاط الصور الفوتوغرافية السريعة» ويأتي بعد ذلك دور البيرة 
والسجق والدعاية لصالح الحزب الشيوعي الألماني» ومن ثمّ الارتياح 
اللذيذ. كنت امتدحتٌ الأشكال الزخرفة التى صنعها كليب بدقة متناهية» 
ورجوته أن يعطينى نسخة منهاء وآرقك أق اعرك مدعت كان يلدي 
الحين والآخر على النقاط الميتة في الخطّة فأجابني بعد تأمل قصير بأنه 
يتغلب عليها: «بالنوم» أو بالتفكير في الحزب الشيوعي الألماني». لكن 
هل رويث له كيف تغرف أوسكار على أوّْل جدول لدرومية؟ 

وبدأ ذلك بنيّة سليمة وبراءة في روضة أطفال العمّة كاور» وكانت 
السيّدة هدفغ برونسكي تأخذني مع ابنها شتيفان كلّ صباح إلى العمّة كاور 
المقيمة في جادة بوزادوفسكي» حيث كنا نلعب مع أطفال مشاكسين كان 
عددهم يتراوح من ستة إلى عشرة؛ وقد بدا البعض منهم مريضا باستمرار» 
لكننا كنا نلعب ونمرح إلى حدٌ التقيؤ. ولحسن الحظ فقد حسب طبلي 
لعبةٌ» كما أنني لم أجبر على استعمال قطع البناء الخشبية وعلى ركوب 
الحصان الخشبي» إلا إذا كانت هناك حاجة إلى فارس طبّال ذي خوذة من 
ورق: وكنت أستفيد آنذاك من الشوب الحريري الأسود للعمّة كارر 
كمشروع ونموذج للتطبيل» ذلك الثوب المزود بألف زرّ. وأستطيع القول» 
بعزاء تام إنني كنت قادراً من خلال صفيحة التطبيل على خلع ثياب الآنسة 
كاور ذات الجسد الرقيق التقاطيع المؤلف من الطويات والثنيات وحدهاء 
ومن ثم رد ثيابها عليها مرّات عديدة في اليوم الواحد. كنت أنزعها وألبسها 
بالتطبيل الساتر والنازع للثياب» دون أن أكون قد عنيت جسدها تحديداً. 


015 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كانت جولات المشي في أوقات الأصيل عبر الشوارع المغروسة 
بأشجار الكستناء» التي كنا نمر خلالها بغابة «يشكنتالا»» لنتسلق من هناك 
مرتفع «إيربسبيرغ»؛ بمحاذاة نصب «غوتنبيرغ؛»؛ جولات مريحة في 
ضجرها وبليدة تماماً في صفائهاء حتى بتّ أتمنى اليوم أن تأخذني العمّة 
كاور بيدها الورقية الملمس في جولاتها تلك التي كانت تضاهي كتب 
السجرال النصورة: :ويفقن النظن عن إذا #تا كمانية ار ان عقر طفلة 
مشاكساً فقد كان علينا أن نمسك جميعاً بالعنان الذي كان عبارة عن حبل 
حياكة ذي لون أزرق يشبه حبل جر العربات. وكان ثمة ستة مواضع ذات 
ملمس صوفي لمسك اللجام على يمين ذلك الخبل وستة أخرى على 
شماله» مخصصة إأث: ثنى عشر طفلاً عابثاًء وقد علقت فيه أجراس صغيرة 
تفصل بينها مسافة عشرة سنتمترات. فكنًا نسير بارتخاء أمام العمّة كارر, 
مثرئرين وقارعين الأجراس» وكانت العمّة كاور تدندن بين الحين والآخر 
بأغنية «أنا أعيش وأموت من أجلك يا سيّدي يسوع1ء أو «أحييك يا نجمة 
البحر»» فكان المارّة يتأثرون عندما يسمعوننا نردد أغنية «أعينينا يا مريم 
العذراء» يا أمّ الربَ الحلو. . .5»» واضعين ثقتنا الكاملة بهواء أكتوبر / 
تشرين الأول العذب النقي. فأصبح على السير أن يتوقف كلما قطع موكبنا 
الشارع الرئيسي. كانت السيارات ومقطورات الترام وعربات النقل التي 
تجرها الخيول تزدحم في عرض الشارع كلما أنشدنا ايا نجمة البحر؛» 
وكل مرّة كانت العمّة كاور تلّوح بيدها العجفاء المطقطقة؛ شاكرةً شر 
المرور الذي أتاح لنا للتو فرصة العبورء فتعد الشرطيٍ بالقول لاسبهبك وبنا 
يسوع الأجر'. ثم تتبختر بثوبها الحريري مصدرةً حفيفاً. 

وشعرت في الواقع بأسف وحسرة. إذ أنني أجبرت على مغادرة 
الروضة إلى جانب شتيفان» وبسببه أيضاء متخلياً عن تعرية الآنسة وإلباسها 
عقب عيد ميلادي السادس. وكما هو الأمر عادةٌ؛ فإن السياسة عندما 
تدخل في اللعبة تتسببب في أعمال العنف. كنا آنذاك فوق مرتفع 
الإيربسبيرغ؟» فانتزعت العمّة كاور منا لجام الصوف» وكانت الأشجار 
الفتية تلمع والأغصان الجرداء تجدد ريشهاء فجلست العمّة كاور على 


ا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


صخرة في الدرب أحاطت بها الطحالب الكثيفة وبدأت تشير إلى اتجاهات 
عديدة صالحة للتجوال لمدة ساعة أو ساعتين» وصارت تترنم بأغنية» مثل 
أي فتاة لا تعلم ما الذي حل في روحها أثناء فصل الربيع» وتحرّك رأسها 
بحركات سريعة وعصبية تشبه حركات الدجاج الحبشي» ثم أخذت تحيك 
لنا لجاماً جديداًء لونه أحمر مثل لون الشيطانء لكنني لم أنعم به للأسف 
الشديد؛ إذ تعالى فجأة صراخ وسط الأحراش» فرفرفت العمّة كاور 
بجناحيها وتقدمت من الأحراش ترف بفستانهاء ساحبة وراءها خيط 
الصوف الأحمر الذي كانت تشتغل عليه. فتبعتها متعقباً الخيط» فتوجب 
عليّ أن أشهد الكثير من اللون الأحمر؛ لأن أنف شتيفان صار ينزف 
بغزارة» وقد جثا على صدره صبيّ صغير مجعد الشعر وعلى صدغيه أوردة 
زرقاء» وبد كما لو أنه أراد بكلماته أن يدس أنف شتيفان المشاكس الشاكي 
داخل وجههء هاتفاً به بين ضربة وأخرى «بولاك» بولاك». 

عندما ربطتنا العمّة كاور في العنان الأزرق الفاتح بعد خمس دقائق من 
الحادث ‏ كنت وقتها طليقاً» ألم الخيط وراءها ‏ تلت علينا صلاة تقال 
عادةً بين طقس الأضحية وطقس التحوّل: «لقد شعر بالخجل من فرط 
الألم والندم». . . 

ثم هبطنا مرتفع «إيربسبيرغ! وتوقفنا أمام نصب غوتنبيرغ. فأوضحت 
الآنسة وهي تشير بيدها إلى شتيفان الذي أخذ يولول ويضغط على أنفه 
بمنديل صغيرء قائلة إن: «ليس من ذنبه أن يكون طفلا بولنديا». وبناءً 
على نصيحة العمّة كاور أبعد شتيفان عن روضتهاء فأعلن أوسكار الذي لم 
يكن بولندياً» ولم يحترم شتيفان» تضامئه معه. 

بعد ذلك جاء عيد الفصح» فحاول المرء إيجاد حل سهل لقضيتي» 
فعثر الدكتور هولاتس على العلة من وراء نظارته السميكة الإطارء وقال 
إنها علّة لا تضرّء فجعل العلّة تعبر عن نفسها صارخةً بصوت صاخب: 
«أنها لا تضر الصغير أوسكار قط». ولم يعر يان برونسكي الذي أراد 
إدخال ابنه في المدرسة الشعبية البولندية الاعتراضات التي ترددت آنذاك 
أدنى اهتمام» فأعاد قوله لأمّي ولماتسرات بمناسبات عديدة بأنّه موظف 


654 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يعمل في الخدمات البولندية» وأن الحكومة البولندية تسدد أجوره بدقة 
وانتظام» حسبما يستلزم عمله من دقّة وانضباط في دائرة البريد البولندي. 
فضلاً عن أن طفلاً نابهاً» يتمتع بموهبة أكثر من المعدل المتوسط» سيكون 
قادراً على تعلّم اللغة الألمانية في بيت أهله؛ وفيما يتعلق بأوسكار ‏ كان 
يطلق حسرة دائماً عندما يذكر اسم أوسكار ‏ فإنه قد بلغ سن السادسة مثل 
شتيفان» وحتى لو أنه لا يستطيع الكلام» ويبدو متخلفاً بالنسبة إلى سنّهء 
إضافة إلى مظهره وشكلهء لكنه مع ذل يمكن أن يدخل إلى المدرسة؛ لأن 
التعليم الإجباري هو في آخر المطاف تعليم إجباري؛ على شرط أن لا 
تترض إذارة المدرسة على ذللفه: 

وفعلاً أعربت إدارة المدرسة عن شكوكها وترددهاء مطالبةً بتقديم 
تقرير طبّي . فوصفني هولاتس بأنني صبي صحيح البدن» أشبه من حيث 
النمو طفلا في سن الثالثة» لكنني» حتى لو وجدت صعوية في الكلام» لا 
أختلف من ناحية ذهنية عن طفل فى الخامسة أو السادسة من عمره» كما 
أنّ هولاتس تحدث أيضاً عنه غددي الدرقية. وكنت في الواقع أتعامل 
بهدوء مع الفحوص الطبيّة التي تحولت إلى عادة روتينية بالنسبة لي » فكنت 
أتعامل معها بلا مبالاة وبارتياح أحياناً» لا سيما أن أحداً لم يحاول خلالها 
انتزاع طبلي من يدي؛ إذ أن قضية تحطيم مجموعة الثعابين والسلاحف 
والأجنة التابعة لهولاتس باتت شائعة بين الناس وحاضرة في أذهان أولئك 
الذين أخضعوني لفحوصات طبيّة» تضارت تثيرافي لفسهم الخوك 
والفزع . فقط مرّة واحدة حدث ذلك في بيتنا - وجدت نفسي مضطراً في في 
اليوم الأوّل من دخولي المدرسة لإظهار تأثير الرهافة الماسيّة لصوتي» 
خيكما طليه متى ماتسرات» علق الرغم من معرفيه يآن .هناك خلا آخر 
أفضل من مطالبته بأن أقطع مسافة الطريق إلى مدرسة #بيستالوتسي» الواقعة 
قبالة حدائق «فروبل» دون أن أحمل معي الطبل. عندما اضطر أخيراً إلى 
استخدام العنف محاولاً انتزاع ما لا يخصه وما لا يستطيع التعامل معهء 
لأنّه لم يكن يمتلك العصب الحسّاس اللازم لذلك التعامل» وجهت على 
الفور صرخة إلى مزهرية مصنوعة من الصلصال الأصيل فشطرتها نصفين. 


46 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ويعدما حوّلت المزهرية الأصيلة إلى جملة من الشظايا ذات الأصالة» همّ 
ماتسرات الذي كان متعلقاً بالزهرية بصفعي. بيد أن أمّي وثبت أليه» ثم 
وضع يان الذي أطلّ علينا صدفةٌ هو وشتيفان وكيس المدرسة» وضع نفسه 
حاجزاً بينناء وقال بطريقته الهادئة المعسولة: «أرجوك» يا ألفريد؛, 
فتراخت قد ماتسرات بفعل نظرة يان الزرقاء ونظرة أمّي الرمادية حتى 
أدخلها جيب سرواله. 
كانت مدرسة بيستالوتسي عبارة عن علبة مستطيلة جديدة» بثلاثة 
طوابق وسقف مستوء ومشيدة بالآجر الأحمر ومزينة بنقوش ورسوم 
ملونة» أقامها المجلس الحكومي بفعل إلحاح الاشتراكيين الاجتماعيين 
الذين كانوا نشيطين آنذاك» لتستوعب أطفال الضاحية الكثيرين. وحظيت 
تلك العلبة بإعجابى بعض الشىء» ما عدا رائحتها والصبيان أبناء زمن 
االبخار اسان الحديك الأين كاترا زتومؤن بالألماك الرياضية قوق 
الرسوم والنقوش الملونة. وانتصبت هناك شجيرات خضراء صغيرة بشكل 
غير طبيعي بين القضبان الحديدية النابتة في الحصى أمام البوابة» تشبه 
العصي المعوجة. كانت الأمهات يتقاطرن من جميع الجهات؛ حاملات 
الأكياس المخروطية المستدقة الرأس»؛ ساحبات وراءهن أطفالاً صارخين 
أو نموذجيين في تصرفهم. ولم يحدث أن رأى أوسكار في حياته ذلك 
العدد الوفير من النساء الساعيات في اتجاه واحدء فتراءى له وكأنهم كن 
يحجنْ إلى السوق» ليساومن على وليدهن الأوّل أو الثانى. ومباشرة فى 
رواق المدرسة ان نتشرت الرائحة التي كانت توصف عادةً بأنها تطغي في 
خصوصيتها وألفتها حتى على أكثر العطور شهرة في العالم بأجمعه. ففي 
بلاط الصالة كانت ثمة خمسة أحواض من حجر الصوان مصفوفة إلى 
جانب بعضها بغير ما كلفة أو إكراه» يتدفق الماء منها من منابع عديدة في 
وقت واحد. فكان يحيط بها الأطفال الذين كانوا في سئي وهم يتدافعون» 
فذكرني ذلك المشهد بأنئى خنزير خال أمّي» فنسنت» في بيساو التي كانت 
تلقي بنفسها إلى الجانب لتروي العطش البهيم العديم الرحمة لصغارهاء 
والمشابه لعطش هؤلاء التلاميذ. كان الصبيان ينحنون متعامدين مع 


1١٠ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


أحواض الماء العميقة تاركين شعرهم يسقط إلى الأمام ثم يكرعون الماء 
من النافورات بأفواه مفتوحة. لم أكن عرفت وقتها فيما إذا كانوا يشربون 
الماء حقَّاً أم كانوا يلعبون. أحياناً كان يستقيم صبيّان في وقت واحد 
بأوداج ووجنات منتفخة ثم يرشق أحدهما الآخر بالماء الممزوج باللعاب 
وفتات الخبز؛ وكان الصبيان يفعلون ذلك بطريقة بذيئة للغاية. أمّا أنا الذي 
كنت» حالما أدخل الرواق» ألقى بنظرة طائشة على قاعة الجمباز المفتوحة 
المتفرعة من يسار الرواق» كنت اشير علدا سكن التحيف من 
غلوائه كلما لمحت حصان القفز المكسو بالجلد والمزوّد بالقضبان وحبال 
التسلّق والعقلة المرعبة المظهر المطالبة بوثبة سريعة على امتداد الجسد» 
فكنت أتمنى لو أنني أحظى أيضاً بجرعة من الماء مثل الصبيان الآخرين. 
لكن بدا من غير الممكن أن أطلب من أمّي التي كانت تمسك بيدي رفع 
أوسكار القزم» لكي يتمرن على عقلة كتلك. وحتى لو وضعت الطلب 
تحت قدمي؛ فإنني سوف لا أصل إلى النافورات. وحين رمقت حافة أحد 
تلك الأحواض» وأنا أقفز قفزات خفيفة» لاحظت كيف سد فتات الخبز 
مجاري الماء» وكيف تجمّع السائل السمي النتن الرائحة في قعرهاء ذهب 
عنى العطش الذي خزنته في أفكاري» بل حملته مجسداً عندما ضللت 
الطريق بين أجهزة الجمباز في ضتحراء قاعة التمارين: 

كانت أمّي قد طلعت بي درجات سلّم هائلة» مصممة للعمالقة» 
وأدخلتني عبر دهاليز صاخبة» ترددت فيها أصوات كثيرة» إلى غرفة علقت 
في بابها لافتة صغيرة كتب عليها 13. كانت الغرفة مليئة بالصبيان الذين 
كانوا في سئّي» وقد التصقت أمهاتهم بالجدار قبالة النوافذ» عاقدات 
أذرعهن على الأكياس المدببة الملونة والمغلفة بأوراق حريرية» تلك 
الأكياس التقليدية التي كانت أطول من قامتي» والمخصصة ليوم المدرسة 
الأوّلء فكانت أمَى أيضاً تحمل كيساً مشابهاً» وحين دخلت الصفٌ» 
واضعاً يدي ف ندحا انفجر الشعب في الضحك ومعه شعب الأمهات. 
ولمّا أراد صبي مائل إلى السمنة أن يقرع الطبل توجب علنٌ؛ لكي أتجنب 
تحطيم الزجاج» أن أركله عدّة مرّات على عظم ساقه» فسقط الولد الوقح» 


٠١١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


وارتطمت تسريحة شعره بمقعد الصف» فتلقيت دون سابق إنذار ضربة من 
أمّي على هامة رأسي. وصرخ الولدء لكنني لم أصرخ بطبيعة الحال» فأنا 
لا ألجأ إلى الصراخ إلا عندما يحاول أحد انتزاع الطبل من يدي. ودفعتني 
أمّي إلى أوّل مقعد في صف المقاعد الأمامية» لصق نافذة» شاعرةً 
بالخجل من الأمهات ومن المشهد برمته. ثم إن من البديهي أن يكون 
المقعد واسعاً جدّاً بالنسبة لى» لكنّ المقاعد فى الخلف». حيث كان 
الشعب يزداد خشونة وفظاظة تميقا وت الك حيددا نن المنقافد 
الأمامية. فقبلت بالأمر الواقع وجلست بهدوء» بينما حشرت أمّيء 
المضطربة الحائرة» نفسها بين الأمهات الواقفات. فمن المحتمل أنها 
شعرت بالخجل مما اصطلح عليه بتخلفي الخلقي أمام بنات جنسها اللواتي 
كنّ يتصرفن؛ حسبما أحسستء كما لو أنهن فخورات بسرعة نمو أبنائهن 
الأفظاظ . 

لم يكن باستطاعتي النظر إلى حدائق فوبل عبر النافذة التي لم تصمم 
حافتها على مقاس قامتي كما هو الحال مع المقاعد المدرسية. فكم كنت 
أتمنى لو أنني ألقيت بنظرة على حدائق فوبل التي كان الكشّافون ينصبون 
فيها خياماًء على حدّ علمي» بقيادة بائع الخردة غريف» ويمثلون مسرحية 
الجندي المرتزق أو يقومون بأعمال خيرية مثلما يفعل الكشّافة عادة. لم 
تنبع تلك الأمنية من رغبتي في المساهمة بتجميد حياة المخيمات الكشفية 
تجميداً مبالغاً فيه؛ بل لأن منظر غريف ذي السروال القصير كان وحده 
كفيلاً بإئارة اهتمامي. لقد كان حبّه للصبيان ذوي العيون الواسعة والبنية 
النحيفة حبّا كبيراً للغاية» حتى لو كانت وجوههم فاحية» لدرجة انداكان 
يهدي لهم بدلات «بادن بويل» مخترع زي بوي - سكوت. 

وتطلعت إلى السماء» لأنَ المعمار الشنيع حرمني من الإطلالة 
المجزية على الحدائق» فوجدت في السماء ما يكفي للتأمل. كانت 
النسحب تقل من :الشمال الخرين إلى الجنوت الشرقي» كما لو كان الاتنحاه 
سيقدم لها شيئاً ذا قيمة خاصة. حينئذ حشرت طبلي» الذي لم يفكر لحظة 
واحدة بالرحيل» بين ركبتي ودرج المقعد. أمّا المسند الخلفي المخصص 


1١١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


للظهر فقد وفر الحماية اللازمة لمؤخرة رأسي. ومن خلفي ضجٌ ما كان 
يطلق عليه الزملاء التلاميذ بالثرثرة والصراخ والضحك والصخب والبكاء. 
وصار البعض يقذفني بكرات من الورق» إلا أنني لم ألتفت» إذ تراءت لي 
السحب ذات الهدف الواعي والمحدد أكثر جمالاً من مرأى الشثل 
الهمجية؛ أولئك الأجلاف الوقحين المنفلتين تماماً الذين كانوا يقومون 
بإيماءات ساخرة. وفجأة ساد الصمت في الصف 12 حين دخلت امرأة 
قدمت نفسها فيما بعد بصفتها الآنسة شبولنهاور. غير أنني لم أكن بحاجة 
للالتزام بالهدوء. لأنني كنت قبل ذلك شديد الهدوء مستغرقاً في التفكير» 
منتظراً قدوم الأشياء من ذاتها. ولكي أكون صادقاً حمّاً فلا بدَّ من القول: 
إن أوسكار لم يجد ضرورة لانتظار الأشياء القادمة» إذ أنه لم يكن بحاجة 
إلى اللهو والترفيهء لذلك فهو لم يكن ينتظرء إنما جلس في مقعده 
يتحسس طبله» متسلياً بمراقبة السحب وراء نافذة الصفٌء أو أمامها في 
الحقيقة» والتي تُظّفت جيّداً بمناسبة عيد الفصح . 

كانت الآنسة شبولنهاور ترتدي حُلةٌ مفصلة فصالاً سيئاً» بحيث 
اتخذت هيئتها ملامح رجولية جافة. وقد تعزز هذا الانطباع من خلال ياقة 
القميص الضيقة المنشّاة؛ المطبقة على حنجرتها والقابلة للغسيل» حسبما 
لاحظتء. تلك الياقة التى أخفت وراءها تجاعيد الرقبة. وحالما وطأت 
غرفة الصفٌ بحذاء التجوال القصيرء أرادت أن تكون محبوبة» فطرحت 
سؤالاً: «نعم يا أعزائي الصغارء هل بإمكانكم أن تنشدوا نشيداً؟؛ 

فجاءها الصراخ الحاد الذي اعتبرته استجابة لسؤالهاء إذ أنها بدأت 
تنشد بصوت عال أغنية الربيع «لقد حل مايو»»؛ مع أننا كنّا في منتتصف 
أبريل/ نيسان. وحالما أعلنت عن قدوم مايو/ آيار انفجر الصراخ والزعيق. 
فدرّى صياح ثلّة الصبيان من خلفي», دون أن ينتظروا إشارة البدء؛ ودون 
أن يعرفوا النصّء أو دون أي إحساس بإيقاع الأغنية البسيط» فارتخى 
بفوضى أصواتهم حتى الجصّ في الجدران. وعلى الرغم من اصفرار 
جلدها وتسريحة شعرها الصبيانية وربطة العنق الرجولية التي أطلت تحت 
الياقة؛ فإنني شعرت بالأسف والحزن على الآنسة شبولنهاور. فتحررت 


1١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


من السحت التي كانت تتمتع بالعطلة المدرسية» واستجمعت قواي» 
فسحبت مقرعتي الخشب من حمالة سروالي وصرت أنقر لحن الأغنية على 
الطبل بحذة 00 راسخة. بيد أن اسان ورائي كانت تفتقد السمع 
والأحساين التلسين: ققد الآننة شو نهاور أخذت كه رآنها تجيعاء 
فيضية لزهرة الأمهات الملتصقات بالجدارء وتغمز بعينيها لأمّى بصورة 
خامة» هما دقع إلى 'تقتيو فلك الإشارة باعغبارها حوافقة على مواضلة 
التطبيل بهدوء» واستعراض قدراتي لفنية المعقدة في نهاية المطاف. 
فتوقفت العصابة من ورائي عن مزج الأصوات البربرية» فتخيلت طبلي 
وكأنه هو نفسه الذي كان يلقي الدرس فيعلّم؛ جاعلاً زملائي التلاميذ 
تلاميزَ لي» فوقفت الآنسة شبولنهاور أمام مقعدي ورمقتني بنطرة اهتمام؛ 
ثم ابتسمت لمرأى يديّ ومقرعتيّ الطبل ابتسامة لم تكن خالية من اللباقة؛ 
بل كانت تنم نكران ذات» حتى أنها حاولت أن تنقر المقعد بإيقاع الطبل 
ذاته»؛ وتصرفدت باعتبارها شابة كبيرة ولطيفة» وقد نسيت وظيفتها 
التعليمية؛ متخلية عن وجودها الكارتوري المفروض عليهاء متمتعة 
بمشاعر إنسانية» بمعنى المشاعر الطفولية المليئة بالفضولء المتعددة 
الجوانب والمخالفة للأخلاق. 

وبعدما فشلت الآنسة شبولنهاور في تقليد إيقاع الطبل ارتدّت عائدة 
إلى دورها القديم البليد المستقيم الذي كانت أجوره زهيدة للغاية» فتغلبت 
على نفسها مثلما يتوجب على المعلمات أنْ يفعلن في ظروف مماثئلة» ثم 
قالت: (إنك بالتأكيد أوسكار الصغير الذي سمعنا عنه الكير. إنك تعزف 
عزفاً جميلاً على الطلب. أليس صحيحاً هذا الكلام يا صغاري؟ أليس 
أوسكار طبالا رائعاً؟» . 

فزعق الأطفال والتصقت الأمهات ببعضهن البعض» إذ أن شبولنهاور 
قد استعادت سلطتهاء فأضافت بصوت ناعم: «لكننا الآن نريد أن نحتفظ 
بالطبل في خزانة الصفٌء لا بدَّ أنه أصبح متعباً ويحبٌ أن ينام. وستستلم 
الطبل بعد انتهاء المدرسة». وبينما كانت تلقى خطبتها تلك أبرزت لى 
أطرانهة النغير: المتصوصة الاطقار على طريقة الستهاف» الاك آن 


٠١: 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


تمدّ أصابعها العشرة المقصوصة الأظفار لتصادر طبلي الذي أقسم بأنه لم 
يكن متعباً ولا راغباً في النوم. في البدء تمسكت بالطبل» وأدخلت ذراعي 
في كمّي البلوزة؛ حاضناً دائرة التطبيل ذات اللعب الأبيض الأحمرء 
ورمقت الآنسة بنظرة. وعندما أخذت تنظر إليّ نظرة معلمات المدارس 
الشعبية القديمة» تلك النظرة الآلية التي لا تعرف الكلل»؛ تطلعت إليها 
بنظرة خارقة» فتوغلت في أعماق الآنسة شبولنهاور» حيث عثرت على 
تفاصيل جديرة بالقصٌ» كافية لثلاثة فصول كاملة؛ مجردة من الأخلاق؛ 
بيد أنني انتزعت بصري من حياتها الداخلية» لأنّ الأمر كان متعلقاً بطبلي. 
وعثرت حين توغل بصري بين صفحات كتفيها على خال بحجم الدرهم؛ 
مليء بالشعر» أستقرٌ في وسط بقعة جلد لم تزل محتفظة بطراوتها. ولعلّها 
شعرت بأنها كانت مخترقة من قبلي» غير أن صوتي الذي هددتها به أخذ 
بحك في زجاجة نظارتها اليمنى دون أن يدث فيها عطباً: فامستلمت 
للعنف المنفلت الغاشم الذي علّم مفاصل أصابعها بالطباشير البيضاءء فلم 
تعد تحتمل الكشط في نظارتهاء واقشعر جلدها من الرعب» فتخلت عن 
الطبل» مرتعدة الأوصاف, ثم قالت: «إنك يا أوسكار شخص خبيث 
شرير»» ورمقت أمّي» التي لم تعد تعرف إلى أين تتجه ببصرهاء بنظرة 
عتاب» وتركت لي طبلي المتيقظ» ورجعت إلى منصة الدرس» تخطو 
بكعبي حذائها المسطحين؛ وأخذت تنبش بحقيبتها وأخرجت نظارة 
أخرى, لعلها كانت نظارة القراءة» فرفعت الإطار الذي خدشه صوتى مثلما 
كدت البو رساعة قناك بكاقر» تمص أنذها رمه انبل هن 
حزم وإصرار كما لو أنني انتهكت حرمة نظارتهاء ووضعت وهي تفرج 
إصبعها الرقيق» الإطارٌ الآخر أنفهاء وقوّمت أصابعها ت صارت تطقطق» 
ثم قالت وهي تدخل يدها بضع مرّات في الحقيبة المدرسية: «سأقرأ 
عليكم الآن جدول الدروس». فأخرجت من حقيبة المدرسة المصنوعة من 
جلد الخنزير رزمة أوراق» ورفعت منها قصاصةً» واحتفظت بها لنفسهاء 
ثم وزّعت البقية على الأمهات؛: ومن ضمنهن أمَىء وأعلنت أخيراً للتلاميذ 
القلقين ذوي الأعوام الستة عن جدول الدروس. «الإثنين: دين وكتابة 


1١١6 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


ناب لعي الغلاثاء: حساب وخط وغناء وعلوم طبيعية. الأربعاء: 
حساب وكتابة ورسمء ومن ثم رسم. الخميس: : جغرانية مسرت 
وكتابة ودين. الجمعة: حساب وكتابة ولعب وخط. السبت: حساب 
وغناء ولعب» ومن ثم لعب». ل 

أعلنت الآنسة شبولنهاور ذلك الجدول باعتباره قدرأ محتماء صادرا 
عن مؤتمر معلمي المدارس الشعبية» لذلك فإنها لم تستهن بحرف واحد 
من ذلاك النتاج الذي أعلنته بصوت حازم قاطع؛ بيد أنها سرعان ما 
تذكرت أعوام دراستهاء فأصبحت رقيقة على نحو تقدميّ» فتهللت فرحاً 
وهتفت ببهجة تربوية : يجب أن نكرر معاً يا صغاري الأعزاء كلّ ما جاء 
ج الجدول. رجاءً ‏ الاثنين؟» 

فزعق القطيع: الوثنين 

ثم سألت الآنسة من جديد: #دين؟» فردد الوثنيون المعمدون كلمة 
دين. لكنني صنت صوتي» مطبّلاً حروف الدين على الصفيح. ومن ورائي 
كانوا يصرخون بناءً على رغبة شبولنهاور: «كتابة»! فأجاب طبلي مرّتين 
«حسا. . .ب؟؟ فأصدر الطبل صوتين آخرين. وهكذا استمر الصراخ من 
خلفي وصلاة شبولنهاور من أمامي» فأحذت أقرع مقاطع الكلمات بأسلوب 
متواضع» قانعاً بسوء الحظ على مضض.ء إلى أن وثبت الآنسة شبولنهاور - 
لا أعرف لأيّ أمر أو في أيّ مناسبة وأتة تضح أنها شعرت باستياء» لكن 
ليس بسبب الضغار الأفظاظ ورائي» 0 الذي جعلت خديها 
المحمومين يصطبغان بحمرة الخجل» واتضح أن طبل أوسكار المسكين 
هو الذي أعطاها الذريعة 5 الكافية لض الال و المنضبط الإيقاع إلى صّلاتها : 
«أوسكار يجب أن تصغي ليء فيوم الخميس هو: جغرافية وطنية؟؛ 
فتجاهلتٌ كلمة الخميس وقرعت الطبل أربع مرّات من أجل الجغرافية 
الوطنية» ومرّتين لكل من الكتابة والحساب» ولم أمنح الدين أربع قرعات 
مثلما يستلزم الأمرء إنما فقط ثلاث قرعات مباركة» لكن شبولنهاور لم 
تلحظ الفرق. وأثار التطبيل برمته امتعاضهاء حتى أنها أفردت أمامى عشر 
مرّات أظفارها المقصوصة كما فعلت من قبل وهمّت بالهجوم على الطبل. 


لد (١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وقبل أن تمسٌ طبلي» أطلقت صرختي القاتلة للزجاج» فأزالت 
الزجاجات العلوية الثلاث من نوافذ الصِفٌ الكبيرة. وسقطت الزجاجات 
الوسطية ضحيةً للصرخة الثانية» فتدفق هواء الربيع العليل في الغرفة بلا 
عائق أو مانع. وينبغي القول هنا إن إجهازي على الزجاجات التحتية 
للنوافذ بصرخة ثالثة كان فائضاً على الحاجة» بل كان نوعاً من البطر 
والغرور المحضء إذ أن شبولنهاور بارعت ب بحب مخالبيا أثناء 
تحطيم الزجاجات العلوية والوسطى. فبات حريا بي» بدلا من ارتكاب 
جرم بحق الزجاجات الأخيرة بفعل نزوة تحطيم فنيّة هوجاء مشكوك فيهاء 
التصرف بفطنة ومراقبة شبولنهاور التي رجعت تتمايل. ولعل الشيطان 
وحده كان يعلم كيف أنها أحضرت خيزرانة» على أية حال» كانت عصا 
الخيزران حارة دفعة واحدة أتت تهترٌ في خواء الغرفة المختلطة بهواء 
الربيع» فأخذت تلوّح بها مصدرةً صفيراً في ذلك الخليط الهرائي؛ 
وجعلتها تتثنى جائعة ظمآنة متهلفة بنهم للجلد المتشقق وللصفير وللستائر 
الكثيرة التي يمكن أن تضللها عصا من الخيزران» ولإشباع الرغبات» ثم 
هوت بها على غطاء لوحة الكتابة أمام مقعدي. بحيث قفزت من دواة 
الحبر بقعة حبر بنفسجية» وصارت المعلّمة تقرع الطبل على الرغم من 
أنني لم أسمح ليدها بالقرع» لكنها مع ذلك قرعت طبلي. نعم» لقد 
قرعت الآنسة شبولنهاور على طبلى . فما الذي كان بإمكانها أن تعزفه على 
الطبل؟ حستاً! إذا كان لا بدَّ لها من التطبيل فلم على طبلي أنا؟ ألم يجلس 
خلفي ما يكفي من الرعاع النظيفين المغسولين؟ وهل من الضروري أن 
يكون القرع على صفيحتي بالذات؟ وهل يجب أن تتسلط على طبلي على 
الرغم من أنها لا تفقه شيئاً أبداً عن التطبيل؟ ما الذي كان يلمع ويبرق في 
عينيها؟ ما هو اسم الحيوان الذي أرادت أن تضربه؟ ومن أي حديقة 
حيوانات كان قد هرب» وعن أي قرت يبحث» وفي أي اتجاه مضى؟ 
فرصل ذلك إلى أوسكارء وتوغل فيهء ولا أعرف بالضبط لأي سبب صعد 
عبر نعل الحذاء وباطن القدم؛ فوجد طريقه إلى الأعلى ليحتل أوتار 
حنجرته فيرغمه على إطلاق صرخة من الصدر عنيفة كافية لكسر زجاج 


/ا١١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


كنيسة قوطيّة عملاقة» جميلة الشبابيك» آنية بالضوء من كل مكان» وجعله 
حطاماً . 

أو بعبارة أخرى: قمت بتكوين صرخة مضاعفة حولت زجاجتي نظارة 
شبولنهاور إلى تراب حمَّاً. فتراجعت بحاجبيها المدميين قليلاًء تحملق من 
خلف إطاريها الفارغين» ثم بدأت تولول في الأخيرة» نائحة بطريقة بشعة 
وباتفعال لآ يليق بمعلمة مدرسة شعبية؛ بينما لاذث عصابة التلاميذ من 
ورائى بالصمتء» مذعورةً» وقد اختفى بعض التلاميذ تحت المقاعد» وار 
البفقي الآخر يصرّ بأسنانه» بل أن عدداً منهم تزحزح من مقعد إلى آخرء 
لكي يلتحق بأمّه. وفي الحال أخذت الأمهات اللواتي أدركت حجم 
الأضرار يبحثن عن المذنب» فحاولن الهجوم؛ وكنّ على وشك أن 
يهجمن حمّاً عليهاء لولا أنني تداركت الموقف وتحررت من مقعدي حاملاً 
معي الطبل. وتلمست طريقي عبر الآنسة شبولنهاور نصف العمياء إلى أمّي 
المهددة بالنسوة المولعات بالشجارء فأمسكت بيدها وسحبتها من غرفة 
الصف شبيه التي جال بها التيار الهوائي» حيث الأروقة الصاخبة والسلالم 
الحجرية المقامة للأطفال العمالقة» وحيث فتات الخبز في مجاري 
الأحواض الرخامية. وفي صالة الجمباز المفتوحة كان الصبيان يرتجفون 
تحت العُقل وكانت أمّي لم تزل ممسكة بقصاصة الورق التي حملتها عنها 
في بوابة مدرسة بستالوتسي». صانعة من جدول الدروس كرة ورق لا معنى 
لها. 

وقد سمح أوسكار للمصور الفوتوغرافي الذي وقف بين أعمدة البوابة 
ينتظر التلاميذ الجدد بأكياسهم المخروطية وأمهاتهم؛ أن يلتقط صورة له 
ولكيس المدرسة الذي لم يفقده على الرغم من الفوضى التي ضربت 
أطنابها قبل حين كانت الشمس ساطعة؛ فتناهى إلى سمعنا اللغط من 
الصفوف» وأوقف المصوّر أوسكار أمام سبورة كُتب عليها: يومي الأوّل 
في المدرسة. 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


راسبوتين وحروف الأبجدية 


رويت لصديقي كليب والمعين برونو الذي كان يصغي بنصف أذنه 


التي كانت تمنح المصوّر الفوتوغرافي خلفيةٌ تقليدية لالتقاط صور بحجم 
البطاقات البريدية للتلاميذ ذوي الأعوام الستة بأكياسهم المدرسية وجرْب 
أقلامهم: يومي الأوّل في المدرسة. وبلا شك أن تلك العبارة كانت 
مقروءة فقط من قبل الأمهات اللواتي وقفن خلف المصوّر منفعلات أكثر 
بكثير من أبنائهن. وسيستطيع الصبيان التوصل» بعد عام» إلى أن تلك 
اللقطة الجميلة أخذت بمناسبة يومهم المدرسي الأوّلء وذلك إِمَا أثناء 
إدخال تلاميذ الصف الأول إلى المدرسة في الفترة المرافقة لعيد الفصح» 
أو من خلال الصور التي سيحتفظون بها. 

كان خط الكتابة الدائري يزحف بخبثء مدبباً وخاطتاً فى انحنائه» 
لأنه مُشي بالطباشير على السبورة» ذلك الخط الذي علّم بداية المرحلة 
الحياتية الجديدة. وفي الحقيقة أنَّ هذا الخط لا يصلح إلا لما هو متميّزء 
أو للتغبير المقتضب المختصرء أو للشعارات اليومية على سبيل المثال: 
فهناك بعض الوثائق التي لم أرها في الواقع؛ لكنني يمكن أن أتخيلها 
مكتوبة بخط زوترلنغ» وأذكر في هذا السياق وثائق التطعيم ضد الأمراض 
وشهادات الألعاب الرياضية وأحكام الإعدام المكتوبة بخط اليد. ومنذ 
ذلك الوقت كان حرف الميم الذي يبدأ به الخط «الزوترلنغي» المخاتل 
الذي كانت تنبعث منه رائحة القنّب» والذي لم أستطع في الواقع قراءته» 
لكنني كنت أعرف نمطه» ذلك الحرف المعقود كالمشنقة ذات الحبلين» 


١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


فيذكرني في منصّة الإعدام. ومع ذلك فإنني كنت أتمنى قراءته حرفاً حرفاً 
بدلاً من الشعور به وإدراكه على نحو غامض. يجب أن لا يظنن أحد بأنني 
صنعت من لقاي بالآنسة شبولنهاور لقاءً لتحطيم الزجاج من ذاك العلوّ 
الشاهق» وممارساً تطبيل الاحتجاج الثوري؛ لأنني كنت أتقن الأبجدية. 
كلاء بل كنت أعلم تماماً بأن الإدراك الحسيّ للخط الزوترلنغي لا يعني 
شيئاً البتة» إذ أنني كنت أفتقر إلى أبسط مبادئ التعليم المدرسي. وللأسف 
الشديد كانت الطريقة التي أرادت بها الآنسة شبولنهاور أن تجعلني عازفاً لم 
تعجبني. وبناءً على ذلك فإنني لم أقرر أبداًء حين غادرت مدرسة 
بيستالوتسي» بأن يومي الأوّل في المدرسة هو اليوم الأخير. لقد انتهت 
المدرسة» والآن سنذهب إلى البيت. فيا له من حدث لا مثيل له! وقبل أن 
يخلّدني المصوّر الفوتوغرافي في الصورة» فكرت في أنني كنت أقف أمام 
سبورة المدرسة تحت الخط الذي من المحتمل أن يكون أكثر الخطوط 
أهميةٌ وشؤماً. فبإمكانك الحكم على الخط من خلال الشكل؛ فتتخيل 
الحبس الانفرادي والحجز الاحترازي والمراقبة المباشرة ويمكنك إحصاء 
المربوطين بالحبل» لكنك لن تستطيع فك رموزه. ومع ذلك فإنك وضعت 
في حسابك أن لا تطأ هذه المدرسة المجدولة الدروس قطء على الرغم 
من جهلك الصارخ بمبادئ القراءة والكتابة. فأين ستتعلم يا أوسكار 
عخروق: اليجاء الضغيرة والكيرة؟ 

لقد تعرفت على الحروف الكبيرة» برغم أن الصغيرة منها كانت كافية 
تماما» من خلال الوجود الثابت» الساطع الوضوح. للناس الكبارء الوجود 
الذي لا يمكن إلغائه من الكون أبداً. وفي آخر المطاف سوف لا يمل المرء 
من إثبات شرعية وجوده بحروف الهجاء الكبيرة والصغيرة» ومن خلال 
مبادئ التعليم الديني وما إلى ذلك من مبادئ تعليمية» كما أن المرء 
يتحدث عادةً أثناء الزيارات الرسمية عن محطات استقبال الوفود الصغيرة 
والكبيرة حسب كثافة الوجهاء ورجال السلك الدبلوماسي من حملة 
الأوضمة والتباشين. ْ 

ولم تكن قضية تعليمي تشغل ذهن ماتسرات أو ذهن أمّي خلال تلك 


١٠ 
1 1_طماع1© :ع1 آنلا‎ 


الشهور التي مرّتء فاكتفى الزوجان بزيارتي الأولى للمدرسة» تلك الزيارة 
التى أرهقت أعصاب أمّي وأشعرتها بالخجلء وكانا يقذفان الحسرات» 
مثل خالي يان برونسكيء كلما تطلعا إلى من علوٌء وينبشان الحكايات 
القديمة» ومنها حكاية عيد ميلادي الثالث: «الباب الأرضيّ الذي كان 
يفتوحا. لقد تركته مفتوحاء أليس كذلك؟ إنك كنت في المطبخ وقبل 
ذلك في القبوء أليس صحيحاً؟ كنتٌ جلبت علبة فاكهة محفوظة كتحلية 
بعد الطعام, هل صحيح هذا الكلام؟ فتركت الباب المؤدي إلى القبو 
مفتوحاء مضبوط؟» 

كانت اتهامات أمّي لماتسرات صحيحة كلّهاء ومع ذلك فإنها لم تكن 
صائبة تماماً مثلما نعلم اليوم. لكنه تحمّل الذنب كاملاء فكان يبكي أحيانا 
عندما ترقٌ عاطفته. حتى يتوجب على أمّي وعلى يان برونسكي أيضاً القيام 
بمواساته» مطلقين علىّ لقب الصليب القسري الذي على المرء أن يحمله؛ 
أو القدر الذي لا مقر مثة+ أو المحنة التي لا يعرف المرء كيف حلّت به 
وعلى أي أساس . 

وكان من المستحيل الحصول على معونة من أولئك الممتحنين 
المبتلين بالقدرء المتورطين بجمل الصليب. وكذلك لم أضع في حسابي 
خالتي هدفغ برونسكي التي كانت تأخذني دوماًء لكي ألعب مع مارغاء 
ابنتهاء ذات العامين في صندوق الرمال التابع لمتنزه شتيفن : كانت في 
الواقع طيبة القلب» إلا أنها غبية بشكل صارخ. ويجب أن أقلع عن ذهني 
التفكير في ممرضة الدكتور هولاتس الآنسة إنغا التي لم تكن غبية بشكل 
صارخ ولا طيبة القلب؛ لأنها كانت فطنةً للغاية» ولم تكن مجرد ممرضة 
عادية» بل مساعدة طبيب لا تعوض» ولذلك لم يكن لديها وقت لتصرفه 

من أجلي. فكنت أتغلب بضع مرّات في النهار على سلّم البناية ذي 
الدرجات البالغة أكثر من مائة؛ مطبلاً في كل طابق بغية الحصول على 
مشورة أو نصيحة؛ وأشمّ ما كان يعده المؤجرون التسعة عشر من طعام 
للغداء., ومع ذلك فإني لم أطبل في عتبات الأبواب؛ لأنني لم أفكر في 
العجوز هايلاند أو في مصلّح الساعات لاوبشاد» ولم أفكر قط في السيّدة 


1١١١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


كاتر البدينة: أو في الأم تروجنسكي» مع احترامي لهاء باعتبار أن أحدهم 
يسكن تحت سقف البناية. لكن السيّد ماين كان سكرانَ طوال الوقتت 
ويرئي في بيته أربع قطط. ويعزف الموسيقى الراقصة في ناحية 
لاسينغلرهوهه؛, وكان يجود مع خمسة من السكارى مثله في ليلة عيد 
المراس . لقد التقيت به ذات مرّة على السطح حيث كان يستلقي على 
ظهره. مرتدياً سروالاء أسود ويدحرج قنيئة عرق العرعر بقدميه العاريتين 
وينفخ ببوقه لحنا رائعا. ودون أن ينقطع عن العزف أو يلقي بآلته 
النحاسية. قلب عينه قليلاً ليقذفنى بنظرة جانبية » أنا الذي وقفت خلفه. 
وتقبّل أن أرافقه العزفٌ على طبلتي. ولم تكن آلته النحاسية أكثر قيمةً من 
طبلتي الصفيحية. غير أن العزف الثنائي دفع قطط ماين الأربع إلى الهرب 
فوق السطح. وجعل القرميد يرتج ارتجاجاً خفيفاً. 

وبعدما انتهينا من العزف وخفضنا آلتي الصفيح» أخرجت من تحت 
بلوزتي جريدة «أحدث الأخبار»» وسويتها أمامه» وتربعت إلى جانب 
بوقه» ثم رفعت مادة القراءة تلك أمامه؛ وطلبت منه أن يعلمني أشكال 
الحروف الصغيرة والكبيرة. بيد أن السيّد ماين انتقل مباشرة من العزف إلى 
النوم؛ إذ أنه كان ملتزماً بثلاث قضايا حقيقية» وهي: قنينة عرق العرعر 
والبوق والنوم. كنّا قد عزفنا معاً مرّات عديدة» قبل أن يلتحق بفرقة خيّالة 
العاصفة ويقلع عن شرب العرق بضعة أعوام. نعم؛ لقد عزف الثنائي 
يصلح مرّة أن يكون معلماً. فحاولت الأمر نفسه مع بائع الخضر غريف» 
متخلياً عن طبلي؛ لأن غريف لم يستسغهء فزرت قبو دكانه الواقع قبالة 
بيتنا بانحراف. بدت جميع المقدمات الضرورية للتعليم الشامل العميق 
متوفرة هناك: حيث انترت الكتب في كل مكان, في البيت ذي الغرفتين 
ونصف الغرفة وفي الدكان أيضاً وأمام طاولة البيع وخلفهاء وحتى في قبو 
البطاطس الجاف إلى حدّ ما؛ كتب المغامرات والأغانى والأوبرا والباليه 


؟ ١1‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وحياة الفنانين» إضافة إلى أكوام من المجلات الرياضية» ومجلدات 
مصوّرة للصبيان شبه العراة» التقطت كلها لأسباب مجهولة بين تلال الرمل 
والشاطئ وهم يقزون وراء كرة» مبرزين عضلاتهم اللامعة المدهونة 
نالويت: لو الو ا ا د ا 
بعض مفتشي مكتب مراقبة المكاييل والأوزان قد عثروا أثنا فحص الميزان 
والأوزان على بعض النواقص» فاستخدموا وقتها عبارة ره فكان 
على غريف أن يدفع غرامة مالية ود ككرى أرزانا جديدة: ولم يكن أمامه 
هناك شيء يسري عنه الهم ويرفهه سوى كتبه وسهراته الليلية وجولاته في 
يان العطل الأسبوعية مع كشّافته. وحالما لمحني أدخل المحل تابع كتابة 
الأسعار على رقع صغيرة من المقوّى» فاغتنمت فرصة كتابة الأسعار 
وتناولت ثلاث أو أربع. رقع بيضاء وقلماً أحمر وحاولت بهمّة وحماس 
تقليد كتابة القطع الصغيرة تلك بخط زوترلنغ» مستخدما إياها نماذج لكي 
أثير بها اهتمام غريف . 

لكة أرسكار يذا له ضغيرا ومصفرٌ الوجه أكثر من اللازم؛ كما أن 
عينيه لم تكنا واسعتين بشكل كاف. أخيراً تخليت عن القلم الأحمرء 
وتناولت مجلداً عتيقاً مليئاً بالعراة الذين قفزوا مباشرة أمام غريف» فاتحاً 
المجلد بطريقة ملفتة للنظر» لكي أعرض له صور الصبيان المنحنيين أو 
الذين تمطوا بأجسامهم, أزلفك الصبياق الذين كانوا يعنون شيئا ها لذريف 
حسب اعتقادي» واضعاً المجلد أمام بصره مباشرة» أو منحرفاً قليلاً. 
ولأن بائع الخضر كان منهمكاً في كتابة الأسعار بدقة وعناء» إذا لم يكن 
هناك زبائن يشترون اللفت الأحمرء فقد اضطررت إلى طبق أغلفة الكتب 
بقوة محدثاً جلبة أو إلى تقليب الصفحات بسرعة» لعلّها تولّد صوتا ينتشل 
غريف من استغراقه في خط الأسعار وينتبه لي» أنا الذي أجهل القراءة. 

ولكي أعبر عن الوضع دون لف أو دوران فإنني أقول: إن غريف لم 
يستطع فهم ما كنت أعنيه وإدراكه. ولم يكن يلق بالا قط إلى أوسكار إذا 
كان هناك كشافة فى المحل ‏ غالباً ما يكون اثنان أو ثلاثة من مساعديه 
الكشفيين في المحل ٠‏ أما إذا كان ريق بمقرده فإله كان يكب يعطبية 


1١1 1*‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


متوتراً بفعل الاضطراب ويوزّع أوامره: «دع الكتاب في محله يا أوسكار! 
إنك لا تفقه منه شيئاء بل غبيّ وصغير أكثر بكثير من قدرتك على فهمهء 
ولذلك فإنك ستمزقه. وقد كلفني ثمنه أكثر من ست غولدات. إذا كنت 
تريد اللعب فأمامك ما يكفي من البطاطس والكرنب الأبيض»! 

فانتزع المجلّد المصرّر من يدي» وصار يورّق به دون أن يطرأ أي 
تغيير على ملامحه» ثم جعلني أقف وحندا من وقوض النلقوقة ولق تابيط 
والكرنب الأحمر واللفت» إذ أن أوسكار لم يكن يحمل طبله معه. وكانت 
هناك السيّدة غريف أيضاًء فأصبحت غالباً ما أجرجر خطاي إلى مخدع 
الزوجين غريف بعدما يوبخني بائع الخضر. كانت لينا غريف تضطجع 
أسابيع كاملة في الفراش» متظاهرة بالمرض» وتنبعث من جسمها رائحة 
قميص نوم عفن» وتلتقط جميع الحاجيات» ما عدا الكتاب الذي يمكن أن 
أتعلم منه شيئاً. وكنت أمضيت الأسابيع اللاحقة شاعرًا بالحسد إزاء أقراني 
كلّما رأيتهم يحملون عدّة المدرسة التي كانت تطلّ من جوانبها قطع 
الإسفنج وخرق مسح السبّورات» يتبخترون مغترين بأنفسهم. ومع ذلك 
فإنني لم أتذكر قط بأنني حملت أفكاراً ذات يوم من قبيل: إِنّكُ أقحمت 
نفسك يا أوسكار في هذه الورطة. وكان عليك أن تتصرف نحو حسن في 
المدرسة. فما كان يتوجب عليك أن تفسد علاقتك بالآنسة شبولنهاور إلى 
أبد الآأبدين. إن هؤلاء الصبيان قد تجاوزوك وفهموا حروف الأبجدية 
الكبيرة والصغيرة» بينما أنت لم تكن قادراً حتى على أن تمسك بجريدة 
«أحدث الأخبار» بصورة صحيحة! 

كان ذلك شعوراً خفيفاً بالحسد مثلما قلت قبل ثوان» لا أكثر ولا 
أقل. وإنني لا أحتاج سوى أن أشمٌّ المدرسة على نحو عابر لأنفر منها 
نفوراً أبدياً. فهل جربت يا سيّدي أن تشم قطع الإسفنج والخرق الممزقة 
المغسولة على نحو سيئ والتي تمسح بها تلك الألواح الإردوازية المقشرة 
الأصباغ والمحفوظة بالحقائب المدرسية المصنوعة من الجلد الرخيص 
والمشبعة بأبخرة الخط الجميل وجداول الضرب الصغيرة والكبيرة وبعرق 
أقلام الكتابة على الألواح» تلك الأقلام المتعثرة المنزلقة دائماًء والمصدرة 


1١١1 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


للصرير والمبللة باللعاب؟ وحين يعود التلاميذ من المدرسة ويلقون 
حقائبهم بالقرب مني أحيانًء لكي يلعبوا كرة القدم؛ أو كرة الشعوب» 
نإنني أنحني على قطع الإسفنج الجافة بفعل الشمسء متخيّلاً الشيطان» 
الذي كان موجوداً ربماء وقد استبنت هذه السحب المختمرة في إبطه. 
ولم تكن مدرسة الألواح الإردوازية تناسب رغبتي ومزاجي؛ غير أن 
أوسكار لا يريد الادعاء بأن السيّدة غريتشن شفلر التي وضعت مسؤولية 
تعليمه على عاتقها بغد ذلك بقترة قصيرة قد شت رغص تجبنيد حا . 

كنت أشعر بالإهانة في الواقع من رؤية محتويات دار الخبّاز شفلر 
الواقعة فى جادة كلاينهامر. كان مفرش السرير مزين بالألوان والوسائد 
المطرزة بالشعارات وألعاب القماش المترصدة في زوايا الأريكة والخزف 
الصيني الذي يصرخ مطالباً بالحصول على فيل ليرضّه رضّاً فيحطمه. فضلاً 
عن تذكارات السفر الملقاة في جميع الاتجاهات» تلك الأشياء المطرزة 
والمعقودة والملحقة بمشبكات الدانتيلا والمؤطرة بالحواف المدببة التى 
تشبه أسنان الفئران. فلم يطرأ في ذهني في ذلك البيت اللطيف المبهج في 
بساطته» والضيّق حد الاختناق والساخن في الشتاء» الفاسد الهواء في 
الصيف بسبب كثرة النباتات» سوى تصوّر واحد: وهو أن غريتشن شفلر 
لم يكن لها أطفال» وربما أنها كانت تتمنى طفلاًء ليخلب لبّهاء وربما 
تمنت طفلا إلى درجة الجنون؛ ربما نشأ بتأثير زوجهاء أو برغبة منهاء 
لتحيك له وترصعه باللآلئ وتحمه بالدانتيلا وتقضّبه بالمطرّزات الصليبية 
الشكل . 

إنني دخلت هذه الدار لأتعلم حروف الأبجدية الصغرى والكبرى» 
فبذلت قصارى جهدي لثئلا يتحطم الخرف الصيني وتذكارات السفر» 
ولذلك فإنني تركت صوتي القاتل للزجاج في البيت كما يقال» وصرت 
أغض الطرف عندما تأمرني غريتشن بالكفٌ عن التطبيل» فقد طبلت بما 
يكفي. ثم تسحب الطبل من بين ركبتي كاشفة عن أسنانها المحشوة 
بالذهب والتي تشبه أضراس الفرس» لتضع الطبل بين دمى الدببة. وقد 
أقمت علاقة آنذاك بلعبتين مخيطتين بشكل فئي» فكنت أضمّها إلى صدري 


1١16 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


بانتباه واحترس» فبات يواسيني كلّما أساء لي غوته. فتعلّم القراءة والتظاهر 
بالجهل فى وقت واحد ليس بالأمر السهل. لقد كان ذلك أصعب بالنسبة 
لي من تصنّع التبوّل في الفراش طيلة أعوام الطفولة» فإذا ما كان التبول في 
الفراش يعني التظاهر كل صباح بنقص ما يمكن التغلب عليه؛ فإن تصنّع 
الجهل كان يعني إخفاء تقدمي السريع خلف الجبال» وخوض ضراع مرير 
ومتواصل ضد الغرور الفكري والثقافي الذي بانت ملامحه في ذهني 
آنذاك. كنت تقبلت من الناس البالغين تهمة التبوّل في الفراش بلامبالاة» 
لكنني شعرت؛ وكذلك معلمتيء بالإهانة من تهمة الغباء التي رافقتني 
أعواماً. 

لقد أدركت غريتشن وظيفتها التعليمية وهي تتهلل فرحاً بعد أن أنقذت 
الكتب من الملابس الداخلية للأطفال الرضّع؛ فنجحت إلى حدّ ما في 
إدخال السعادة إلى قلب تلك المرأة المحرومة من الأولاد وانتشالها من 
كرات الصوف والحياكة. كانت في الحقيقة» تود أن أستخدم «الحسابات 
النقدية» كتاباً مدرسياً للتعلّم» لكنني أصررت على راسبوتين» وعندما 
اشترت في حصّة الدرس الثانية كتاباً حقيقياً لتعليم حروف الأبجدية 
للمبتدأين طالبتها براسبوتين» ولمًا أحضرت لي قصص فلاحي الجبال مثل 
(أنف القزم أو الرجل الذي يبلغ طوله طول الإبهام) قررت أن أرفع 
صوتي» فصرخت بها: #رانريين؟! أو #زاشوشين»! وكقت أعيانا أبدو 
كالأبله المغفل» فأهتف: «راشوء راشو“» فكانت تسمع رغاء أوسكارء 
لعلها تدرك أي كرّاسة كنت أستسيغ» ولكي أبقيها أيضا جاهلةً بعبقرية 
أوسكار الناضجة المقتنصة الحروف. 

واستطعت التعلّم بسرعة وبانتظام» دون أن أفكر كثيراً في الأمر. 
وبعد عام واحد كنت أرى نفسي في بطرسبورغ» أطوف في المخادع 
الخاصة لسلطان الروس المتفردء وفي غرفة ابن القيصر الذي لم يزل 
مريضاً يومئذء بين المتآمرين وقساوسة الكنيسة الأرثوذكسية؛ فأصبحت 
شاهداً بطبيعية الحال على حفلات راسبوتين الماجنة. كان لذلك وقع كبير 
في نفسي؛ إذ أن الأمر كان يتعلق بشخصية مركزية. وبدت النقوش 


1١148 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


وأغمن بزمشي إلى السيّدة التي كانت تتطلع إليَ بدهشة؛ متظاهراً بصداقتي 
الزائفة لتلك اللعبتين؟ صداقتي التي بدت حقيقة لهذا السبب بالذات» لكي 
أسرّ قلب غريتشن المطرّز بنماذج ناعمة وخشنة . 

لم تكن خطتي سيئة» ففي الزيارة الثائية فنحت غريتشن قلبهاء بمعنى 
أنه استفاق» مثلما ينفض المرء جواربه» وأرتني الخيط الوطيل المنسول 
والمعقود في بعض المواضع» وهي تفتح أمامي الخزانات والصناديق 
والعلب» عارضة الثياب القديمة البالية؛ أكداس من ستر الأطفال 
وسراويلهم الصغيرة» تكفي لخمسة توائم» فلتبسني إياهاء ثم تخلعها 
عئّي. وأظهرت لي وسام الرماية الذي حاز عليه زوجها من جمعية 
المحاربين القدماء: ثم ألحقته بالصور التي لا يختلف بعضها عن صورنا. 
ولأنها نبشت مرّة أخرى في ثياب الأطفال الرضّعء باحثةً عن بنطلون 
مناسب» فقد برزت الكتب للعيان. كان أوسكار يتوقع تقريباً العثرر على 
كتب تحت ثياب الأطفال؛ لأنه سمع غريتشن تتحدث إلى أمّه حول 
الكتب. وكان يعلم كيف كانتا تتبادلان الكتب بهمّة وحماس عندما خطبتا 
وتزوجتا في وقت واحد وهما في عر شبابهماء ويستعرنها من المكتبة في 
قصر السينما؛ فيتزودان بمواد للقراءة» لتضفيان على الزواج من الخباز 
وتاجر بضائع المستعمرات بعداً عالمياً وسعة اطلاع وبريقاً. ولم يكن كثيراً 
هذا الذي عرضته عليّ غريتشن, ولا بد أن تكون قد أهدت المجلدات 
الضخمة لجمعية الكتاب التي بحوزتها إلى الناس القرّاء؛ لأنهم لم يمارسوا 
الحياكة. ولم يكن لهم شخص مثل يا برونسكي الذي انقطعت أمَي بسببه 
عن القراءة؛ بعد ذلك تفرغت غريتشن إلى أعمال الحياكة . 

فالكتب الرديئة هى كتب أيضاًء لذلك يعنى أنها أيضاً مقدسة. لكن ما 
كرت عله من كمن كان يغتاول الأعثناتب واللفت والببهر» ركان قينا من 
الكتب يعود إلى ملكية شقيقها تيو الذي لقي حتفه غرقاً في قاع بحر 
الشمال. كانت هناك سبعة أو ثمانية مجلدات ألفها كوهلر عن الأساطيل» 
وكانت مليئة بصور السفن التى غرقت مندذ زمن» وصور الحماية التابعة 
للبيحرية القشترية»: ومتها اباول كه يطل الحر ب هفلة يمك أن ثتاست 


١15 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


هذه الكتب ذائقة غريتشن وتداعب قلبها. كذلك فَقَدَ تاريخ دانسغ لأريش 
كايزر والصراع حول روما الذي قاده رجل يدعى فيلكس دان بمعونة توتيلا 
وتيا وبليسار ونارسس» أهميتها وبريقهما على يد شقيقها الذي ركب 
البخر. 

واخترت كتاباً من «رفٌ» كتب غريتشن ن» كانت له علاقة بيحساب 
الواردات والصادرات» وكتاباً آخر لغوته «فالفيرناندشافتن» وثالثاً بها 
فضورا؟ راسيوتين والساء: وعد قترة طويلة هن التروة د كات الخار آصكن 
من أن يتيح لي إمكانية الحسم السريع ‏ التقطت» دون علم بما التقطت» 
بل انصياعياً لصوتي الداخلي العتيد» كتاب راسبوتين أوّل الأمر» ثم 
تناولت بعده غوته . 

كان من شأن هذه القبضة المضاعفة أن تثبت حياتي؛ أو على الأقل 
تثبيت تلك الحياة التي اخترتها خارج إطان الشيرة ٠‏ وتترك فيها أثراً كبيراً. 
وإلى يومنا هذا أصبحت - بعد أن استدرج أوسكار مكتبة المصحة الطبيّة 
طلباً للمعرفة اك غرفته شيئاً فشيئاً - أتأرجح» مستهيئاً بشيلر ورفاق الشرٌ 
فعا بين غوته وراسبوتين» بين ذاك الآخر الذي يشفي الناس بالصلاة 
وذاك العالم بكل شيء» بين المتجهم المكفهر الذي يأسر قلوب النساء 
وأمير الشعراء المشرق النفس الذي يدعالنسوة يسحرنه. وإذا ما كنت 
أحسب نفسي بعض الأحيان منتمياً إلى راسبوتين» خشية من غوته غير 
المتساشل» حإن ذلك يدوه إلى شنية مقادها آن: غرته ميري فيك يا 
أوسكارء إذا كنت قد طبّلت في زمنه» مسخاً طبيعياًء وسيحكم عليك 
باعتبارك تجسيدا لنقائض الطبيعة؛ وسيطعم طبيعته بالفطائر الشديدة 
الحلاوة ‏ حتى لو كانت طبيعته تنضح بالشذوذ عن الطبيعة؛ فإنك 
ستعجب بها في آخر المطاف وستسعى بغية اللحاق بها - وسيصرعك أيها 
المسكين التافه بمؤلفه الضخم عن علم الألوان» هذا إذا لم يقتلك 

لكنني أعود مرّة أخرى الى راسبوتين الذي علمني» بمساعدة غريتشن 
شفلرء حروف الأبجدية الصغيرة والكبيرة» وعلمني كيفية التعامل مع النساء 


١١17 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


المحفورة المعدن والمنتشرة الكتاب التى أظهرت راسبوتين الملتحى ذا 
المتين الفاشتى السروة وس السكدات العازياكهه- إلا هه السر ارت 
الشفافة السوداء. تؤيد هذه الحقيقة . 

لكن موت راسبوتين ترك في نفسي أثراً بليغاًء فقد سُّمم بالكعك 
والنبيذ» وعندما أراد أن يتناول الكثير من الكعكة أطلموا عليه الأعيرة 
النارية من المسدسات» وحين أخذ الرصاص يتراقص منتشياً في صدره» 
أوثقوه وألقوا به في ثقب جليد بالقرب من نيفا. لقد فعل ذلك الضبّاط 
الرجال وحدهم؛ لأن نساء العاصمة بطرسبورغ كنّ سيعطين الأبيعنّ؛ 
راسبوتين كل ما يطلبه منهن, ما عدا الكعك المسموم؛ لأنن كن مؤمنات 
براسبوتين» بينما كان الضبّاط يسعون إلى إزالته عن طريقهم» لكي يؤمنوا 
بأنفسهم يومئذ. 

فهل من الغريب أن أجد إعجاباً في حياة ونهاية ذلك المتعبد الذي 
كان يشفي المرضى بالصلاة؟ كانت غريتشن تتلمس طريقها مرّة أخرى إلى 
كرّاسة أَيّام زواجها الأولى» ثم تقلع عنها أحياناً تقرأ عبارة (حفلة ماجنة)» 
فترتجف وهي تنفخ الكلمة السحرية مجون بصورة خاصة.» فكالت حين 
تنطق المجون تكون مستعدة أيضا لممارسته»؛ وحين تمارسه لم تعد حينئذ 
قادرةً على تخيّل الحفلة الماجنة. كان الدرس يتخذ منحى سيئاأ عندما 
ترافقني أمّي إلى بيت الدار الواقعة فوق فرن الخبز إلى جادة كلاينهامر 
وتحضر معي الدرس الذي كان يتحوّل أحياناً إلى مجونء وإلى غاية بحدٌ 
ذاته؛ وليس درساً لتعليم الصغير أوسكار. فكانت القهقهة تنطلق في كل 
ثالث عبارة بصوتين وتجفٌ الشفاه وتبدو متشققة» مما يجعل المرأتين 
المتزوجتين تقتربان من بعضهماء إذا ما رغب راسبوتين في ذلك» شاعرتين 
بالاضطراب فوق الأريكة» فيبدأ عصر الأفخاذ». وتستحيل القهقهة الأوليّة 
إلى تأوهات» وهذا ما لم يكن يتوقعه المرء بعد اثنتي عشرة صفحة من 
كتاب كرّاسة راسبوتين» أو ربما لم يرغب في تحققه؛ إلا أن المرء سيتقبله 
في ساعات الأصيل» بحيث إن راسبوتين نفسه لن يعترض قطء بل 
سبوؤعة ميكاناً وإلى أبد الآبدين. 


1185 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أخيراً بعدما تقول المرأتان «يا إلهي؛ يا إلهي؟ وتسويان تسريحتيهما 
من جديد فإن أمّي تبادر إلى السؤل: «هل ترين أن أوسكار لا يفقه شيئا من 
هذه الأفعال؟» فترد عليه غريتشن مهدأةً من روعها: «أرجوك؛ كيف له أن 
يفقه ذلك؟ إنني أبذل جهداً كبيراً» لكنه لم يتعلم شيئاء كما أنه سوف لا 
يتعلم القراءة أبدأً» . 

ولكي تبرهن على جهلي المطبق فإنها كانت تضيف: «تصوري يا 
آغنس أنه ينتزع صفحات صاحبنا راسبوتين» ويكوّرهاء فتختفي بعد ذلك 
إلى الأبد. كنت في بعض الأحيان أفكر في التوقف عن التعليم» لكنني 
كنت آراة سعيداً بالكتابه فأتركه يمزقه.. لقد أبلغت الكسندر بأن يهدي لنا 
راسبوتينَ جديداً بمناسبة عيد الميلاد . 

إنني نجحت» ومثلما لاحظتم خلال ثلاثة أعوام أو أربعة» وطالما 
كانت غريتشن شفلر تعلمني» في فصل نصف صفحات راسبوتين عن 
بعضها البعض بحذرء متظاهراً بالعبث؛ ثم صرت أكورهاء لكي أخرجها 
فيما بعد من تحت بلوزتي في زاوية التطبيل المخصصة لي في دارناء 
وأسويها وأصفها من جديد» لغرض استخدامها بمثابة كرّاسة جر القرالكه 
بعيداً عن أنظار النساء ومضايقاتهن. وكذلك فعلت مع غوته الذي نطقت 
اسمه في الحطة الرابعة «دوته»» طالبا من غريتشن إحضاره لي ؛ إذ يمكنني 
الاعتماد على راسبوتين وحده. فأصبح واضحاً لي بعد فترة 5 قصيرة بأن كل 
راسبوتين في هذا العالم كان يقف بمواجهته غوته» بمعنى أن راسبوتين 
سيستدرج وراءه غوته» أوغوته سيستدرج وراءه راسبوتين» لكي يمكن 
الحكم عليه بعد ذلك بالمقارنة . 

وعندما يتربع أوسكار بكتابه سحي ا أو في المخزن 
الخشبي للسيّد هايلاند العجوزء خلف حوامل الدرّاجات الهوائية» خالطاً 
الأوراق لرواية غوته «فالفيرفاندشافتن» بملزمة من راسبوتين مثلما يخلط 
المرء أوراق اللعب» ويقرا الكتاب المؤلف توا بدهشة متدامية» ومضحكة 
في الوقت ذاته» كان يرى أوتلي» بطلة غوته وهي تمسك بذراع راسبوتين 
بأدب وحياء لتتجول في جنائن ألمانيا الوسطى» وغوته يجلس إلى جانب 


11 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


النبيلة أولغاء الخليعة الفاجرة» ويطوف معها فى زَّلاقَةَ جليد من حفلة 
ماجنة إلى أخرى في نواحي بطرسبورغ الشاتية . 

لكني اعرد الآذ إل حور «المارم ني جادة 00 كانت 
أتقدم: 55 بذ لها خطرة كذ في التعلّم. فكانت 1 
والحيوية بقربي» وكذلك تحت اليد المباركة المشعرة» غير المرئية فى 
الواقع» لذلك القديس الروسي الذي كان يشفي الناس بالصلاة» فكانت 
حتى نباتات الصبّار والزيزفون في غرفتها تتفتح مزدهرة. فيا ليت الخباز 
له يام عدي المي ل إل لصوا الأوتبال ارقف العيكن 
الصغيرة المدورة بأقراص أخرى مختلفة» لكانت غريتشن ٠‏ قد سمحت له 
بعجنها ودكها وطرشها بالفرشاة ومن ثم خبزها مرّة أخرى. فمن يدري ما 
الذي سيخرج حينئذ من الفرن؟ لعله سيكون طفلاً في نهاية المطاف» وبلا 
شك أن غريتشن كانت تستحق هذه الفرحة الفُرنيّة . 

بيد أنّها كانت تقبع بعد كرّاسة راسبوتين المجهدة ة وتتطلع بعين حمراء 

مشتعلة وشعر مشعث ثم تحرك أسنانها الذهبية التى تشبه , تشبه أضراس الفرس »2 
دون اا وتردد «يا إلهي» يا إلهي». قاصدةٌ بذلك خميرة 
العجين . وبما أن ا سا لأنها كانت تحتف 
بصابها يان» فإن تلك الدقائق التي تعقب هذا الجزء من الدرس كان لها أن 
تنتهي نهاية تعيسة للغاية لو لم تكن غريتشن نفسها تتمتع بقلب فرح 
مستبشر. فكانت تهرع إلى المطبخ لتأتي بمطحنة القهوة اليدوية وتحضنها 
كما العشيق» ثم تغني وتطحن القهوة. وتعاونها أمّي في الغناء الشجي 
المغرق في العاطفة» فترددان أغنية «العيون السودا» أو «الفستان الروسيّ 
الأحمر؛» ثم تأخذ غريتشن العيون السود معها إلى المطبخ 0 الماء 
على النارء وتتركه يغلي على شعلة الغاز. وتهبط إلى فرن الخبز» لتجلب 
زوجها عادةً. فتعد المائدة بفناجين القهوة المنتقاة الموشاة بالزهور, 
وبإبريق القشدة ووعاء السكر الزجاجي وشوك اليك» ثم تنثر بينها زهور 


١7١ 
1 1_طماع1© :ع1 ]آنلا‎ 


البنفسج » وتصبّ القهوة» وتنتقل إلى الألحان المأخوذة من «ابن القيصراء 
مقدمةً الفطائر الناشفة كالعظام وكعك العسل» واثمة جندي يقف على 
شاطئ نهر الفولغا» وكعكة فرانكفورت المحشوة باللوزء و«هل حلت 
لديك الملائكة هناك؟؛» وكذلك كعك البيض المكسو بالقشدة» الحلو 
المذاق» الشديد الحلاوة؛ وبعد ذلك تعرّج المرأتان أثناء المضغ إلى 
الحديث عن راسبوتين» فتقطعان مسافة مناسبة للحديث عنه» معربتين 
بنزاهة» بعد فترة من الوقت المتخم بالفطائر والكيك» عن استنكارهما 
لزمن القياصرة الفظيع المغرق في الفساد. 

وكنت ألتهم في تلك الأعوام الفطائر والكعك بشكل مفرط» ومثلما 
يستشف المرء من الصور فإن أوسكار لم ينمو قيد شعرة إثر ذلك؛ لكنه 
أصبح بديئاً وغير متناسق الهيئة. فكنت غالبا ما أضطر بعد ساعات 
التدريس البالغة الحلاوة في جادة كلاينهامر إلى ربط قطعة من الخبز 
الناشف في متر لابسفيغ بعدما يتوارى ماتسرات عن الأنظار» ثم أنقّع قطعة 
الخبز في برميل سمك السردين النرويجي المملح» ولم أسحب الخيط إلا 
بعد أن يتشرّب بالملح تماماًء والآن بإمكانكم أن تتصورا أي وسيلة ناجعة 
للتقيؤ هذه التي اخترتها بعد إفراطي في التهام الكعك! فصار أوسكار ينفق 
في مراحيض الدار ما تبلغ قيمته درهماً غدانسكياً كاملاً من كيك آل شفلرء 
وكان ذلك يعد مبلغاً كبيراً آنذاك . 

وكان عليّ أن أسدد ثمن تدريس غريتشن بمقابل آخرء ولأنها كانت 
تحب خياطة ثياب الأطفال والحياكة» فقد وضعت نفسى تحت تصرفها 
كدمية لتجربة الملابس. فتوجب علي أن أقيس المرايل والطاقيات 
والسراويل والمعاطف ذات القلانس والمعاطف الخالية من القلانس» 
وكذلك مختلف أنواع الملابس والأقمشة والألوان وأتقبلها. 

ولم أعد أعرف فيما إذا كانت أمّيء أو غريتشن» قد حوّلتني بمئاسبة 
عيد ميلادي الثامن إلى ابن قيصر صغير جدير بالتصفية» فعبادة راسبوتين 
وصلت أآنذاك إلى مداها الأقصى بالنسبة للمرأتين. كانت هناك صورة 
تظهرني واقفاً إلى جانب كعكة عيد ميلادي الثامن المؤطرة بالشموع التي 


شنا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لم تسح بعدء مرتدياً مريلة روسية مطرّزة وقبعة قوقازية مائلة؛ تحير 
بالوقاحة نوعاً ماء وأحزمة مصلبة على جسمي فيها خراطيش وسروال 
واسعاً وحذاءً قصيراً. كنت سعيداً برؤية طبلي في الصورة؛ وثمّة سعادة 
أخرى غمرتني حين فصّلت لي غريتشن شفلر» ربما بناءة على رغبتي» بذلة 
فخيطتها وفرضتها عليّ فرضاً في آخر الأمرء وبدت مغرقة في التقليد 
وتحاكي عصر غوته وتستحضر روحه إلى يومنا هذاء شاهدةً على وجود 
روحين جسديء متيحة لي إمكاني التواجد في بطرسبورغ وفايمر في آن؛ 
بمرافقة طبلي الوحيد» مع الأمهات من ناحية ومع نساء الحفلات الماجنة 
من ناحية ثانية . 


1١ 7*‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


غناء بعيد الأثر ينطلق من البرج 


ادّعت الآنسة الدكتورة هورنشتيتر التي كانت تزورني كلّ يوم تقريباً 
وتمضي في غرفتي الفترة التي يستغرقها تدخين سيجارتهاء والتي صارت 
تأتي بصفتها طبيبة معالجة» إلا أنني كنت في الواقع أعالجها بنفسي حتى 
تخرج من الغرفة متوترة الأعصاب» تلك السيدة التي أقامت علاقة ممتازة 
بسجائرهاء ادّعت دائماً: بأن علاقاتي في فترة صباي كانت فقيرة جدَّاًء 
وبأننى ي كنت نادراً ما ألعب مع الأطفال الآخرين. ٠‏ نعم» إنها لم تكن مخطئة 
تماماً في ما يتعلق بالأطفال الآخرين» ل غريتشن 
شفلرء وموزعاً بين غوته وراسبوتين» لدرجة أنني لم أجد وقتاً لألعاب 
الأطفال والرقص في دوائرهمء حتى لو كنت راغباً في ذلك. وكلّما 
أبعدت الكتب عن نفسي مثلما يفعل المتعلّم؛ لاعن مهمة التنقيب في 
الحروف؛ وباحثاً عن العلاقة والاتصال بالشعب؛ كنت اصطدم بالأطفال 
المشاغبين المقيمين في البناية المؤجرة» فأكون سعيداً حمّاً إذا رجعت إلى 
الدار سالماً بعد الاتصال بأولئك الهمجيين؛ أكلة لحوم البشر. 

كان أوسكار يستطيع مغادرة دار والديه إما عن طريق المتجرء ليكون 
في لابسفيغ؛ أو أنه يطبق الباب خلف ظهره فيجد نفسه على سلّم البناية» 
أي أمام إمكانية الخروج إلى الشارع مباشرةً؛ أو أنه كان يطلع السلالم 
الأربعة إلى السطح؛ حيث اضطجع الموسيقي ماين نافخاً في البوق» 
وكانت باحة البناية تعرض نفسها لأوسكار بصفتها خياراً أخيراً. وكان 
الشارع مرصوفاً بالحجارة الصغيرة» وقد انتشرت في رمل الباحة المدكوك 
الأرانبٌ والبسط والسجاجيد التي كان ينفض عنها الغبار. وكان سطح 


1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


البناية يتيح» فضلاً عن العزف الثنائي المتباعد الأوقات مع السكير ماين» 
مناظر ومشاهد بعيدة» تولد شعورا بالحرية رائعا ومخادعا معاء ذلك الذي 
يبحث عنه متسلقو الأبراج كلّهم والذي يجعل ساكني الشقق العالية هائمين 
يسبحون في خيالهم . 

وفي الوقت الذي بدت فيه الباحة لأوسكار مليئة بالمخاطر» فإن 
النطع كان يمنحه الاطكناة» إلى أن ظرده أكسل ميشكه وجماعيه من 
هناك. كانت مساحة الباحة بقدر مساحة البناية» لكن عمقها بلغ فقط سبع 
خطوات» وكانت تحاذي بسياجها الخشبي المطلىّ بالقطران والمزود 
بالأسلاك الشائكة» ثلاث باحات أخرى» بحيث يمكن رؤية تلك المتاهة 
بشكل جيّد من السطح : كان الشارعان المتقاطعان». هيرتا شتراسه ولويزين 
شتراسه» إضافة إلى هارين شتراسه المقابل للمنازل في لابسفيغ» يشكلان 
مع الباحات مربعا كاملاء يضم معملا لإنتاج أقراص الكحّة المحلاة وعددا 
من الورش المنتجة للأعشاب. وكانت الأشجار والأدغال تتدافع متزاحمة 
هنا وهناك» معلنةً عن فصل السنة. وما عدا ذلك فإن الباحات بدت 
مختلفة المساحة» إلا أنها متساوية من حيث عدد الأرانب والقضبان التى 
انشكى عليها ابيط كما لو انهانمق بظراذ واخةى «وبينها. كاك الأزاب 
متواجدة طوال العام؛ فإن البسط كانت تنفض فقط في يومي الثلاثاء 
والجمعة» عملا بنظام البناية. في تلك الأيام كانت عظمة الباحة تتأكد على 
أحسن وجهء فكان أوسكار يرى من الأعلى : أكثر من مائة بساط وسجادة 
صغيرة وأغطية الأسرّة وهي تدهن بالكرنب المخلل ثم تنظف بالفرشاة 
وتنفض» ثم تجبر على إبراز نماذج نسيجها. وكانت مئات من ربات 
البيرت يحملن جثث السججاد والبسط من البيوت» ويرفعن أذرعهن الممتلئة 
العارية محافظات على شعرهن وتسريحاتهن تحت مناديل رأس معقودة» ثم 
يلقين بالسجاد والبسط على قضبان النفض» فيتناولن العصي ويوسعن من 
ضيق الباحات بالضرب الناشف . 

لقد كره أوسكار تلك الأنشودة الخاصة بالتنظيف» فكان يهرع إلى 
طبله لكي يقاوم الصخب؛ معترفاً؛ وهو فوق السطح الذي كان يمنحه بُعدا 


1١" 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


كافياًء بعجزه أمام ربّات البيوت. إن بإمكان مائة من الإناث النافضات 
السججاد اقتحام السماء وقصّ قوادم فراخ السنونوات بضربات قليلة وتقويض 
معبدٌ أوسكار الذي شيده في هواء أبريل/ نيسان بالتطبيل . 

وفي الأيام الخالية من نفض السججاد كان الأطفال المشاكسون 
القاطنون في البناية يمرحون فوق القضبان الخشبية لتنظيف السجاد» بينما 
كنك آنا ثادراً ما آنزل إلى الباحةة |3 أن عقون اليك غابلاته العجور كان 
يوفر لي بعض الطمأنينة؛ فالعجوز هايلاند لم يكن يسمح لأحد سواي 
بالدخول إلى مخزن أدواته» بل كان يمنع الصغار من إلقاء نظرة على 
ماكينات الخياطة المتّسخة والدرجات الهوائية الناقصة الأجزاء والملازم 
الحديدية وبكرات رفع الأثقال والمسامير المعوجة والمستوية بالطرق 
والمحفوظة في علب السيجار. كانت تلك مشغلة تقضي على الفراغ؛ فإذا 
لم يكن العجوز هايلاند ينتزع المسامير من ألواح الصناديق؟ فإنه كان يقوّم 
اعوجاج المسامير المنتزعة في الأمس على السندان. وبالإضافة إلى أنه لم 
يدع مسماراً واحداً يعوّج؛ فإنه كان يساعد في حمل الأثاث أثناء الانتقال» 
ويذبح الأرانب بمناسبة الأعياد والاحتفالات» فضلا عن أنه كان يبصق تبغه 
الممضوغ أينما حلٌ؛ في الباحة أو سلّم البناية» أو على السطح . 

عندما حضّر الأطفال المشاكسون حساءً ذات يوم» مثلما يفعل 
الأطفال عادة» إلى جانب مخزنه» توسل نوجى آيك بالعجوز هايلاند أن 
يبصق ثلاث مرّات في الماء الذي كان يغلي» فهك المسرريع مده ثم 
اختفى في حجرته الخشبية» وأخذ يطرق المسامير؛ أثناء ذلك أضاف 
أكسل ميشكه إلى الشوربة حجر قرميد مدقوقاًء فراقب أوسكار تجارب 
الطهي تلك بفضولء إلا أنه وقف إلى الجانب. ومن الأغطية والخرق 
نصبّ أكسل ميشكه وهاري شلاغر شيئاً ما يشبه الخيمة» لكي لا ينظر 
الكبار البالغون إلى الشعوربة. عندما بدا مسحوق الحجر بالغليان أفرعٌ 
هانس كولين حقيبتيه وتبرع للحساء بضفدعتين حيتين كان قد اصطادهما في 
بركة أكسين. فعبرت زوزي كاترء الفتاة الوحيدة داخل الخيمة» عن 
امتعاضها وخيبة أملها فَزمّت فمها عندما غرقت الضفدعتان في الحساء دون 


١15 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


أيّ محاولة أخيرة للقفز. في البدء فتح نوجي آيك أزرار سرواله وبال في 
قدر الشوربة دون أنت يعر زوزي انتباهاء فأعقبه في فعلته أكسل وهاري 
وهانس كولين. وحين أراد القصير المسمّى بقطعة الجبن الصغيرة أن يبر 
أقرانه ذوي الأعوام العشرة ةلم يخرج منه شيء» فالتفت جميعهم إلى 
زوؤي» وناولها أكسل ميشكه قدراً متخسف الحافة طُلِي باك بلون أزرق 
لامع . لقن آراة أوشكان افد تادر اكات حال لكنه انتظر إلى أن أقعت 
زوزي التي لم ترتد ساعتها سروالاً داخلياً وطوقت ركبتيهاء بعد أن دستٌ 
القدر تحتهاء وأخذت تتطلع إلى الأمام بعينين جامدتين؛ ثم قطبت جبينها 
حين أصدر القدر رليتاً محدنياً معلا غن أن زوزي كان لديها ها تضيفه إلى 
الشوربة. فأطلقت ساقي للريح» فيا ليتني انسحبت آنذاك بهدوءء لأنني 
عندما ركضت نظروا إلي» أولئك الذي كانوا حتى ذلك الحين يحدقون في 
قدر الطهي ويصطادون ما تتمناه أعينهم » فسمعت صوت زوزي كاتر يهتف 
خلف ظهري: (إنه يريد أن يفسد علينا الأمرء وإلا فلماذا يركض هكذا؟» 
فوخزني صوتها حتى تعثرت بالدرجات الأربع ولم أستطع التنفس ثانية إلى 
أرضية السطح . 

كان عمري يومئذ سبعة أعوام ونصف وكان لزوزي من السنّ تسعة 
أعوام ربّماء أمّا قطعة الجبن الصغيرة فقد بلغ الثمانية تقريباً» وكانت أعمار 
أكسل و نوجي وهانس وهاري تتراوح ما بين التسعة والعشرة أعوام» إضافة 
إلى ماريا تروجنسكي التي كانت تكبرني في السن» » لكنها لم تكن تلعب 
أبدا في الباحةه. بل مع لحبها في مطيخ أنهاء أو مع شقيقتها البالغة؛ 
غوستهء التي كانت تشتغل مساعدة في الروضة البروتستانتية . فليس من 
العجب أنني ما زلت إلى اليوم لا أستطيع سماع النسوة يتبولن في أوعية 
التبوّل. فعندما كانت إيقاعات الطبل تداعب سمع أوسكار وتهدأ من 
روعه شاعرا على السطح بغيابه التام عن الحساء الذي كان يغلي تحت 
الخيمة؛ جاءوا كلّهم؛ حفاةً أو بأحذية ذات أربطة؛ ساهمت بقسطها في 
الشوربة التي جلبها نوجي معه. فأحاطوا بأوسكار» والتحق بهم قطعة 
الجبن الصغيرة» فأخذ أحدهم ينغز الآخر بمرفقه ويتهامس: «هيّا أفعلها»! 


/ا” ١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


تونب أكسل ومسك بأوسكار دن الخلف ثم طوى ذراعية وجل لتنا : 
و كا ام يي تحرك لسانها وتضحك 
يشيرة إلى أن ليس هناك ما يخشاه المرء حين يتذوق الحساء . فانتزع نوجي 
الملعقة منها ومسحها في فخذها لكي يعيد لها بريقها المعدني» ثم نقّع 
الملعقة في القدر الذي تصاعد منه البخار وأخذ يختبر بهدوء صلابة الحساء 
ومقاونته مقلما تفعل ريه البيف الخبيزة» وضبان بقع بها لببرنها وأخيراً 
دسّها في فمّ أوسكار؛ لقد ألقمني إياها حقّاء أنا الذي لم أذق مثل طعمها 
طوال حياتي . 

وحالما غادر الشعب الذي كان قلقاً بإفراط على جسدي وسلامته» 
لأن نوجي شعر بالغثيان من القدرء زحفتٌ نحو زاوية تجفيف الغسيل التي 
نشرت في حبالها يومئذ بضعة شراشف» فقذفت ملاعق الحساء الأحمر 
دون أن أكتشف أثراً للضفادع في القيء وتسلقت فوق صندوق تحت كوة 
السطح المفتوحة؛ وتطلعت إلى الباحات النائية» وبقايا القرميد الأحمر 
تصرٌ بين أسناني» فشعرت برغبة جامحة للقيام بفعل ماء فتفحصت النوافذ 
البعيدة للمنازل في مارين شتراسهء ذلك الزجاج البرّاق المتغامزء 
فصرخت» بل غنيّت عن بعد في ذلك الاتجاه بالضبط. وعلى الرغم من 
أنني لم أحقق قق نجاحاً يذكرء غير أنني كنت مقتنعاً بإمكانية تأثير الغناء البعيد 
المسافة» لدرجة أن الباحات أصبحت ضيّقة بنظري على الدوام؛ فأصبحت 
توّاقاً إلى الأبعاد والمسافات» جائعاً للمشاهد النائية» مغتنماً كلّ فرصة تنأى 
بي بمفردي أو برفقة أمّيء بعيداً عن لابسفيغ» وعن الضاحية» لتحررني من 
مطاردات طهاة الحساء ء جميعهم في باحتنا الضيقة . 

كانت أمَي تذهب كل - خميس إلى المدينة لتتسوق حوائجها من 
المديئنة» فكانت غالباً ما تأخذني معها؛ لا سيما عندما يتعلق الأمر بشراء 
طبل جديد من زيغسموند ماركوس في ممر تسويغهاوس قرب سوق 
الفحم. ففي الفترة الواقعة بين السابعة والعاشرة من سئي كنت أقضي على 
الطبل خلال أسبوعين قضاءً تامأء ومن سنّ العاشرة إلى الرابعة عشر كنت 
أحتاج إلى مجرد أسبوع واحد لأخرق الصفيح خرقاء ثم أصبح بمقدوري 


١> 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


فيما بعد أن أحوّل الطبل إلى حطام في يوم تطبيل واحدء لكنني كنت قادراً 
من ناحية أخرى» في حالة اعتدال مزاجي» على التطبيل ثلاثة أو أربعة 
أشهر متواصلة على طبل واحدء بحذر وبقوّة أيضاً. دون أن يتعرض طبلي 
إلى الضررء باستثناء بعض الخدوش في الطلاء. 

والآن يجب أن أتحدث عن ذلك الزمن الذي كنت أغادر فيه باحة 
بنيائناء مخلفاً القضبان المخصصة لنفض السججاد والعجوز هايلاند الذي 
كان يطرق المسامير والصبيان الذين كانوا يخترعون الحساءء لأرافق أمّي 
كل أربعة عشر يوماً؛ فأنتقي بنفسي طبلاً جديداً من طبول الأطفال المتنوعة 
في محل ريغسموند أستمتع بالتجوال المسائي في المدينة القديمة ذات 
الطابع المتحفيّ والألوان الزاهية والتي كانت نواقيسها الكنسية تضجٌ صاخبةً 
باستمرار. 

وكثيراً ما كانت الزيارات تسير بانتظام وترتيب» فكنا نشتري حاجياتنا 
من لايزر وشتيرنفيلد أو ماخفيتس» لنعرّج من هناك إلى ماركوس الذي 
اعتاد على مخاطبة أمّى بعبارات المجاملة الرقيقة والطريفة المنتقاة بعناية. 
فهو بلا شك كان يغازلهاء لكنه لم يصل إلى درجة الحماس في اندفاعه 
نحوهاء حسب اعتقادي» فكان يتناول يدهاء التى تعادل الذهب مثلما كان 
ينعتهاء بحرارة ثم يطبع عليها قبلةَ صامتة» ما عدا تلك الزيارة التي أنا 
بصدد الحديث عنها حيث بلغ بها الأمر إلى حدّ التوسل والجثو على 
الركبتين . 

كانت أمّي التي ورثت عن جدتي كولياجك القوام الممتلئ» المشدود 
بصلابة» والغرور الممتزج بالطيبة والنيّة الحسنة» تتقبل برضا خدمات 
ماركوس الذي كان يتحفها بخيوط الحرير المختلفة الزهيدة الثمن التي 
كانت تباع بالجملة» لكنه كان يهدي لها جوارب نسائية من النوع الفاخر 
أكثر ما كان يبيعها. بالإضافة إلى المبلغ المضحك الذي كان يتقاضاه كلّ 
أسبوعين ثمناً للطبل الجديد الذي كان يقدمه لي من وراء طاولة البيع. 

أثناء تلك الزيارة طلبت أمّي من زيغسموند في تمام الساعة الرابعة 
والنصف عصراً أن يضعني تحت حراسته في المحل» لأنها ستشتري بعض 


8 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الحاجيات العاجلة والضرورية. فانحنى ماركوس ميكديما على نحو غريب 
وعاهد أمّي بعبارات مغرقة في المجاملة والتزلف على أنه سيحافظ علي 
أنا أوسكارء مثلما يحافظ على حدقة عينه أثناء متابعتها لمشاغلها الهامة. 
فكان ثمة نوع خفيف من التهكم غير الجارح منح عباراته سمة تأكيد ملفتة 
للنظرء جعلت وجه أمّي يحمّر خجلاء وخامرها شعور بأن ماركوس كان 
يطلعا فلن الأعر., 

لكنني» أنا أيضاًء كنت على إطلاع بالمشاغل التي أسبغت عليها صفة 
الأهمية؛ تلك المشاغل التي كانت تنجزها بهمّة عالية. لقد أتاحت لي أن 
أرافقها فترة طويلة إلى أحد الفنادق الرخيصة في تشلر شتراسه» حيث 
كانت تختة تختفي في سلَّم البناية لتغيب حوالي ثلاثة أرباع الساعة» بينما كان 
عليّ أن أنتظر وراء قدح الليمون الرديء الطعم الذي كانت تقدمه لي 
صاحبة الحانة بلا كلام وهي تحتسي شراب «المامبه»» إلى أن تعود أمّي 
من جولتها دون أن يطرأ على ملامحها أي تغيير» فتحيى صاحبة الحانة 
القى أعاذة نا كرون امشكولة باحساء شرابواك فى تخارل يدي سس 
حرارتها الفاضحة. فكنًا نمضي يداً بيد إلى مقهى فايتسكه في 
فولفيربركاسه؛ حيث كانت أمّي توصي بفنجان قهوة تركية لنفسها ومرطب 
الليمون لأوسكارء منتظرة مرور يان برونسكي بالصدفة المحض وبسرعة» 
فيشاطرنا الطاولة ويطلب فنجاناً من القهوة التركية أيضاًء فيقدم له في 
الحال على طاولة المرمر المنعشة البرودة. 

كانا يتحدثان عن بلا تكلف. فكان حديثهما يؤكد ما أعرفه من قبل: 
تالت اتى تالتى كل ميس اي باذ فى .رن الختات في مارم تقار 

شتراسه؛ أججرها يان على حسابه؛» لكي بمضبامعا ثلاثة أرباع الساعة. 
ولعل يان هو الذي عبّر عن رغبته في عدم اصطحابي ذ فى المرّات القادمة 
إلى تشلر شتراسه ومن ثم إلى مقهى فايتسكه. لق بان عليه |العياء أقثر 
بكثير من أمْي التي لم تجد ضرراً في أن أكون شاهداً على ساعة غرام 
تنتهي على عجل» فبدت مقتنعة تماما بشرعية تصرفهاء حتى فيما بعد. 
ونزولاً عند رغبة يان كنت أقضيّ فترة المساء ما بين الساعة الرابعة 


1١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


والنصف إلى حوالي السادسة في محل زيغسموند ماركوس» فكان يتبح لي 
تأمل طبوله الصفيح واستعمالها ‏ ففي أي مكان آخر كانت هذه الفرصة 
معاحة لأوسكار ‏ وقرع طبول عدّة في وقت واحد والتطلع إلى وجه 
ماركوس الحزين الذي يشبه وجه الكلب. لم أعرف في الواقع من أين 
كانت تأتى أفكاره» بيد أننى عرفت إلى أي مكان كانت تذهب؛ لقد كانت 
تقيم في انشلرة شتراسه محتكة بأبواب الغرف المرقمة؛ فكان يقبع 
هناك» لكن ماذا كان ينتظر؟ هل كان ينتظر الفتات؟ 

غير أن أمّي ويان لم يخلفا وراءهما قُتاتاً قطء فكانا يلتهمان كلّ 
شيء ؛ بفضل شهيتهما العظيمة التي لا يمكن إشباعهاء والتي كانت تعض 
على ذيلها من فرط النهم. لقد انشغلا بأنفسهما لدرجة أنهما نظرا إلى 
أفكار ماركوس القابع تحت الطاولة باعتبارها مجرد نسمة هواء عذبة؛ 
شديدة الرقة» ليس إلا. وفي ذلك المساء ‏ لا بد أن ذلك قد وقع في شهر 
سبتمبر/ أيلول لأن أمّي ارتدت بذلة خريفية بنيّة داكنة ‏ انطلقت بطبل جديد 
إلى ممر تسويغهاوس» مخلفاً ماركوس غارقاً ومدفوناً وضائعاً في أفكاره 
خلف طاولة البيع» وقطعت النفق البارد المعتم الذي اصطفّت على جانبيه 
المتاجر الرموقة كمحلات المجوهرات والأطعمة الفاخرة والمكتبات ذات 
الواجهات الزجاجية المتلاقة. لكن شبابيك العرض المعتدلة الأسعار» 
الباهظة بالنسبة لي لم تستطع إيقافي؛ بل إنهاء على العكس من ذلك» 
أخرجتني من النفق ودفعت بي في اتجاه كولنماركت. فوقفت هناك في 
منتصف الشارع تحت الضوء العكر المغبر أمام واجهات تسويغهاوس 
الرمادية اللون كرماد البازلت» المطعمة بقنابل المدفعية الثقيلة المتنوعة» 
المنحدرة من أزمان الحصار المتعاقبة» لكى تذكر تلك الحدبٌ الحديدية 
المارةً بتاريخ المدينة . لم تعني لي القنابل شيئاً» لا سيما أنني كنت أعرف 
بأنها لم تحشر نفسها هناك بقواها الذاتية» بل إن دائرة البناء والأعمارء 
وبالاتفاق مع مكتب حماية الآثار القديمة» قد كلّفت عامل بناء بحشو 
واجهات الكنائس العديدة ودور البلدية بالإضافة إلى واجهة تسويغهاوس 
وخلفيته بعتاد القرون المنصرمة» دافعة له أجراً لقاء ذلك . 


١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


وأردت الدخول إلى المرسح البلديّ الذي أطلّت أعمدة بوابته العالية 
على زفاق فى الى افصيله من ناح السين عن سويخهاومن: ولأنني 
وجدت المسرح مغلقاً في هذا الوقت مثلما توقعت - وكان شبّاك تذاكر 
العرض المسائي يفتح في الساعة السابعة ‏ فقط طبّلت بتردد» مؤثراً 
الانسحاب» ثم وقف أوسكار في جهة اليسار بين برج الطوابق وبوابة «لانغ 
غاسها. لكنني لم أجرؤ على الدخول عبر البوابة إلى لانغ غاسه ومن ثم 
الانحراف شمالاً في «فولفيبر غاسه؛. أي الشارع الأكبر» إذ أن أمّي ويان 
كانا يجلسان هناك؛ وإن لم يكنا هناك؛ فسيكونان في تشلر * شتراسه أو في 
الطريق إلى قهوتهم التركية المنعشة المنتصبة على طاولة المرمر 

لا أعرف كيف أنني عبرت كولنماركت حيث كانت عربات الترام تسير 
باستمرار» إما لتمرّ من البوابة» أو لتستدير مزمجرةً في المنعطف». وفي 
أبوابها تقرع الأجراس» مخترقةً كولنماركت و«هولتسماركت» في اتجاه 
المحطة الرئيسية. ربما كان أحد شرطة المرور أو أحد المشاة قد أخذ 
بيدي وقادني بعناية ليجنبني مخاطر السير. فوقفت أمام بناية برج الطوابق 
المنتصبة باستقامة في السماء» ثم حشرت بالصدفة» أو فعل الضجر الذي 
بدأ يجتاحني شيعا فشيكاء مضربي الطبل بين حجارة الجدار وإطار باب 
البرج المكسو بالحديد. وكلّما أرسلت بصري إلى الأعلى عبر الآجر 
وجدت صعوبة في أن أجعله يمرّ بمحاذاة الواجهة؛ لأن الحمائم كانت 
تحلق على الدوام منطلقةً من أركان الحيطان ونوافذ البرج؛ لتهجع بعض 
الوقت فوق خزانات الماء والأطراف الخارجة من البناء لتهبط الحيطان مرّة 
أخرى خاطفةٌ بصري معها. 

لقد أثارت حركات الحمائم امتعاضي؛ وشعرت بالندم على بصري» 
فسحيبته: واستخدمت مضربيٌ الطبل بمثابة رافعة» لكى أتخلّص من غيظى 
وامتعاضي» فطاوعني الباتء وأصبح أوسكار داخل البرتي؛ قبل أن يفتح 
بابه على مصراعيه؛ فطلع السلّم الحلزوني» مقدماً ساقه اليمنى» ساحبا 
وراءه ساقه اليسرى» ووصل إلى المعتقلات الأولى المسوّرة بالقضبان» 
صاعداً إلى الأعلى كالقلاووظ» مخلفاً غرف التعذيب وآلاتها المحفوظة 


1 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بعناية التي كتبت عليها كتابة توضيحية» ثم ألقى بنظرة ة وهو يواصل الصعود 
لقد أخذ يقدم الآن ساقه المرى» عاخا وراءها ساقه اليمنى دعر 
مشبكة بقضبان رفيعة» مقدراً الارتفاع» متحسساً متانة الجدار» مطارداً 
الحمام ليلتقي به من جديد في الدورة القادمة للسلّم الحلزوني» ثم قدّم 
قدمه اليمنى ليسحب وراءها يسراه» وحين وصل أوسكار إلى الأعلى بعد 
تعر تر ني للدم هذه الساق على تلك» بدا مستعدا لمواصلة الصعود 
على الرغم من أنه شعر بتثاقل في ساقيه؛ إلا أن السام اعهى على تين 
غرّة. لقد أدرك عبثية مبنى البرج وانعدام سلطته وعجزه. . إنني لم أكن أعلم 
في الحقيقة كم هو ارتفاع البرج؛ إة أنه كل اجتاك الحرب سالما؟ كما أنني 
من ناحية ثانية لم أجد رغبة في نفسي لأرجو من معيني برونو أن يوفر لي 
مرجعاً شاملاً حول المباني الألمانية الشرقية المشيدة بالآجر على الطراز 
القورطي. وحسب تقديري فإن ارتفاع البرج بلغ خمسة وأربعين متراً بالتمام 
والكمال. 
وبسبب السلّم الحلزوني المتعب اضطررت إلى التوقف في الرواق 
الذي طوّق البرج» فجلست وأخرجت ساقي من بين أعمدة الدرابزين» 
وانحنيت إلى الأمام لأنظر من خلال عمودء تشبثت به بيمناي» إلى 
كولشاركك .ينما مددت بيذي السار الخ ص سل الذي تل بع 
عناء الصعود. ْ ْ 
إنني لا أودّ أبداً أن أبعث الملل في أنفسكم من خلال وصف مشهد 
شامل مليء بالأبراج والنواقيس التي لا تكف عن القرع؛ مشهد مدينة 
غدانسك المهيب الذي ما زال يحمل أنفاس العصور الوسطىء مثلما 
يدعى. المشهد المحفور على آلاف اللوحاث المعدنية الجيدة» فأصفه من 
علو شاهق. لكنني في الوقت نفسه سأحجم عن ذكر أمر الحمائم» حتى 
لو قِيل عشرات المرّات وأعيد القول بأن المرء يستطيع الكتابة عن الحمام 
بشكل ممتاز. فالحمامة تبقى بالنسبة لي ليست بذات قيمة» بل أنني أرى 
التورين اكير أفي متها انامضطد (خنانة البنلام) كإنهويدو ان 
صحيحاً فقط باعتباره مصطلحاً مغلوطاً ومتناقضاً. فمن الممكن أن أحمّل 


زرا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الصقرء أو حتى الحدأة مفترسة الفطائس» رسالة سلام بدلاً من أن أضع 
ثقتي بحمامة مولعة بالشجار والمشاكسة أكثر من مستأجري السماء كلهم . 
ويمكن القول باختصار: إن هناك حمائمٌ فوق البرج. لكن الحمائم تتواجد 
عادةً فوق كل برج محترم يعتبر نفسه جديرا بهذه التسمية» بمعونة مرممه 
المسؤول عن حماية الآثار العمرانية القديمة. فوقع بصري على شيء آخر 
مختلف تماماً: وقع على مبنى المسرح البلديّ الذي وجذته مقفلاً أثناء 
مروري به قادماً من ممر تسويغهارس. كان البناء المريع ب يكشف من خلال 
قبته عن تشابه شيطاني مع مطحنة البنَ الكلاسيكية الضخمة الحجم بلا 
داع» على الرغم من أن عتلة الطحن كانت تعوز رأس القبّة تلك العتلة التي 
سيكون وجودها ضرورياًء لكى تهرس معبد آلهة الفنّ والثقافة» هذا الغاص 
بالمشاهدين كلّ مساءء ترس مسرحياته الدرامية ذات الفصول الخمسة 
بإيماءاتها وكواليسها وملقنيها ولوازم المسرح والستائر فتحيلها إلى خردة 
وحطام. كان هذا المبنى يثير اشمئزازي» كما أن شمس الأصيل الغاربة 
المصطبغة بالحمرة العميقة لم تكن راغبة مغادرة نوافذ بهواو المحاذية 
لأعمدته الرافعة . 

فتحولت في تلك الساعة وأنا أقف على ارتفاع ثلاثين متراً عن 
كولنماركت وعربات الترام والموظفين المبتهجين إثر مغادرتهم أعمالهم» 
ومحل ماركوس الرائع الذي يبيع الحاجيات الرخيصة وفوق طاولة المرمر 
مقهى فايتسكه» وفنجانيّ القهوة التركية» مرتفعاً فوق قامتيّ أمّي ويان 
برونسكي وبيتنا والباحة» بل الباعات والمسائير المعوجة والستقيمة 
وأطفال الجيران وحساء القرميد الذي طبخوه» تحوّلت» متخلياً عن ذلك 
كلّهء إلى صارخ بلا دافع أو إكراه» أنا الذي كنت قبل اعتلائي البرج موقفاً 
أصواتي الملحّة على بنية الأقداح وتكوينها وعلى باطن اللمبات كلما حاول 
أحد ما انتزع الطبل من يدي» صرخت من البرج إلى الأسفل دون أن يكون 
لطبلي علاقة بالأمر. 

لم يكن هناك أحد أراد انتزاع الطبل من أوسكار» لكنه صرخ» ليس 
لأن حمامة ذرقت على طبله» لكي تبتاع منه صرخة. كان ثمة صدأ علا 


١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


الألواح النحاسية بالقرب منهء لكنّْ لا أثرٌ للزجاج فيه؛ ومع ذلك فإن 
أوسكار أطلق صرخته. وكانت للحمائم أعين حمراء تلمع؛ لكن لم تكن 
هناك عين سحرية حملقت به» لكنه صرخ عاليا. ففي أي اتجاه صرخ» 
وأيّ بُعد أغراه؟ وهل أراد أن يستعرض هناء وبتصميمء ما حاول 
استعراضه بلا هدف أو خطة عبر باحات البنايات حين وقف على السطح 
بعد تذوقه لشوربة القرميد المهروس؟ وأيٍّ زجاج عنى أوسكار؟ وعلى أيٍّ 
نوع من الزجاج - إذ أن الزجاج وحده كان معنياً بالأمر - سيجري أوسكار 
تجاربه؟ 

كانت بناية المسرح البلديّء أي مطحنة البنّ الدرامية» هي التي أغرت 
أصواتي الجديدة المتكلفة التي جربتها فوق سطحناء فوجهتها نحو نوافذها 
المصطبغة بحمرة الشمس الغاربة. وبعد دقائق من الصراخ المتنوع الشحن 
والاحتقان والذي لم يسبب ضررا تمكنت من استخلاص صوت غير 
مسموع إلى حد ماء فأصبح بإمكان أوسكار أن يعلن بفرح وبفخر خائن 
غذار: لقد توجب على زجاجتين في الوسط من الجهة اليسرى لنوافذ البهو 
التخلي عن شمس الغروب» حتى بات يمكن التعرّف عليهما كمربعين 
سوداوين» يحتاجان إلى تركيب زجاج جديد على وجه السرعة. 

وكان لا بد من تأكيد النجاح» فعرضت نفسي كما يفعل الفنّان 
الحديث الذي عثر على أسلوبه بعد أعوام طويلة من البحث ومن خلال 
سلسلة أعمال عظيمة» اتسمت بالجرأة» وكانت ذات قيمة وحكم متساو 
غالبا أعمال جادت بها أصابعه المتدربة» فوهبها هديةً إلى العالم المصاب 
بالذهول . 

واستطعت خلال أقل من ربع ساعة إزالة الزجاج عن البهر وعن عدد 
من الأبواب» فاحتشد الناس أمام المسرح وقد بانت عليهم من الأعلى 
إمارات الانفعال. ثم صار الفضوليون ومحبو الاستطلاع يلتحقون بالحشد 
بلا انقطع. لكنني لم .أتأثر كثيراً بالمعجبين بفئي» بل إِنّهمء على أيّ حال» 
دفعوا بأوسكار ليعمل بدقة ومراعاة للشكل صارمتين. فتأهبت لتعرية أعماق 
الأشياء كلها بتجرية أشد جرأة من السابقة» مستعداً لإطلاق صرخة خاصة 


م١‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


تخترق البهو المفتوح مروراً بثقب مفتاح باب المقصورات وصولاً إلى قاعة 
المسرح المظلمة؛ صرخة تحط من كبرياء هواة المسرح المشتركين ونجفته 
ذات الملحقات المبهرجة الصقيلة العاكسة الضوء والكاسرة لهء وفي تلك 
اللحظة لمحت ثوباً بنيا داكناً وسط الحشد أمام المسرح: لقد عادت أمّي 
للتو من مقهى فايتسكه بعد أن احتست القهوة التركية؛ تاركة يان برونسكي 

يجب الاعتراف هنا بأن أوسكار قد أطلق صرخة أخرى فى اتجاه 
اليا المدرورة المتاعيةء غير أذاما تخله لم ركلل بلجا «العينن 
الصادرة في اليوم التالي لم تتحدث إلا عن التحطيم المجهول الأسباب 
والشديد الغموض الذي لحق بنوافذ البهو والباب. وبدأت الأبحاث 
والتحريات العلمية ونصف العلمية في الصفحات الأدبية للصحف اليومية 
تشيع طوال أسابيع ضرورياً في الهراء المليء بالخيال في أعمدة ضافية. 
فأشارت صحيفة «نويستن ناخرشتن» إلى وجود أشعة كونيّة في الأمرء 
وتحدث علماء المرصد الفلكي المحسوبين على رجال الفكر عن بقع 
شمسيّة. فهبطت حيئئذ السلّم الحلزوني للبرج بالسرعة التي سمحت بها 
ساقاي القصيران ووصلتء مقطوع النفس إلى حد ماء الحشدٌ المجتمع 
أمام بوّابة المسرح. لم أبصر فستان أمّي الخريفيّ البئي يشعّ في المكان» 
فلا بد أن تكون في دكان ماركوسء لتبلغه عن الأضرار التي أحدثها 
صوتي. وسيقوم ماركوس الذي كان ينظر إلى وضعي البدني المتخلف 
وإلى صوتى الماسى باعتبارهما من الظواهر والأحداث الطبيعية بتحريك 
طرف يانه ليحك به أبنتاك الصقراء اليشاء» مكلنا فكرت. 

وفي مدخل المحلّ رأيت مشهداً جعلني أنسى على الفور نجاح غنائي 
القصيّ المبيد للرزجاج»؛ رأيت ماركوس جائياً على ركبتيه أمام أمّي وقد 
بدت حيوانات القماش» من دببة وقرود وكلاب» وكذلك الدمى ذات 
الأجفان القابلة للانطباق» وعربات الإطفاء والحصن الهرّازة ومعها الدمى 
الصغيرة المشدودة بالخيوط التي كانت تحرس المحلء كأنها أرادت أن 
تجثو على ركبها معه أيضاً. كان يغطي بيديه يديّ أمّيء كاشفاً عن ظاهر 


١15 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


يديه اللتين علاهما شعر أشقر خفيف وبقع سمراء ويجهش في البكاء. 
وكانت أمّي تتطلع إليه بجديّة اقتضاها الموقف. ثم قالت: «كلاايا 
ماركوس» أرجوك» ليس في المحل». 

بيد أن ماركوس لم ينته من الموضوعء فبدت لي خطبته آنذاك 
مشحونة بنبرة حاسمة لا تنسى وإن شابتها المبالغة: «لا تفعلي هذا مع 
برونسكيء ما دام هو بالبريد» أيٍّ بالبريد البولندي» وهذا ما لا يبشر 
بخيرء وأقول لك ذلكء؛ لأنه مع البولنديين. فلا تضعي ثقتك بأهل بولنداء 
إذا كان لا بدّ من وضع الثقة» فضعيها بيد الألمان» لأنهم سيرتقون 
وينهضون. وإذا لم ينهضوا اليوم فغداًء وإذا لم ينهضوا أصلاء وأنتٍ ما 
زلت تثقين ببرونسكي . إذا كان لا بذ من ذلك فقي بماتسرات» فهو تحت 
يدك على الأقل. وإذا كان الأمر ملّح فثقي بماركوس الذي أمامك» والذي 
عمدوه قبل فترة. دعيئا نرحل إلى لندن» يا سيدة آغنس» عندي هناك 
معارف وأوراق رسمية كافية؛ إذا أردت طبعاً المجيء مع ماركرس» وإذا 
لم تحتقريه» فقد لأنك تحتقرينه. ماركوس يرجو من القلب أن تكفي عن 
برونسكي المخبول؛ لأنه باق في البريد البولندي الذي سينتهي أمره عاجلاً 
إذا جاء الألمان»! ١‏ 1 

وحين أوشكت الدموع أن تتساقط من مآفي أمّي من فرط الحيرة التي 
أوقعتها فيها تلك الإمكانيات والمستحيلات الكثيرة؛ لمحنى ماركوس واقفاً 
في ياب المحل + افرقع إحدى يديه من آم وأشار إن بأصابعة الشمسة 
الناطقة؛ ثم أضاف: «تفضليء هذا أيضاً 5-١‏ ويجب أذ يعيكن 
كالأمير في لندن» نعم كالأمير»! فرمقتني أمي أيضاً بنظرة ة فكادت تبتسم» 
لعلّها فكرت في نوافذ مسرح المدينة الخد وعة الزجاج» أو أن إمكانية 
الإقامة في العاصمة الكبرى لندن جعلتها منشرحة الصدر. غير أنهاء على 
الرغم من ذلك؛ هرّت رأسها رافضةً» مما أثار دهشتيء كما لو أنها 
رفضت طلب رجل دعاها للرقص» قائلة ببساطة: "أشكرك يا ماركوس» 
لكن ما طلبته لا يمكن أن يتحقق» نعم» إثة صعب قعلاً ب يسبن 
برونسكي». 


1١7 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


وقع اسع الخال بروتسكي على فاركوس :وفع الغيارة المقتضية 
الصارمة» فانتفض قائماً وانحنى تحية مثل انحناء المطواة في غمدهاء 
متذرعاً بالقول: «أرجوك اعذري ماركوس» كنت فكرت في أن الأمر 
مستحيل بسببه». وحالما خرجنا قفل البائع المحلّ من الخارج» مع أن 
وقت الإقفال لم يحن بعدء ورافقنا حتى محطة الترام المخصصة للخط 
رقم خمسة. كان ثمة عدد من المشاة مجتمعاً أمام المسرح البلديّ ومعه 
نفر من الشرطة. بيد أنني لم أشعر بالخوف». فضلاً عن أن نجاحاتي في 
مقارعة الزجاج لم تعد إلى حدّ ما حاضرة في ذهني . مال ماركوس نحوي 
وهمس كما لو أنه حدث نفسه أكثر مما كان مخاطباً لها: «ليس هناك شيء 
إلا ويقدر عليه هذا الأوسكار. يضرب الطبل فيخلق ضجّة أمام المسرح». 
ثم صار يلوّح بيديه ليهدأ من روح أمّي التي بانت على وجهها علامات 
القلق بسبب الشظايا التي تطايرت من نوافذ المسرح» وعندما قدم الترام 
ووضعنا أقدامنا على الدوّاسة» أسبّ لها خشية أن ينصت له أحدء هامسا 
بتوّسل ملحٌ: «أرجوك أبقي على ولائك لماتسرات» ولا تضعي ثقتك أبداً 
بالبولنديين». 

إذا ما عنّ لأوسكار اليوم وهو راقد» أو جالس» في سريره المعدني». 
لكنه قادر في كل وضع على التطبيل» أن يبحث عن ممر تسويغهاوس وعن 
الشخبطة على جدران معتقل البرج وعلى البرج نفسه وآلات تعذيبه 
المدهونة بالزيت وعن نوافذ بهو مسرح المدينة خلف الأعمدة الرخامية 
ومن ثم يعود إلى تسويغهاوسء ليفتش عن محل ماركوس» ويستعيد 
تفاصيل ذلك اليوم من أيام سبتمبرء فإن عليه في الوقت ذاته البحث عن 
بلغ البولنديين. فبماذا كان يفتش عنه؟ كان يفتش عنه بمضربي الطبل. 
وهل كان يبحث عن بلد البولنديين بروحه أيضاً؟ لقد فتش عنه بأعضائه 
كلهاء غير أن الروح ليس عضواً. كنت أبحث عن بلد البولنديين الذي ققد 
والذي لم يفقد بعدء أو بعبارة أخرى: الذي سيفقد قريبأء أو بالأحرى 
فُقدء مرّة أخرى. في الفترة الأخيرة بدأ البحث هنا عن بلد البولنديين 
بالقروض المصرفية وبكاميرا «لايكاة وبالبوصلة والرادار ومجسٌ البحث 


١74 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


7 الماء والوفود ومبادئ الإنسانية وقادة المعارضة وأزياء جمعيات الألمان 
المطرودين من ديارهم» تلك الأزياء التي قرضتها العنّة . 

وبينما كان المرء يبحث هنا بروحه عن بلد البولنديين ‏ حاملا شوبان 
فى نصف قلبه وفي النصف الآخر الحقد والانتقام .» وبينما كان المعنيون 
يلغون التقسيمات من أولها إلى رابعهاء مخططين لتقسيم بولندا للمرّة 
الخامسة» وبينما كانت طائرات الخطوط الجوية الفرنسية تحلّق في سماء 
وارسو لتهبط في مطارهاء وحيث كان الناس يضعون شمعةً في مجمّع 
الغيتو اليهودي الذي كان قائماً هناك زماناً» وفى الوقت الذي سيبحث فيه 
المرء عن بلد البولنديين بالصواريخ الني ستنطلق من هذه الأرض نفسهاء 
سأقوم أنا بالبحث عن بولندا في طبلي فأقرعه: لقد ضاعء ضاعء كلاء إنه 


اخريل 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المنضة 


بعدما حطمت بصوتي زجاج بهو مسرح مدينتنا أخذت أبحث عن 
اتصال بفنّ المسرحء فتمكنت من إقامته للمرّة الأولى. لا بدَّ أن تكون أمي 
قد لاحظت في ذلك المساء علاقتي المباشرة بالمسرح؛ على الرغم من 
المطالبات الملحّة لبائع اللعب ماركوس» فاشترت أثناء فترة أعياد الميلاد 
التي أعقبت ذلك أربع تذاكر لدخول المسرح» واحدة لها والأخرى لشتيفان 
وثالثة لمارغا برونسكيء, ورابعة لأوسكارء فأخذتنا ثلاثتنا في آخر يوم أحد 
قبل عيد الميلاد لمشاهدة حكايات عيد الميلاد. جلسنا فى مقاعد الدرجة 
الثانية» في الصف الأوّل. كانت الثريًا المغترة بنفسها ل في الصالحة» 
تفعل ما بوسعها أن تفعلهء فشعرت بالفرح لأنني لم أحطمها بغنائي من 
البرج . 

كان هناك الكثير من الأطفال, أكثر من الأمهات». يجلسون الصفوف 
المنحنية؛ بينما كانت نسبة الأطفال بالقياس إلى أمهاتهم في الصالة؛ حيث 
جلس الأثرياء الموسرين والناس الحذرون من الإنجاب» متعادلة إلى حدٌ 
ما. لكن الأطفال لا يستطيعون الجلوس بهدوء! فتزحزحت مارغا 
برونسكي التي جلست بيني وبين شتيفان المهذّب بعض الشيء»ء وسقطت 
من المقعد المنطبق» ثم حاولت أن تجلس ثانية» لكنها رأت أن من 
الأفضل لو تمرح وتقفز أمام الصف. وحصرت نفسها في المقعد المنطبق 
آليَأء فصرختء لكن بصوت متمل مقارنة بزعيق الأطفال الآخرين» ولفترة 
قصيرة؛ لأن أمّي حشرت قطعة حلوى في فمها الصغير الأخرق. فأخذت 
تمص إلى أن هدها التعب م كثرة التزحلق على المقعد فغفت شقيقة شتيفان 

١ 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


في وقت مبكرء أي بعد لحظات من بداية العرض» وتمّ إيقاظها حالما 
إنتهت المسرحية» لكي تصفقٌ» فساهمت بحيوية ونشاط في التصفيق. 

لقد عرضت مسرحية «القزم الذي يبلغ طوله طول الإبهام؛ تلك 
المسرحية التي سحرتني منذ أوّل مشهد وخاطبت مشاعري شخصياً بطبيعة 
الحال. كان الإخراج ينطوي على براعة؛ إذ لم يظهر «الإبهام»؛ على 
المنضّة قطء بل كان صوته وحده يُسمعء وكان الأشخاص البالغون 
يقفزون وراء بطل المسرحية غير المرئي» الشديد الحيوية؛ الذي جلس مرّة 
في أذن الحصانء قَبلَ أن يبيعه أبوه بثمن غال إلى صعلوكين» وأخذ يتنزه 
حول إطار قبعة أحدهماء متكلماً من ذلك العلوء ليزحف فيما بعد ويدخل 
في يعر اذاو ومن أت قي بدت كوكن + مطاف في عظدة بعلو وخ 
اللصوصء» فيسقط في التبن ويصل عبر التبن إلى معدة البقرة. فتُذبح 
البقرة؛ لأنها أصبحت تتكلم بصوته» لكن معدة البقرة انتقلت إلى القمامة 
ومعها البطل المعتقل» فابتلعها الذئب. غير أن «الإبهام» غرر بالذئب 
بكلمات فطنة حكيمة فقاده إلى بيت أبيه وإلى مخزن الأطعمة» حيث ضجٌّ 
«الإبهام» بالصخب بعدما أوشك الذئب على السرقة. كانت الخاتمة مثلما 
هي الخاتمة تمة عادةً في الحكايات الخرافية: إذ أجهز الأب على الذئب 
الشرير» وشرعت الأم تقطع بالمقصّ جسد المخلوق النهم الأكول» فخرج 
«الإبهام»: الذي بات صوته مسموعاً: «يا أبتاه! كنت في جحر فأر وبطن 
بقرة وكرش ذتئب: لكنني سأبقى الآن معكم». فتركت فيّ هذه الخاتمة أثراً 
بليغًء وحين رمقت أمّي بنظرة لاحظت أنها أخفت أنفها بمنديل؛: محولة 
العولين المسرعن إلى معايقة انيه حفن :تنا فقلتك آنا 

كانت أمّي تحبّ أن تبدو متأثرة» فصارت تحضنني بذراعيها خلال 
الأسابيع التي أعقبت المسرحية» لا سيما أثناء اسح ا 
وتقبلني ب لون تارة بدعابة وأخرى بحسرة : إبيهام. أ 
إبهامي الصغير. أ و: يا إبهامي البائس المسكين. 

وفي صيف العام الثالث والثلاثين أتبحت لي فرصة زيارة المسرح مرّة 

نية. لكن المشروع فشل إثر سوء فهم كنت أنا سببه؛ بيد أن الحدث ولّد 


١١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


في نفسى انطباعاً فيما بعد» ما زال تأثيره يرنَ في أعماقي ويتمايل؛ إذ إن 
ذلك بعدرة ف قاحرة تسويركة حيث عرضت أوبرا في الغابة» وحيث 
كانت موسيقى فاغئر تعزف صيفاً بعد آخرء متوددة للطبيعية في الهواء 
الطلق . 

وكانت أمّي في الواقع تهوى الأوبراء بينما كان ماتسرات يتثاقل حتى 
من التمثيليات الغنائية» وكان يان يتبع أمّي في ذوقهاء ويتحمّس للغناء 
المنفرد بمرافقة موسيقى الأوبرا؛ فكان على الرغم من مظهره الموسيقي 
متبلّد السمع تماماً فيما يتعلق بالأنغام الرقيقة. لكنه كان يعرف الإخوة 
فورمبلاء زملائه السابقين في مدرسة كارتهاوس المتوسطة؛ المقيمين في 
تسوبوت» حيث كانت أضواء المرسى ونافورات المياه التابعة للمصحة 
وللكازينو تقع تحت مسكنهم؛ وتستخدم للإضاءة أيضاً أثناء المهرجانات 
الخاص بأوبرا الغابة. 

كان الطريق إلى تسوبرت يمر بأوليفاء فكنا نمضي فترة الضحى في 
حديقة القصر حيث الأسماك المرجانية والإوز وحيث كانت أميّ تتجول 
مع يان برونسكي في «مغارة الهمس» الشهيرة؛ ومن ثمة الأسماك 
المرجانية والإوز التي تعمل مع المصور الفوتوغرافي يدا بيد. كان 
ماتسرات قدوضعني على كتفه أثناء التقاط الصورء فأسندت الطبل إلى 
مفرقه» فأصبحت الصورة تثير الضحك عموماً: حتى بعد أن لصقت فى 
الأبوى قم ووعنا الأسعاة الموعاتية والإوز ومعارة اليسسن» كن يوم 
الأحد لم يقتصر على حديقة القصرء بل تضمن القضبان الحديدية 
والركرب في الترام إلى غلتكاو ومن هناك إلى مصحة غلتكاو؛ حيث 
تناولنا طعام الغداء» في حين كان بحر البلطيق يدعو إلى الاستحمام بلا 
كلل» كأنه لا عمل آخر له سوى ذلك؛ إذ إن يوم الأحد قد حل في كل 
مكان. وعندما قادنا متنزه الشاطئ نحو تسوبوت» استقبلنا الأحد نفسه» 
فتوجب على ماتسرات أن يسدد بمفرده رسوم الدخول إلى مركز 
الاستجمام. واغتسلنا في حمّام الجنوب. لأنه؛ كما رُعم. كان فارغاً أكثر 

9 1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


؛ وأخذت أمّي بيدي إلى مقصورة النساءء ثم طلبت مني أن أظهر 
عارياً في حمّام العائلات» حين كانت تصبّ لحمها في لباس استحمام 
أصفر كالتبن» ففاض جسدها آنذاك على الجانبين. ولكي أقابل حمّام 
العائلات ذي العيون الألف مجرداً؛ فإنني وضعت الطبل على قضيبي» ثم 
البتلحت بطتي قوق رمال البحر» .غير راغب في تلبية ثذاء بحر البلطيق 
بالنزول إلى الماء» إنما حفظت عورتي في الرمل» متبعا سياسية النعامة. 
كان منظر ماتسرات ويان برونسكي بكرشيهما اللذين بان عليهما الشحم 
منظراً مضحكاًء يدعو إلى الرثاء بعض الشيء؛ لدرجة أنني شعرت بفرح 
عندما عاد بعض المستحمين إلى كابينان الاستحمام في الغروب ليدهنوا 
أجسامهم الملّوحة بالشمس بمرهم نيفياء ويرتدون ثيابهم المدنية 
المخصصة ليوم الأحد. 

وفي «قنديل البحر» تناولنا الكعك والقهوة. فطلبت أمّي قطعة كيك 
ثالثة من الكعكة الضخمة ذات الطوابق الخمسة» فاعترض ماتسرات» بينما 
بدأ يان موزعاً بين الموافقة والاعتراض» لكني أمّي أوصت على القطعة 
وأعطت ماتسرات لقمة منهاء وصارت تطعم يان؛ حتى أرضت رجليها 
معاء قبل أن تلتهم القطعة الشديدة الحلاوة ملعقةٌ بعد أخرى. 

فيا أيتها القشدة المقدسة» وأنت يا عصر الأحد الصاحي الغائم 
والمرشوش بالسكر الناعم! كان هناك نبلاء بولنديون يجلسون بنظارات 
زرقاء وأمامهم عصير الليمون المركز الذي لم يُمس بعد. وثمة سيّدات كنّ 
يعبئن بأظفارهن المطلية باللون البنفسجي» تاركات رائحة عباءات الفراء 
التي كنْ يستعرنها في حلول الموسم تهبّ عليناء تلك الرائحة التي تشبه 
رائحة مسحوق مكافحة العنّة. رأى ماتسرات في العباءات مبالغة وتكلف . 
لكن أمّي تمنت أن تستعير عباءة فرو مشابهة ولو لعصر واحد. ثم ادعى 
يان بأن ظاهرة السأم في أوساط النبلاء البولنديين بلغت في الوقت الحاضر 
مداها الأقصى. لدرجة أن المرء لم يعد يتحدث باللغة الفرنسية على الرغم 
من الديون المتراكمة» المتفاقمة» بل كان يتحدث باللغة البولندية كما يفعل 
المتكبرون النفاجون. 


١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


والمرء لا يستطيع البقاء جالساً في «قنديل البحر؟ ليتطلع بلا انقطاع 
إلى النبلاء البولنديين ذويّ النظارات الزرقاء والأظافر البنفسجية. فطالبت 
أمّي المتخمة بالكعك القيام بحركة ما. فاستقبلنا متنزه المصححّة» وتوجب 
علىّ أن أمتطى حماراًء وأكفٌ عن الحراك عدّة مرّات لغرض التصوير 
الفرترغرافن. م انك الأسماك المرجائية والآورت نوما إلى ذلك من 
عجائب الطبيعة ‏ وبعدها الأسماك والإوز من جديد والماء العذب الذي 
يجعل المرء ذا قيمة. 

والتقينا بالإخوة فورميلا بين أحراش الصنوبر المقصوصة وغير 
الهامسة؛ كما يُزعم» التقينا بفورميلا المسؤول عن إنارة الكازينو وفورميلا 
المعنيّ بإنارة أوبرا الغابة. فكان على الصغير منها أن يتخلص من نكاته 
التي تناهت إلى أذنيه أثناء عمله بالإنارة» وكان الأخ الأكبر يعرف النكات 
كلهاء ومع ذلك فإنه كان يضحك بحبّ أخويّ ضحكاً معدياً في المواضع 
الصحيحة» كاشفاً عن أسنانه الذهبية الأربعة» متفوقاً على أخيه بسنّ 
واحد. ذهب الجميع إلى «شبرنغر) لاحتساء عرق العرعر. وكانت حيّذت 
أمّي مشروب «كورفورست». ودعا الأخ الأصغر الكريم إلى تناول طعام 
العشاء في مطعم «الببغاء؛ متبرعا في الوقت ذاته بالتكات التي كان يستلها 
من مخزنه. هناك تعرفنا على توشل الذي كان يملك نصف تسوبرت» 
إشنافة إلى جوع هن أويرا القابة وحبين :دوز لالسيثما . فضلا عن أنه كان 
أيضاً رئيساً للإخوة فورميلاء ففرح جدًاً بتعرفه علينا مثلما فرحنا نحن 
بتعرفنا عليه. كان #توشل» يقلّبٍ بلا كلل خاتماً في إصبعه» إلا أنه لم يكن 
خاتماً سحرياً أو ملبياً للأماني والرغبات؛ إذ لم يحدث أي شيء غير 
مألوف» سوى أن توشل بدأ يروي لنا نكات» هي النكات ذاتها التى رواها 
فورميلاء لكنها كانت أكثر تعقيداً وإشكالاً؛ لأن أسنان توشك الذهبية 
كانت أقل من أسنان الأخوين. ومع ذلك ضحك الحاضرون على الطاولة 
جميعهم؛ لأن توشك هو الذي كان يروي النكات. فقد أنا وحدي 
تمسكت بالجديّة» محاولاً بملامحي الجامدة القضاءً على المُلّح والنوادر. 
فكم كانت القهقهات تشيع» حتى لو لم تكن صادقة» جوًاً من الارتياح» 


5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مثل الزجاج الخالص في نوافذ ركن التهام الطعام العائد إلى دارنا. بدا 
توشل ممتناء يروي النكات» ويوصي بالشراب الذهبي» ويقلب خاتمه 
بسعادة» فحدث حقّاً شيء ما. إذ دعانا توشل كلنا إلى أوبرا الغابة؛ لأنه 
كان يملك جزءاً منهاء لكنه لم يستطع مرافقتنا بسبب المواعيد إلخ» 
ويمكن أن نكتفي بالمقاعد التي سيحجزها لناء فالمقصورة منجدة» والطفل 
يستطيع النوم إذا شعر بالتعب» ثم دوّن بقلم جاف فضي كلمات توشليّة 
على بطاقات تحمل اسم توشل» من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه» 
كمأ قال وكان محمًّا في قوله. 

فما حدث يمكن إيجازه بعبارات قليلة؛؟ كان مساءً دافياً» وكانت أوبرا 
الغاية أجدبيية تماماً وعاصة بالمشاهدين : وقبل أن ندا أتى البعوضن» بيد أن 
البعوضة الأخيرة كانت تأتي متأخرة قليلاً دائماًء ارتأت أن من الوجاهة 
الإعلان عن قدومها بأزيز ماصٌ للدماء» ثم بدأت الأوبرا فعلاً والتي كانت 
عبارة عن أوبرا «الهولندي الطائر؛؛ فتسللت سفينة من الغابة» التي استمد 
منها اسم الأوبراء بحركة أوحت بالإثم والدنس أكثر مما أوحت بالقرصنة. 
وكان البحارة يغنون للأشجارهء أمّا أنا فقد هجعت على مقعد توشل» 
وعندما استيقظت ثانية كان البحارة يواصلون الغناء» أو جاء بحّارة جدد:يا 
قائد الدفة كن ساهراً. . . لكنني غرقت في النوم مرّة أخرى» شاعراً بالفرح 
في رقادي لأمّي كانت تتابع أوبرا «الهولندي» باهتمام» سارحة بخيالها كما 
لو أنها ركبت الأمواج الغامرة» وباتت تسحب أنفاسها ثم تزفرها على نحو 
فاغئريٌ. لم تلحظ بأن ماتسرات وصاحبها يان كانا يقطعان الأشجار 
المختلفة الأحجام بمنشار الشخير»ء وبأنني سقطت من جديد أيضاً من 
أصابع فاغنر» إلى أن استيقظت نهائياً؛ إذ إن امرأة ما كانت تقف وحيدةً 
تماماً وسط الغابة وتصرخ. كان شعرها أصفر وتصرخ؛ لأن عامل 
الإضاءة» ربما كان الأخ فورميلا الأصغرء قد خطف بصرها بالكشّاف 
الضوئي وضايقها: «كلا! يا ويلي»! و«من ذا الذي يفعل بي هذا؟» غير أنّ 
فورميلا الصغير الذي فعل بها ذلك لم يطفئ الكشَّاف الضوئي» فتحوّل 
صراخ المرأة الوحيدة التي لقبتها أمّي بالعازفة المنفردة إلى نحيب أزبد 


ه١1‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بغضب فضّيّ اللونء جعل أوراق أشجار الغابة في تسوبوت تذوي مبكرة» 
لكنه لم يصب الضوء الكشّاف لفورميلا ليقضي عليه. لقد فشل صوتها 
تحقيق ذلك على الرغم من موهبتهاء فكان على أوسكار أن يتدخل ويقع 
على مصدر الضوء فيقتل الكشّاف بصرخة بعيدة واحدة تكون حدتها 
الصوتية أدنى حتى من الإلحاح الهادئ للبعورض. ولم أكن تعمدت التماس 
الكهربائي ولا التعتيم أو الشرر المتطاير الذي أضرم النار في الغابة وأدّى 
إلى إصابة الناس بالذعرء الرغم من إخماده» ففقدت في الزحام والفوضى 
ليس أمّي والسيّدين اللذين أستفاقا بفظاظة» إنما طبلي أيضاً. 

حَمَلَ لقائي الثالث بالمسرح أمّي - التي ضمّت فاغنر» بعد أمسية 
أوبرا الغابة؛ إلى معزوفاتها على البيانو في البيت» إثر تحوير طفيف - 
حملها إلى التفكير في إدخالي إلى جو السيرك في ربيع العام الرابع 
والعشرين . 

أوسكار لا يريد الثرثرة هنا حول السيّدات الفضيّات المتأرجحات فوق 
عقلة السيرك أو حول نمور السيرك «بوش» وكلاب البحر البارعة؛ إذ أن 
أحداً لم يسقط من قبّة السيرك» ولم يتعرض أيٍّ مروّض حيوانات للعض . 
كذلك لم تفعل كلاب البحر سوى ما تدربت عليه: أي التفئنن بالكرات» 
لترمى لها أسماك الرنجة الحيّة. إنني أشكر السيرك لأنه أتاح لي التمتع 
بالعروض المخصصة للأطفال» وأتاح لي الفرصة المهمة في التعرّف على 
بيبرا» المهرج الموسيقي للسيرك الذي كان يعزف مقطوعة عطأ لإاتطاك 
1 في «شعبة الحيوانات»؛ بيئما وقف رجلا أمَي أمام قفص القرود 
متحملين الإهانة؛ واستعرضت هدفغ برونسكيء التي قدمت إلى السيرك 
بالصدفة؛ لولديها الأفراس الصغيرة الحجم. وحين تثاءب أحد الأسود في 
وجهي» تخليت عنه وأقبلت بتهور على بومة» فحاولت تثبيت بصري فيهاء 
إلا أنياء هى النسياء كفك بصرها فى خينق» فاتسل أوسكاز مدهولا 
متأثراًء .وقد سخنت أذناه وطعن في الصميم» منسحياً إلى غربات السكن 
البيضاء الزرقاء؛ إذ لم تكن هناك حيوانات؛ ما عدا بضع عنزات صغيرة 
مربوطة . 


١5 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


مرق بيبرا أمامي يتبختر بسروال ذي حمّالات وقبقاب» حاملاً جردل 
ماءء فتقاطعت نظراتنا بشكل خاطف. ومع ذلك استطعنا التعرف على 
بعضنا حال فطرح الجردل على الأرض» ومال برأسه الضخم إلى 
الجانب» ثم تقدم نحوي» فقدّرت أنه كان أطول مئّي بتسعة سنتمترات 

قال بصوت كالصرير: أنظر» أنظر! إن ذوي الأعوام الثلائة لا يريدون 
النمو هذه الأيام». 

ولآنتى لم أردٌ عليه؛ فإنه ازداد قرباً متي» ثم أضاف: (أنني أدعى 
بيبرا وانحدر مباشرة من صلب الأمير أويغن الذي كان أبوه لودفيغ الرابع 
عشرء وليس مجرد أي أمير من آل بورغوند» مثلما يزعم البعض». وبما 
أنني لذت بالصمت مرّة أخرى»؛ بادر بيبرا إلى القول: «لقد توقف نمويٌ 
في عيد ميلادي العاشر» متأخراً , بعض الشيء» على كل حال»! 

ولأنه تحدث بصراحة فقد قدمت نفسى» دون أن اختلق أصلاً ملفقاًء 
قائلاً ببساطة «أوسكار» . ش 

فأجاب : «قل يا عزيزي أوسكارء إنك بلغت الرابعة عشرة أو الخامسة 

عشرة أو ربما السادسة عشرة . فلا يعقل؛ حسبما د تقول» أن سنك تسعة 
أعوام ونصف العام؟) ثم طلب متي أن أقدر عمره؛ فخفضته عمداء فقال: 
"إنك مجامل فعلاء يا صديقي الفتى. خمسة وثلاثون عاماً؟ كان هذا 
ذفانا! سأحتفل فى أغسطس القادم بعيد ميلادي الثالث والخمسين» وبهذا 
المعنى فاق يمك أن أكون جدَاً لك:! فأبلغه أوسكار بعبارات رقيقة طيبة 
عن قدراته البهلوانية كمهرّج؛ ولقبه بالموسيقي البارع» وعرض أمامه قطعة 
فنيّة بفعل الشعور بالتفوق الذي استحوذ عليه» فآمنت بفعله ثلاثة مصابيح 
من مصابيح إضاءة السيرك فهتف بيبرا #برافو! برافيسيمو»!! وأراد إدخال 
أوسكار في السيرك الفور. 
| وأحياناً أشعر بالأسفء وإلى اليوم» لأنني رفضت عرضه. وكنت قد 
أبلغته آنذاك مبرراً رفضي: «هل تعلمء يا سيّد بيبراء أنني أحسب نفسي من 
جمهور المشاهدين» فأترك فتّي الصغير خفيّاء يزدهر بعيداً عن التصفيق» 
لأنني آخر من يمتنع عن التصفيق إعجاباً بفقراتك الفنيّة؛. فرفع السيّد بيبرا 


١7 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


سبابته المجعدة؛ وقال محذراً: «يا عزيزي أوسكارء أرجو أن تضع ثقتك 
بزميل خبير. فأمثالنا يجب أن لا ينضموا إلى الجمهورء إنما إلى المنصّة. 
إلى الحلبة. إن أمثالنا يجب أن يقدموا العروض ويحددون محتواهاء وإلا 
فستتم معاملتهم حسبما يشتهي الآخرون. والآخرون هناك سيؤذوننا جدّاً 
وعن طيب خاطر»! ثم همس في أذني كما لو أنه تسلل إليها: «إنهم 
سيأتون! سيحتلون أفضل المقاعد! سينظمون مسيرات المشاعل! سيقيمون 
المنصّات» سيشغلونهاء وسيعلئون نهايتنا من المنصّات. فكن حذرا يا 
صاحبي الفتي من ذاك الذي سيحدث فوق المنصّات! حاول أن تحتل 
موقعك عق السيطة: وآن الأ عقت أبذا آمايياك»! ثم التقط السيّد بيبرا 
جردله؛ إذ نودي باسمي. «سأبحث عنك» يا صديقي العزيز. سنرى 
بعضنا مرّة ثانية. فدحن أصغر من أن نفقد بعضنا. وبهذا الصدد فإن بيبرا 
يقول ويكرر القول: إِنّ الناس الصغار مثلنا سيجدون مكانهم على 
المنصّات حتى لو غصّت بالناس» فإذا لم نعثر على مكان فوق المنصة» 
فتحتهاء لكن ليس أمامهاء ولا بأي حال من الأحوال. هذا ما يقوله بيبرا 
الذي ينحدر مباشرة من صلب الأمير أويغن». 

ولمحت أمّي التي خرجت من وراء مقطورة سكن وهي تهتف 
باسمي» لمحت السيّد بيبرا في اللحظة الأخيرة عندما قبلني على جبيني 
والغطا جودلفة ماع لاني :سر ستطورة متعم الو 7 1 

و عا كا ل ا م «تصوروا! 
كان يقف بين الأقزام! رأيت يت بأم عيني القزم الخرافي وهو يقبله على جبينه . 
أتمنى أن لا تعني هذه القبلة شيئاً»! 

وقُدّر لتلك القبلة أن تعني لي: الكثير في المستقبل» ثم إِنْ الأحداث 
السياسية في الأعوام التي أغقيك ذلك أكدت صواب نظرته: فقد بدأت 
مسيرات المشاعل والاستعراضات أمام المنصّات. 

ومثلما التزمت باقتراحات السيّد بيبراء اتبعت أمّي جزءاً من النصائح 
التي أسداها لها زيغسموند ماركوس في ممر تسويغهاوس والتي سمعتها منه 
باستمرار خلال زيارات الخميس. وعلى الرغم من أنها لم ترحل إلى لندن 


١4 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


لم يكن لدي أدنى اعتراض على الانتقال إلى لندن ‏ فإنها بقيت بمعية 
ماتسرات» فلم تعد ترى يان بروتسكي إلا في أوقات مناسبة» هذا يعني أنّ 
اللقاءات كانت تتم في تشيلر شتراسه على حساب يان أو أثناء لعب ورق 
الشدّة مع العائلة» لعب الورق الذي بات» بمرور الأيّام» مكلفاً بالنسبة 
ليان؛ لأنه كان يخسر دائماً. أمَا ماتسرات التي وضعت أمّي ثقتها به» متبعةً 
نصيحة ماركوس» دون أن تضاعف من مقامرتها عليه» فقد انضمٌ إلى 
الحزب في العام الرابع والثلاثين» مدركاً في وقت مبكر نسبياً قوّة التنظيم» 
فتدرج إلى موقع مسؤول خليّة . وبمناسبة تلك الترقية التي اعتبرت سببا 
لاحتفال العائلة شأنها شأن المناسبات غير الاعتيادية» وجه ماتسرات 
تحذيراته التي طالما وجهها إلى يان برونسكي بسبب عمله الوظيفي في 
البريد البولندي» لكنه وجهها آنذاك بلهجة حادة لأوّل مرّة وبنبرة قلقة 
با 
وما عدا لك لم يتغير الكثير»ء فرفعت صورة بيتهوفن ن المتجهم الوجه 
من المسمار فوق بيانو الأمّ ووضعت محلها صورة هتلر العابس النظرة مثل 
بيتهوفن. لقد أراد ماتسرات الذي لم يكن يهوى الموسيقى الجديّة إبعاد 
الموسيقار الأصمّ من البيت كله . لكن أمّي التي كانت تحبّ الإيقاعات 
البطيئة لسوناتات بيتهوفن التي تمرنت على عزف اثنتين أو ثلاثِ منها على 
البيانو وبأسلوب أشدّ بطئاً من اللحن نفسه فتدعها تتقاطر بين الحين 
والآخرء أصرّت على تعليق بيتهوفن فوق البوفيه؛ إن تعذر وضعه فوق 
الأريكة. وبذلك حلت اشد المواجيات اكفيراراً وتديماً: فخلق هتلر 
والموسيقار العبقري قبالة بعضهما بعضاًء فصار أحدهما يتطلع في الآخره 
متفرساً فيه» سابراً أغواره» دون أن تنم ملامح أيّ منهما عن فرح أو 
ارتياح. وقطعة إثر قطعة اشترى ماتسرات القيافة الرسمية» فبد بدأء حسبما 
أتذكرء بطاقية الحزب المزودة بحزام العواصف المحتك بالحنك» والطاقية 
التي كان يرتديها حتى في الطقس المشمسء إلى جانب قمصان بيضاء 
ورباط أسودء أو بكر متي بشارة على الذراع. وعندما اشترى أوّل 
قميص بنيّ ابتاع بعده بأسبوع سرّوال الخيّالة الخاكيّ اللون والجزمة 


١.8 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


الطويلة. لكن أمّي اعترضت على ذلك» فاستغرق الأمر أسابيع طويلة 
ليكمل ماتسرات قيافته الرسمية. 

كانت تتاح الفرصة لارتداء القيافة الحزبية آنذاك مرّات عديدة في 
الأسبوع الواحد؛ لكنّ ماتسرات كان يكتفي بتجمعات يوم الأحد في 
حدائق مايو قرب قاعة الرياضة» حيث برهن على صموده الفولاذي أمام 
الطقس السيئع» فكان يرفض أن يحمل مظلة فوق البذلة الرسمية» وكنًا 
نسمع تعبيره الذي كان يتردد آنذاك والذي تحوّل إلى قول مأثور: «الخدمة 
هى الخدمة والخمر هو الخمرا! 

وأخذ يترك أمّي صباح كل أحدء بعدما يحضر شرائح لحم الغداء» 
بطبيعية الوضع السياسي لتلك الآحاد؛ كان يزور أمّي الوحيدة بثيابه ذات 
الطراز المدني الواضح» في الوقت الذي انخرط فيه ماتسرات في صفوف 
الحزب وطوابيره. وفما الذي بقي أمامي سوى الانسحاب بهدوء؟ إذ لم 
يكن في نيتي إزعاج الخليلين على الأريكة أو مراقبتهما. فكنت أهرع إلى 
التطبيل حالمأ يختفي والدي بقيافته الرسمية عن الأنظار» ويحين وقت 
قدوم الرجل المدني الذي كنت أسميه والدي المحتمل» خارجاً من البيت 
اي بحسي أو وار 
م ١‏ أيَام اسان بها انس لك أعقد ار على التخيران اذى القاية» 
ولم تكن «كنيسة ‏ قلب ‏ يسوع» تعني لي شيئاً. كان هناك في الواقع 
كشافو السيّد غريف, لكنني آثرت زحام حدائق مايو وضجيجها على 
الرغبات الجنسية المكبوتة لغريف وأصحابه» حتى لو حسبتموني تابعاً 
حزبياً. 

وكانت الخطبة تُلقى عادةً إِمَا من قبل غرايزر أو من قبل مدير تربية 
الإقليم لوبزاك. ولم يكن غرايزر قد لفت انتباهي من قبل أبداء إذ إنه كان 
شخصاً معتدلاً» داك استبدل فيما بعد بالبحّاثة 0 من وباثارها 


١66 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


حدبة لبات من الصعب على الرجل القادم من مدينة «فورت/أن يثبت أقدمه 
على رصيف الميناء الساحلي. كان الحزب قد رأى في حدبة لوبزاك علامة 
على الذكاء الخارق» فقدره حقٌ تقديره» وعينه مديراً لتربية الإقليم» فأظهر 
الرجل فهماً لوظيفته . وبينما كان فورستر يزعق بلكنة بافاريّة منفردة كلّ مرّة 
من جديد: «العودة إلى الرايخ»» آثر لوبزاك الدخول في التفاصيل» فكان 
يتحدث بلهجات دانسغ العامية كلهاء ويروي النكات عن «بولرمانة 
وافولوتسوتسكي»؛ عارفا كيف يخاطب عمال الميناء في شيشاو والشعبٌ 
فى أوهرا ومواطني «أيماوس» و«شدليتس» و«بورغرفيزن» واباوست». 
وكان له شأن مع الشيوعيين المبالغين في الجديّة والاجتهاد وكذلك مع 
هتافات الاشتراكيين الاجتماعيين الواهية المتراخية» فكان من الممتع تماما 
الاستماع إلى الرجل القصير الذي برزت حدبة بفعل القيافة البنيّة بروزا 
ادا . 

كان لوبزاك ساخراًء يستل نكاته من حدبته» ويسميها بالاسم؛ وكان 
هذا الأسلوت: يعجب الناين دائماً .. فادعن مره بأل كعك للتقصية بخديقه 
للحيلولة دون ارتفاع نجم الكومونة لشيوعية. وكان من المتوقع أنه سوف 
لا يفقد حدبته؛ إذ لا يجوز المسّ بالحدبة ولا حتى هرّها من موقعهاء 
وبنا على ذلك فإنه كان مصيباً مع الحزب» بحيث يمكن الاستنتاج بأن 
الحدبة مثّلت المبادئ الأساسية للفكرة الأيديولوجية. وإذا ما تكلم غرايزر 
أو لوبزاك من بعده أو فورستر؛ فإنهم كانوا يفعلون ذلك من المنصّة ذاتها 
التي امتدحني فوقها السيّد بيبرا القصير القامة. ولهذا السبب فإنني حسبت 
خطبب المنكة الكحدب المرهوتب» كلد أظهر ينه على المتمّة . ميعرنا 
شخصيّاً لبيبراء يناصر من على المنصّة» وبثيابه البنيّة» يناصر قضية بيبرا 
وكذلك قضيتى من حيث المبدأ. فكيف كانت المنصّة فى الحقيقة؟ بصرف 
النقلن عمق تصنيت اله النتفة ار آمائة فين لا يد أن كر وان شامتة, 
فكانت ميصّة خدائق مايو المتجاورة قافة الريافة متناسقة جذا مغلما أريذ 
لها. وعُلقت عليها من الأعلى إلى الأسفل ستة أعلام تحمل الصليب 
المعقوف إلى جوار بعضهاء وتبعتها رايات وبيارق مثبتة . إضافة إلى صف 


١6١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


طويل من قوّات الحرس القومي بثياب سوداء وأنطقةٍ تحت الأحناك» ثم 
صِفْين من قوّات الصاعقة الذين وضعوا أيديهم فوق الأحزمة الحربية أثناء 
الخطابات والأناشيد. وجلست صفوف عديدة من الرفاق الحزبيين ذوي 
القيافات الرسمية» واحتل البعض منهم المقاعد خلف منبر الخطابة» 
بالإضافة إلى قائدات المنظمات النسوية اللواتي بانت على وجوههن ملامح 
الأمومة؛ فضلاً عن ممثلي البرلمان بالثياب المدنية» وضيوف من الرايخ 
الألماني ورئيس الشرطة» أو نائبه . 

وقامت «شبيبة هتلرا بتجديد حيويّة قاعدة المنصّة» أو بعبارة أدق: 
مسيرة أبواق المناطق التابعة لتنظيم الفتيان وموكب فرقة الموسيقى 
العسكرية التابعة لشبيبة هتلر. في بعض التجمعات الحزبية العامة كان يتاح 
لجوقة إنشاد مختلطة». موزعة بانتظام على يمين المنصة وشمالهاء إطلاق 
الشعارات أو الغناء» احتفاءً بريح الشرق الحبيبة التي تصلح؛ حسب ما 
ورد في النصء» لتطوير أقمشة الأعلام والرايات وازدهارها أكثر من الرياح 
الأخرى كلها. 

لقد ذكر بيبرا أيضاً الذي قبلنى على جبيني: «يا أوسكارء تقف أبداً 
أمام السقة» لأن ابدالنا يجب أن بتتراعك الحطةة! واعياناً كنك أجد 
لنفسي مكاناً بين بعض قائدات التنظيم النسائي. وللأسف الشديد لم تتخل 
أولئك السيّدات أثناء الاجتماع عن مداعبتي والربت على رأسي لأغراض 
دعائية. كما أنني» وبسبب طبلي» لم أتمكن من دس نفسي بين النقّاريات 
الضخمة والأبواق والطبول؛ وكان أوسكار يرفض تطبيل المجندين المرتزقة 
وتبويقهم. وكذلك أخفقت محاولة قمت بها للتقرب من لوبزاك» مدير 
تربية الإقليم. كنت أخطأت الظنّ في الرجل» فهو لم يكن مبعوثاً لبيبرا 
مثلما تمنيت ولم يظهر أي تفهّم لحجمي الحقيقي على الرغم من حدبته 
الواعدة . 

وعندما تقدمت منه يوم أحد مخصص للمنصّات وأصبحت على 
مسافة قصيرة من منبر الخطابة» فحييته بتحية الحزب» ورمقته في البدء 
بنظرة خاطفة» ثم همست له وأنا أغمز بعيني: «إن بيبرا هو قائدنا»! فلم 


١6١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


تدم زوجه بالنور» بل ربت على رأسيء مثلما فعلت عضوات الحزب 
النازى؛ ولأنه أرار أن يلقى خطبة فقد أمر بإبعاد أوسكار عن المنصّة» 
حيث وضعتني قائدتان من «اتحاد الفتيات الألمانيات» في وسطهما وقامتا 
باتعدراني غن اناما وباناه طوال فترة الاجتماع . ١‏ 

فليس من العجب أن يخيب ظنّي بالحزب في صيف العام الرابع 
والثلاثين» دون أن يكون لانقلاب الجنرال «روهم» أي تأثير على ذلك. 
وكنت كلّما نظرت إلى المنصّة وأنا أقف أمامها بدا لي تناسقها مشبوهاًء 
ذلك التناسق الذي لم تخفف حدبة لوبزاك من حدته على نحو كاف. بلا 
ريب كان انتقادي موجهاً قبل كلّ شيء إلى الطبّالين ونافخيّ الأبواق. ففي 
أغسطس من العام الخامس والثلاثين وجدت نفسي في يوم أحد رطب 
خانق» خصص للاجتماع الحزبي العام» أشارك في استعراض المرتزقة 
وعازفي الأبواق عند قاعدة المنصّة. 

وكان ماتسرات خرج من البيت حوالي الساعة التاسعة. بعدما ساعدته 
في تلميع واقيات حذائه الجلدية البنيّة» لكي يغادر الدار في وقت مناسب. 
كان الجو ساخناً بشكل لا يطاق حتى فى تلك الساعة المبكرة» فكان 
ماتسرات ينضح بالعرق الذي اتسعت بقعة على الدوام تحت ردني قميصه 
الحزبي قبل أن يخرج إلى الخلاء. وفي الساعة التاسعة والنصف حضر يان 
نوز كي خرننها بالل ونيفية ليد" قاتة الأول وبح الأخديرا رقادي 
مفتوحاً من أعلى الرسغين وقبعةً من القشٌ . فأخذ يلعب معي دون أن يكف 
عن النظر إلى أمّي التي كانت قد غسلت شعرها مساء الأمس. وعلى عجل 
لاحظت بأن حضوري كان يقيّد حديثهما ويجعل تصرفاتهما متشنجة ويعيق 
حركات يان. بدا سروال يان الصيفي ضيقاًء فانسحبت من المكان لأقتفي 
آثان ماتسرات: دون أن أرى فيه قدوةً لي. كنت أتحاشى المرور بالشوارع 
الغاصة بأصحاب القيافات المتجهين نحو حدائق مايوء فاقتربت من ميدان 
التجمع؛ قادماً من ساحات لعب كرة المضرب المجاورة لقاعة الرياضة» 
ومديناً للمنظر الخلفي للمنصّة بالعثور على ذلك الطريق الملتوي. 

فهل رأيتم ذات مرّة منصّة من الخلف؟ يجب على الناس جميعاً - 


١07 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


وهذا مجرد اقتراح - أن يألفوا منظر المنصّة الخلفي» قبل أن يتم تجميعهم 
أمامها. كل من كان رأى المنصّة من الخلف فعلاً سيجدها ترتسم في 
مخيلته وسيكون محصئاً ضد أنواع السحر التي تصاغ بهذا الشكل أو ذاك 
على المنصّات. ويمكن أن ينطبق الأمر نفسه على المشاهد الخلفية 
للمذابح الكنسية» إلا أن هذا موضوع حديث آخر. 

ولم يكت أوسكار المولع بالدقة والإتقان برؤية السقالة الجرداء 
القببحة فى الحقيقة» متذكراً كلمات هعلمة بيبرا» فدسّ نفسه فى المنصّة 
المصممة للمشهد الأمامي وحدء متوغلاً مع طبله الذي لا يفارقه قطاء من 
الناحية الجافة المنظر بين الدعائم والعوارض» فارتطم بلوحة سقف 
خشبية» فجرح ركبته مسمار في اللوحة ناتئ خبيث» وسمع اصطفاف 
جزمات الرفاق الحربية» ومن بعدها أحذية الرفيقات» ثم تسلل أخيراً إلى 
أشدٌ المواضع سخونة بما يلائم شهر أغسطس/ آب: فعثر أمام القائمة 
الداخلية للمنضّة» خلف قطعة من الخشب الرقيق مكاناً وحماية كافيين 
السياسي؛ دون أن يشغل نفسه بالأعلام والرايات أو يشعر بالإهانة من رؤية 
أصحاب القيافات الرسمية. 

وقبعت تحت منبر الخطابة» ووقف على يميني وعلى شمالي ومن 
فوقي الطبّالون الصغار المنضوين تحت لواء «تنظيم الأحداث» وشبيبة 
الحشد الذي شممت راحته عبر فجوات العوارض الخشبية . فاجتمع الحشد 
حيث أصبح كل واحد يلامس الآخر بمرفقيه وبثياب يوم الأحد» وكان 
البعض من الناس قد جاء على الأقدام أو بالترام أو حضر القداس الكنسي 
الصباحي, إلا أنه لم يشعر بالارتياح بما فيه الكفاية» وثمة من جاء بخطيبته 
لكي يسليها بعض الشيء؛ فكان المرء يحب الاشتراك في التجمع العام 
حيث كان التاريخ يصنع حتى لو أدّى ذلك إلى تبديد وقت الضحى. 

وخاطب أوسكار نفسه بالقول: كلاء إنهم لا يمكن أن يأتوا هاهنا 
عبثا. ثم قرّب عينه من شق في الجذع الخشبي المستخدم دعامة. فللاحظ 


١6 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


الفوضى تضرب أطنابها في «هندنبورغ أليه». لقد جاءوا! فارتفع صوت 
الأوامر من فوقه؛ وكان رئيس فرقة الموسيقى العسكرية يلوح بصولجان 
الإيقاع والجوقة من ورائه تنفخ في الأبواق» مكيفةً نفسها حسب مباسم 
الآلات وتزفر في الصفيح الملمّع بالورنيش مصدرةً أصواتاً منفردة تليق 
بالمجندين المرتزقة» لدرجة أن أوسكار شعر بالألم فهتف في سرّه: «يا 
براند» يا رجل العاصفة المسكين» وأنت يا كفكس أيها الشاب الهتلري» 
لقد ذهب موتكما هباء؛! 

وكمالوأ ن أحداً ما أراد تأكيد الرئاء الذي قدمه أوسكار لضحايا 
الحركة القومية الألمانية اختلطت قرقعة مدويّة أحدثتها الطبول التى شدت 
صلر الند +الغعاطك بايرات الأنواق العداسية > والسفيهرت البحافة 
التي كانت تفصل بين صغي الحشد مؤدية إلى المنضّة؛ قدومٌ المتلفعين 
بالقيافات العسكرية» فطفق أوسكار يهتفف: «والآن يا شعبي انتبه» انتبه يا 
شعبي»! 

. كان الطبل يرتخي إلى جانبي على نحو مثالي. فطوحت بالمضربين 
بخفة سماوية ثم ضبطت على الطبل إيقاع رقصة الفالس المرحة التي كنت 
أرفع من حدتها بإلحاح؛ مستحضراً مدينة فيينا ونهر الدانوب» إلى أن 
أثرت إعجاب الصفّين الأوّل والثاني من صفوف المرتزقة الطبّالين برقصة 
الفالس» لكن الفتيان الكبار المطلبين بسطحية بالغة استقبلوا إيقاعات لحني 
باستحسان بهذا القدر أو ذاك. وبين أولئك كان قبة قرفن تمصي 
القساة الذين لا يتمتعرن بحس سمعي فأصرّوا على «البم بم» والبميميم»» 
بيئما كنت أنقر إيقع الفالس المحبوب من قبل الشعب. وحين كاد اليأس 
صرب إلى ننس أوسكار الطلق بصيص من الضوء من الفريه الجوسيتة 
فعزف أصحاب المزاميرء بحق الدانوب» عزفا سماوياً. ما عدا قائد فرقة 
الموسيقى العسكرية وقائد جوقة المرتزقة م ا 0 
الفالس» فزعقا مصدرين أوامرهما المزعجة, بيد أ: نني ألغيتها بحيث لم تبق 
هناك سوى موسيقاي. فقابلين الشعب بالشكر والامتنان» وتطناميت 
قهقهات الضاحكين أمام المنصّة» وصار البعض يردد اللحن» يا نهر 


هه١‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الدانوب» فانتشر في أرجاء المكان كلّهء أزرق سماوياًء وامتد إلى 
هندنبورغ أليه؛ هكذا أزرق رائعاً حتى وصل إلى متنزه شتيفن» فصار 
إيقاعي يثبٌ ويزداد قوةٌ بفعل صوت المكبرات المفتوحة إلى مداها الأقصى 
فوق رأسي. وحين تطلعت بعين مرهفة إلى الفضاء الخارجي» مواصلاً 
التطبيل بنشاطء لمحت الشعب منغمرا بالفالس يبهجة؛ ويحجل منفعلاء 
ملتزماً بالإيقاع : فتشكل تسعة أزواج وتبعهم زوج آخر وأخذوا يرقصون معاً 
بفضل ملك الفالس. إلا لوبزاك الذي كان يغلي وسط مسؤوليّ الضواحي 
وقادة قوات الصاعقة وفورستر وغرايزر ورواشننغ ورهط طويل من أركان 
الحرب النازيين؟ لوبزاك الذي كان على الجادة أن تنغلق أمامه على هيئة 
منصّة لم يعجبه إيقاع الفالس» مما أثار دهشتي حمّاً. فكان معتاداً على أن 
يُرشد إلى المنصّة بمرافقة الموسيقى العسكرية الموحدة الإيقاع» غير أن 
هذه النغمات التلقائية انتزعت منه آنذاك ثقته بالشعب. كنت أبصرت معاناته 
وعذابه من خلال فجوة اللوح الخشبي» حتى أحسست بتيار هواء مرق من 
الفجوة. وعلى الرغم من أن عيني كادت تصاب بالالتهاب» فإنه أثار 
شفقتى» فاستبدلت الفالس برقصة الشارلستون» فنقرت 11865 ع2 لإمتتطال 
على الطبل» آنياً بالإيقاع ذاته الذي عزفه المهرّج بيبرا في حلبة السيرك على 
زجاجات ماء فارغة» غير أن الشباب الواقفين أمام المنصّة لم يفهموا 
الشارلستون؛ لأنهم كانوا ينتمون بلا شك إلى جبل آخرء ولذلك لم تكن 
لهم معرفة بالشارلستون أو بمعزوفة 11 عط لإتسساط فلم يعزفوا جيمي 
وتايغر ‏ آه يا صديقي الطيب بيبرا -! بل نقروا بلا نظام أو ترتيب» فنفخوا 
الأبواق مستحضرين سدوم وعمورة. لقد فكر عازفو المزامير في أن 
الحجل كالقفزء وأخذ قائد الفرقة الموسيقية يكيل الشتائم كيف ما اتفق. 
ومع ذلك فإن شباب جوقة المرتزقة والفرقة العسكرية؛ كانوا يطبّلون 
ويزمرون وينفخون الأبواق بسرعة جنونية» إذ إن جيمي تحوّل إلى متعة 
وبهجة فى منتصف أغسطس» حتى أدرك رفاق الشعب المحتشدون آلافاً 
مؤلفةٌ أمام المنصّة بأن مع11 56 لإسسزة: هو الذي دعا الشعب إلى 
رقصة الشارلستون! 


1١65 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


فبادر كلّ من لم يدخل بعد حلبةٌ الرقص في حدائق مايو إلى طلب 
عر سيّدة حاضرة يومها ليراقصها؛ ما عدا لوبزاك وحده الذي ظل يراقص 
حدبته؛ لأن كلّ من ارتدت فستان امرأة من حولهء فضلاً عن سيّدات 
التنظيم النسائي اللواتي كان حريٌ بهن مساعدته؛ ابتعدن عن لوبزاك 
المنعزل الوحيد؛ فجلسن على مصاطب المنصّة الخشبية الصلبة» لكنه 
واصل الرقص وحده؛ امتثالاً لمشورة حدبته» مستمراً على مضض موسيقى 
جيمى» محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه. 

لكن لم يعد هناك في الواقع ما يمكن إنقاذه» والشعب ظلّ يرقص 
على حدائق مايو ويدوس الحشائش التي لم تزل خضراء خالية. ثم اختفى 
الشعب برفقة 1188 86) '(1512 في أركان متنزه شتيفن»؛ حيث قدمت 
الأحراش التي وعد بها جيمي» والتي سارت إليها النمور على أقدام من 
القطيفة» غابةٌ متشابكة الأشجار كتعويض» ليجتمع فيها الشعب الذي ما 
زال يتدافع فوق الحشائش» فاختلط الحابل بالنابل. وكل من أحبّ الثقافة 
كان بإمكانه الاستماع إلى موسيقاي في ممتنزه هندنبورغ أليه الذي عُرست 
أشجاره في القرن الثامن عشرء ثم اجتثت إبّان الحصار الذي فرضته قوّات 
نابليون في العام /1801» ثم أعيد غرسها من جديد في 18٠١١‏ تكريماً 
لنابليون واحتفاءً به؛؟ فقد أتحت للراقصين فرصة الاستمتاع بموسيقاي على 
الأرض التاريخية في هندنبورغ أليهء لأن المكبرات الصوتية لم تقفل ولأن 
الناس كانوا يسمعونني حتى بوابة أوليفر» ولم ترتخ قبضتاي إلى أن 
تمكنت» بمعونة الشبان المجتمعين عند قائمة المنصّة» من إخلاء حدائق 
مايوء فما فيها زهور الحشائش الصغيرة؛ وذلك بفضل نمر جيمي 
المنفلت . 

وحتى بعدما ضنيّت على طبلي بالراحة التي استحقها فإن شبّان 
التطبيل لم يعثروا على نهاية لمرحهم» فانصرف وقت طويل قبل أن يبدأ 
تأثيري الموسيقي يتلاشى رويداً رويداً. وبقي أن أذكر أو أوسكار لم 
يستطع في الحال مغادرة وكره تحت المنصّة» لأن مبعوثي قوّات الصاعقة 
وفرقة الحرس النازي دبكوا بجزماتهم فوق الألواح الخشبية طوال ساعة» 


/ا6 1١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وتمزق لباسهم الأسود البئّي على شكل مثلثات صغيرة» وفتشوا قليلاً في 
هيكل المنصّة» لعلهم يعثرون على عضو «اشتراكي اجتماعي» أو أحد 
أعضاء «الكومونة». ودون أن أعدد حيل أوسكار ومناوراته التمويهية فإنني 
سأكتفي في هذا المجال بالتأكيد على أنهم» لم يتمكنوا من القبفى على 
أوسكارء لأنهم لم يكنوا آهلين له. 

أخيراً عمّ الهدوء في متاهة الخشب التي كان حجمها بحجم الحوت 
التي أقام يونس في بطنها حتى تشبّع بالزيت. كلا ثم كلا؛ إن أوسكار لم 
يكن نبيّاًء لذلك شعر بالجوع! ولم يكن هناك رب يأمر: «جهّز نفسك 
وارتحل إلى مدينة نينوى الكبرى وعظ الناس ضدها»! فالرب لا يحتاج أن 
ينبت لي شجرة خروع» لتنخرها الديدان فيما بعد بأمر من الربٌ. إنني لا 
أنوح على الخروع التوراتي والإنجيلي أو على نينوى حتى لو كان اسمها 
غدانسك. فأخفيت طبلي الذي لم يكن توراتياً ولا إنجيلياً تحت بلوزتي 
والشغلك بننسى» :متحررا من احشاء المعصّة المخضفة لنكواف 
التجمعات؛ التي كان لها بالصدفة المحض شكل الحوت التي ابتلعت 
النبي؛ فغادرتها دون أن أصطدم بالمسامير. 

فمن ذا الذي كان ينتبه إلى صبيّ صغير يصفر ويجر خطهه بتثاقل من 
له ثلائة أعوام سائراً في أطراف الحذائق في التساة قاعة الرياضة؟ كان 
أصحابي الفتيان يقفزون قبالة المنصّة مشرعين طنابيرهم وطبولهم المسطحة 
ومزاميرهم وأبواقهم. وكمن يقوم بتدريب إضافي لاحظت أولئك الذين 
كانوا يتقافزون بتواضع على صفارة مسؤول منطقتهم» فتأسفت عليهم. 
انفرد لوبزاك بحدبته الوحيدة عن أركان قيادته المحتشدين يخطو جيئة 
وذهاباً. فنجح في هرس الحشائش والزهور الصغيرة كلها عند نقاط 
رجوعه من مساره القصير الشديد الاستقامة؛ إذ إنه كان يستدير يكعب 
جزمته الطويلة . 

عندما عاد أوسكار إلى الدار كان طعام الغداء جاهزاً فوق الطاولة: 
لحم مفروم وبطاطس مقشره ومملحة وكرئب أحمر ومحلبية الشيكولاتة 
بالفانيلا كتحلية. لم ينطق ماتسرات بحرف واحدء وقد نأت أمّ أوسكار 


١4 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


بأفكارها إلى نواح بعيدة أثناء تناول الطعام. لكن في فترة العصر حدث 
فجار غائلي بسبب الغيرة والبريد البولتدي. وفي المساء قذمت الرعود 
الرطبة المصحوبة بهطول الأمطار وانهمار البرد الرائع التطبيل عرضاً 
كفا وآن لصفيح أوسكار المتعب أن يستريح ويصيخ السمع. 


1١4 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


واجهات العرض 


تمكنت فترةً طويلة» أو بعبارة أدقٌء ابتداءة من نوفمبر/ تشرين الثاني 
من العام الثامن والثلائين» تمكنت بهذا القدر أو ذاك» ومثلما راقبت 
ذلك؛ من تخريب الاجتماعات وجعل الخطباء يتلعثمون؛ كما نجحت في 
تحويل الموسيقى العسكرية والتراتيل التي كانت تؤديها جوقات المنشدين 
إلى موسيقى رقصة الفالس والفوكس تروت. واليوم فإنني اتخذت المسافة 
اللازمة حمّاً للتطبيل تحت المنصّات» حيث أصبحت نزيلاً على حسابى 
الخاص في إحدى مصحات الأمراض العقلية والنفسية» بعد أن انتشعال 
كل شيء إلى تاريخ وإلى حديد بارد لا يستوجب الطرق حتى وإن بدت 
تلك الأشياء تثير الهمة والحماس. الآن ليس في نيتي قط أن أرى في 
نفسى مناضلاً ضد النازية؛ لأننى قدمت بتخريب بضعة تجمعات حزبية 
وإرباك قلات أو أريع عسيوات تمبوية طارئة» بفغال: طبلي». لقذ تعوّلت 
عبارة مناضل في المقاومة إلى موضة رائجة. بل كان من يرى في المقاومة 
أمراً شخصياً داخلياًء اصطلح عليه بالهجرة الداخلية. ناهيك عن الرجال 
الأفاضل المتبحرين في الكتاب المقدس الذين أجبروا دفع غرامة نقدية 
فرضها مرصف الحماية الجوية؛ لأنهم غفلوا عن تعتيم شبابيك غرف 
نومهم إِبَان الحرب العالمية الثانية فباتوا يطلقون على أنفسهم لقب رجال 
المقاومة ومناضليهم . 

١‏ 0 فهل جرب 
أوسكار التطبيل بحضور أولئك؟ وهل أخذ زمام الادرة ندى: عمل 
بنصيحة معلمه بيبراء فدفع الشعب إلى الرقص أمام المنصّة؟ وهل أفسد 


لل 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


حلة لوبزاك مدير الإقليم» الرجل المحنّك» السريع البديهية؟ وهل قام 
00 تجمعات النازيين ذات أحد من آحاد أغسطس / آب من العام الهامس 
والثلاثين» روكت وراك كيد وها يما بطبله ذي اللونين الأبيض 
والأحمر والذي لم يكن في الواقع طبلا بولندياً؟ 

لقد فعلت تلك الأشياء كلّهاء ولا بِدَّ أن تقرّوا بذلك. فهل أصبح أناء 
نزيل المصحّة» رجل مقاومة لهذا السبب؟ يجب أن أجيب بالنفي على هذا 
السؤال» راجياً منكمء أنتم يا من لم تقيموا في مصحّة الأمراض العقلية» 
أن تنظروا إليّ باعتباري لست سوى إنسان انفراديٌ التصرّف بعض الشيء» 
إنسان رافض للون القيافات العسكرية وطرازها بإيقاعٍ الموسيقى المألوفة 
وضكيها فرق النتعات» لأسباب خاضة وجفالية ايضاء التزاماً بتحديرات 
المعلم بيبراء فأعلن عن رفضه بالتطبيل على لعبة أطفال ليس إلا. 

آنذاك كان من الممكن استمالة الناس من فوق المنصّات وأمامها عبر 
طبلة صفيح بائسة» ويجب الإقرار بأنني أوصلت حيلي الفنيّة إلى حد 
الإتقان المطلق» تماما مثلما فعلت بصوتي المحطم للزجاج عن بعد. إنني 
لم أطبّل ضد التجمعات النازية وحدهاء إنما ثنى أوسكار ركبته تحت 
المنصّة للتطبيل ضد الحمر والسود والكشّافة وأصحاب القمصان الخضر 
جماعة وشهود يهوى واتحاد «كيفهويزر والنباتيين وعصبة بولندا الفتاة 
وحركة الهواء النقي. ومهما أنشدوا ونفخوا وصلَوا وأعلنوا عن شيء ما؛ 
فإن طبلي كان يفعل ذلك أفضل منهم . 

فكان عملي إذا عملاً تخريبياء فمن لم أنله بطبلي كنت أقضي عليه 
بصوتي. لقد بدأت بالنشاط الليلى إلى جانب تلك الممارسات الموجهة 
ضد المنضّات الانتظامية في وضح النهار: فلعبت دور الشيطان الموسوس 
في شتاء العام السادس - والسابع والثلاثين. استلمت أولى الإرشادات في 
إغواء الناس من جدتي كولياجك التي افتتحت في ذلك الشتاء القاسي 
بسطةٌ صغيرة في السوق الأسبوعي في ضاحية لانغفورء وذلك يعني أنها: 
ابعث بأثرابها الأروية وراء لرسة مظنة تارك جتان نوت 111 3 


15١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


عارضةً للأعياد «البيض الطازج والزبد الأصفر كالذهب والبط الذي لا هو 
بالسمين ولا بالضعيف»! 

كان السوق يقام كل ثلاثاء» فكانت الجدة تأتي بالترام الصغير من 
فيرأك» ثم تخلع نعلها المصنوع من اللبّاد قبل الوصول إلى لانغفور لتركب 
القطارء فتنزل بخفين مفلطحين» متمايلة بسلتيهاء باحئة عن بسطها في 
شارع المحطة» تلك البسطة العي حخطت عليها رقعة: آنا كولياجك؛ 
بيساو. كما كان البيض زهيد الثمن آنذاك! كان المرء يدفع «غولداً» واحداً 
ثمناً للبطة؛ بينما كان سعر الزبد الكاشوبي أرخص من السمن النباتي . 
كانت جدتي تتريع بين بائعتي أسماك» تهتفان «سمك مفلطح» واسمك 
القد؛! حيث كان الصقيع يحول الزبد إلى حجر ويحافظ على البيض 
طازجاً ويشحذ أصداف الأسماك حتى تستحيل إلى شفرات حلاقة مرهفة» 
ويقدم وظيفة وأجراً لرجل أعور يدعى «شفيرتفيغر» كان يسحُن حجر الآجر 
الأحمر على موقد فحم مفتوح» ثم يلفها في ورق جرائد ويؤجرها للنساء. 

كانت جدتي قد اتفقت مع شفيرتفيغر على أن يدس حجراً أحمر 
ساخناً تحت أثوابها الأربعة كلّ ساعة. وكان شفيرتفيغر يفعل ذلك بسيخ 
من حديدء فيدفع الطرد المبخر تحت القماش الذي لا يكاد يرتفع» ثم 
يقوم بحركة تفريغ تتبعها حركة تحميل؛ فيدس بسيخه الحجرّ الذي أوشك, 
أن يبرد أثواب جدتي . ١‏ 

كم كنت أشعر بالحسد إزاء الآجر الملفوف بأوراق الجرائد» الآجر, 
المشبع بالحرارة»؛ المانح للدفء! وما زلت إلى اليوم أتمنى لو أنني كنت 
حجراً دافثاً دائم البقاء تحت أثواب جدتي. فلعلّكم تسألون ما الذي كان 
يبحث عنه أوسكار تحت أثواب جدّته؟ فهل أراد تقليد جدّه كولياجك, 
ليفعل ما فعله بالمرأة العجوز؟ أم أنه كان يبحث عن النسيان وعن الوطن 
والسعادة الذاتية القصوى؟ فيجيب أوسكار بالقول: إننى كنت أبحث عن 
افريك] سف الكبانب» أ قانولن بالأحرى الف لا رد آنا ركرة العرن قد 
شاهدهاء حيث الأنهار تجري ييا مع خط تقسيم المياه» والرياح 
الشديدة الخصوصية تهبّء وتهجع أيضاًء والمطر ينهمر فيرتخي المرء في, 


157 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ركان جاف» والسفن ترسو أو ترفع المرساة» وحيث يجلس الربٌ العزيز 
إلى جانب أوسكارء الربّ المستمتع بالدفء منذ أبد الآبدين» وحيث 
نظف الشيطان التلسكوب الخاص بهء وتلعب الملائكة لعبة «البقرة 
العمياء4 فتحت كباب جدتي كان صيفاً دائماً حتى لر كانت الشموع متوقدةٌ 
فوق شجرة عيد الميلاد. ولم يكن هناك مكان آخر يمكن أن أعيش فيه 
حسب التقويم اليومي مثل المكان الواقع تحت أثواب جدتي. 

إلا أنها لم تدعني أنعم بالراحة والطمأنينة تحتها في السوق الأسبوعي 
إلا نادرًء فكنت أقبع على صندوق إلى جانبهاء وأستعيض بدفء ذراعها 
فأرى كيف كانت الآجر يأتي ويذهبء تاركاً لجدتي فرصة تعليمي حيلة 
الوقيعة والإغراء. لقد رمت جدتي محفظة فنسنت برونسكي العتيقة» بعد 
أن ربطتها بخيط» على الجليد الموحل فوق الرصيف الذي وسخه عمال 
رش الرمال لدرجة أن أحداً آخر سوى جدتي وسواي لم يكن قادراً على 
العدور عليها ثانية . فكانت :زات البيت تانين ويذهيق ذون أن يشترى شيا 
على الرغم من الأسعار كانت زهيدة للغاية» ولعلهن كن يرغبن في أن 
تهدى لهن البضاعة مجاناًء بل كن يطمعن في الحصول على أكثر من 
ذلك, مثل تلك السيّدة التى انحنت لتلقط محفظة نقود فنسنت المرمية على 
الأرقن» فلاضيت جلك المعلظة» يد آنا عدي نارضت إلى حذب الخيط 
زمعه المزأة المطرفة الى وقعك فن اضطراب+» تأرضلت السمكة ذات 
الثياب الفاخخرة إلى طرق المعدوق وخاطنها بلطف : «نعم؛ يا سيّدتي» 
قليل من الزبد؟ من فضلك؟ أصفر مثل الذهب أو بضع بيضات» وهل 
اللوز بغولدن واحد؟» وعلى هذا المنوال كانت آنا كولياجك تبيع منتجاتها 
الطبيعية» فاستوعبت سحر الغواية» لكن ليس تلك الغواية التي استخدمها 
الصبيان المشاكسون ذوو الأربعة عشر عاماً لاستدراج زوزي كاتر إلى القبو 
ليلعبوا معها لعبة الطبيب والمريض. فذلك لم يستطع إغرائي» بل تنصلت 
عنه؛ء بعد أن جعلني أطفال الجيران في البناية الكبيرة ذاتها مريضاً وزوزي 
كاتر طبيبة» فتبرع أكسل ميشكه ونوجي أيكه بأمصال الدم» فكان عليّ أن 
ابتلع الدواء الذي لم يكن رملياً مثل حساء القرميدء بيد أن طعمه كان مثل 


1١77 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


طعم السمك الفاسد؛ لقد كانت غوايتي بلا جسد نوعاً ما فاحتفظت بمسافة 
فاصلة بينها وبين شركائها. 

كنت أفلت أحياناً من أمّي وماتسرات بعد حلول الظلام» أي بعد 
ساعة أو ساعتين على إقفال المحلات» فأقف بمفردي فى مواجهة ليل 
الشتاء. وفي الشوارع الساكنة الخالية من الئاس إلى حدّ ما كنت أراقب من 
مدخل البيوت الواقية من الريح واجهات المتاجر في الجهة المقابلة التي 
كانت تعرض الأطعمة الفاخحرة ولوازم الخياطة والحياكة والأحذية 
والساعات والمجوهرات وكل ما هو سهل الاستعمال ومرغوب فيه. ولم 
تكن واجهات العرض مضاءة كلّهاء حتى أنني آثرت المتاجر البعيدة على 
مصابيح الشوارع» تلك المتاجر التي عرضت بضاعتها في شبه العتمة» 
فالضوء كان يجذب إليه المشاة الاعتياديين فى حين شبه الظلام لم يكن 
يستوقف إلا المختارين من الناس . 

ولم يتوقف الأمر بالنسبة لي على الناس الذين كانوا يلقون نظرة عابرة 
أثناء السير على الوجهات الساطعة الإنارة» نظرة تستهدف قطعة الأسعار 
أكثر من البضاعة ذاتهاء أولئك الذين كانوا يتوصلون من خلال انعكاس 
الواجهة الزجاجية إلى أنّ هذه القطعة المعروضة ستكون مناسبة من حيث 
الحجم . فالزبائن الذين كنت انتظرهم في البرد الساكن الجاف بعد انهمار 
ندف الثلج الكبيرة» أو أثناء هطول الثلج الكثيف الصامت» أو تحت القمر 
الذي كان حجمه يتسع بفعل الصقيع؛ هم أولئك الزبائن الذين كانوا يقفون 
أمام واجهات المحلات كمن نودي عليه بالتوقف» فلا يبحثون كثيراً في 
الراجهات؛ إنما تستقر أبصارهم بعد برهة قصيرة أو مباشرة على بضاعة 
بعينها. وكانت مهمتي تشبه مهمة الصيّادء فبدا الأمر بحاجة إلى صبر 
ورباطة جأش وإلى عين واثقة حرّة. بعدما تتوفر هذه المقدمات الضرورية؛ 
فإن صوتي يكون قادراً على صرع حينئذ الحيوان الوحشي بطريقة غير 
دموية» خالية من الألم» أو يغويه ويضلله؛ لكن لماذا؟ 

من أجل السرقة: إذ أنني كنت أقطع بصراخي العديم الصوت 
واجهات العرض من الأسفل» وإذا كان ممكناً فإنني كنت أقصّ قطعة 


١55 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


وائرية أمام البضاعة المرغوبة» ثم أدفع القطعة المقصوصة إلى داخل واجهة 
العرض من خلال الرفع من حدّة الصوت» فكانت تحدث جلبة مختنقة 
سريعة لا تشبه جلبة الزجاج المنكسرء لكنها كانت مسموعة» ليس من 
قبلي في الواقع ؛ لأن أوسكار كان يقف بعيداًء بل من قبل المرأة الشابة 
التي كانت ترتدي فراء الأرانب فوق ياقة المعطف الشتوي البئّي الذي قلبت 
بطانته ذات مرّة بالتأكيد» فسمعت المرأة ارتطام القطعة الدائرية وهمّت 
بالانصراف عبر الثلوج» لكنها ظلّت واقفة ربما بسبب هطول الثلج. ولأن 
كلّ شيء كان مسموحاً به عند سقوط الثلج» حي وإن لع سقط كتافة: 
ومع ذلك فإنها تلفتت حولها مرتابة في ندف الثلج» ثم تطلعت مرّة أخرى 
وكأن لم تعد هناك ندف جديدة» ثم انزلقت يدها ا الأرانب 
الذي أحاط بذراعيها وهي تتطلع» لكنها انقطعت عن التلفت» فمدت يدها 
في الفجوة المستديرة» وأبعدت الزجاج المحطم إلى الجانب الذي أطبق 
على القطعة المعروضة والمشتهاة» ثم أخرجت من الثقب فردة حذاء ذي 
كعب عال خافت اللمعان» دون أن يحدث ضرر في الكعب أو أن تجرح 
يدها بحواف الزجاج الناتئة. وأخفت فردتي الحذاء في جيبي معطفها. 
فأبصر أوسكار برهة قصيرة» أو لحظة سقوط خمس ندف من الثلج؛ وجهاً 
وسيماً من الجانب» لكنه لم يكن مثيرأًء ففكر في أُنّها قد تكون دمية عرض 
تابعة لمتجر شتيرنفيلد» تتجول في الطريق بطريقة سحرية قبل أن تتحلل في 
ندف الثلج» بيدأن ملامحها اتضحت ثانية تحت مصباح الشارع الأصفر 
الضياء؛ ثم اختفت خارج كتلة الضوءء بغض النظر عما إذا كانت امرأة 
عذراء أم متزوجة أم مجرد دمية أزياء متحررة. 

وبعد إنجاز عملي القائم على الانتظار فالترصد فالعجز عن التطبيل 
ومن ثم القصّ بالصوت وتذويب الجليد عن الزجاج ‏ لم يبق أمامي سوى 
أن أفعل ما فعلته المرأة السارقة» لكن دون غنيمة» وهو الذهاب إلى البيت 
بقلب منفطر» متجمّد من البرد. 

ولم يحالفني الحظ في ممارسة فنْ الإغواء بشكل واضح مثلما الحال 
مع النموذج الذي ذكرته للتوء فآل بي طموحي إلى أن أجعل من رجل 


1١76 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


وزوجته لصّين. لكن إما أنهما كان يرفضان الشروع بالسرقة معاء أو أن 
الزوج وحده كان يمد يده فتجذبها الزوجة بعنف؛ أو أنها تكون شديدة 
الجرأة» فيجثو الزوج على ركبتيه ويتوسل بها فتستجيب لهء ثم تنظر إليه 
باحتقار. 

ذات يوم أغويت أثناء هطول الثلج عاشقين كانا يوحيان بالفتوّة» فوقفا 
أمام متجر للعطورء فأراد الفتى أن يلعب دور البطل» فسرق ماء كولونيا 
المعطر» لكن الفتاة أخذت تبكي وتولول» معلنة عن أنها سوف تتنازل عن 
العطور كلّهاء إلا أنه كان حريصاً على عطرها فتفذ إرادته حتى وصلا إلى 
عمود الضوء القادم؛ حيث وقفت الفتاة على أطراف أصابعها ثم قبّلت 
صاحبها بتظاهر جليّ كما لو أنهما قصدا إغاظتي» فعاد الفتى أدراجه 
وأرجع ماء كولونيا المعطر إلى الواجهة من جديد. وشهدت بعض المرّات 
الشيء ذاته مع الرجال المتقدمين في السنّ الذين توقعت منهم أكثر مما 
وعدت به خطواتهم الباحثة في ليل الشتاء. كانوا يتوقفون ليتأملوا بانتباه 
واجهة محل للسيجار» فتحلّق أفكارهم إلى هافانا والبرازيل أو جزر 
البيساغوء وإذا ما صنع صوتي الثغرة حسب القياس المناسب» جاعلا 
قطعة الزجاج تنطبق على علبة سيجار اشفارتسه فايزهايت»؛ فإن ثمة سكيناً 
كانت تنطبق لدى أولئك الرجال. فكانوا يتراجعون إلى الوراء ويقطعون 
الشارع متوكئين على عصيهم» فيمرون بي وبمدخل البيت حيث اختبأت» 
متيحين لأوسكار فرصة السخرية من وجوههم الشائخة المشدوهة كما لو 
الشيطان نفسه قد عصف بهاء تلك السخرية المصحوبة بالقلق؛ إذ إن 
السادة الذين بدا معظمهم مدخن سيجار مسنّ» كانوا يعرضون أنفسهم 
للإصابة بالبرد» لا سيما في ذلك الطقس المتقلب» عندما تنضح أجسامهم 
بالعرق الحار والبارد. 

فاضطرت شركات التأمين في ذلك الشتاء إلى دفع تعويضات باهظة 
لمتاجر حيّنا المؤمنة ضد السرقة. وعلى الرغم من أنني لم أفسح المجال 
للقيام بسرقات كبيرة» إنما تعمدت قطع الزجاج على نحو لا يتيح سوى 
انتشال قطعة أو قطعتين من البضائع المعروضة» فإن الأحداث التي أطلق 


1١55 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


عليها لقب «أعمال السطو؛ قد كثرت لدرجة أقلقت الشرطة الجنائية؛ ومع 
ذلك فإن الصحافة قامت بتوبيخ الشرطة باعتبارها هي المقصرة. لقد بلغ 
وده مكاولات الشرقة أريعا وستين محارلة» في حين بلغ عدد السرقات 
الفعلية ثمان وعشرين من النمط ذاته» وذلك من نوفمبر العام السادس 
والثلائين إلى مارس العام السابع والثلائين» أي إبَان «حكومة الجبهة 
القومية» في وارسو بقيادة العقيد كوك. في الواقع استطاع موظفو الشرطة 
الجنائية إعادة قسم من المسروقات من بعض العجائز وصبيان المحلات 
المهندمين والخادمات والمعلمين المتقاعدين الذين لم يكنوا كلهم مولعين 
بالسرقة» أو كان يخطر في ذهن جرذان الواجهات الهواة الذهاب في اليوم 
التالي إلى الشرطة بعد أن أفسدت عليهم حاجياتهم المشتهاة ليلتهم» 
ليقولوا: «معذرةً» إن هذا لن يحدث مرّة أخرى. وحدث فجأة ثقب فى 
الواجهة؛ وعندما استفقت من الصدمة» مخلفاً الواجهة المفتوحة ودالن 
بأربع مفترقات طرق» لاحظت بأنني احتفظت بطريقة غير قانونية بقمّاز رائع 
نفيس لا يقدر بثمن» قماز رجالي فاخر من الجلد؛ وضعته في جيب 
معطفي». ولأن الشرطة لم تؤمن بالمعجزة فقد كان يعاقب أولئك كلهم 
الذين يلقى عليهم القبض أو الذين يسلمون أنفسهم للشرطة طوعاً بعقوبة 
سجن تتراوح بين أربعة أسابيع وأربعة أشهر. 

أما أنا شخصياً فقد فُرضت على الإقامة الجبرية فى البيت» إذ أنَّ أمّى 
شعرت بالأمر بطبيعة الحال» إلا أنها تصرفت بذكاء ولم تعترف للشرطة بأن 
صوتي المتمكن من الزجاج كان له دور في تلك اللعبة الإجرامية. وامتنعت 
بدوري من التصريح بأي أقوال أمام ماتسرات التي كان يودٌ أن يظهر بمظهر 
0 فأخضعني للتحقيق» لكنني تسترت ببراعة فائقة خلف 

طبلي الصفيح وخلف الحم المتخلف الدائم للطفل ذي الأعوام الثلاثة . 
ان أمّي تنادي بعد تلك التحقيقات قائلةً : إن القزم عو الذي يتحمل 
الذنب؛ لأنه قبل أوسكار على جبينه. . فشعرت خالا بأن القبلة لا بدَّ أن 
تعني شيئاً ما ؛ فأوسكار كان من قبل مختلفاً تماماً». 

إنني أعترف بأن السيّد بيبرا قد مارس على تأثيراً طفيفاً ومستديماً 


1١7 /‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أيضاً. لكنّ الإقامة الجبرية لم تمنعني من الحصول؛ بفضل الحظّ؛ على 
سماح لمدة ساعة» دون موافقة أحدء إنما بترخيص منّى وحدي» لأقصص 
تلك القطعة الدائرية السيئة الصيت في واجه محل للوازم الخياطة 
والحياكة» فنال شاب ملىء بالتفاؤل رضاه من شبّاك المتجرء فجعلته مالكا 
لربظة عق خن الحرير الكالمي خترية القوق: .وإذا ما سالتموتي فيما إذا 
كان الشرّ هو الذي أمر أوسكار بالتصعيد من حذة الإغواء السحري» القرّي 
أصلاًء عبر فتح ثغرة دخول بحجم اليد في زجاج الواجهات الشديد 
النظافة» فإنني سأجيب: بنعم» إنه الشرّ. ولمجرد أنني كنت أقف في 
مداخل البيوت المظلمة فإن ذلك وحده هو الشرّ بعينه» إذ إن مداخل 
البيوت؛ مثلما يفترض أن يكون معروفاًء هي المكان المفضل للشر. ومن 
ناحية أخرى» دون أن أقلل من الطبيعة الشريرة لعمليات الإغواء التي قمت 
بهاء لا بدَّ أن أقول اليوم لممرضي برونو ولنفسي» طالما لم تعد الفرصة 
مواتية للقيام بالإغواء؛ فضلاً عن أنني لم أعد أشعر بميل لممارسته: يا 
أوسكارء إنك حققت ليس فقط الرغبات والأمنيات الصغيرة والمتوسطة 
الحجم لعشاق المنتجات المعروضة,» أولئك المتجولين في الشتاء» بل إنك 
قمت أيضاً بمساعدة الناس أمام واجهات العرضء؛ لكي يتعرفوا على 
أنفسهم. فثمة سيّدة أمينة مستقيمة الأخلاق» وثمة عمّ كريم الخلق فاضل 
وعانس لم تزل طازجة التدين» لكنّ هؤلاء كلهم لم يكتشفوا في أعماقهم 
حتى ذلك الوقت طبيعة الجنوح نحو السرقة» إن لم يكن صوتك هو الذي 
أغراهم بالسرقة؛ إضافة إلى أنه حوّل بعض المواطنين الذين كانوا يرون في 
أصحاب اليد الطويلة الصغار أوغاداً جديرين باللعنة والشتيمة . 

فأصبح الدكتور «أرفن شولتس»» المدعي العام المرهوب الجانب في 
المحكمة العلياء إلى رجل قضاء متساهل رحيم» وإنسانيّ إلى حد ما في 
أحكامه؛ لأنه ضحَى من أجليء أنا ربّ الحرامية الثاني» فسرق فرشاة 
حلاقة مصنوعة من شعر العُرَيْر الحقيقي» بع أن كت أت مدر كر فسان 
إلا أنه امتنع ثلاث مرّات من أن يسرق انصياعاً لي» قبل أن يقبض على 
غنيمته» فلم تكتشفه الشرطة أبداً. 


١548 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


وفي يناير / كانون الثاني من العام السابع والثلاثين وقفت مرتجفاً من 
البرد فترة طويلة قبالة محل مجوهرات» كان يتمتع بسمعة واسم جيّدين» 
على الرغم من أنه كان يقع في مكان هادئ» عند شارع ضاحية مغروس 
بأشجار الإسفندان. كانت الطرائد الوحشية تطل من واجهة العرض التي 
رقدت فيها المجوهرات والساعات؛ ولو أنني وقفت أمام واجهات تعرض 
جوارب النساء وقبعات القطيفة وزجاجات العرق لحطمتها بلا تردد. 
ومثلما تعبر المجوهرات عن نفسها: فإن المرء يصبح ذوّاقاً دقيق الاختيار» 
متمهلاء ينتظم في السلسلة اللامتناهية لمجرى الأشياء؛ ويقيس الزمن ليس 
بالدقائق كما يفعل عادةٌء بل بالسنوات اللؤلئية؛ منطلقا من تصوّر يقول إن 
اللؤلؤ يعمّر أكثر من الجيد نفسه» وإن المعصم هو الذي يصاب بالضعف 
والهزال وليس المعضد» وإن الخواتم كان يعثر عليها في القبور» حيث لم 
تقو الأصابع على حملها؛ باختصار: إن المرء يطلق على متأمل الواجهة 
هذا متباه» وعلى الآخر لقب متصاغر يهتم بالتوافه؛ ليضنٌ عليه بتعليق 
المجوهرات . 

لم تكن واجهة صائغ المجوهرات «بانزيمر؛ مفرطة في الأبهة 
والفخامة؛ إنما احتوت بعض الساعات المختارة المشغولة بإتقان 
سويسريٌ» وتشكيلة من خواتم الزواج المنضدّة فوق القطيفة الفاتحة 
الزرقة» وفي منتصف الواجهة ثمة ست أو على الأرجح سبع قطع ذهبية 
منتقاة: واحدة منها عبارة عن أفعى ملتوية على نفسه ثلاث مرّات» مشغولة 
بالذهب المختلف الألوان» رأسها المزخرف المنقوش بعناية مطعّم بفصّيّ 
ماس والعينان عبارة عن حجري ياقوت؛ مما جعلها غالية الثمن. إنني في 
الواقع لا أحب القطيفة السوداء» غير أن الخلفية السوداء كانت تناسب أفعى 
الصائغ بانزيمر» وكذلك القطيفة الرمادية التي كانت تشيع هدوءاً مدغدغاً 
للمشاعر تحت المصوغات الفضيّة المتناهية البساطة المتناسقة الأشكال على 
نحو ملفت للنظر. وثمة خاتم مطعّم بشذرة منقوشة نقشاً رقيقاً بارزاً» بدا 
وكأنه سيستهلك أيدي الناس الرقيقات كذلك؛ فيصبح نحيفاً شيئاً فشيثاً 
حتى يصل إلى درجة الخلود الموقوفة على المجوهرات وحدها. كانت 


158 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


هناك قلائد لا يستطيع المرء وضعها على عنقه دون عقاب؛ قلائد تجلب 
التعب» مرتخية على قطيفة منجدة بيضاء مصفرّة» لها شكل مقدمة الجيد؛ 
وثمة عِقُدٌ مشغولة برهافة عالية» رائع التنسيق» إطاره جميل التفنن» نسيج 
بارع كثير الزخرفة؛ فأي عنكبوت أفرز هذه الشرئقة الذهبية لتعلق بها خمسة 
فصوص صغيرة من الياقوت وفص كبير؟ هكذا قبع العنكبوت» فماذا كان 
ينتظر؟ إنه بالتأكيد لا ينتظر المزيد من الياقوت» بل يننظر أحداً ما شعت في 
نفسه فصوص الياقوت التي علقت بالشبكة كما يشعٌ الدم المتناسق مثلهاء 
فتسمّر نظره؛ أو بعبارة أخرى: من ذا الذي سأهديه هذا العقد بالمغزى 
الذي أتمناه أو الذي عناه العنكبوت ذو التأثير الذهبي؟ 

في الثامن عشر من يناير العام السابع والثلائين» وعلى الجليد 
المرصوصء أي في ليلة لها رائحة الثلج» مشبعة برائحة الثلج» وبالكثير 
من الثلج» مثلما يشتهي المرء الذي يرغب في ترك كل شيء للثلج؛ 
أبصرت يان برونسكي يقطع الشارع على يمين الموضع الذي كمنت فيه 
متجاوزاً محل المجوهرات» دون أن يتطلع إليه» ثم وقف بترددء أو كمن 
نودي عليه» والتفت» أو أن شيئاً ما جعله يلتفت - ودفعة واحدة انتصب 
يان أمام الواجهة بين أشجار الإسفندان المتوجة بالبياض. 

يان برونسكي الرشيق الكثير الشكوى؛ الخاضع وظيفته؛ والطموح 
في حبّه الغبي المولع بالجمال في الوقت ذاته» الذي يعبد أمّي من أعماق 
دمّه ولحمهء والذي أنجبني باسم ماتسرات مثلما أنا متيقن وشاكٌ اليوم؛ 
اتتصب بمعطفه الشتوي الأنيق» كما لو أنه قد فصله عند ترزيّ من وارسوء 
واستحال إلى تمثال لنفسهء متحجراً هكذاء يان الذي أراد الوقوف أمام 
الواجهة رمزاً لي؛ مثبتاً بصره مثلما فعل «بارتسيفال»» الذي وقف في الثلج 
ورأى فيه دماً؛ ثبت بصره في ياقوت العقد الذهبي. 

كان بإمكاني أن أناديه بالعودة» أو أن أطبّل له ليعود أدراجه؛ إذ إن 
طبلي كان معي» وكنت أتحسسه تحت معطفي» فلم أكن بحاجة إلى أكثر 
من فتح زرٌ واحد» فيتدحرج الطبل من ذاته نحو الجليد» أو أن أمد يديّ 
إلى جيب معطفي فانتشل المضربين على الفور» فالقئاص القديس 


و١1‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


هوبرتوس”* لم يطلق سهمه حالاً عندما أبصر الكبش الغريب في موضع 
الرمي. إن شاؤول قد تحوّل إلى بولص”**". ثم إن أتيلا'***؟ قد انقلب 
على عقبيه عندما رفع البابا إصبعه الذي حمل الخاتم. إلا أنني رميت دون 
أن أتحوّل أو أنقلب على عقبيّء بل بقىّ أوسكار صيّاداًء أراد إصابة 
الهدف» فلم أفك زرّي ولم أدحرج طبلي على الجليدء ولم أقرع الطبل 
المبيض بياض الشتاء بمضربيّ» ولم أجعل ليلة يناير تستحيل إلى ليلة 
تطبيل» إنما صرختٌ بلا صوت» صرخت ربما مثلما تصرخ النجمة» أو 
السمكة في القاع؛ صرخت في البدء ببنية الثلج وتركيبته؛ لكي ينزل الثلج 
الطازج أخيراء ثم صرخت بالزجاج» الزجاج السميك» الزجاج الثمين» 
الزجاج الرخيصء الزجاج الشمّافء الزجاج العازل» الزجاج الفاصل بين 
العوالم» زجاج الواجهة الباكر الغامض» صرخت فاتحا ثغرة بين يان 
برونسكي وعقد الياقرت» فتحة تتسع لقفازه الذي كنت أعرف حجمه؛ ثم 
تركت الزجاج ينطبق كما ينطبق البابا المطوي والمثبت في الأرضء أو كما 
ينطبق باب السماء وبوابة الجحيم: فلم يرتعد يان» إنما جعل يذه الرقيقة 
الجلد تمتد من جيب المعطف وترحل إلى السماء» مغادرةً الجحيم؛ بعد 
أن انتزعت عقداً من السماء أو من الجحيمء عقداً كان ياقوته يقابل وجوه 
الملائكة» بما فيهم القتلى ‏ ثم ترك قبضته تعود إلى الجيب» محملة 
بالذهب والياقوت» فظل منتصباً أمام الواجهة المفتوحة» على الرغم من 
خطورة الأمرء وعلى الرغم من الياقوت الذي لم ينزف دماًء ليجبر بصره 
أو بصر بارتسيفال على المضي في اتجاه محدد. 


(*) نط3 أسقف مدينة لوتش المتوفى في العام 771 الذي تقول عنه الأسطورة 
إنه كان حامي الصيّادِين المقدسء» وقد رأى كبشاً كان يحمل صليباً ذهبياً في 
قرونه» مما دفع به إلى التوبة والتكفير عن ذنوبه؛ لأنه كان يصطاد الطرائد أيَام 
العطل . 

(*#*) الرسول بولص الذي كان اسمه شاؤول قبل تنصّره. 

(***) 1ه ملك الهونيين» المتوفى في العام 457» وقد هزمه القائد الروماني أيتيوس 
في العام 40١‏ في معركة دارت بالقرب من ترويس الكاتالانية. 


١/١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


آهء أيها الأب والابن والروح القدس! لا بِدَّ أن يكون قد حدث شيء 
للروحء إن لم يحدث ليان الأب شيها. ففتح أوسكار الابن زرٌ 
المعطف» وتناول مضربيه على عجل ثم نادي بالطبل: أبي» يا أبتاه! إلى 
أن التفت يان برونسكيء» ببطء» ثم قطع الشارع ببطء أشدّء فعثر عليّء أنا 
أوسكار» في مدخل بيت. 

كم كان جميلاً أن يهبط الثلج من جديد بعد فترة قصيرة على ذوبان 
الجليد؛ في تلك اللحظة التي أبصرني فيها يان بوجه خال من التعبير» 
قناولق يده وليمن الققاز الذي لاس الياقوت» وقادتن بضيمت» 'لكن 
بدون هم ولا حزنء إلى الدارء حيث كانت أمّي قلقدٌء وكان ماتسرات 
يهدد بإبلاغ الشرطة؛ صارماً كعادته» لكنه لم يكن جاداً على نحو كاف. 
لم يقدم يان أي تفسير ولم يمكث طويلاًء بل امتنع عن تلبية دعوة 
ماتسرات في لعب الورق» الذي وضع ماتسرات من أجله البيرةً فوق 
الطاولة. وحين غادر الدار مسح على رأس أوسكار الذي لم يكن يعلم: 
هل طلب منه يان التكتّم أم الصداقة؟ وبعد مدّة قصيرة أهدى يان العقدة 
لأمّي» فحملته بضع ساعات, أثناء غياب ماتسرات» وهي تعلم بمصدر 
الحلية الذهبية» حملته إرضاءً ليان أو لنفسها أو ربما لي أيضاً. 

وعقب النهاء الشرت بلخرة وإجيرة استيفالعه :في الوق "النوفاءالمدينة 
دوسلدورف بإئنتي عشرة خرطوشة من سجائر لوكي - سترايك الأمريكية 
ومحفظة من الجلد. 


1١7 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


ليس هناك معجزه 


واليوم؛ حيث أرقد في المصِحّة» أصبحت أفتقد دائماً القرّة التي 
عالت ريا بحت تقر عاق يعو مار رمام تلك القوة التي أتاحت 
لزهور الثلج بالطهور عبر الجليد وظلمة الليل فة فتفتح الواجهات وتأخذ بيد 
اللص. فكم تمنيت أن ل 0 
من باب الغرفة من خلال الصوت» لكي يستطيع معيني برونو أن يراقبني 
مباشرة. وكم كنت أعاني قبل عام واحد من إدخالي المصحّة من عجز 
صوتي وقصوره. فحين كنت أطلق صوتي في شارع ليلي؛ ملتمساً 
النجاح» إلا أنه لم يتحقق. كان يحدث أحياناً أن أعاجل إلى رفع حجارة» 
أنا الذي أبغض العنف. وأهدّف نحو نافذة مطبخ في شارع بائس 
شوارع ضواحي دوسلدورف. لقد وددت لو أنني استطعت أن أستعرض 
قدراتي تلك أمام مصمم الديكور فيتلار بشكل خاص. وإذا ما تعرفت على 
شكله بعد منتصف الليل» جين كرد جاخ العاري وكاني دار وهو 
يقف بجواربه الصوفية الخضراء الحمراء خلف واجهة زجاجية لمتجر 
الموضة الرجالية في كونغس أليه؛ أو في محل للعطور بالقرب من قاعة 
الموسيقى السابقة؛ فإنني كنت أتمنى من كل قلبي لو أنني استطعت تحطيم 
الزجاج من أجل ولدي هذاء أو الذي يمكن أن كوة ولداً لي» إذ أنني ما 
زلت حائراً فيما إذا كنت سأسميه يهوذا الإسخريوطي الخائن أم يوحنًا. إن 
فيتلار نبيل ويطلق على نفسه اسم غوتفريد. وإذا ما أثرت انتباه مصمم 
الديكور عبر تطبيل خفيف على زجاجة الواجهة السليمة» بعد فشلي 
المشين في تحطيمها بالغناء» فيلتقي بي ربع ساعة في عرض الشارع» 


1١/1 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ويتحدث إليّء ويسخر من فنونه الديكورية» فيتوجب علي وقتها أن أسميه 
غوتفريد» إذ إن صوتي لم يخلق المعجزة التي تتيح لي أن أطلق عليه اسم 
يوحنًا أو يهوذا. 

كان غنائي قبالة محل المجوهرات الذي حوّل يان برونسكي إلى لصّ 
أثى :إلى مالكة لمقد من الياقوت قك انهى موتح ترتشي أمام الواجهنات 
العامرة بما تشتهي الأنفس. لقد أصبحت أمّي تقية متدينة. لكن ما الذي 
جعلها تصبح متدينة؟ إن علاقتها بيان برونسكي والعناء اللذيذ الذي كان 
يتخلل حياة الزانيات والعقد المسروق» ذلك كله هو الذي جعلها ورعة 
متدينة تتشهى القرابين المقدسة. فكم هو بسيط التمهيد للخطيئة وترتيبها: 
كانت الأمّ تلتقي بصاحبها يوم الخميس في المدينة» بعدم تودع وليدها 
أوسكار الصغير لدى ماركوس» فتقضي وطرها في تشلر غاسه بطريقة 
مرضية وبجهد شق» ثم تنعش نفسها في تناول القهوة والكعك في مقهى 
فاتيسكهء لتأخذ ابنها من اليهودي الذي كان يغدق عليها بعبارات الإطراء 
والمغازلة أو يهبها علبة من خيوط الحرير مجاناً إلى حدّ ماء لتستقل إثر 
ذلك الترام رقم خمسة» فتستمع بسير الترام عبر بوّابة «أوليفر»» مروراً 
بهندنبورغ أليه؛ مبتعدة بأفكارها إلى مكان ناء» حتى إنها لم تنبته إلى 
حدائق مايو المجاورة لقاعة الرياضة التى كان ماتسرات يمضى فيها ضحى 
الأحدء فتعجبها استدارة الترام حول القاعة ‏ فكم سيبدو المبتى المربع 
قبيحا حين يكون المرء قد استمتع للتو بالجمال ‏ ثم ينعطف الترام إلى 
اليسار خلف أشجار ثانوية «كونرادينوم؛» المتربة» بتلاميذها الذين يرتدون 
الطوقي الحمراء؛ فكم سيبدو لطيفاً لو يضع أوسكار طاقية حمراء بحرف 
© مطل على وجهه! فهو قد بلغ السنّ الثانية عشرة والنصف وسيكون الآن 
جالساً في الصف السابع ليبدأ بدراسة اللغة اللاتينية ويتصرف كأي تلميذ 
صغير» شاطر ووقح بعض الشيء» ومتكبرء شأنه شأن التلاميذ في ثانوية 
كونرادينوم . 

استغرقت السيّدة آغنس ماتسرات في أفكارها حول الثانوية والفرص 
التي ضاعت على ابنها أوسكار حالما انعطف الترام في اتجاه مستوطنة 


/1 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


رات وعدوسة عيلينا لانغه خلف نفق القطارات . ب ا 
تجو اليسار» مروراً بكئيسة المسيح ذت المئارة التي تشبه س البصل 
وميدان ماكس ‏ هالبه وقبل متجر ‏ قهوة - القيصر نزلنا من 0 فألقينا 
نظرة على واجهات المحلات المنافسة» ثم شققنا طريقنا عبر لابسفيغ 
وكأننا قطعنا مفترق طرق: حيث بداية الضجر والطفل غير الطبيعي في اليد 
وتأنيب الضمير والرغبة في إعادة الكرّة ثانية والشعور بالسأم وعدم الاكتفاء 
والاشمئزاز وكذلك بالمودّة الصادقة إزاء ماتسرات» فأجهدت أمّي نفسها 
لتقودنيى ومعي الطلب الجديد وعلبة خيوط الحرير شبه المهداة عبر 
لابسفيغ إلى المتجرء حيث غذاء الأطفال المستخلص من الشوفان» وإلى 
براميل النفط المحاذية لبراميل سمك الرنجة» وإلى الزبيب واللوز والتوابل 
المخصصة للكعك وإلى خميرة الدكتور أوتكر”*" ومسحوق الغسيل برزيل 
الذي تقول عنه الدعاية إن البرزيل يبقى برزيلاً» ومنتجات أوربين وماجي 
وكنور وكاتراينا وقهوة الهاغ وفيتللو وسمن الطهي بالمين وخلّ كونه ومربى 
الثمار الأربعة» وإلى قانصات الذباب التى كانت تصدر أصوات متعددة 
الطبقات؛ والتي كنا نعلقها مشبعةٌ بالعسل فوق طاولة البيع في دكاننا ثم 
نغيّرها في الصيف كل يومين» بينما كانت أمّي تغري الآثام بروحها الشديدة 
الحلاوة كالعسل أيّام السبت صيفاً وشتاءء تلك الآثام المطنطنة طوال العام 
01 الجرهن يهنا الوارظة لاورا؛ جو اعيت اف ني كيدا ب اتليرت 
يسوع لتعترف بخطاياها في حضرة القسيس افيهنكه؛. 

ونثليا كاتف تصسيى معيا إلى المدينة كل عييسن» لتجيلين ماتيا 
معها كما يقال؛ فإنها صارت أمّي تأخذني أيّام السبت لنعبر البوابة نحو 
الأرضية الكائوليكية الباردة؛ فتحشر طبلي تحت بلوزتي أو تحت معطفي؛ 
إذ أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً دون طبلي» وعندما لا يكون طبل الصفيح 
معلقاً على بطني؛ تإلى اميم عاتمرا هاما عن رمب علدفة اليب 
الكاثوليكي على جبيني وصدري وكتفيّ» ولما استطعت أن أثني ركبتي 





زع 06116 .121 مصانع ألمانية شهيرة لإنتاج المواد الغذائية. 


1١7 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


كمن يرتدي حذاءً؛ ولما مسحت أنفي بالماء المقدس الذي ينشف ببطء 
ولا تصرفت بهدوء على خشب الكنيسة اللامع. 

إنني أتذكر كنيسة ‏ قلب ‏ يسوع من خلال التعميد؛ فقد حدثت 
بعض الصعوبات بسبب اسم أوسكار الوثني» إلا أن أهلي أصرّوا على 
أوسكارء ونطقه يانء العرّاب» على هذا النحو أيضاً في بوابة الكنيسة» ثم 
نفخ حضرة فيهنكه الموقر بوجهي ثلاث مرّات» لكي يطرد عنّي الشيطان» 
ورّسمت علامة الصليب؛ وشرعت يديء بغية نثر الملح» ثم اتخذت 
إجراءات أخرى ضد الشيطان» فتوقفنا في الكنيسة عذة مرّات أمام ركن 
التعميد. كنت التزمت الهدوء عندما قدموا لى شهادة الإيمان وأبانا الذي 
فى السماء. عد ةلله ران متهن "فريك أن ركرك من ديه اسع يا 
شيطان»! وظنّ أنه فتح لي حواسي حين لمس أنفي وأذنيّ» أنا الذي كنت 
عارفاً بالأمور دائماًء فأراد بعد ذلك أن يسمع الإجابة المكررة بوضوح 
وبصوت عال فسأل: «هل تتبرأ من الشيطان؟ ومن أفعاله جميعها؟ 
وبهرجته وأبهته برمتها؟؟. 

وقبل أن أهرّ رأسي ‏ إذ أنني لم أفكر في الاستغناء عن ذلك كرر 
يان القول ثلاث مرّات نيابة عنجي: «نعم» إنني أتبرأ». 

ودون أن أكدر صفو الشيطان. دهن حضرة فيهنكه صدري وكتفيّ» 
ذاكراً الشهادة مّات عديدة أمام رقو التعمية كم سكي اماه على رأستي 
بدفعات ثلاث» فمسح فروة رأسي بالزيت الكاثوليكي» واألبسوني ثوباً 
أبيض لكي ألوئه وحملوني شمعة للأيام المظلمة» ثم انصرفنا ‏ لقد دفع 
ماتسرات التكاليف كلها وعندما حملني يان في بوّابة كنيسة ‏ قلب - 
يسوع. حيث انتظرت التاكسي في الطقس المتقلب بين الصحو الغيم» 
سألت الشيطان في أعماقي: «هل اجتزت كل شيء بسلام؟». 

فوثب الشيطان وهمس: «هل رأيت نوافذ الكنيسة يا أوسكار؟ فكل 
شيء فيها من زجاج؛ كل شيء من زجاج»! 

لقد شيدت كنيسة ‏ قلب ‏ يسوع إبّان «أعوام الانتعاش الاقتصادي ما 
بين “/414817/1-141., بناءً على ذلك فإنها برهنت على أن طرازها كان 


و١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ينتمي إلى المعمار القوطيّ الحديث؛ إذ إنها سوّرت بالآجر السريع الدكنة؛ 
فاتخذ رأس المنارة المكسو بالنحاس لون الصدأ التقليدي في وقت قصيرء 
ولم تعد الفوارق بين كنيسة الآجر القوطية القديمة ومعمار الآجر القوطيّ 
المحدث واضحة إلا للعارفين» وبشكل يدعو إلى الحرج. كان الاعتراف 
بالخطايا ني يتم بالطريقة ذاتها في الكنائس القديمة والحديثة على السواء. فكان 
هناك ا لاه حضرة القسيس فيهنكه الذين كانوا يضعون آذانهم 
الكهنوتية المشعرة كل سبت بعد انتهاء الدوام وإقفال المحلات» جالسين 
بمحاذاة مشبّك أسود لامع» فيحاول أبناء الطائفة إيلاج خيط الذنوب في 
أذن الكاهن عبر ثغرات المشبّك؛ ذلك الخيط الذي انتظمت فيه اللآلئ 
وااحدة اي مشكلةً حِلْيّة رخيصة مشبعةً بالخطايا والآثام . 

وعندما أبلغت أمّى الجهات الكنسية العليا المعنية بالخلاص عبر قناة 
سمع الكاهن الموقر فيهنكه؛ معترفة بما فعله وما تركته» وبما جرى في 
تفكيرها وكلامها وأعمالهاء غادرثٌ» أنا الذي لم يكن لديّ ما اعترف به 
خشبٌ الكنيسة الشديد النعومة بالنسبة لي» ووقفت أنتظر على الأرضية 
الصقيلة البلاط . ْ 

إنني اعترف بأن البلاط في الكنائس الكاثوليكية؛ ورائحة الكنيسة 
العافوليكيةة بإ اليذه الكانوليكي برمته» ما زال كله يأسرني إلى يومنا 
هذا بشكل لا يفسرء مثلما تأسرني فتاة حمراء الشعرء على الرغم من أنني 
كنت أرغب في تغيير لون الشعر الأحمرء وعلى الرغم من أن المذهب 
الكاثوليكي أوحى لي بالكفر الذي كان يشيٍ بأنني قدتحتم عليّ التعميد 
الكاثوليكي حتى لو حدث ذلك هباء. فغالباً ما كنت أقبض على نفسي 
متلبساً بنظم التعليقات حول القدّاس الكنسي أثناء قيامي بأفعال روتينية بالغة 
التفاهة مثل تنظيف الأسنان أو التغوّط : في القدّاس المقدس يسفح دم 
المسيح من جديدء يهرق الدم ليطهرك» فهذا هو نخب دمك». الذي 
يستحيل نبيذاً حقّاً وحقيقةٌ» طالما سُفح دم المسيح؛ دم المسيح الحقيقي 
المتوفر أبداً» وعبر رؤية الدم المقدس؛ فإن الروح ستّرش بدم المسيح» 
ذلك الدم النفيس» ستغسل بالدم» وسيُسفح الدم إبان التقديس والتكريس 


/ا/ا ١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الكاثوليكي» قماشة القربان الملطخة بالدم» صوت دم المسيح يخترق 
السماوات كلهاء دم المسيح يعبق عطراً أمام وجه اللّه. 

لذابدٌ أن تعترفوا باتى ما زلك أختفظ بيرة عاترلكية متحدكة.. زماناً 
كنت غير قادر على انتظار الترام دون أن أردد في الوقت نفسه ذكر مريم 
العذراء. كنت أسميها الفاتنة» البارّة» المباركة» عذراء العذارى» م 
الرحمة؛ أنتٍ أيتها المبجلة» يا من تستأهلين الإجلال والإكبار كله. يا من 
أنجبتيه أنتِ» يا أيتها الأم الحلوة» الأمّ العذراء» العذراء المجيدة المظفرة» 
دعيني أتذوق حلاوة الاسم يسوع مثلما تذوقتٍ حلاوته بقلبك الرؤوم الحقّ 
الجالب للشفء. الجدير بالاحتفاء» أيتها الملكة المباركة» المباركة. . . 

كانت تلك العبارة «المباركة» تطيب نفسي أحياناً بحلاوتها وتسممها 
لخ 4007 بيدا عندما كنك ازون ييعية الى عنبةاء قلي ب يسرع كل 
سبت» لدرجة أنني كنت أشكر الشيطان؛ لأنه اجتاز التعميد بنجاح وهو في 
داخلي» موفراً لي الدواء المضاد للسمّ فجعلني أخطو باستقامة على بلاط 
كئيسة - قلب ‏ عيسى» وإن كنت أفعل ذلك بتجديف. كان يسوع الذي 
لقبت الكنيسة بقلبه يظهر مرّات كثيرة مرسوماً على صور صغيرة ملونة في 
رواق الكئيسة» ما عدا ظهوره فى القرابين المقدسة؛ ظهر مجسداً ثلاث 
مرّات بالألوان وبأوضاع مختلفة. ‏ 

فكان منقوشاً بالألوان على الجبسء, منتصباً على قاعدة ذهبية بثوبه 
البرويسيّ الأزرق وشعره الطويل ونعله. كان قد فتح رداءه من ناحية 
الصدرء حيث برز القلب في منتصف القفص الصدريء على الرغم من 
قوانين الطبيعة برمتها؛ القلب المدمّى المصاغ ببساطة فنيّة والذي كان لونه 
لون الطماطم الحمراء؛ لكي يتسنى للكنيسة أن تطلق على نفسها اسم هذا 
العضو. ومنذ أُوَل معايئة ليسوع المخلص ذي القلب المكشوف أصبحت 
متيقناً من التشابه التام والدقيق بين المسيح وعرّاب تعميدي العمّ والأب 
المحتمل يان برونسكى. هاتان العينان الزرقاوان البسيطتان الواعيتان 
المتأملتان! هذا الفم المكتنز المتأهب دائماً للبكاء والتقبيل! هذا الألم 
الرجالي المرتسم على الحاجبين! الوجتتان الممتلئتان المتوردتان والراغبتان 


4ى7ى١‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فى الصفع. كان لكلاهما وجه يصلح للصفع ويغري النساء بتحسسهء 
إضافة إلى اليدين الأنثوية المتعبة المصانة التي لم تمارس عملاً والتي 
عرضت آثار الجروح التي خلفتها مسامير الصلب مثلما يعرض صائغ 
الأمراء أكثر مشغولاته جودة. لقد عذبتنى مسامير الصلب مثلما يعرض 
صائغ الأمراء أكثر مشغولاته جودة. لقد عذبتني عينا برونسكي اللتان أساءتا 
فهمي على نحو أبويّ» هاتان العينان اللتان رسمتا بالفرشاة في وجه يسوع . 
صرف أوسكار نظره عن قلب يسوع المعلق في الجانب اليمين من باطن 
الكنيسة» فحتٌ خطاه مبتعداً عن محطة طريق الصليب الأولى» حيث 
حمل يسوع الصليب حتى المحطة السابعة» منهاراً تحته وطأته مرتين» في 
اتجاه المذبح الرئيسي» الذي علق فوقه المسيح مجسداً ثانيةٌ تجسيداً تاماً. 
كان يتطلع بعينين مجهدتين هدهما التعب» أو أنه أغمضهما لكي يستطيع 
التركيز بصورة أفضل. فأي عضلات هذه التي كان يتمتع بها الرجل! هذا 
الرياضي الذي له هيئة من يمارس ألعاب الساحة والميدان جعلني أنسى 
على الفور قلب يسوع برونسكي» فاستجمعت قواي بانتباه» طالما 
كانت أمَى تواصل اعترافاتها فى حضرة فيهنكه. وأخذت أتأمل لاعب 
الجفباز امام الماح 'ارجو أن تصدقرا إذا قلت لكم رني.صليك! وأطلتت 
عليه اسم معلّم الجمباز الجميل؛ رياضي الرياضيين أجمعين» بطل التعلق 
في الصليب بمعونة المسامير التي يبلغ طولها الشبر. ومع ذلك فإنه لم 
يرتعد! بل ارتعش النور السرمدي» بيد أنه كان يجمع أكبر عدد من النقاط 
في صنف الألعاب التي كان يمارسها. فكانت ساعات التحكيم تتك. لقد 
رفع عنه الزمن. وفي المَؤهف الكنسي كانت أصابع مساعد القسيس القذرة 
بعض الشيء تلمّع الميدالية التي أستحقها عن جدرة» غير أن المسيح لم 
يمارس الرياضة من أجل التكريم أو الفوز بالجوائز. حينئذ خطر الإيمان 
في ذهني» فجئثوت بقدر ما سمحت لي ركبتي» فقرعت علامة الصليب 
على طبلي» وحاولت أن أربط مفردات من قبيل «المبارك» و«المتوجع 
الكبير» بالعدائين «جيسي أوينس» ة و«رودولف هاربش» محطمي الأرقام 
القياسية» وبالألعاب الأولمبية في برلين التي أقيمت في العام المنصرم» إلا 


17 





1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أنني لم أنجح في ذلك؛ إذ توجب عليّ أن أقول عن يسوع بأنه كان غير 
عادل مع من صلبوا معه» ولهذا فإنني أبعدته عن المنافسة» وأدرت رأسي 
ناحية اليسارء حيث التصوير المجسّم الثالث للمتمرّن السماوي في داخل 
كنيسة ‏ قلب ‏ يسوعء فعقدت الأمل من جديد. 

فتلجلجت بالقول: «دعنى أصلَّى أوَّلاً طالما رأيتك ثلاث مرّات 
الس عفرت يتعلل على البلاط يزه ثانية» #التخهدعت: تمراع رقدة 
الشطرنج لكي انحرف في اتجاه المذبح الجانبي» وشعرت في كلّ خطرة» 
بأنه كان يتابعني بنظره» وأن القديسين يلاحقونك ببصرهم يا أوسكار؛ 
بطرس الذي سمّروا رأسه إلى الأسفل» وأندرياس المسمّر على صليب 
مائل؛ لذلك جاءت التسمية «صليب أندرياس». إضافة إلى صليب إغريقيٌ 
إن جاتب آآخر لانيين أن صلبيه الالاقهنوئمة هنلباة المجددين”*؟ وعيليان 
تشبه العكاكيز وصلبان مدرجة الشكل مرسومة على الأقمشة واللوحات 
والكتب. فرأيت الصليب الممائل لكف الحيوان والصليب المرساة 
والصليب المشابه لورقة البرسيم المتقاطعة مع بعضها. إن صليب «غليفن» 
لجميل؛ ثم صليب فرسان مالطا المحبوب» والصليب المعقوف الممنوع 
وصليب ديغول وصليب لوترنغر الذي يسمى بصليب القديس أنطونيوس 
فى المعارك البحرية. . 
اق الناضالة تساي تو حقيظىة وفيس عاق المليب الذي أغدة 
عليه المتهمون بالقتل والسطو ساعة صلب المسيحء وبابوياً كان صليب 
الباب» أما ذلك الصليب الروسيّ فكان المرء يطلق عليه اسم صليب 
القديس لاتسروين: كان هناك أيقا الفدليب الأحمر : والصليب الأزرق 
يتقاطع من نفسه أزرق من فرط السكر بلا كحول؛ والصليب الأصفر 
فيسممك؛. والبوارج الحربية تغرق بعضهاء والحملة الصليبية تعيدني إلى 


(*) يستخدم غراس هنا وفيما بعد عبارة صليب #ناء55 استخدامات متبايئة المعنى دينياً 
وبلاغياً؛ فهو يحاكي في هذه العبارة على سبيل المثال طائفة المعمدين التي نشأت 
أثناء عصر الإصلاح الديني في ألمانيا بمثابة حركة تطالب بالإبقاء على تعميد 
البالغين» وقد معت بشدة. وعلّق قادتها أحياءً في الأقفاص على أبراج الكنائس . 


18٠ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


الإيمان» والعناكب المصلبّة الظهر تفترس نفسهاء وأنا أتقاطع معك في 
الطرق المتقاطعة كالصلبان طولاً وعرضاًء والاستجواب أمام الشاهدء 
والكلمات المتقاطعة تقول: حلني. وبظهر مشلول التفتّ مخلفاً الحمل 
وراء ظهريء كذلك أدرت ظهري للاعب الجمباز فوق الصليب» تحت 
خطر أن يرفسني في ظهريء لأنني اقتربت من مريم العذراء التي وضعت 
الصبي يسوع على فخذها اليمين. 

كان أوسكار يقف على يسار المذبح الجانبي في الشىّ اليسار من 
الكنيسة» فبدت لماريا ملامح الوجه ذاتها التي كانت لأمَي أثناء خدمتها في 
كان جباحية ترويل» روعي في الشابعة عشرة من عجرهاه حين لع تكن 
وقتها تملك نقودا كافية لدخول السينماء فكانت تعوض عن ذلك برؤية 
ملصقات الأفلام التي حملت صور الممثلة أستا نيلسن تأملاً حسياً. 

ولم تكن منشغلة بيسوع؛ إنما كانت تتأمل الصبي الآخر فوق ركبتها 
اليمنى؛ الصبى الذي يمكن أن أسميه الآن يوحنًا المعمدان دفعا للالتباس. 
كان للميين حجدى التسدي ذانه.وسكن آنا اعطق تمرع» إذا عا سألني 
اعذة سشترين زيادة» على الرغم عن أتواكان أصغر سكا خسن 
النصوص القديمة» من الصبى المعمدان. لعل النححات كان قد تسلى 
بتجسيد المسيح ذي الأعوام الثلاثة عازياً ورديٌ الأديم . أما يوحنّاء ولأنه 
سيذهب إلى الصحراء» فقد ارتدي لباسا جلديا مشعرا جوزي اللون» غطى 
نصف صدره وبطنه وإبريقه . 

وكان من الأفضل لأوسكار لو أنه انتظر أمام المذبح الرئيسي أو إلى 
جانب كرسي الاعتراف دون أن يتقيد بشيء» بدلاً من المثول أمام صبيين 
نابغين يتكلمان كالكبار» ويشبهانه حدٌ الرعب» ويتفرسان به بدقة شديدة. 
بالطبع كانت أعينهما زرقاء» لهما لون شعره الكستنائي» فلم ينقص الحلاق 
النحتيّ سوى أن يضع لها تسريحة أوسكار ويقصٌّ شعرهما على شكل 
خصلات لولبية بليدة تشبه مفتاح سدادات الفليّن. 

لم أرغب في المكوث طويلا عند الصبيّ المعمدان الذي كان يشير 
بسبابته اليسرى إلى الفتى يموع. كأنه يريد أن يلعب لعبة العدّ «أنا وأنت 


١م١1‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبقرة مولر. . . والدور الآن عليكٌ». . . ودون أن أساهم بلعبة العدّء فإنني 
سأسمي يسوع باسمه وأؤكد على: أننا من نطفة واحدة! إذ إنه يمكن أن 
يكون شقيقي التوأم. كانت هيئته مثل هيئتي وإبريقه يشبه إبريقي الذي كنت 
استخدمه آنذاك مجرد إبريق للصبّ. كان ينظر إلى العالم بعينيّ برونسكي 
الزرقاوين» مستخدماً إيماءاتي نفسهاء فآخذته كثيراً على ذلك . 

وكان شبيهي يرفع ذراعيه معاًء ويكور قبضتيه لدرجة تغري المرء بأن 
يدس فيهما شيئاً ما بكل ثقة» أن يدس مضربي طبلي على سبيل المثال. 
ولو جصص النحّحات طبلي الأبيض الأحمر على وركه الورديٌ» لأصبحت 
أنا نفسي » أوسكار بالتمام والكمال؛ الذي جلس على ركبة العذراء» فصار 
يطبّل لأبناء الطائفة أجمعين. وثمّة أمور في هذا العالم يجب أن يتركها 
المرء كما هي؛ مهما كانت مقدسة! 

كانت هناك ثلاثة أدراج مفروشة ببساط تؤدي إلى العذراء المتلفعة 
برداء أخضر فضيّاء وإلى جلدة يوحنًا البنية الغامقة المشعرة والصبيّ يسوع 
ذي اللون الوردي مثل شرائح الخنزير المطبوخة. كانت هناك هياكل لمريم 
مغروسة بشموع وزهور باهتة الألوان بجميع الأسعار التقديرية. وقد 
التصقت بهامة رأس العذراء الخضراء ويوحنا البني الغامض اللون ويسوع 
الورديٌ هالات مقدسة بحجم أطباق الطعام. ولو لم تكن الأدراج موجودة 
قبالة المذبح لما تمكنت من الصعودء إذ أرشدت الأدراج وأكرٌ الأبواب 
والنوافذ أوسكارَ إلى ذلك الزمن وجعلته اليوم أيضاًء طالما كان سرير 
المصحة يسعه. مهنم ولبدن خير مكدريكه. فأتاح لنفسه الانقياد من درج 
إلى آخرء لكنه بقي دائماً على البساط نفسه. وبات الثلاثة قريبين تماماً من 
أوسكارء وهم يحمّون بهيكل مريم؛ سامحين لأصابعه أن تنقر على 
مجموعة الثلاثة بازدراء واحترام معاً. وأتاح الكشط لأظافره أن تكشف عن 
الجبس بجلاء تحت قشرة اللون. وكانت طيّات رداء العذراء تتعقب نفسها 
بطريق ملتو حتى أطراف قدميها فوق قاعدة الغيوم. وحمل عظم ساق 
العذراء الملمّح إليه تلميحاً على الاعتقاد بأن النححات قد وضع اللحم في 
البدء ومن ثم غمره بالطيات. 


١87 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


وعندما تحسس أوسكار بت بتمعن (إبريقٌ» الصبي عيسى الذي لم يكن 

نينا خط وتزريراء ضشاغطً عليه حدر وكأنه أراد أن يحركه. شعر 
بإبريقه نفسه على نحو ممتع» مضطرب » وجديد عليه في آن» فتخلى عن 
إبريق يسوع ليتركه إبريقه بسلام. 

وسواء أكان مختوناً أم أقلف فإنني تركته وشأنه» وانتشلت طبلي من 
تحت بلوزتي» وأخرجته من رقبتي ثم علقته في رقبة عيسى دون أن ألحق 
ضرراً بالهالة المقدسة. وقد كلفني ذلك جهداً بالغاء نظراً إلى قصر قامتي . 
كان عليّ أن أعتلي التمثال» لكي أتمكن عبر قاعدة الغيوم التي عوضت 
القاعدة الطبيعية من تزويد يسوع بالآلة. ولم يفعل أوسكار ذلك بمناسبة 
زيارته الأولى للكنيسة بعد التعميد في يناير من العام السادس والثلاثين» 
إنما أثناء أسبوع الآلام من العام ذاته. كانت أمّه قد لاقت صعوبة كبيرة 
وهكذا فإن أوسكار وجد وقتا وأيام سبت كافية لكي يدقق النظر في 
متروعه المزفع ‏ فلع ثم زررة ويخطط لمن جديك وتسيه عن جسم 
الجوانب» لينبذ في آخر المطاف الخطط السابقة بقة كلهاء وينفذ ما خطط له 
ببساطة» بشكل مباشر بمعونة صلاة الأدراج في يوم الاثنين الحزين. ولأن 
مي كانت تنزع إلى الاعتراف قبل بلوغ ذروة المتاجرة وبيع البضائع أثناء 
عيد الفصح ؛ فإنها أخذت ببدي في يو اثنين وقادتني عبر لابسفيغ وزارية 
فولغمرت» حيث انعطفنا فى اتجاه نفق القطارات الشاحب الضوء الذي 
سدة القطارات . 

وصلنا متأخرين» حيث لم يبق في الكنيسة سوى عجوزين وشاب 
وجلء كانوا ينتظرون أمام كرسيّ الاعتراف. وبينما كانت أمي تقوم 
بتفحص ضميرها ب كانت تقلّب صحيفة غفران الذنوب» وهي تبلل 
إبهامهاء كما لو أنها تقلب بسجلات المتجرء مختلفةً بياناً ضريبياً تقدمه 
لمديرية الضرائب - انسللت من خشب البلّوط وأخذت أبحث عن المذبح 


الا 
1_طماع1© :1121 آنلا 1 


الجانبي في يسار الكنيسة دون أن أقع تحت بصر لاعب الجمباز فوق 
الصليب أو قلب يسوع. 

وعلى الرغم من أن الأمر سيتم بسرعة» إلا أنني لم أفعله قبل أن أرتل 
الصلاة الافتتاحية . ثلاثة أدراج أ(12 313:6 20 ه50زمجام1 : إلى ربيّ الذي 
أسعدني منذ صباي. ثم حررت الطبل من عنقي» مادا حروف الصلاة «يا 
ربيّ ارحمنا؛ حتى أوصلتها إلى قاعدة الغيوم» لكنني لم أمكث طويلاً عند 
الإبريق» بل علقت الصفيح في رقبة يسوع قبل أن أصل مقطع «العزرّة 
والمجد؛ من التلاوة» محترساأً من ملامسة الهالة المقدسة» ثم ترجلت من 
قاعدة الغيوم»؛ مردداً الصفح والمغفرة والإبراء من الدَّيْنْء ووضعت 
الهرارتين في قفتي المسيح المصممتين بمثالية لهذا الغرض» وأحصيت 
دوحاء درجين ١‏ ثلاثة أدراج ؛ فرفعت بصري إلى الجبال» والبساط لم يزل 
تحت قدميئ» أخيراً وصلت البلاطء حيث انتصبت دكّة سجود لأوسكارء 
فجئا على ركبتيه فوق الدكّة المنجدة» وشبك راحتيه القارعتين للطبل على 
وجهه 160 ؤأواءه» 2ذ 610513 ثم أخذ يرمش بأطراف عينيه عبر راحتيه 
المعقودتين إلى وجهه؛ رامقاً يسوع وطبله بنظرة» منتظراً حدوث المعجزة: 
فهل سيطبل أم أنه لا يستطيع التطبيل أم لا يجوز له التطبيل» فإمًا أنه يطبل 
وإلا فإنه ليس يسوع الحقيقيء» بل إِنْ أوسكار هو الذي سيكون يسوع 
الحقيقي؛ فيما لو امتنع يسوع عن التطبيل . 

وإذا ما أراد المرء حدوث المعجزة فعليه الانتظار. فانتظرت وقد فعلت 
ذلك في البدء بصبرء ربما لم يكن صبراً طويلاء إذ كلّما رددت النص «إِنَّ 
الأبصار تتطلع إليكَ يا ربيَ؛ مضيفاً الآذان إلى العيون خدمة للهدف». خاب 
أملي وأنا أجثو على دكة السجود. أنه أتاح ذ في الواقع فرصاً مختلفة للربٌ» 
فاغمض عينيه» لكي يبدأ الربٌ بأوّل محاولة غير ماهرة دون أن يراقبه أحدء 
لك أخيرأ» وبعد شهادة الإيمان «الرب» الخالق» المرئي والغائب» والابن 
الوليد» من الربّ؛ الحقّ من الحقيقي» المولود؛ غير المخلوق؛ المتوحد 
فح وين علاله ووو اجلقاء الوايط مين الماك وكيفيةا كنا عاء عبنت 
وصار هو ذاته؛ فدفن في الأسفل ثم بعث بأمره. وجلس إلى يمين الربّء 


:18 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


يدعم على الأحياء والآمرات في يوم القياقة: وبلا نهاية» آمن بهء ومعه. 
فى الوقت ذاته» لقد تحدث عبره» إنني آمنتٌ بالكاثوليكية المقدسة و. . 
كلاء أنني لم أعد أشمّ سوى رائحته. ذلك المذهب الكاثوليكي. 

فالحديث عن الإيمان غير ممكن الآن. وأنا لم أقدم شيثاً مقابل الرائحة» 

فأردت أن استلم عرضاً آخر مختلفاً: أردت أن أسمع طبلي» وعلى يسوع 

أن يقدم لي شيئاً ما حسناء معجزةً صغيرة خافتة الصوت! وليس من 

الضروري أن يتحوّل إلى دويّ يصك الآذان» 'يجعل الشمّاس «راجايا» 

يهرع مصعوقاً وحضرة القسيس فيهنكه يجرجر شحمه حيث المعجزة» 

لتُبِعث فيما بعد المحاضر إلى مقر الأسقف في أوليفا والتقارير الأسقفية في 

اتجاه روما. كلاء إنتى لم السن في لفسى أي طموح» ولم أرغب في أن 
أقدس من قبل البابا. كان أوسكار يسعى بغية الحصول على معجزة صغيرة 
شخصيّة؛ لكي يسمع ويرى ويصبح متأكداً دفعة واحدة فيما إذا كان سيطبل 
معها أو ضدهاء ولكي يتضح أي واحد من هذين الصبيين ذوي العيون 
الزرقاء» اللذين خرجا من نطفة واحدة» يحق له أن يطلق على نفسه اسم 

وجلست وانتظرتء معللاً نفسي بالقول بأنّ أمّي لا بدّ أن تكون قد 
جلست الآن في كرسي الاعتراف» بل من المحتمل أنها قد خلفت الوصية 
السادسن وراتقاء كان عتالة وبل عجوز يجرت الكفاتين ذاتنا سيد 
مترنح» رأيته يترنئح عند المذبح الرئيسي, مارًاً في آخر المطاف بالمذبح 
الجانبي في الجناح اليسار من الكنيسة» فألقى تحية على السيّدة العذراء 
والصبيّ. ولعله أبصر الطبل» لكنه لم يفقه معناه» فجر ساقيه وصار يزداد 

شيخوخة: 
ثم تقدم الوقت» حسب اعتقادي» غير أن يسوع لم يقرع الطبل. ومن 

أسفل الجوقة تناعت أصوات إلى سمعيء» فتمنيت أن لا يعزف أحد على 

الأرغن» وشعرت بقلق. لا شك أنهم سيفعلونهاء ويتمرنون تمهيداً لعيد 
الفصح. وسيطغي ضجيجهم ربما على الزوبعة الرقيقة التي سيثيرها الصبي 

يسوع . 


هقم1١‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بيد أنهم لم يعزفوا على الأرغن» ولم يقرع يسوع الطبل؛ ولم تحدث 
أي معجزة. فنهضت من المسند المنجٌّدء وطقطقت ركبتي ثم خطوت فوق 
الساط على معيفينء متبرماً ضجراً ومتجهماًء أجرجر نفسي من درج إلى 
آخرء متخليا عن صلوات السلالم المعروفة بالنسبة لي فاعتليت سحابة 
الجبس» وأسقطت بتسلقي زهوراً متوسطة السعرء كنت أردت انتزاع طبلي 
من الصبيّ الأحمق العاري . 

إنني أقولها اليوم» وسأعيد قولها في المستقبل: لقد كان من الخطأ 
القيام بتعليمه. ففكرت في البدء في انتزاع المضربين من قبضتيه؛ على أن 
أترك له الطبل» وأطبل بالمضربين بهدوءء لكن مثلما يفعل المعلّم النافذ 
الصبر أمام يسوع المزيّف» نأظهر له كيفية التطبيل الصحيح» ثم أحشر 
المضربين في قبضتيهء لكي يبيّن ما تعلمه من أوسكار. 

وقبل أن أحرر الهراوتين والصفيح من التلميذ الذي بدا من أكثر التلاميذ 
عنادأء دون أي مراعاة للهالة القدسية» كان حضرة القسيس فيهنكه يقتف 
خلف ظهري - لقد مسح تطبيلي الكنيسة طولاً وعرضاً ‏ ووقف الشمّاس 
راجياء وأمّي أيضاً وراء ظهري» فجذبني الشماس إليه» لكن حضرة القسيس 
صدَّق ببديه إشارة التهدثة» فبكت أمّي من أجلي» ثم همس حضرة القسيس 
في أذني وركع الشمّاس ثم نهض لينتزع الهراوتين من يسوعء بيد أنه جنا مع 
الهراوتين على الأرض ثانية» ثم نهض ليلتقط الطبل» فانتزعه منهء لكنه ثلم 
الهالة القدسية» وصدم الطبل بالإبريق» فانكسر جزء صغير من الغيم» 
وسقط من السلّمء وجثا الشمّاس من جديد مرّة أخرى» قبل أن يعود 
أدراجه؛ لكنه لم يعطني الطبل» فازددت غيظاً أكثر مما كنت أصلاء مما 
اضطرني إلى أن أدوس بقدمي حضرة القسيس حتى خججلت أمّي التي انتابها 
الحياء حمّاًء لأنني أخذت أرفس وأعضٌ وأخريش» إلى أن فككت نفسي من 
حضرة القسيس ومن الشمّاس وأمّي والرجل العجوزء وانتصبت أمام المذبح 
الرئيسي؛ مستشعراً الشيطان يثب في أعماقي ويحجل» بل سمعته يهمس 
مثلما همس في أذني يوم التعميد: «يا أوسكار! أنظر من حولكء» نوافذ في 
كل مكان» فهي كلّها من زجاجء كلها من زجاج»! 


185 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وعبر لاعب الجمباز الصامت فوق الصليب والذي لم ترتعد فرائصه» 
أطلقت صوتئى فى اتجاه نوافذ المذبح العالية الغلائة التى جسدت الرسل 
الإثنيى عشر باللون الأحمر والأصفر والأخضر. لكنني لم أستهدف مبّي أو 
ماركوس» إنما صوّبت على الحمامة التي وقفت على رأسها فوقهماء 
مكقفلة بعيل العَنْصَرَة وعلى الهالة القدسية» فصرت أتهدج وأصارع 
الحمامة بصوتي الماسيّ: فهل كان السبب يرجع إليّ؟ أم إلى لاعب 
الجمباز الذي أبدى اعتراضه؛ لأنه لم يرتعد خوفاً؟ فهل كانت هذه هي 
المعجزة التي لم يفقها أحد؟ لقد رأوني أرتجف محتبس الصوت» مترصداً 
ركن المذبح من الأعلى؛ فحسيوا ذلك صلاة؛ ما عدا مي ينما سعيت 
في الواقع إلى الحصول على شظايا الزجاج» لكن أوسكار أخفق» إذ إن 
وقته المناسب لم يحن بعد. فقذفت نفسي على البلاط وأجهشت في 
البكاء» لأن يسوع أخفق ولأن أوسكار أخفق ولأن حضرة القسيس 
والشمّاس راجيا فهماني خطأء فصارا يهذيان ويثرثران حول الندم 
والمغفرة. فقد أمّي وحدها لم تخفق» ففهمت دموعي» مع أنها لا بذ أن 
تكون قد شعرت بفرح؛ لأن شظايا الزجاج لم تنهمر. فحملتني أمّي على 
ذراعيهاء ورجت من الشمّاس أن يعيد لي الطبل والهراوتين ثم تعهدت 
لحضرة القسيس بإصلاح الأضرار» وتلقت منه الغفران بشكل متأخرء 
لأنني قطعت عليها الاعتراف؛ فنال حتى أوسكار نفسه قسطأ من البركات» 
لكن ذلك لم يعن له شيا . 
بأصابعي: اليوم هو يوم الاثنين» وغداً هو يوم الثلاثاء الحزين» ثم 
الأربعاء»؛ فالخميس الأخضرء فالجمعة الحزينة التى ستنتهى فيما علاقتى 
بيسوع العاجز عن التطبيل» فبخل عليّ بالشظاياء يسوع المزيف الذي كان 
يشبهني» لكنه ذهب إلى القبر بينما ذهبت أنا لأواصل التطبيل» ومع ذلك 
فإنني سأتوقف عن المطالبة بتحقيق أيّ معجزة. 


/ام ١‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


طعام الجمعة الحزينة 


كانت المفردة التي يمكن أن تصف مشاعري في الفترة الواقعة بين يوم 
الاثنين الحزين والجمعة الحزينة» كانت ثنائية المعنى» فمن ناحية شعرت 
بالاستياء من الصبي يسوع المنحوت من الجصٌء لأنه لم يرغب في 
التطبيل» لكنني من ناحية ثانية استطعت الاحتفاظ بالطبل بمفردي. وإذا ما 
تعرض صوتي من ناحية للإخفاق إزاء نوافذ الكنيسة؛ فإن أوسكار ظفر من 
ناحية ثانية ابقية مرح الإيمان: الكاتر بكي يدل الرجناع الملو السليم 4 ذلاك 
الإيمان الذي سيوحي له فيما بعد بالكثير من الكفر ولتجديف. 

بيد أننى سأبقى ضمن إطار التناقض نفسه: إذا كنت قد نجحت» من 
احية+: تعيكما رججعت إلى البيت» قادماً من كئيسة ‏ قلب ‏ يسوع» في 
تحطيم نافذة سقف على سبيل التجربة» فإن نجاح صوتي هذا إزاء ما هو 
دنيويٌ جعلني» من ناحية أخرى» انتبه إلى فشلي على النطاق الدينيّ. لقد 
سميت ذلك تناقضاً. فظلّ هذا الشرخ قائماًء عصبَّاً على العلاج؛ وصار 
يتسع إلى اليوم» لأنني ما زلت لم أجد لنفسي مستقراً في ما هو دينيّ أو 
دنيويٌ على السواء» ونظير ذلك فأننى ببّ مقيماً مصحّة الأمراض العقلية» 
وحيداً؛ معزولاً بعض الشيء. ١‏ 

لقد سددت أمي تكاليف الأضرار التي أصابت المذبح الجانبي على 
يسار الكنيسة. كانت مبيعات المحل خلال فترة عيد الفصح جيدة؛ على 
الرغم من أن المحل أغلق يوم الجمعة الحزينة بناء على رغبة ماتسرات 
الذي كان بروتستانتيا. وكانت أمَى التى تفرض إرادتها دائماء مستجيبة 
لرغبته كلّ جمعة حزيئة» قد أغلقت المحلّ ثم طالبت بحقها في إغلاق 

184 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


محل بضائع المستعمرات في عيد القربان لأسباب كائوليكية»؛ واستبدال 
علب مسحوق الغسيل وعلب قهوة «الهاغ» الفارغة المخصصة للعرض في 
واجهة المحل بصورة مريم العذراء المضاءة بالكهرباء والمشاركة في موكب 
محاكاة طريق الآلام الذي كان يقام في أوليفا. 

كانت هناك رقعة من الورق المقوّى كُتب عليها من جهة: مقفل بسبب 
الجمعة الحزينة» وفي الجهة الأخرى: مقفل بسبب عيد القربان. في تلك 
الجمعة الحزينة التي أعقبت يوم الاثنين الحزين الخالي من التطبيل» العديم 
الصوت»ء قام ماتسرات بتعليق الرقعة التي خط عليها: «مقفل بسبب الجمعة 
الحزينة» على الواجهة» وبعد الإفطار ركبنا على الفور الترام الذاهب إلى 
بروزن. ولكي أستخدم العبارة ذاتها: فإن لابسفيغ بدا شديد التناقض» 
فكان أتباع المذهب البروتستانتي يذهبون إلى الكنائس» في حين بقي أبناء 
الطائفة الكاثوليكية في بيوتهم» ينظفون زجاج النوافذ وينفضون الغبار في 
الأفنية الخلفية للمبانى عن كل ما له علاقة بالسبجاد والبسط. فكانوا يفعلون 
ذلك بقوة نارين قرا هائلاًء لدرجة تحمل على الاعتقاد بأن أتباع 
الكناتف المقدسة كانوا يسمروت فى أفية الباق التؤجرة أجناداً متعنحة 
عن المحم على علياة كيرة مصنيخة أرقا فى يرقف راحلد 

لكننا خلفنا وراء ظهرنا تنفيض البسط الزاخر بمحاكاة موكب المسيح» 
فتحركنا بتشكيلنا المعهود الذي أثبت فعاليته دائماً والمؤلف من: أمَى 
وماتسرات ويان برونسكي وأوسكار الذين أخذوا الترام رقم 9» للقن 
في جادة بروزن» مرورا بالمطار وساحة التمارين القديمة والجديدة» ثم 
وقفوا يتتظرون القطار القادم من الاتجاه المعاكس لنويفارفاسر - بروزن عند 
تحويله القطارء في جوار مقبرة سازبه. استغلت أي فرصة الانتظار 
لإصدار بعض التعليقات المتأملة وهي تبتسم لكن بيأس وملل من الحية» 
فأطلقت عبارات مثل جميل ورومانسي وساحر على المقبرة الصغيرة 
المهجورة التي تنائرت فيها شواهد القبور من القرن المنصرم والتي علتها 
الأعشاب» تلك المقبرة الراقدة فى ظل أشجار الصنوبر الهرمة المتداعية 
على شاطئ البخر. 'فقالت أي كالحالمة: «آه لو أضطجم هنا ذات مَرّة: 


106 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لو لم يكن معطلاً»! لكن ماتسرات وجد الأرض رمليةً جدّاًء فشتم النباتات 
الساحلية الشائكة المتكائرة النمو هناك ومعها الشوفان البريّ. ثم لفت يان 
برونسكي النظر إلى أن ضجيج المطار وتحويلات سكك الترام المحاذية 
للمقبرة من شأنها أن تعكر صفو البقعة الهادئة تلك. 

كاد الترام القادم من الجهة المعاكسة أن يدهسنا لولا أنه انحرف نحو 
التحويلة الأخرى؛ لكن المحصّل قرع جرس الإنذار مرتين. أخيراً ركبنا 
الترام مخلفين سازبه ومقبرتها ورائنا وسرنا في اجام متم بروزن التي 
كانت عبارة عن منتجع للاستحمام» بدا مقفرا مقبضا في ذلك الوقت» 
حوالي نهاية إبريل. كانت أكشاك المرطبات مسمّرة الأبواب» وزجاج نوافذ 
المنتج غائمة مهملة؛ وجسر البحر الصغير بلا بيارق» وفي المنتجع نفسه 
اصطفت كابينات الاستحمام المائتين والخمسين فارغة إلى جوار بعضها. 
وعلى سبّورة الطقس ثمة آثار طباشير من العام الماضي: درجة حرارة 
الهواء: عشرون؛ الماء: سبع عشرة درجة؛ الرياح: شمالية شرقية. 
الأحوال الجوية المتوقعة: سيكون الطقس صاحياً إلى غائم . 

وفي البدء أردنا الذهاب إلى غلتكاو سيراً على الأقدام. إلا أننا خطونا 
في الطريق المعاكس تماماً دون أي نقاش أو تبادل لوجهات النظرء فسرنا 
في اتجاه حاجز الأمواج. كان بحر البلطيق يلعق الشاطئ بخمول وسعة» 
حيث لم يكن هناك أثر لإنسان بين الفنار الأبيض وحاجز الموج الذي حمل 
علامة البحرء وحتى مدخل الميناء. كان المطر الذي سقط فى الأمس قد 
طبع على الرفل لوذه المتناسق جيك كأن من العم تخريية ونزاة 
طبعات الأقدام العارية عليه كالأختام. وأخذ ماتسرات يقذف قطع الآجر 
الناعمة الصقيلة التي تشبه القطع النقدية المدورة» فيجعلها تتقافز فوق 
صفحة الماء المخضرة» وبدا عليه الشعور بالتفوق. أمَا يان برونسكى» 
الأقل مهارةء فقد صار يفتش» خلال محاولات رمي أقراص الآجرء ع 
حجر الكهرمان» فعثر على بعض الحصاة المثلومة» وعلى قطعة بحجم نواة 
الكرزء فأهداها إلى أمَى التى كانت تسير مثلى حافية القدمين وتلتفت على 
الدوام كما لو أنها وقعت في غرام آثارها. كانت الشمس تشعّ بحذرء لكن 


لل 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الجو بدا بارداً» ساكناً وصافياً بحيث يمكن رؤية الخطوط في الأفق التي 
كانت تمثل شبه جزيرة هيلاء وكذلك اثنتين أو ثلاث سحب من الدخان 
المتبدد» إضافة إلى حمولة سفينة تجارية تطاولت في الأفق البعيد. 

وصلنا إلى صخور الغرانيت في أطراف سدّة الموج العريضة؛ واحداً 
تلو الآخرء وعلى مسافات متباينة» فارتدينا أنا وأمي جواربنا وحذاءينا من 
جديد» وعاونتني أمّي في شد الربّاط» حين كان ماتسرات ويان يقفزان من 
صخرة إلى أخرى على مفرق السذة الوعر في اتجاه البحر المفتوح. وعبر 
فجوات الدعامات الصخرية نمت ذقون وشوارب من الطحلب رطبة غير 
مشذبة . فتمنى أوسكار أن يمشطها. لكن أمّي أخذت بيدي فتعقبنا الرجلين 
اللذين كانا يتصرفان كتلميذين صغيرين. كان طبلي يرتطم بركبتي في كل 
خطوة» ومع ذلك فإنني لم أسمح بانتزاعه مني حتى في ذلك المكان. 
ارتدت أمّي آنذاك معطفاً ربيعياً أزرق الحاياف وكميّن لهها لوق العوت 
البري. وسبب لها حذاؤها ذو الكعب العالي ب ا صخور 
الغرانيت. وتلفعت أناء كما كنت أفعل في أيَام الآحاد والعطل» بمعطف 
البحارة ذي الأزرار الذهبية التي تشبه شكل المرساة. وثمة شريط عتيق من 
مجموعة تذكارات السيّدة غريتشن شفلر كُتب عليه «2اذلفنازه5 8115» 
كان يؤطر قبعتي البحرية؛ ولولاه لرفرفت بفعل الريح» بينما فتح ماتسرات 
أزار معطفه البنيّ . 

وقد ارتدى ويانء المتأنق كعادته؛ معطفاً متين النسيج بأزرار كثيرة من 
الجانبين وياقة لامعة من المخمل. وقفزنا حتى وصلنا العلامة البحرية في 
نهاية السدّة. كان هناك رجل عجوز يجلس تحت علامة البحر وقد ارتدى 
سترة مبطنة بالقطن واعتمر طاقية عمّال الشحن والتفريغ. كان يضع إلى 
جانبه كيس بطاطس فيه حركة واهتزاز. كان الرجل» الذي لعلّه من أهالي 
بروزن أو نويفارفاسرء يمسك بطرف حبل غسيل ملطخ بحشائش البحر 
ومدلى في مياه نهر موتلاو الشديدة الملوحة التي لم تكرر المصبّ وتتلاطم 
بصخور السدة دون معونة البحر المفتوح. 

أردنا أن نعرف لماذا كان الرجل ذو الطاقية العمّالية يصطاد السمك 


١04١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


بحبل غسيل عاديّ وربما بلا غمّاز شصٌ طاف. فسألته أمّي بنيّة صادقة» 
وبتهكم» ثم خاطبته بصيغة العم. فابتسم الرجل بابتسامة لا تخلو من 
شماتة» وكشف لنا عن أسنان مثلومة نخرها التبغ ثم بصق» دون يعطي 
إيضاحاً» فتطاير لعابه الغليظ الجاف في الهواء واستقر في المياه المتعفنة 
بين صخور الغرانيت الملوثة بالقطران والزيوت. فتأرجح الإفراز هناك فوق 
العفن وقتاً طويلاً إلى أن انتشله نورس وهو محلّق» متفادياً الاصطدام 
بالصخور بمهارة» ثم سحب ورائه سرباً من النوارس الناعقة. 

كنا هممنا بالمغادرة» إذ أن الجو على السدّة أصبح باردء حين بدأ 
الرجل ذو الطاقية يسحب الحبل جذبة بعد أخرى. وبالرغم من ذلك 
أرادت أمّي الذهاب» إلا أن ماتسرات لم يرد لتحرك من مكانه. وكذلك 
فعل يان الذي لم يتردد يوماً في تلبية رغبات أمّيء فأحجم تلك المرّة عن 
تقديم المساعدة لها. وكان الأمر بالنسبة لأوسكار سيّان إذا ما كنا سنبقى أم 
نغادر. ولأننا بقينا فقد أخذت أتفرج. عندما جمّع الرجل الحبل بين ساقيه 
وهو يمسح عنه حشائش البحر عند الجذب المنتظم» تأكد لي بأن السفينة 
التجارية التي لامست بالكاد حمولتها أفق البحر قبل حوالي نصف ساعة. 
قد غيّرت اتجاها الآن في المياه العميقة متجهةٌ صوب الميناء؛ فإذا كانت 
تمخر البحر عميقاً على هذا النحو؛ فإنها لا بدّأن تكون باخرة شحن 
سويدية محملة بالحديد الخام» حسب تقدير أوسكار. ١‏ 

لكنني صرفت نظري عن الباخرة السويدية عندما استقام الرجل بتكلف 
وخاطب ماتسرات بالقول «تشوف شوية» ما الذي جرى وما جرى لهي 
لكن ماتسرات لم يقفه منه شيئاًء ومع ذلك أيدّ قوله. «نعمء بلى» 
تحب؛... و«تشوف شوية» وصار عامل الشحن والتفريغ يردد عبارته 
باستمرار وهو يتابع جرٌ الحبل. وإن بجهد هذه المرّة» ثم نزل عبر 
الصخور في الاتجاه المعاكس للحبل» ودس - لم تستطع أمَي أن تشيح 
بصرها إلى الجانب في اللحظة المناسبة ‏ دس ذراعيه العريضين في مياه 
لكلو المقرهة بين صكرر الكرانيهه واخة ويحفه بت الراك قوم 
ماء ثم ثبت مسكته» وجذب فقذف بشيء ماء ونادى بصوت عال لكي 


؟4١‏ 
1_طماع !© :121 ]آنلا 1 


نها مكاناً؛ وقذف في وسطنا بشيء ثقيل كان يقطر ماءً؛ قذف بكتلة حيّة 
يتطاير منها الرذاذ: قذف برأس حصان طازج كأنه حقيقيَ» رأس حسان 
أسودء حصان ذو عرف أسودء لعلّه كان يصهل في الأمس أو قبله؛ إذ إنه 
لم يتعفن بعد» ولم تصبح رائحته نتنة؛ كانت له على الأكثر رائحة مياه 
مولتاو» إلا أن كلل شيء هناك كان ينضح برائحة السدّ حاجز الأمواج. . 

ثم وقف ذلك الرجل صاحب الطاقية التي تزحزحت نحو قفا 
مخيماً بذراعيه الواسعين على تلك القطعة من جسد الحصان. التي انزلقت 
منها أسماك الحنكليس الرفيعة كالثعابين» انزلقت غاضبة بلونها الأخضر 
الفاتح. لاقى الرجل صعوبة في القبض عليها؛ لأن أسماك الحتكليس 
تحركت بسرعة وخفّة على الصخور الناعمة والمبللة إضافة إلى ذلك. 
فضلاً عن أن النوارس حضرت على الفور» تنعق فوق رؤوسناء ثم هجمت 
باندفم»؛ وتمكنت خلال مجموعات ثلاثية ورباعية من القبض» وهي تعبث 
محلقة» من القبض على سمكة ثعبان صغيرة أو متوسطة الحجم. ولم 
تنصاع لأوامر الطرد؛ إذ إن السدّة كانت ملكها. وبالرغم من ذلك استطاع 
الرجل الذي كان يطرّح بذراعيه ليبعد النوارس» من القبض على حوالي 
عشرين سمكة صغيرة ليدسّها ذ في الكيس الذي أمسك به ماتسرات» معلناً 
بسرور رغبته في المساعدة. ولذلك فإنه لم ير وجه أمّي الذي استحال لونه 
أصفر كالجبن» قبل أن تضع ذراعها ومن ثم رأسها على كتف يان وعلى 
ياقة معطفه المخملية. 

لكن بعدما أصبح سمك الثعبان الصغير والمتوسط الحجم في الكيس 
وبدأ الرجل - الذي سقطت طاقيته عن رأسه أثناء انشغاله ‏ يعصر ثعابين 
الحنكليس الغليظة الداكنة اللون ليخرجها من الرِمّة؛ اضطرت أمّي إلى 
الجلوس؛ فحاول يان أن يدير رأسها إلى الجانب» غير أنها رفضت؛: 
وثبتت عينيها الواسعتين كعيني البقرة وبقوّة في مشهد ديدان الماء الفخمة 
التي جذبها الرجل. فزفر الرجل حينئذ قائلاً اتحبين تشوفي؟ تشوفين 
شوية؟» ثم فغر فم الرْمّة مستعيناً بجزمته الطويلة» ليحشر عصاً بين فكيهاء 
فتولد انطباع وكأن فكي الحصان السليمين الصفراوين كانا يقهقهان. عندما 


1١97 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


دس الرجل - الآن أصبح من الممكن التعرّف على أنه كان أقرع بيضويّ: 
الرأس - يديه معاً في بلعوم الحصان وأخرج دفعة واحدة سمكتي تثعبان 
بطول الذراع وبعرضهء فتحت أمَي فكيها أيضاً وقذفت بإفطار الصباح» 
خكارة زلآل البيض وغيوط صغاره الموزغة بين فنات الخيد الأبيض 
المخلوطة بالقهوة والحليب» قذفت ذلك كله فوق صخور السدّة» ثم 
أخذت تخنق بلعومها لتفرغ جوفها بالكامل» لكن لم يخرج منه المزيد؛ إذ 
إنها لم تأكل كثيراً أثناء الإفطارء لأنها كانت مصابة بالسمئة» لذلك كانت 
تجرب أنواعاً مختلفة من وسائل الرجيم التي كانت نادراً ما تلتزم بها - 
كانت تأكل خفية ‏ إلا أنها لم تنقطع عن حضور ألعاب الرياضة البدنية كل 
ثلاثاء فى جمعية النساء» حتى لو سخر منها يان وماتسرات كذلك» كلما 
شوااك معنا خرج الألعاب الرياضية ذاهبة إلى النساء الغريبات الأطوار» 
لتمارس الألعاب السويدية» دون أن تخف سمتتها. 

لقد قذفت أميّ ذلك بنصف رطل على الصخرء وأرادت أن تعصر 
نفسها لتقذف أكثر فأكثر» لكنها لم تتمكن من تخفيف وزنها. ولم يخرج 
منها سوى المخاط المخضرًء فأقبلت النوارس على الفوار. أتت النوارس 
عندما بدأت أمّي تبصق؛. وصارت تحوم دانيةً نحو الأسفل» هابطة بنعومة 
وبأحجام ضخمة سمينة في آن» ثم صارت تتصارع على فطار أمّي؛ غير 
عابئة بخطر الإصابة بالسمنة» وبات من الصعب إبعادهن ‏ فمن ذا الذي 
سيفعل ذلك؟ - إذا كان يان يخاف من النوارس ويضع يديه أمام عينيه 
الزرقاوين الجميلتين لغرض الوقاية. 

إلا إنهم لم يصغوا حتى إلى أوسكار الذي استخدم طبله ضد 
النوارس» مثيراً بهراوتيه الصغيرتين فوق الطلاء الأبيض زوبعةً في وجه 
البياض الملحّق في السماء. ولم يجد ذلك كله نفعاء بن محل العوارتن 
تزداد بياضاً أكثر فأكثر. أمّا ماتسرات فلم يشغل نفسه بأمّي قطء وصار 
يضحك مقلّداً الرجل صاحب الطاقية» متظاهراً بقوّة الأعصابء وعندما 
أوشك الرجل على الانتهاء من مهمته بعدما أخرج أخيراً سمكة ثعبان 
فششمة فن أذن جمجمة الحصضان» ساحيا معه النشاط الأبيض لمح 


١4: 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


الحصان» لاحت علامات الاصفرار على محيا ماتسرات» ومع ذلك لم 
يعخل عن ادعائه» فاشترى من الرجل سمكتي ثعبان كبيرتين وائنتين 
متوسطتي الحجم بثمن بخس» وحاول إضافة إلى ذلك أن يخفض السعر. 

آنذاك امتدحتٌ يان برونسكي الذي بدا وكأنه أراد البكاءء لكنه أعان 
أنّي على الوقوف على قدميهاء فوضع ذراعه خلف ظهرها وأبقى على 
الأخرى أمامهاء ثم قادها بعيدا عن المكان» وقد بدا ذلك التصرف غريباء 
إذ أن أمّي كانت تتعثر منتقلة بكعبها العالى من صخرة إلى أخرى في اتجاه 
الشاطئ» وتنحني عند كل خطوة» غير أن كاحلها لم ينفسخ على الرغم 
من ذلك . 

وبقي أوسكار وماتسرات واقفين إلى جانب الرجل الذي اعتمر طاقيته 
من جديد وشرح لنا لماذا عبأ كيس البطاطس بالملح الخشن إلى النصف. 
كان الملح موجوداً في الكيس لكي تضلّ أسماك الحنكليس طريقها فيه 
فتموت أثناء اللف والدوران فيسلخ الملح قشرتها المخاطية ويمتصٌّ 
الأخلاط المخاطية من الداخل؛ لأن أسماك الثعبان عندما تكون في الملح 
لا تتوقف عن الطواف» فتدور وتطوف إلى أن تفطس» فتئرك مخاطها في 
الملح. والمرء يفعل ذلك إذا ما أراد إتضاج الحتكليس بالدخان فيما بعد. 
كان هذا في الواقع ممنوعاً من قبل الشرطة ومن قبل جمعية الرفق 
بالحيوان» لكن أسماك الحنكليس يجب أن تجري وتطوف في كل 
الأحوال. وإلا فكيف يتسنى للمرء إزالة المخاط من أسماك القمائيق 
الميتة» من الداخل أيضأء بدون الملح؟ بعد ذلك تُدعك بالجلة البحرية 
الناشفة دعكا محترماً» ثم تُعلق فوق برميل الدخان على خشب الزان 
المتفحم» لتنضج بالدخان. 

فرأي ماتسرات أن من العدل ترك أسماك الثعبان تجري في الملح؛ 
فقال إنها تسير حتى فى قحفة الحصان» فأضاف الرجل صاحب الطاقية 
شيئاً على كلام ماتسرات : وأيضاً في جثث البشر؛ فخصوصاً بعد المعركة 
البحرية في «سكاغراك» أصبحت أسماك الثعبان دسمة ضخمة كما شيّع 
عنها. فقد حدثني طبيب في المصحّة قبل بضعة أيام عن سيّدة متزوجة 


١6 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


كانت تقضي وطرها بالحنكليس الحيّ. لكن السمكة عضتها من الداخل» 
فاستوجب إدخال المرأة إلى يمتني ولهذا السبب فإنها انقطعت عن 
إنجاب الأطفال. 

وربط الرجل الخرج بأسماكه وملحه : لم ألقى به على كتفه بما أوتي 
من خقة . نا جل لفسا الوذ في لحرلا رةه وسار في الوقت 
الذي سارت فيه السفينة التجارية صوب نويفارفاسر. كانت الباخرة تحمل 
على متنها ألفاً وثمائمائة طنّء طنّء ولم تكن سويدية» بل فنلندية» ولم تشحن 
الحديد الخام؛ بل الخشب. اتضح أن الرجل صاحب الخرج كان يعرف 
بعض الناس على ظهر السفينة الفنلندية؛ لأنه أخذ يلوّح بيده إلى القارب 
الصدئ في الجهة الأخرى» مطلقا صيحة ماء فلوّح إليه نفر من بحارة 
السفيئة الفنلندية وزعقوا أيضا. لكن لماذا لوّح ماتسرات بيده وهتف بكلام 
سخيف ١‏ تحيّة يا سفيئة!» فأن ذلك أمراً بقي غامضاً إلى اليوم؛ إذ أنه 
باعتباره من مواليد حوض الراين» لا يفقه شيئاً من لغّة البحارة؛ كما أنه لم 
يكن يعرف فنلندياً واحداً أبداً. بيد أنه اعتاد على أن يلوّح بيده إذا ما لوّح 
الآخرون؛ وأن يزعق ويضحك ويصفق إذا ما زعق الآخرون أوضحكوا 
أوصفقوا. ولهذا السبب بالذات» فإنه انتسب إلى الحزب في وقت مبكر 
تسيا حين لم يكن الأمر ضرورياًء ولم يحظ منه بشيء» سوى أنه استلزم 
منه أن يمضي ضحى كل أحد في شؤون الحزب. 

وسار أوسكار على مهل خلف ماتسرات والرجل القادم من 
نويفارفاسر والسفينة الفنلندية المحملة فوق طاقتها. فصرت ألتفت بين 
الحين والآخرء لأن الرجل صاحب الطاقية ترك رأس الحصان ملقى تحت 
علامة البحر» لكن لم يعد ممكناً رؤية الرأس» فالنوارس أحاطت به من 
كلّ جانب كما لو أنها رشته بمسحوق البودرة البيضاء. فاستحال إلى ثقب 
أبييض خفيف تماماً في البحر الأخضر كقنيئة الزجاج الخضراء. كانت ثمة 
سحابة مغسولة توآ - بدا بإمكانها أن ترتفع أيّ لحظة في الهواء وبدقة 
شديدة - قد أطبقت على رأس الحصان فغطته وهي تصرخ بصوت مدوّ؛ 
أطبقت على رأس حصان لم يعد يصهل» بل كان يصرخ ليس إلا. 


١05 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


بعدما اكتفيت من المشهد أخذت أحث الخطى مبتعداً عن النوارس 
وعن هاتسرات 6 قارعاً بقبقتي على الطبل أثناء القفزء فنتجاوزت الرجل 
ماحب الطاقية الذي بدأ يدخن غليونا قصيراء حتى وصلت إلى يان 
برونسكي وأمّي في مقدمة السدّة. كان يان مازال يمسك بأمّيء إلا أنه 
أخفى يده تحت كم المعطف, وكانت أمّي من ناحيتها تضع يدها في جيب 
بنطلون يان» لكن ماتسرات لم يستطع رؤية ذلك؛ لأنه كان بعيدا خلفنا 
منشغلاً بأسماك الحنكليس الأربع التي خدرها له الرجل ذو الطاقية بحجرء 
فلفها بجريدة كان قد قرأها بين صخور الحاجز البحري. 

حينما لحق ماتسرات بنا هرّ لق الأسماك وصرّح قائلاً: «إنه طلب 
منّى درهما ونصف» لكنني أعطيته درهماً واحداً وانتهى الأمر.» 
"لطر تين صل رجه أت ««وابععادت يديها من جديية قم تالك! 
الا توهم نفسك يا رجل بأنني سآكل أيضاً من هذه الأسماك. إنني لا آكل 
السمك مطلقاء ناهيك عن الحنكليس .» فضحك ماتسرات: «لا تقولي هذا 
الكلام يا بنت! كنت تعلمين بأن الأسماك موجودة بوفرة هناء وكنت 
تأكلينها وهي طازجة. سنرى بعدما يقوم خادمك وعبدك بتحضيرها بكل 
ملحقاتهاء إضافة إلى قليل من الخضرة.» وصمت يان برونسكي الذي 
سحب يده من معطف أمّي في الوقت المناسب» وصرت أنا أطبل» لكي 
لا يعودوا إلى سيرة الأسماك حتى نصل إلى بروزن. وأيضاً في محطة 
انتظار الترام» كذلك في المقطورة حلتٌ دون استمرار الثلاثة البالغين في 
الحديث. حيث بدت أسماك الحنكليس هادئة نوغا ها عند محطة 
اسازبه». لأنّ الترام السائر في الاتجاه الآخر كان موجوداًء وبعدما اجتزنا 
المطار بمسافة قصيرة» بدأ ماتسرات يتحدث عن جوعه الهائل؛ على 
الرغم من تطبيلي. فلم تعره أمّي انتباهاًء ولم تنظر له أو لناء إلى أن قدم 
لها واحدة من سجائره «الريغاتا؛ وعندما أشعلها وهي تضغط بشفتيها على 
عقب السيجارة الذزهبي» ابتسمت لماتسرات» لأنها كانت تعلم بأنه لا 
يحب أن تدخن علناً أمام الناس . 

ونزلنا في ساحة ماكس-هالبه» فمسكت أمَي بذراع ماتسرات وليس 


/اة ١‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بذراع يان» مثلما توقعت. فسار يان إلى جانبي» وهو يقبض على يدي 
ويدخن سيجارة أمّي إلى النهاية. وفي لابسفيغ كانت ربّات البيوت 
الكاثوليكيات يواصلن نفض بسطهن. وحينما فتح باب البيت أبصرت في 
السلّم السيّدة كاتر الساكنة في الطابق الرابع إلى جوار ماين» نافخ البوق. 
كانت تسئد بذراعيها الحمراوين الزرقاوين الشديدتيّ الضخامة بساطا بنيّا 
ملفوفاً حملته على كتفها اليمنى. ومن تحت إبطيها لاح شعرها الأشقر 
الملتف على بعضه؛ شعرها المالح بفعل العرق. كان البساط مثثنياً من 
الأمام ومن الخلف. بدا أن بإمكانها حمل زوجها السكير على هذا النحوه 
إلا أن زوجها كان قد غادر الحياة. وعندما مرقت تحمل شحمها الملفوف 
بثوب رقيق أسود لامعء خفقتني رائحة عرقها: التي كانت عبارة عن خليط 
من محلول النشادر والقِنّاء وفحم الكاربيد - لابد أن تكون عليها العادة. 
وفي الحال تناهى إلى سمعي ضرب البسط المنتظم القادم من أفنية 
البنايات» فطاردني في البيت نفسه» وصار يلاحقني إلى أن تخلصت منه 
أخيراً عندما تربعت في خزانة الملابس في غرفة النوم» إذ أن المعاطف 
الشتوية المعلقة هناك كانت قادرة على امتصاص القسم المزعج من ذلك 
الصخب السابق لعيد الفصح . 

لكنّ السيّدة كاتر النافضة البساط لم تكن وحدها التي اضطرتني إلى 
الهرب داخل الصندوق. فقبل أن يلقي ماتسرات ويان وأمّي معاطفهم اندلع 
الشجار حول وجبة طعام الجمعة الحزينة. غير أن الأمر لم يقتصر على 
الحنكليس وحده؛ إنما لعبت أنا أيضاً دوراً في الموضوع عبر سقطتي 
الشهيرة من سلّم القبو: «أنتٌ المذنب» بل إنتٍ المذنبة والآن سأجهز 
حساء الحنكليس» لا داعى للحساسية» أفعلٌ ما تشاءء إلا الحنكليس» 
وهناك علب كثيرة طعام محفوظة في القبوء أجلب القطر إلى الأعلى؛ 
وأقفل الباب جيّداً حتى لا تتكرر الحادثة مرّة أخرى» دعى هذه الأحاديث 
القديطة المكررة ماعل انهاه الستكلين» وعنى» بياعمليا بالغايب 
والخردل والبقدونس والبطاطس المملحة ثم أغطيها بورقة من الغار 
وقرنفلة, كلا يا ألفريدء اتركها وشأنها إذا لم تكن راغبة؛ لا تدخل 


١4 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


نفسك» إنني لم اشتر أسماك الحنكليس عبئاً وهدراء سأنظفها وأنقعهاء 
كلاء كلاء سنرى عندما تنصب المائدة» من هو أوّل من سيقف أمام 
المائدة» دعونا نرى من ذا الذي سيأكل ومن ذا الذي سيمتنع .2 ثم أطبق 
ماتسرات باب غرفة الجلوس وراءه واختفى في المطبخ» فصرنا نسمع 
50 انشغاله بشكلٌ واضح. وك ا ل 6 
بالسكين مثل علامة الصليب خلف الرأس» أمّا أمّي التي كانت تتمتع بخيال 
واسع فقد أرخت نفسها على الأريكة» وقام نان برونسكي على الفور 
بتقليدهاء ثم شبكا أصابعهما وأخذا يتهامسان باللغة الكاشوبية. 

وحين توزع الثلاثة في أنحاء البيت» لم أكن قد جلست في الخزانة» 
إنما فى غرفة الجلوس أيضاً. كان ثمة مقعد للأطفال إلى جانب المدفأة 
الحجرية؛ حيث أخذت أهز ساقىٌ» تاركاً يان يثبت بصره فيّ» فشعرت 
بأنني كنت أقف في طريقهماء على الرغم من أنهما لم يكنا قادرين على أن 
يفعلا شيئاً» مادام مات براك كان حاضر ا خلت الجدار) وإن بصورة غير 
مرئية» لكنه كان يهدد بالأسماك نصف الميتة ويلوّح بها كما السياط. 
وهكذا تبادلا الأيدي» واحتضنا بعضهما وتجاذبا أطرافهما العشرين» حتى 
بدأت مفاصلهما تطقطق» فأجهزا علي بتلك الأصوات. ألم يكن نفض 
بساط السيّدة كاتر في الفناء كافياً؟ ألم يخترق صوت النفض الجدران 
كلهاء مقترباً باستمرار على الرغم من أنه لم يزدد حدة؟ 

وتزحزح أوسكار من المقعد الصغير وأقعى لحظة إلى جوار الموقد 
الحجري. لكي لا يجعل انسحابه مالحوظاء ثم انزلق ان بالتمام والكمال 
عبر عتبة الباب إلى غرفة النوم» وهو منشغل 0 ولكي أتفادى أي جلبة 
تركت باب غرفة النوم مفتوحاً إلى النصف وتيقنت بارتياح من أن لا أحد 
نادى على بالعودة. وفكرت فى فيما إذا كان على أوسكار الاختباء تحت 
السرير آم في الخزائة؛ فآثرت الخزانة؛ لأنني سأوسخ ملابس البحرية 
الزرقاء المعقدة التفصيل لو دسست نفسى تحت السرير. استطعت بمشقة 
الوصول إلى مفتاخ الخزانة» فأذرقة ةت واحدة؛ وأفردتث مصراعيه 
المزودين بالمراياء وأزحت إلى الجانب بهراوتيّ شماعاتٍ الملابس 


حل 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المصفوفة على القضيب والتي علقت بها المعاطف والثياب الشتوية. لم 
تكن الفجوة التي نشأت أخيراً عن الزحزحة كبيرة» لكنها بدت كافية 
لصعود أوسكار وجلوسه فيها. بل فتمكنت بجهد من جذب البابين وحشر 
عروتيهما بشال عثرت عليه في أرضية الخزانة» فنشأ شق يتيح الرؤية 
وتسريب الهواء؛ ثم وضعت الطبل على ركبتي» لكنني لم أقرعهء ولا 
حتى بصوت خفيضء بل تركت نفسي سارحة بلا إرادة» تخترقها أبخرة 
المعاطف الشتوية مستحوذةٌ عليها. 

0 أن تكون الخزانة موجودة» ومعها الخامات الثقيلة التي لا 
تكاد :> تتنفس تلك التي أتاحت لي الفرصة لتجميع أفكاري» وربطها في باقة 
وإهدائها بصورة مقبولة» كافية لتقبّل هذه الهدية بفرح معقول» غير ملحوظ 
إلى حدّ ما. وكما هو الأمر دائما عندما أركز أفكاري وأستغل طاقتي 
بعدالة؛ فإنني أنتقل إلى عيادة الدكتور هولاتس في “«بونسهوفرفيغ», 
سن من زياراتي الأسبوعية كل أربعاء إذ أنه كان يهمني . 
كانت أفكاري تطوف قليلاً حول الطبيب الذي كان يفحصني دائماً بطريقة 
بالغة التعقيد» إنما استهدفت الممرضة إنغاء مساعدته. كان مسموحاً لها أن 
تخلع عنّي ثيابي ثم تلبسني إيّاهاء فكانت وحدها المخولة بأخذ قياساتي 
ووزني واختباري» باختصار: لقد كانت تقوم بجميع التجارب التي أجراها 
علي الدكتور هولاتس» فتؤديها بدقّة تامة» لكن بشيء من التجهم؛ معلنةً 
كل مرّة» ويطريقة لا تخلو من التهكمء عن فشل التجارب التي كان 
هولاتس يسميها نجاحات جزئية. غير أنني نادراً ما كنت أتطلع إلى وجه 
الممرضة إنغا. فكان بصري وقلبي المتهيج المحرّض على التطبيل من وقت 
إلى وقت يقعان على بياض ردائها الطبّي النظيف المنشّى وعلى تلك التوليفة 
العديمة الوزن التي كان تضعها على رأسها بمثابة قلنسوة» وعلى دبّوس 
الزينة المحلّى بصليب أحمر. كم كان رائعاً الانتباه إلى ثنيات ثياب مهنتها . 
هل كانت بجسد تحت القماش؟ فوجهها الذي كان يزداد قدمأ باستمرار 
ويداها العظميتان الخشنتان» برغم العناية» تحمل على الاعتقاد بأن 
الممرضة إنغا كانت امرأة. في الواقع لم تعتني الممرضة إنغا بالروائح 


33 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


والعطور التي يمكن أن ينضح بها قوام جسديٌّ مشابه مثلما كانت تنبعث من 
قوام أمّي حين ينضو عنها يان أو ماتسرات ثيابها أمام ناظري. كانت لإنغا 
رائحة الصابون والأدوية التي تصيب المرء بالتعب والفتور. فكم مرّة غلبني 
النعاس حين كانت تجسٌ جسدي السقيم مثلما يدعون: نعاس خفيف كان 
ينبعث من ثنيات القماش الأبيضش؛ وسنٌّ مغلف بحامض الفينول» إغفاءة 
بلا حلم؛ إلا إذا ما كبر دبوّسها واتسع عن بعدء متحوّلاًء لكن لا أعلم إلى 
أي شيء: إلى بحر من الرايات والأعلام» إلى احمرار قمم جبال الألب عند 
الغروب؛ إلى حقل زهور الخشخاش الحمراء؛ مستعداً للانتفاض» لكن 
ضد من» فذلك أمر لم أكن أعرفه: ضد الهنود الحمرء ضد ثمار الكرزء 
ضد الرُعاف»؛ ضد أعراف الديكة؛ وكريات الدم الحمراء أيضاً» إلى أن 
تشكلت خلفية من الوله القائم على الاحمرار المستحوذ على البصر برمته؛ 
خلفية كانت زمانا بديهية ومازالت إلى اليوم» لكنها عصيّة على الوصف. إذ 
لا يمكن التعبير عنها بكلمة أحمرء كما أن الرُعاف لا يفعل ذلك أيضاًء 
وقماش الرايات كان يصبغ نفسه بنفسه؛ وإذا ما نطقت بالرغم من ذلك 
بعبارة أحمر؛ فإن الأحمر لا يريدني» فيقلب معطفه: أسود, ثم أتت 
الطاهية» لوناً أسود يرهبني فيجعلني أصفرء ويخدعني فيجعلني أزرق» فلا 
آمن بالأزرق» ولا تكذب عليّء ولا تجعلني أخضر: أخضر هو التابوت 
الذي أرعى فيه» سيغطيني الاخضرار» الأخضر يجعلني أبيض: ذلك 
يعمدني أسودً» أسود يرهبني فيجعلني أصفرًء والأصفر يخدعني أزرقٌ» 
والأزرق لا أحسبه أخضرء والأخضر يجعلني متفتح حمرةً»؛ وأحمرٌ كان 
لون دبّوس الممرضة إنغاء وإنني حملت صليباً أحمرٌء وبعبارة أدق» حملته 
في ياقة فستانها الخاص بالممرضات؛ بيد أن الأمر لم يقتصر إلا نادراً على 
هذه الانطباعات الأحادية اللرن؛ حتى في خزانة الملابس نفسها. 

كان هناك صخب عديد الألوان انبعث من غرفة الجلوس» فارتطم 
ببابيٌ الخزانة» حتى أيقظني من غفوتي النصفية المهداة إلى الممرضة إنغاء 
والتي استسلمت لها للتو. جلست صاحياًء بلسان غليظ» واضعاً الطبل 
على ركبتي» بين المعاطف الشتوية المتباينة النماذج» أتشمم قيافة ماتسرات 


5١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


الحزبية التي علقت إلى جانبي بحزامها وحمّالاتها الجلدية» وَمِشْبَك 
السلسلة» فافتقدت الثنيات البيضاء لرداء الممرضة: صوف ساقط» نسيج 
ناعم يُطبق على نسيج مضلّع» وفوق رأسي عُلقت موضة القبعات التي 
سادت في الأعوام الأربعة الأخيرة» وعند قدميّ أحذية» واقيات الأحذية 
اللامعة» الكعوب العالية» المسمرة وغير المسمرة» شعاع من النور جاء. 
من الخارج» فنوّه إلى وجود الأشياءء فشعر أوسكار بالأسف؛ لأنه ترك 
شا بين البابين. 

فما الذي يمكن أن يقدمه لى أولئك فى غرفة الجلوس؟ لعل ماتسرات 
بافكدياة رات حين كان على الأريكة لكن ذلك بدا صعب الاتجمال؛ 
لأن بآن كان يفط داقماً بقدر من الحذر ليس فقط أثناء لعب الورق. من 
المحتمل؛ وهذا ما حدث فعلاً» أن يكون ماتسرات قد وضع الحنكليس 
الميّت المعصور والمنقوع والمطبوخ والمتبّل والمذاق كحساء إلى جانب 
البطاطس المملحة الجاهزة للأكل في طبق الشوربة الضخم فوق طاولة غرفة 
الجلوسء ولأن أحداً لم يجلس إلى المائدة» فقد تجرأ على تعداد مقادير 
طبخته؛ فامتدحها من الأعلى إلى الأسفل باعتبارها وصفة طعام كاملة. 
فصرخت أمَي ؛ صرخت بلغتها الكاشوبية. وماتسرات لم يفقه هذه اللغة ولم 
يحبهاء غير أنه أضطر إلى سماعها ففهم ما عنته أمّي ؛ إذ لابد أنها تحدثت 
عن سمك الحنكليس» وعن سقوطي من سلّم القبو كما هو الحال عادةً 
عندما تصرخ أمّي» فردّ عليها ماتسرات. كانوا كلهم يتقنون أدوارهم. فأخذ 
يان يعاتبه» إذ بدون يان لا وجود لمسرحية . أخيراً بدأ الفصل الثاني : فجأة 
رفع غطاء البيانو» وبلا نوتات موسيقية» أي على الغيب» وضعت قدميها 
على بندولي البيانو» ثم ضبّمت جوقة الصيادين تنشد لا على التعيين لحن 
«فرايشوتس»: «ما الذي يتشابه على الأرض.» وفى منتصف إشارة البوق 
المعلنة نهاية الصيد والمنبعثة من غطاء البيانو الرنافة تخلت عن البندولين» 
فانقلب كرسي العزف» ثم أقبلت أمّيء فوصلت إلى غرفة النوم» وقذفت 
مرايا الخزانة بنظرة عاجلة» ثم ألقت بنفسها على نحو عرضيّ فوق فراش 
الزوجية تحت قبّة السرير الزرقاء» رأيت ذلك من خلال الشقٌ» ثم أخذت 


للا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


تحب وتولول وتفرك أصابعها مثلما فعلت مريم المجدلية التائبة المطبوعة 
ل ا وو يد فأصغيت فترة طويلة 
3 حيبا مي ؛ وإلى طقطقة خشب السرير الخفيفة. والهمهمة الخفيضة في 
غرفة الجلوس . وكان يان يهدّأ ماتسرات» فتوسل ماتسرات بيان أن يهدّأ أمّي 
أيضاً. فخفتت الهمهمة. ودخل يان إلى غرفة النوم. الفصل الثالث: وقف 
يان أمام السرير» فتأمل بالتناوب أمّي والمجدلية التائبة» ثم جلس على 
بطنهاء ملتمسا مؤخرتهاء ثم تكلم معها.باللغة الكاشوبية ليسكن من روعها؛ 
وبما أن الكلمات لم تنفع معها فقد سرح بيده تحت ثوبهاء حتى انقطعت عن 
النحيب» وانتزع يان بصره عن المجدلية الكثيرة الأصابع. يا ليت أن يكون 
المرء قد رأى يان وهو ينهض بعدما أنجز مهمته؛ وصار يمسح أصابعه 
بمنديل جيب» ثم خاطب أمّي بصوت مرتفع» ليس باللغة الكاشوبية هذه 
المرّة» لكي يفهم ماتسرات الموجود في غرفة الجلوس أو في المطبخ» 
مشدداً على كلّ كلمة: «تعالي يا آغنس؛ دعينا ننسى الموضوع. ألفريد أبعد 
الحنكليس» ورماه في المرحاض. سنطرق الآن ورق «السكات» المحترم» 
فتلكن من ناحيتي لعبة ربع الفلس». فإذا ما تجاوزنا كلل شيء» وتفاهمنا من 
جديدء فإن ألفريد سيقلى لنا البيض والفطر والبطاطس .» 

لم تعلق أمّي بشيء» إنما نهضت من الفراش؛ وسوّت اللحاف 
الأصفرء وسرحت شعرها قبالة مرايا الخزانة» ثم غادرت غرفة النوم خلف 
يان . فانتشلت بصري من الفتحة. وسمعتهم بعد برهة قصيرة وهم يخلطون 
الورق. كان ذلك مصحوياً بقهقهات متوجسة » فقطع ماتسرات ووزع يان» 
وأخذوا يزايدون متحدين بعضهم. وأعتقد أن بار سام 
تنازل عند الرقم ثلاثة وعشرين» بينما صعّدت أمّي من مزايدتها حتى 
أوصلت الرقم إلى سئة وثلائين» فتنازل يان أيضاًء ثم لعبت أمّي لعبة 
عابسمة. شمرتها على تحر لقيفب. آنا لعية #اللديناري» التي أعقيت بذلانا 
فقد كسبها يان ببساطة وثقة مطلقة» في حين أمّي ربحت اللعبة الثالثة» 
«ورق الكوبة غير الزوجي» وإن بصعوبة. 


ودلا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وبلا شك أن ورق اللعب الذي تخلله البيض المقلي والفطر 
والبطاطس المملحة سيستمر إلى الليل» فلذلك لم أعد أصغي إلى اللعبات 
الأخرى» وحاولت أن اللحاق بالممرضة إنغا ورداء مهنتها المشجع على . 
النوم. إلا أن الإقامة في عيادة الدكتور هولاتس شابها الكدر والغمٌّ» ليس 
لأنّ الألوان الحمراء والزرقاء والصفراء بدأت تتكلم في سياق النص 
الأحمر لدبوّس الصليب الأحمرء بل لأنْ حوادث فترة المحى أقحمت 
نفسها بإلحاح وسط تلك التصورات: فكلّما انفتح باب العيادة» المؤدي 
إلى الممرضة إنغا؛ فإن المنظر الصافى والشمَاف الذي يولده زيّ 
الممزفيات لوزيطل وعد احسب» إنما حصن ذلك الريجل آيناً الذي 
وقف في مرفأ السدّة عند نويفافاسر شتراسه تحت علامة البحر» ويستل 
الحنكليس من رأس حصان مكتظ بسمك الثعبان ويقطر ماءً. ولم يكن 
ذلك البياض الذي أفصح عن نفسه بصورة جليّة» حتى أنني أوشكت أن 
أرجعه إلى إنغاء سوى أجنحة نوارس خدعت الأبصار للحظة حين أطبقت 
على الرمة والحنكليس معاًء إلى أن تفتق الجرحء لكنه لم ينزف أو يئر 
دماًء بل ظلّ أسود. رأس الحصان المقطوع» والبحر كان أخضر كالقنينة 
الخضراء» ثم جلبت السفينة الفنلندية بعضاً من الصدأ إلى المشهدء حيث 
شحنت خشباًء والنوارس - على المرء أن لا يحدثني بعد الآن عن 
الحمائم - خيّمت على الضحية» وصارت تغمس قوادمها وترمي 
بالحنكليس إلى ممرضتي إنغاء التي كانت تتلقفه» مبتهجة به» حتى 
تحولت هي نفسها إلى نورس» متخذةًٌ شكلاء ليس بشكل حمامة» بل 
روحاً مقدسة» ثم انقلبت إلى هيئة أخرى, تدعى نورساً هناك» هابطاً على 
اللحم كسحابة» محتفلا بعيد العَنْصَرَة . 

فتخليت آنذاك عن الخزانة» وعن العناء» فاصلا بابي الخزانة بتبرم ثم 
ترجلت من الصندوق» ورأيت نفسي بلا تغيير في المرآة؛ فكنت مع ذلك 
فرحاً؛ لأن السيدة كاتر توقفت عن نفض البسط . كانت الجمعة الحزيئة قد 
انتهت بالنسبة لأوسكار» غير أن فترة آلام المسبح ستحل بعد عيد الفضح. 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تضييق التابوت من ناحية القدمين 


لكن بالنسبة لأمّي فقد بدأت رحلتها مع المعاناة بعد جمعة رأس 
الحصان المليء بالحنكليس» بعد عيد الفصح الذي أمضيناه مع عائلة 
برونسكي في ريف بيساو عند الجذة والعمّ فنسنت» بحيث أن طقس مايو 
المعتدل نفسه لم يلطف من حالتها. ولم يكن صحيحاً أن ماتسرات كان 
يجبرها على أكل السمك. إذ أنها بدأت برغبتهاء مدفوعة بعزيمة شديدة 
الغموض» بعد مضي أسبوعين تقريباً على عيد الفصح» تلتهم الأسماك 
بكميات كبيرة» دون أدنى مراعاة لشكلهاء حتى أن ماتسرات خاطبها ذات 
مرّة: الا تأكلي هكذا بنهم كما لو أنك مجبورة على الأكل.» 

غير أنها بدأت تفطر بالسردين المنقوع بالزيت» وبعد ساعتين» عندما 
يخلو الدكان من الزبائن» تهرع نحو صندوق سمك الرنجة الصغير» وفي 
الغداء توصي على سمك مقلي أو سمك القَّدَ مع الخردل» وفي وقت 
العصر تكون ممسكة بمفتاح العلب: حنكليس منقوع بالجلية وسمك 
الرنجة الملفوفة والسردين المقلي» وإذا ما امتنع ماتسرات عن قلي السمك 
أو طبخه للعشاءء فإنها لم تنطق بحرف واحدء فلا تشتمه أو تعنفه» بل 
تنهض من الطاولة بهدوءء وتعود من الدكان حاملة قطعة من الحنكليس 
المدخن, فتنعدم شهيتنا على الفور؛ لأنها كانت تحك بالسكين بقايا السمن 
الداخلي والخارجي عن الحنكليس» بل أنها لم تعد تتناول بالسكين شيئاً 
آخر سوى السمك. وفي النهار كانت تتقيأ مرات عديدة. فوقع ماتسرات 
باضطراب وقلق» وسألها: «هل أنت حامل ربماء وإلا فما الذي حدث 
لك؟؛ فكانت أمّي تردّ: «لا تقل هذا الهراء!» هذا إذا ما كانت ترد أصلا. 


56 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ذات أحدء وفي فترة الغداءء عندما صفعت الجدّة كولياجك الطاولة 
براحتيها بين الأطباق حين رأت الحنكليس يعوم أخضر في الزبد ومعه 
البطاطس الطازجة» قائلة: «هيّا يا آغنسء» انطقي» ما الذي حل بك؟ لماذا 
تأكلين السمك إذا لم تتقبليه» ولا تقولين السبب وتتصرفين مثل 
المجانين؟! اكتفت أمّي بهرّ رأسهاء وأزاحت البطاطس إلى الجانب» ثم 
غمست الحنكليس في الزبد وصارت تلتهم بلا كلل كما لو أنها تنجز مهمة 
تستلزم الجدّ والمثابرة. ولم يقل يان برونسكي شيئاً قطا. ومرّة أخرى 
عندما باغتها معه فوق الأريكة» حيث شبكا أيديهما كعادتهماء وقد انزلقت 
ثيابهماء أثار انتباهي الفتور الذي اعترى أمَي والدموع في مآقيّ يانء بيد أن 
ذلك المشهد انقلب فجأة إلى نقيضهء فوثبت أمّي ومسكتني ثم رفعتني 
وحضنتنى» مظهرة لى هوّة لا يمكن ردمها بكميات هائلة من الأسماك 
المقلية والخاوة والمتشوعد والمدخنة . 

وبعد ذلك بأيّام قليلة رأيتها في المطبخ ليس فقط تلتهم السردين 
اللعين المنقوع في الزيت» بل تسكب في مقلاة صغيرة زيتَ العلب القديمة 
التي احتفظت بهاء ثم تسخن الخليط السائل فوق شعلة غاز» وتشربه» 
فسقطت يداي من الطبل وأنا أقف في باب المطبخ. وفي المساء ذاته تقلت 
أمّي إلى المستوصف البلدي. فصار ماتسرات ينتحب باكياً قبل أن تصل 
سيارة الإسعاف: «لماذا لا تريدين الاحتفاظ بالطفل؟ لا يهم من هو أبوه. 
أم أن الموضوع مازال يدور حول رأس الحصان التافه؟ يا لتنا لم نذهب 
إلى هناك! 

أرجوك أن تنسي يا آغنس» فلم أكن أقصد ذلك.» 

وجاءت عربة الإسعاف» وحملت أمّي إلى داخلهاء فاجتمع الصغار 
والكبار في الشارع؛ ثم نقلت إلى المستوصف, فاتضح أنها لم تنس السدة 
ولا رأس الحصانء وأنها حملت معها ذكرى الحصانء» بغض النظر عما إذا 
كان اسمه هانس أم فرتس! كانت أعضاؤها تتذكرء بكل وضوح وألمء 
نزهة الجمعة الحزينة؛ لذلك أتاحوا لأمّي التي كانت متفقة مع أعضائها 
على رأي واحدء أن تغادر الحياة خشية أن تتكرر تلك النزهة. وتحدّث 


5 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


لدكتور هولاتس عن إصابتها باليرقان والتسمم بالسمك. وفي المستشفى 
نيت أن أمَيّ نّ كانت حاملاً في شهرها الثالث» فخصصت لها غرفة بمفردهاء 
وصارت تظهر لناء نحن الذين استطعنا زيارتها طوال أربعة أيَام وجهها 
المشمئز الذي هذته التشنجات» الذي اسم لي آحياناً غير غثيانة: وعلى 
الرغم من أنها بذلت جهداً كبيراً لتدخل الفرح إلى زرّارهاء مثلما أبذل 
جهدي في هذه الأيام لكي أجعل أصحابي يشعرون بالسعادة خلال أوقات 
الزيارة» إلا أن نوبات التقيؤ المتعاقبة باتت تطيح بجسدهاء فأخذ ينهار 
ببطء» حتى وإن لم يخرج منه شيئ» إلى أن جاء اليوم الرابع للاحتضار 
الصعب» فلفظت أنفاسها الأخيرة التي لابد أن يلفظها كلّ إنسان في آخر 
المطاف» ليمنح بعدها شهادة الوفاة. 

فتنفسنا الصعداء عندما تأكدنا من عدم وجود أية أسباب أخرى قد 
تؤدي إلى إثارة التقيؤ الذي شوّه جمالها. وحالما وضعوها في الكفن بعد 
الغسل» أطلت علينا مرّة ثانية بوجهها المستدير الأليف الذكي والساذج 
على السواء. فأطبقت رئيسة الممرضات جفني الراحلة؛ إذ أن ماتسرات 
ويان برونسكي أجهشا في البكاء إلى حدّ العمى . 

لم استطع البكاء ساعتهاء لأن الآخرين جميعهم؛ أي الرجال وجدتي 
وهدفغ برونسكي وشتيفان الذي أوشك على بلوغ الرابعة عشرة» قد 
انخرطوا في البكاء دفعة واحدة . كذلك لم يفاجئني موت أمّي إذلم 
يخطر في بال أوسكار الذي كان يرافقها كل خميس إلى المدينة القديمة 
وكل مساء أحد إلى كنيسة-قلب-يسوع بأنها كانت تجهد نفسها بالبحث 
منذ أعوام عن إمكانية للتخلص من العلاقة الثلائية الأطراف بطريقة تتيح لها 
أن تورث ماتسرات» الذي ربما لم تكن أحبته» مسؤولية موتهاء وأن 
يواصل يان برونسكي » حبيبها يان» الخدمة في البريد البولندي وهو يحمل 
فكرة مثل: أنها ماتت من أجليء أو أنها لم ترد أن تقف عثرة في طريقي» 
فلذلك ضِحّت بنفسها. 

وعلى الرغم من الحسابات الدقيقة التي كان يان وأمّي يشغلان ذهنهما 
بهاء تلك الحسابات المتعلقة بتوفير فراش هادئ مناسب لغرامهماء فإنهما 


لا ؟ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كانا يتحليان في الوقت ذاته بموهبة رومانسية: بحيث يستطيع المرء أن يرى 
فيهما روميو وجوليت,. أو ابنيٌ ملكين, لم يتمكنا من الالتقاء؛ لأن المياه 
الفاصلة بينهما كانت شديدة العمق. بينما كانت أمّى التى تناولت قربان 
الوفاة المقدس راقدة بلا حراك» باردة البدن أمام اراك ييل فإنني 
وجدت وقتا وراحة بال لمراقبة الممرضات اللواتى كنْ بروتستانتيات 
المذهب على الأغلب» فكنّ يشبكن أيديهن بطريقة مختلفة عن الممرضات 
الكاثوليكيات» وأودٌ هنا أن أقول بوعيء بأنهن كنّ يؤدين صلاة «أبانا الذي 
في السماء» بكلمات محرفة عن النصّ الأصليء فلم يضربن علامة الصليب 
مثلما كانت تفعل الجدّة كولياجك, أو آل برونسكي أو حتى أنا. أمّا والدي 
ماتسرات - اسميه والدي في بعض المناسبات» حتى لو كان إنجابه لي 
تجرد قضية احتمالية بحتة - البروتستاتتي المذغب: فقد أخشلف في عتلاته 
عن البروتستانتيين الآخرين؛ فهو لم يصلب يديه على صدره؛ إنما وضع 
أصابعه المتشنجة بمستوى أعضائه التناسلية» منتقلاً من مذهب إلى آخرء 
فبدا متردداً خجلاً من صلواته. وجئت جدتي إلى جانب شقيقها فنسنت 
أمام النعش وصلْت باللغة الكاشوبية بصوت عال وبلا ترددء في حين أخذ 
فنسنت يحرك شفتيه» ربما باللغة البولندية» بينما اتسعت عيناه» ممتلئتين 
بهذا الحدث الروحاني الجلل. يا ليتني استطعت التطبيل! لأنني في آخر 
المطاف كنت أدين لأمّي بهذه الطبول الحمراء البيضاء الكثيرة. لقد برّت 
بوعدها الأموميّ عبر إحضار الطبل إلى المهد؛ كمقابل لرغبات ماتسرات. 
كذلك خدمني قوام أمّي الجميل بين الحين والآخرء لا سيما عندما كانت 
رشيقة» غير مضطرة بعد إلى ممارسة التمارين الرياضية؛ خدمنى كقاعدة 
للتطبيل. أخيراً لم أستطع السيطرة على نفسي» فجعلت الصورة المثالية 
لجمال عينيها الرماديتين تتجسد على الصفيح في حجرة وفاتهاء فتعجبت 
في الحال من أن ماتسرات هو الذي بادر بنفسه إلى إيقاف اعتراض رئيسة 
الممرضات؛ معلناً عن تحزبه لي؛ فهمس للممرضة: «دعيه وشأنه» يا 
عضن إنبيا كساناة يوي 

وكانت أمّي قادرة على أن تبدو ظريفة جدَّاء وشديدة الخوف أيضاًء 


لا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وقادرة على النسيان بسرعة. ومع ذلك كانت تتمتع بذاكرة ممتازة» فكانت 
تقذفني مع ماء الاغتسال؛ لكنها كانت تشاطرني الاستحمام في الوقتت 
زد وقنت أحبانا أضيعهاء بيذ أن حانة العكور غلة من ديد كانت 
ترافقها على الدوام. خحين كدت أحطم الزجاج الوك فإنها كانت 
تعالجه بمعجون التثبيت. وقد جلست أحيانا إلى جانب الباطل؛ على 
الرغم من وجود الكثير من الكراسي الفارغة حولها. وحتى لو أطبقت 
أزرارها بإحكام؛ فإنها تتراءى مكشوفة في نظري» فكانت تخشى تيّار 
الريح» لكنها لم تنقطع يوماً عن إثارة الزوابع. لقد عاشت على نفقة 
الآخرين» لكنها لم تدفع الضرائب إلا على مضض . أما أنا فقد كنت أمثّل 
الجانب الآخر لقشرتها الخارجية. وكلما لعبت ورقة «الكوبة»؛ فإنها كانت 
تكهن دالا . لكن عقب وفاة أمّي بهتت نوعاً ما ألسنة اللهب الحمراء 
على إطار طبلي» فازكاذ اللوث أبيضن بياضاً وأصبح حاداً تماماً؛ يغشي 
الأبفاز عن أن أوسكار كان يتمفى عيله خوقاً من حدية: 

لم تدفن أمّي المسكينة في مقبرة سازبه؛ مثلما عبّرت عن أمنيتها 
مرّات عديدة» بل في مقبرة برنتاو الصغيرة الهادئة» حيث رقد أيضاً جثمان 
زوج أمّها طحّان البارود غريغور كولياجك الذي توفي إثر إصابته بالأنفلونزا 
في العام السابع عشر. كان موكب التشبيع كبيراء يليق بجنازة امرأة محبوبة 
صاحبة متجر لبضائع المسستسرات» لكن لم تحضر فيه وجوه الزبائن 
المترددين دائما على المتجرء بل الممثلين التجاريين لمختلف الشركات» 
وحضر المنافسون أيضاً من أمثال هايئرش تاجر بضائع المستعمرات 
والسيّدة بروبست صاحبة محل المواد الغذائية في هيرتا شتراسه» فلم 
تستوعب الكئيسة الصغيرة التابعة للمقبرة ذلك الجمع الغفير من المشيعين» 
فتصاعدت رائحة الزهور وثياب الحداد المعفرة بمبيدات العنّة . 

في التابوت أظهرت أمّي المسكينة وجها أصفر مكدودا. وخلال 
مراسيم التشييع .المعقدة كلها خامرني إحساس ملح بأن رأسها سينتفض 
فورأء وستضطر إلى التقيؤ ثانية؛ إذ أنها مازالت تحمل شيئاً ما في بدنها 
يريد الخروج: ليس فقط الجنين ذو الأشهر الثلاثة الذي كان يجهل - شأنه 


3 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


شأن أوسكار إلى أي أبّ عليه أن يدين بالشكر والامتنان -» ليس فقط 
الجنين وحده أراد الخروج ليطالب بطبل مثل طبل أوسكارء إنما السمك 
أيضاً الذي لم يب منه حتى سمكة رنجة واحدة؛ ناهيك عن السمك 
المفلطح؛ أعني أيّ قطعة من الحنكليس» أو خيوط مخاطية بيضاء من 
لحم الحنكليس» أو من سمك المعركة البحرية في سكاغيراك» أو سمكة 
ثعبان من سدّة المرفأ فى نويفافاسر» أو من الجمعة الحزينة» أو سمكة 
قفزت من رأس الحصان؛ أو من جسد أبيها يوسف كولياجك الذي تزحزح 
تحت الناقلة» قصار عن نصبب الشكلين + شتكلساً من ستكليسك 4 إذ أن 

بيد أنهها لم تكن راغبة في التقيؤء فاحتفظت به في أعماقهاء حملته 
معهاء عازمة على دفن السمك تحت التراب» لتعمّ السكينة في آخر 
المطاف. حين همّ الرجال برفع غطاء التابوت ليطبقوه على وجه أمّي 
المسكينة المشمئز المليء بالعزيمة والإصرار ارتمت آنا كولياجك بين 
أذرع الرجال» ثم ألقت نفسها على جثمان ابنتهاء ساحقةً على الزهور أمام 
التابوت» ثم أخذت تنتحب وتجذب أطراف الكفن الأبيض الثمين وتولول 
باللغة الكاشوبية. 

كثيرون ادعوا فيما بعد أنها شتمت أبي المفترض ماتسرات» ناعتة إِيَاه 
بقاتل ابنتها. وقيل إنها أنت على ذكر سقوطي من سلّم القبو. لقد تلقفت 
الأسطورة عن أمّي» فلم تتح لماتسرات قط نسيان ذنبه المزعوم في مصيبتي 
المزعومة. د م ا ب ا 
يكنّ لها احتراماً بالغاً» لكنه انطوى على مضض إلى حدّ ماء بغض النظر 
عن كل ما يتعلق بالسياسة. فكان يزودها خلال أعوام الخرت بالسكر 
والعسل الاصطناعي والقهوة والنفط . 

وأبعدَ بائع الخضر ويان برونسكي, الذي كان ينتتحب بصوت أنثويٌ 
حادء جذتي عن النعش؛ فتمكن الرجال من وضع الغطاء على التابورت» ثم 
افتعلوا الملامح التي يفتعلها حملة النعش دائماً عندما يرفعون التابوت. 
وللمرّة الأولى أعجبت بشكل التابوت؛ عندما سرت خلف ماتسرات في 


51 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


مقدمة الموكب في مقبرة برنتاو شبه الريفية» بين صفّيَ القبور الممهدة على 
جاتبي أشجار الدردار»ء وبصومعتها الصغيرة التي بدت مثل ملصقات معدة 
لتمثيلية مولد المسيح وبثرها العتيق وطيورها الصاخبة الشديدة الحيويّة. لقد 
واتتني فرص عديدة فيما بعد لأجعل بصري يسرح إلى ذلك الخشب البئّي 
الأسود المعدٌ للغاية الأخيرة. كان تابوت أمّي أسودء وبدا أن خشبه كان 
يضيق على نحو هارمونيّ بديع كلما أنحدر في اتجاه القدمين. فهل يوجد 
في العالم برمته قالب مثل هذا القالب يتطابق مع تفاصيل الإنسان الجسدية؟ 

فهل تتمتع الأسرة بهذا الانكماش التدريجي في النهاية المخصصة 
للقدمين؟ آن لمضاجعنا المألوفة التي نستخدمها بين وقت وآخر أن تتخذ 
هذا الشكل الانكماشيّ الواضحء الضيّق من القدمين. ولو عنّ لسيقاننا أن 
تنفرج؟ فإنها ستصطدم بهذه القاعدة الملمومة المخصصة للأطراف التي 
تضيق شيئاً فشيئاً نازلة من الجانب العريض للتابوت والذي يسع الرأس 
والكتفين والجذع؛. حتى تستدق قليلا عند القدمين. 

كاق هامر انق يسيز شاقرة وزاء السمازة حاب كبمقه الأسطرانة 
بيده باذلاً جهداً أثناء السير البطيء» لكي يمدّ ركبته باستقامة على الرغم 
من الألم الكبير. وكلما نظرت إلى قفاه شعرت بالحزن: إذ كنت أرى 
قحفة رأسه البارزة وخصلتى الشعر النافرتين اللتين برزتا من ياقته فارتطمتا 
بشعر رأسه. ْ 

لكن لماذا أخذتني الأمّ تروجنسكي من يدي بدلاً من غريتشن شفلر 
أو هدفغ برونسكي؟ كانت الأمّ تروجنسكي تقيم في الطابق الثاني من بنايتنا 
المؤجرة؛. ولم يكن لها اسم أوّلء فكان يقال لها في كل مكان الأمّ 
تروجنسكي . 

لقد سار حضرة القسيس فيهنكه والشمّاس والبخور أمام النعش» 
فانزلق بصري من قفا ماتسرات إلى أقفية حملة النعش المليئة بالأخاديد 
طولاً وعرضا: فتاومت الحظتها رغة جامسة: إذ أن اوسكار آراذ الركوت 
فوق التابوت ليطبل. ليس على الصفيح» إنما على غطاء التابوت أراد 
أوسكار أن يقرع بمضربيه؛ ثم همْ في اعتلائه حين حملوه وهم يترنحون؛ 


51١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


فبينما كان الآخرون يصضلون وراء خضرة القسيس آراه أوسكار أن يطبل 
لهم. عندما أنزلوه في الحفرة بالحبال والألواح الخشبية» أراد أوسكار أن 
يتمالك نفسه فوق الخشب. وبينما كان القسيس يلقي موعظته وجرس 
القدّاس يقرع و البخور يتصاعد والماء المقدس يرش» أراد أوسكار أن 
يفرغ ما في جعبته على الخشب فيصمد متجلدا إلى ينزلوه بالحبل في 
الحفرة مع الصندوق. أراد أوسكار أن يدخل الحفرة مع أمّه والجنين. أن 
يبقى في الأسفل» بينما يبقى أهل الراحلة ينثرون التراب ملء أيديهم. لم 
يكن أوسكار راغباً في الصعود ثانية» إنما في الجلوس على الطرف الضيّق 
من التابوت» وفى التطبيلء» وإذا كان من ممكباً فتحت التراب:» حتى 
يتفتت مضرباه بيديه ويتفتت الخشب تحت الهراوتين وتتحلل أمّه ذائبة حا 
به فيذوب هو حبّاً بهاء ويتحلل كلّ واحد منها من أجل الآخرء فيعيد 
اللحم إلى الأرض وسكانها؛ وتمنى أوسكار أيضاً أن يطبل بكاحليه 
لغضاريف الجنين الهشّةء إن كان ذلك ممكنا ومسموحا به. 

بيد أن أحداً لم يجلس فوق التابوت» فظلٌ يتمايل منفرداً بين أشجار 
الدردار والصفصاف في مقبرة برنتاو» حيث نقرت دجاجات الشمّاس 
الزاهية الألوان الديدان» حاصدة دون أن تبذرشيئا. ثم وصلنا أشجار 
البتولاء فسرت وراء ماتسرات؛ ممسكاً بيد الأم تروجنسكي وقد سارت 
جذتي ورائي مباشرة يسندها غريف ويان» وأمسك فنسنت برونسكي بذراع 
هدفغ» وسار شتيفان ومارغا الصغيرة يدأ بيد أمام آل شفلر. ثم لحق بهم 
الساعاتي لاوبشاد والشيخ هايلاند وماين» عازف البوق» لكنه جاء بدون 
آلته النحاسية» فبدا بالإضافة إلى ذلك صاحيا تقريبا. 

بعدما انتهى كل شيء وبدأ المشيعون يقدمون التعازي لاحظت 
زيغسموند ماركوس. انظمّء أسود الثياب مضطرباًء إلى أولئك الذين ناولوا 
أيديهم لماتسرات ولي ولجذتي وآل برونسكي» متمتمين بشيء ما. في 
البدء لم أفقه ما طلبه ألكسندر شفلر من ماركوس؛ إذ أنهما لم يعرفا 
بعضهما على نحو كافء هذا إذا كانا يعرفان بعضهما أصلاً؛ ثم تحدث 
الموسيقي ماين أيضاً إلى تاجر ألعاب الأطفال. كانوا يقفون عند سياج 


1 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


. مشجّر منخفضء أحراشه خضراء مرّة الطعم» تصبغ اليدين إذا ما فركها 
المرء بأصابعه. ولم تتخلف السيدة كاتر وابنتها زوزي التي كانت تداري 
ضحكتها وراء منديل صغيرء البنت التي طالت قامتها بسرعة خارقة» عن 
تحسس رأسي بعد أن قدمتا التعازي. وخلف السياج ارتفع اللغط» لكنه 
ظلّ لغطأ غير مفهوم. فبدأ ماين» نافخ البوقء ينقر بسباته على بذلة 
ماركوس السوداء ودفعه أمامه؛ ثم أمسك بذراعه من اليسارء بينما تعلق به 
شفلر من اليمين» واتخذ كلاهما الحذر لكي لا يتعثر ماركوس» المتراجع 
إلى الخلف» بإطارات القبور» ثم دفعا به إلى الممر الرئيسي المغروس 
بالأشجارء وأطلعا ماركوس على بوابة المقبرة. بدا كما لو أن شكرهما 
على هذه الخدمة الإرشادية ومضى في اتجاه البوّابة» واضعاً القبعة 
الأسطوانية على رأسه؛ ولم يلتفت إلى الخلف, على الرغم من أن ماين 
والفرّان كانا يراقبانه. لكن ماتسرات أو الأم تروجنسكي لم يلحظا بأنني 
تنصلت عنهماء متجاهلاً تعازيهما. فتظاهر أوسكار بأنه أراد أن يتبول» ثم 
تملص منسحباً إلى الوراء» مارًاً بحمّار القبور ومعاونه ثم حثٌ خطاه» غير 
عابئ باللبلاب» حتى بلغ أشجار الدردار ومن ثم ماركوس أيضاً قبل بوّابة 
الخروج. فقال ماركوس متعجباً: «آه يا أوسكار الصغير؛ قلّ لي ما هذا 
الذي فعلوه بماركوس؟ فما الذي فعله لكي يعاملونه بهذا الأسلوب؟؛ 

كنت في الواقع لا أعرف ما الذي فعله ماركوس» فتناولت يده المبللة 
بالعرق؛ وقدته عبر باب حديدي مفتوح من أبواب المقبرة» فالتقيناء أنا 
الطبئال وحامي طبلي» الذي كنت ربما طبالا لهء التقينا بشوغر ليو المؤمن 
بالجئة مثلنا. 0 

كان ماركوس يعرف ليو؛ إذ أن ليو كان شخصاً معروفاً في المديئة. 
وكنت سمعت عن ليو وأدركت بأن الكون والقرابين المقدسة والمذاهب 
والسماوات والجحيم والحياة والممات قد تخلخلت ذات يوم مشرق 
فتزحزحت تماما عن مواقعها بنظر ليو الذي كان طالبا في كلية اللاهورت» 
ومنذ ذلك اليوم تزحزحت فو, الحقيقة صورة الكون في ذهنه» لكنهاء على 
الرغم من كل شيء؛ ازدادت جلاءً وبريقا. 


517 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كانت وظيفة ليو - الذي لا تفوته أي محاولة للتنصل والانسحاب - 
والذي كان متلفعاً برداء أسود لامع خفّاق» مرتدياً قمّازاً أبيض» تقتصر 
غلى انعظار المشيعين. تفهمناء فاركوسن وآناء بآن ليو كان موجوداً هنا 
أمام الباب الحديديٌ بحكم وظيفته» منتصباً بقمّازه المثابر على تقديم 
التعازي وعينيه الزائغتين الفاتحتين مثل لون الماء وفمه المليء دوم 
باللعاب» بحيث كان يقذف بالرذاذ في وجه المشيعين. 

منتصف مايو: يوم مشرق شديد الصفاء. أحراش وأشجار مأهولة 
بالطيور. دجاج ينقّ مشكلاً رمزاً للخلود من خلال بيضه وبه معاء وثمة 
طنين في الهواء. فيا لها من خضرة يانعة لا غبار عليها. كان شوغر ليو 
يحمل قبعته الأسطوانية الناصلةً اللون فى شماله ذات القفّازء فأقبل يتهادى 
تحرناة مكرانس] ؛ لأنه كان كيل عقف سلهروة البركة مكرداً أسايعة 
الخمسة المضمومة في القفاز العفن» فوقف أمامنا بشكل مائل» كما لو أن 
مها شديدة تجاذبته» على الرغم من السكون» ثم مال برأسه. مطلقاً 
لعابه» فسال خيوطا حين مد له ماركوس يده العارية بعرده قن البدده ومن 
ثمة بَعزع» داشا إيَاها في القماش المتاهب للشْدٌ والقيض : (يا له من يوم 
رائع . هاهي قد انتقلت إلى هناك حيث يكون كل شيء زهيدا. هل رأيتما 
الرث؟ 0تنتصتدره(12 20 5ناصة1135. لقد مرّ الرتٌ من هناء لكنه كان على 
عجلة من أمره. آمين .2 فقلنا آمين وأكد ماركوس لليو روعة النهار» مدعياً 
أنه أبصر الربٌ أيضاً. 

سمعنا موكب التشييع في المقبرة يتصاعد لغطه مقترباً منا. فترك 
ماركوس يده تنزلق من قمّاز ليوء إلا أنه وجد متسعاً من الوقت لينقده 
ببقشيش» ثم رمقني بنظرة ماركوسية قبل أن يعاجل في الخروج» مندفعا 
نحو سيارة الأجرة التي كانت تنظره قبالة بريد برنتاو. فلمًا تعقبت زوبعة 
الغبار التي أطبقت على ماركوس المختفي أمسكت الأمّ تروجنسكي بيدي 
من جديد. وجاء المشيعون جماعاتٍ صغيرة وكبيرة؛ فقدم إليهم ليو 
تعازيه» لافتاً انتباههم إلى النهار الرائع» ثم سأل كل واحد منهم عما إذا 
رأى الربّء ليتلقى مقابل ذلك» كما هو مألوف» بقشيشاً صغيراً أو كبيراً 


51" 
1_طماع1© :111 آنلا 1 


أو لم يتلق شيئا. وقام ماتسرات ويان برونسكي بتسديد أجور الحمّالين 
والدنّان والشمّاس وحضرة القسيس فيهنكه. الذي ترك» باضطراب 
وحسرة» شوغر ليو يقبل يدهء ثم أخذ حضرته يوزع البركات على موكب 
التشبيع المتفرق ببطء . 

وأخذنا أماكنناء أنا وجدتي وشقيقها فنسنت وآل برونسكي مع 
أطفالهم وغريف بدون زوجته وغريتشن شفلرء في عربتين ربطت إليهما 
الحصن بطريقة عمليه بسيطة؛ ثم اجتزنا غولدكروغ» مخترقين الغابة؛ 
مروراً بالحدود البولندية بالقرب من بيساو- أبّاو لكي نتناول وليمة الجنازة. 

كان بيت فنسنت الريفي يقع في وهدة؛ حيث انتصبت أمامه أشجار 
حورء كان من شأنها أن تصرف عنه البرق. رفعوا بوّابة مخزن الحبوب من 
رزاتها ثم طرحوها على حوامل خشبية؛ وفرشوا فوقه الشراشف» وقد 
التحق بهم نفر من الجيران. استغرق تحضير الطعام وقتا كالعادة. فتناولناه 
في مدخل المخزن. كانت غريتشن شفلر قد وضعتني في حضنها. كان 
الطعام دسماًء أعقبته الحلوى» ثم جاء دور الدسم مرة ثانية» فعّرق 
البطاطس» فالبيرة» ومن ثم بطة مشوية وفرخ خنزيرء والكعك الذي لحق 
به السجق» فالقرع المخلل والمحلّى بالسكر» فالجريش الأحمر بالقشدة 
الحامضة؛ ثم هبّت الريح مساءً عبر صومعة الحبوب المفتوحة» فانطلقت 
الفئران وأبناء برونسكي أيضاً الذي احتلوا فناء البيت مع أطفال الجيران. 
بعد ذلك قدمت أوراق اللعب إلى الطاولة برفقة فوانيس الزيت؛ بيد أن 
عرق البطاطس ظلّ منتصباً فوق الطاولة. كانت ثمة خمرة بيض معمولة 
منزلياًء تجعل المرء مرحاًء لكن غريف» الذي لم يحتس عرقاًء طفق 
يغئّي» ففعل الكاشوبيون مثله. وكان ماتسرات أوّل من وزّع الورق» فتبعه 
يان فالعامل في مصنع القرميد. والآن تذكرت بأن أمّي المسكينة كانت 
غائبة. لعبوا الورق حتى حلّ ظلام الليل. بيد أن أحداً من الرجال لم يفلح 
في الحصول على ورقة «قلب-كوبه». بعدما خسر يان برونسكي ورقة 
«قلب-كوبه» على نحو غير مفهومء سمعته يهمس إلى ماتسرات: «لو 
كانت آغنس هنا لكسبت اللعبة بالتأكيد. ») 


516 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


غيندة الرلقت عن فو عريكق عقلر وعترت على عدت لى 
الخارج إلى جانب شقيقها فنسنت. كانا يجلسان على ذراع العربة» وكان 
فنسنت يناجي النجوم بصوت خافت باللغة البولندية» وبدت جدتي عاجزة 
عن البكاء» إلا أنها سمحت لى بالدخول تحت أثوابها. 

فمن ذا الذي سيضمني بعد اليوم تحت ثيابه؟ ومن الذي سيطف لي 
ضوء النهار والمصابيح؟ ومن ذا الذي سيهبني رائحة ذلك الزبد الأصفر 
الذائب الفاسد بعض الشيء» الذي كانت جدتى تغذينى منه» وهى تكدسه 
تحت الرانياة أن تحرس وترواتي با لكي الذاة مخنهد .بر ا يليت 
مذاقه. وكنت قد غفوت تحت الأثواب الأربعة» قريباً تماماً من بدايات أمّي 


المسكينة؛ حيث كنت أنعم بالسكينة؛ لكن ليس بأنفاس مقطوعة مثلها في 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ظهر هربرت تروجنسكي 


ليس هناك ما يعرّض عن الأمّ» كما يقال. فكان عليّ أن أتعرف على 
فقدان أمّي المسكينة بعد فترة قصيرة من مراسيم الدفن؛ إذ وألغيت زيارات 
زيغسموند ماركوس في أيّام الخميس» فلم يعد هناك من يأخذني إلى رداء 
المضمدة إنغا المهني الناصع البياض» بل كانت أيّام الآحاد تجعل موت 
أميّ مؤلماً بشكل خاص: لأن أمّي انقطعت عن الذهاب إلى الكنيسة» 
لتكقر عن ذنوبها. 

لقد خرمت من المدينة القديمة ومن عيادة الدكتور هو لاتس وكئيسة- 
قلب-يسوع. فكيف يتسنى لي أن أغرر بالمارة أمام واجهات المحلات» 
لاسيما أن مهنة الموسوس أوسكار باتت بلا طعم ولا إثارة؟ فليس هناك أمْ 
تصحبني معها إلى المسرح البلدي لمشاهدة حكايات عيد الميلاد» وإلى 
سيرك «كرونة' أو «بوش». أصبحت أتابع بمفردي دراساتي بانتظام» وإن 
بتذمر في الوقت ذاته» أجوب شوارع الضواحي المستقيمة بضجر في 
طريقي إلى كلاينهامرفيغ» حيث كنت أزور غريتشن شفلر التي حدثتني عن 
رحلات شركة «ك. د. ف» إلى البلاد التي تشرق فيها الشمس منتصف 
الليل. في حين تشبثت بعقد المقارنات بلا كلل بين غوته وراسبوتين» دون 
أن أصل إلى نهاية» فكنت أنسحب من هذه الدوّامة المعتمة المشرقة فى 
آنء منزوياً على الأغلب في الكتب التاريخية: الصراع حول روماء حكاية 
القيصر عن مدينة غدانسك, تقويم كولر الخاص بالأساطيل» فكانت 
مراجعي العتيقة تهبنني جزءاً من معرفة كونية شاملة. وهكذا فأنني مازلت 
إلى اليوم في وضع يتيح لي أن أزودكم بمعلومات دقيقة عن قوّة المدرعات 

ا 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وتجهيزات البوارج بالمدافع الإضافية» أو تدشين السنفن» أو عملية 
التصنيع» أو عدد جنود البحرية على السفن التي خاضت المعركة البحرية 
في سكاغراك» فتمٌ إغراقها هناك أو أصيبت بأضرار. 

كنت أشرفت آنذاك على بلوغ الرابعة عشرة» وعلى حبٌ العزلة 
والتجوال الكثير. فصار طبلي يرافقني» لكنني أصبحت مقتصداًء إذ أن 
تزويدي بالطبول في الوقت المناسب أضحى أمراً مشكوكاً فيه بعد رحيل 
أَمّيء وبقي كذلك أيضاً. فهل حدث ذلك في خريف العام السابع 
والثلاثين أو في ربيع العام الثامن والثلاثين؟ على أية حال كنت أحثٌ 
خطاي في شارع هندنبورغ المشبجّر في اتجاه المدينة» فوجدت نفسي على 
مقربة من مقهى الفصول الأربعة. كانت الأوراق تتساقط» أو لعل البراعم 
كانت تتفتح» على أية حال» كان هناك شيء ما يعتمل في الطبيعة. وهناك 
بالتحديد التقيت بصديقي المعلّم بيبرا الذي كان ينحدر مباشرةً من صلب 
الأمير أويغن» أي من نسب لودفيغ الرابع عشر. 

لم نكن قد رأينا بعضنا منذ ثلاثة أعوام» ومع ذلك تعرفنا على بعضنا 
على مسافة عشرين خطوة. لم يكن بيبرا بمفردهء بل تأبط فاتنة جنوبية 
الملامح؛ رقيقة؛ كانت أقصر منه ربما بإصبعين» وأكبر مني بثلاثة أصابع» 
فقدمها لي باسم روزفيتا راغوناء أشهر «سرنمية» في إيطاليا. ثم دعاني إلى 
تناول فنجان قهوة فى مقهى الفصول الأربعة. وجلسنا إلى حوض أسماك 
الزينة» وبدأت عجائز المقاهي يهمسن على الفور: «انظري الأقزام يا ليزاء 
هل رأيتهم من قبل؟ وهل تعتقدين أنهم سيظهرون على مسرح كرونة؟ 
يجب أن نذهب إلى هناك إن أمكن ذلك!» 

فابتسم لي بيبراء مظهراً آلاف التجاعيد الرقيقة» غير المرئية إلى حد 
ما. كان نادل المقهى الذي جلب لنا القهوة طويل القامة جدًاً؛ فعندما 
أوصت السيّدة روزفيتا على قطعة كيك نظرت إلى الرجل المتلفع بلباس 
النّدلء وكأنها تنظر إلى برج . 

قال بيبرا وهو يراقبنيى: يبدو أن وضعه سيئع؛ صاحبنا هذا قاتل 
الزجاج. ماذا بك يا صاحبي؟ هل أن الزجاج لم يعد راغباء أم أن عجزاً 


518 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أصاب الصوت؟؟ فأراد أوسكار أن يقدم فوراً عينة من فنّه الذي لن يذوي 
أبداء وهو مفعم بروح الفتوة والعنفوان. فتطلعت من حولي باحثاً عن 

شيء ماء فثبّت بصري على السطح الزجاجي أمام أسماك الزينة والنبات 
المائي في الحوض؛ عندئذ نطق بيبرا قبل أن أطلق صوتي: «أليس صحيحاً 
يا صاحبي؟! إننا نصدقك هكذا أيضاً. أرجوك بلا تخريب ولا فيضانات 
ولا قتل أسماك!» فاعتذرت بخجل إلى السنيورة روزفيتا قبل كل شيء؛ 
والتي أخرجت مروحة مطوية مزينة بمنمنمات وأخذت تروح بانفعال. 

وحاولت أن أوضح رأبي: «لقد رحلت أمّي. كان عليها أن لا تفعل 
ذلك. إنني مستاء من تصرفها هذا. الناس يدعون دائماً: أن الأمّ تلاحظ 
كل شيء فتشعر بكل شيء وتغفر كل شيء» لكن هذه مجرد أقوال تردد 
في عيد الأمّ! كانت ترى فيّ قزماء فكانت تتمنى التخلص من القزم لو أنها 
استطاعت ذلك. لكننها لم تتخلص منّيء لأنَّ الأطفال» حتى لو كانوا 
أقزاماًء مسجلين في الأوراق الرسمية» بحيث لا يمكن التخلص منهم 
بسهولة. ولأنني كنت قزمهاء فإنهاء في حالة تخلصها مئّي» ستتخلص من 
نفسها أيضاً. لقد سألت نفسها إِمَا أنا أو القزم» بيد أنها حسمت الأمر مع 
نفسهاء فلم تعد تأكل شيئاً آخر سوى السمكء» بل كانت تلتهم السمك غير 
الطازج أيضاًء ثم ودّعت عشاقها. والآنء حيث رقدت في مقبرة برنتاو؛ 
فإن عشّاقها وزبائن دكانها يقولون: إن القزم هو الذي شيعها إلى القبر 
بالتطبيل. وبسبب أوسكار الصغير؛ فإنها لم تعد راغبة في مواصلة الحياة؛ 
لقد قتلها القزم!» 

كنت أغالي في المبالغة» إذ أنني أردت أن أوقع تأثيراً في نفس 
السنيورة روزفيتاء في الحقيقة كان معظم الناس قد ألقى مسؤولية وفاة أمّي 
على عاتق ماتسرات» بل على عاتق يان بدرجة خاصة. لكن بيبرا تمكن 
من كشف سرّي» فقال: «إنك تبالغ يا عزيزي. إنك وبفعل الغيرة وحدها 
ناقم على والدتك الراحلة؛ لأنها لم تذهب إلى القبر من أجلك» إنما من 
أجل عشاقها المُتعبين؛ فشعرتٌ بالظلم والخذلان. إنك في الحقيقة مغرور 
وخبيث مثلما هم العباقرة دائماً!» ثم أضاف بعدما قذف بحسرة مصحوبة 


518 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بنظرة جانبية إلى السنيورة روزفيتا: «ليس من السهل البقاء صابرين ضمن 
حجمنا؛ فأي مهمة صعبة» وأي مهنة هذه حين نتصرف بإنسانية على الرغم 
من توقف نموتا الخارجي !» 

وبدأت روزفيتا راغوناء السرنمية النابولية ذات الأديم الناعم والمجعّد 
بالقدر نفسه» التي ينها عمرها عمانة عقن رزيعاات لحن معجني بت 
لى ايعاد يرهة قصيرة عورا + سن الثمانيق أى السعين حت - بدات تذاعت 
السيّد بيبرا ببذلته الإنجليزية الأنيقة المفصلة على قياسه» ثم رمقتني بنظرة 
من عينيها الإيطاليتين المستديرتين كالكرز الأسودء قائلة بصوتها العميق 
المبشر بالخير والثمارء صوتها الذي جعلني منفعلاً مسحوراً: «يا 
أوسكارئيللو العزيز» آه. إنني أفهمه جيّداًء إنه الألم! دعونا نرحل! تعال 
معنا: ميلانو» باراجي» توليدو. غواتيمالا!» 

فكاد الدوار يجتاحني؛ لكنني أمسكت باليد الفتية الهرمة؛ فباتت 
أمواج البحر المتوسط تتلاطم على ساحلي» وأشجار الزيتون تهمس في 
أذني : «روزفيتا ستكون مثل أمَكء وستفهمك روزفيتاء هذه السرنمية 
العظيمة التى تسبر أغوار كل شىء؛ فتدركه؛ ماعدا نفسهاء فيا للعجب! 
ماعدا نفسها وحدهاء يا إلهي!» - 

ومما أثار دهشتى هو أن السيّدة راغونا سحبت يدها فجأة برعب 
حالما أوشكت على اكتشافي من الداخل وسبر أغواري بنظرتها السرنمية. 
فهل أفزعها قلبي الجائع ذو الأربعة عشر ربيعاً؟ أم أتضح لها بأن روزفيتاء» 
سواء أكانت فتاءً أو عجوزاً. عنتني فقط بصفتها روزفيتا؟ كانت تهمس 
باللهجة النابولية» وترتجف» وترسم علامة الصليب باستمرار» كما لو أن 
المحارف التي ثرانها ذ أعماتي لم ٠‏ تتوقف» ثم اختفت وراء مروحتها 
اليدوية. فطلبت ته تيع ١‏ يدها تناهبني القلق. متوسلة بالسكد ضيرا أن يقول 
كلمة. بيد أن بيبرا نفسه فقد السيطرة ة على نفسه على الرغم من انحداره 
المباشر من صلب الأمير أويغن» فصار يتلعثم قبل أن أفهم منه في الأخير 
قوله: «إن عبقريتك يا صديقي الشاب» عبقريتك الإلهية» والشيطانية أيضاً 
بكل تأكيد؛ قد أوقعت عزيزتي روزفيتا الطيبة القلب باضطراب» وكذلك 


353 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أنا يجب أن أعترف بأن إسرافك ومبالغاتك المتفجرة على نحو فجائي 
غريبة بالنسبة لي» حتى لو كانت مفهومة بعض الشيء؛ لكن الأمر سيّان. » 
دم تابع بعد أنّ استجمع قواه ثانية: «فمهما كانت طبيعتك بإمكانك أنْ 
تلتحق بناء لتساهم بالاستعراضات السحرية لمسرح بيبرا. فبشيء من ضبط 
النفس والتقيّد سيكون باستطاعتك أن تعثر على جمهور حتى في ظل 
الظروف السياسية السائدة هذه الأيّام. » 

وعلى الفور أصبحت مدركاً بأن بيبرا الذي نصحني بالوقوف أبداً على 
المنصة وليس أمامها انحدر هو نفسه إلى أوساط عموم الشعب» حتى لو 
أنه لم يزل يظهر على حلبة السيرك. فهو لم يشعر بخيبة أملّ عندما رفضت 
عرضة بلطف. فتنفست السنيورة الصعداء بصوت ارتفع خلف مروحتهاء 
ثم كشفت لي من جديد عن عينيها الجنوبيتين المتوسطيتين. 

وثرثرنا سويعةً أخرىء وطلبت من النادل أن يحضر لي قدح ماء 
زجاجي فارغ» ففتحت في الزجاج قلباً بصوتي؛ وخطيّت تحت بشكل 
نصف دائري مزخرف نقشاً: «من أوسكار إلى روزفيتا»؛ ثم أهديتها 
القدح؛ مدخلاً الفرح إلى قلبهاء فدفع بيبرا الحساب. مكثراً من البقشيش» 
قبل أن ننصرف. 

رافقنى كلاهما إلى قاعة الرياضة»؛ فأشرت بمضرب الطبل نحو 
المنصّة الخالية في الطرف الآخر من حدائق مايوه ثم - الآن تذكرت أن 
ذلك حدث في ربيع العام الثامن والثلائين - تحدثت إلى معلّمي بيبرا عن 
سيرتي كطبّال تحت المنصّات. فابتسم بيبرا ابتسامة حائرة» وأظهرت 
راغونا وجهاً متجهماً صارماً. وعندما انحرفت السنيورة مبتعدة بضع 
خطوات إلى الجانب همس بيبرا في أذني وهو يودعني: «لقد تخاذلت يا 
صديقي العزيزء فكيف يمكن أن أستمر بصفتي معلّماً لك؟ فيا لها من 
سياسة قذرة!» ثم قبّلتي على جبيني مثلما فعل قبل أعوام بين عربات النوم 
التابعة للسيرك» أمّا السيّدة روزفيتا فقد ناولتنى يدأ كالخزف الصينئٌ» 
فانحنيت أمام أصابع السرنمية بأدب انطوى على تمرّس إلى حدّ ما أكثر مما 
يمكن أن يفعله فتى في الرابعة عشرة. 


57١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


فلوح بيبرا بيده وهتف: «سنرى بعضنا مرّة أخرى يا ولدي» ومهما 
تقلبت الأزمان» فإن الناس من أمثالنا لا تنقطع آثارهم.» وحذرتني السنيورة 
بالقول: «سامح والديك واغفر لهما! عود نفسك على حياتك نفسها لكي 
يطمئن قلبك ولكي يحصد الشيطان الخيبة.» 

بدا لي كما لو أن السنيورة عمدتني من جديدء لكن بلا جدوى, 
قائلة : قد أيها الشيطان» ابتعد» بيد أنه لم يتزحزح من مكانه. فشيعتهما 
بحزن وبقلب مقفرء ثم لوّحت لهما بيدي عندما استقلا تكسيّا. حيث 
اختفيًا قجأة؛ إذ آن سيارة فالفورة» كان مصممة للكبارء فبدت فارغة 
تبحث عن ركاب عندما انطلقت بصاحبيّ. 

كنت حاولت في الواقع أن أدفع ماتسرات لعلّه يذهب إلى سيرك 
كرونة» لكن ماتسرات لم يستجبء لأنه كان غارقاً في الحزن على أمّي 
المسكينة التي لم يكن قد استحوذ عليها في حياتها بشكل كامل. لكن من 
ذا الذي استحوذ على أمّي بالكامل؟ حتى يان برونسكي لم يتحقق له 
ذلك؛ على أية حال» أناء أوسكارء الذي عانى كثيراً إثر فقدانهاء بحيث 
نقْص عليه حياته اليومية» بل وضعها موضع التساؤل. لقد خدعتني أمَي» 
إذ لم يعد هناك ما يمكن انتظاره من ناحية أبويّ؛ أمّا بيبرا فقد وجد في 
وزير الدعاية غوبلز معلما له؛ وغريتشن شفلر التحقت بجمعية #معونة 
الشتاء». كانوا يقولون: يجب أن لا يجوع أحد ولا يموت من البرد. 
فتمسكت بطبلي وأصبحت منقطعاً» منعزلاً تماماً فوق الصفيح الذي كان 
أبيض ذات يوم فصار رقيقاً بفعل التطبيل. في المساء كنّاء أنا وماتسرات» 
نجلس متقابلين. كان يقلّب بكتب الطهي وأنا كنت أشكو همّي إلى آلتي. 
أحياناً كان ماتسرات يبكي فيخفى وجهه في كتب الطهي. وأصبحت 
زيارات يان برونسكي نادرة على الدوام. وفيما يتعلق بالسياسة بدا الرجلان 
متفقين على الرأي بأن من الضروري الالتزام بالحيطة والحذر؛ إذ أن المرء 
لا يعلم في أي اتجاه ستسير الأمور. وصارت جلسات لعب الورق» التي 
كانت تضم ثلاثة رجال بالتناوب» قليلة» متناقصةً باستمرار» وإذا ما 
نُظمت» ففي ساعة متأخرة من المساء» فيتجنب المشاركون الخوض في 


لحرن 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المواضيع السياسية؛ كانت جولات اللعب تلك تنظم في غرفة الجلوس 
تحت المصباح المعلّق. واتضح أن جدتي آنا لم تعد تعثر على الطريق من 
بيساو إلى بيتنا في لابسفيغ. كانت غاضبة» ساخطة على ماتسرات» وربما 
على أيضاًء إذ سمعتها تقول ذات مرّة: «إن ابنتي آغنس ماتت؛ لأنها لم 
تتحمّل التطبيل . ؛ 

دعلى الرغم من أن طبلي المهان تحمّل الذنب في موت أمّيء إلا 
أنني تشبثت به بقوّة» إذ أنه لم يمت مثلما ماتت الأم. إنما يمكن شراء مثله 
من جديد» أو إصلاحه عطبه لدى العجوز هايلاند أو الساعاتي لاوبشاد؛ 
فكان يفهمني» ويعطي دائما الإجابة الصحيحة؛ ويتمسك بي مثلما 
تمسكت به. 1 ْ 7 

وإذا ما ضاقت بي الدار أو بدت الشوارع قصيرة أو طويلة بالنسبة 
لأعرامي الأربعة عشرة» وإذا لم تتح لي في النهار فرصة لألعب دور 
الموسوس أمام واجهات المحلآت» أو حين لا يكون الإغراء ملحّاً بما 
يكفي في المساءء لكي أتقمص دور الموسوس الجدير بالاحترام في 
ممرات البيوت المعتمة؛ فإنني كنت أدك بقدمي على نحو إيقاعي منتظم. 
صاعداً السلالم الأربعة» 000 المائة وست عشرة» متوقفاً في 


ا الروائح لمنبعثة من أبواب البيوت الخمسة فى كل طابق؛ 
الغرفة . 


في البدء كنت أحظى بين الحين والآخر بلقاء ممتع مع نافخ البوق 
ماين الذي كان يضجع على الشراشف فوق سطح البناية المخصص 
لتجفيف الغسيل؛ مخموراً تماماًء وينفخ بالبوق ألحاناً موسيقية مدهشةء 
يستأنس بها طبلي ويتلهى. وفي مايو من العام الثامن والثلاثين أقلم عن 
شرب الخمرء مصرّحاً أمام الناس كلّهم بالقول: "إنني سأبدأ حياةً 
جديدة!" فأصبح عضواً في الجوقة الموسيقية لفرقة الخيّالة التابعة لقرّات 
الصاعقة. وذات يوم 'رأيته بالجزمة الحربية ويمؤخرته المكسوة بالجلدء 
صاحياً تماماًء يقفز على السلّم خمس درجات دفعةً واحدة. بيد أنه ظل 


رفم 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


محتفظاً بقططه الأربع التي أطلق على واحدة منها اسم بيسمارك؛ إذ كان 
: ل ة فيجعله ذا حسّاً 
موسيقياً مرّة ثائ 

وصرت ا باب الساعاتي لاوبشاد» الرجل الصموت بين 
مئات الساعات الصاخبة. كنت على أية حال أتحمل التفريط بذلك الوقت 
المّت مرّة واحدة في الشهر. 

كان العدرز هاراز تو سقط حدر الصغيرة في فناء البناية» ومازال 
يقَوّم النشاميز المعوعة.. ؤتكة فاه أنها آرال» وار من الآرانب كلها 
في الأزمان القديمة» بيد أن الأطفال في الفناء الخارجي قد تغيّرواء فصاروا 
فى الوقت الحاضر يرتدون الأزياء الموحدة والأربطة السوداءء وتوقفوا عن 
طون سناء:القزميدء إن:هذا الذي آرك ينوا باتعا مشرناً علي يقالته 
السام لا أعرفه بعد بالاسم. فهو جيل آخرء خلّف المدرسة ورائه؛ 
ودخل في مرحلة التعليم المهني: نوجي آيكه أصبح حلاقاً؛ واكسل ميشكه 
أراد أن يشتغل لحّاماً في شيشاوء و زوزي كاتر كانت تتدرب على مهنة 
بائعة في متجر شتير نفيلد» وأصبح لها صديق ثابت. فكيف تغيّرت الأشياء 
كلّها خلال ثلاثة أو أربعة أعوام؟ صحيح أن القضبان القديمة لنفض البسط 
مازالت قائمة» وأن نظام الدار مازال معمولا به: كانت البسط تنفض في 
يومي الثلاثاء والجمعة؛ بيد أن النفض نفسه بات متفرقاً جدّاً. وإن تم 
فيبدو متردداً في هذه الأيّام: فمنذ استيلاء هتلر على السلطة كثّرت 
مصاصات الغبار الكهربائية فى المنازل» وازدادت بالقدر نفسه عزلة قضبان 
النفض » فأصبحت لا تخدم إلا العصافير. 

وهكذا خلت لي ردهة السلّم الخارجية في البناية وسطح التجفيف», 
فصرت أتابع مطالعاتي العتيدة تحت آجر السقف المتموج. وفي ردهة 
السلّم كنت أقرع أوّل باب في الطابق الثاني إذا ما اشتقت إلى رؤية إنسان. 
كانت الأم تروجنسكي تفتح لي الباب دوماء فمنذ أن أمسكت بيدي في 
مقبرة برنتاو حيث قادتني إلى قبر أمّي فإنها لم تنفك من فتح الباب كلّما 
مسّه أوسكار بمضربيه. 


59؟ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


«لا تطبل عالياً هكذا يا أوسكارء هربرت يحتاج إلى شوية نوم» لأنه 
قضّى ليلة صعبة» فجلبوه بالسيارة إلى البيت.» كانت تقول وتجذبني» 
لتصبّ لي القهوة المستخلصة من الشعير فتخلطها بالحليب» ثم تقدم لي 
كثنة من سكر القن مريرطة يخينا» لانقيها في القهرة رانسيهاة :دكت 
احتسي القهوة وأمصّ سكر القند وأترك طبلي يستريح . 

كان للأم تروجنسكي رأس صغير مستديرء يحف به الشيب الرمادي 
الرقيق على نحو شفّافء لدرجة أن فروة رأسها كانت تشمٌ لوناً ورديا. 
وكانت شعيراتها المتفرقة تجنح إلى النقطة الناتئة في قحفتهاء حيث تشكل 
عقدة شعرء أصغر من كرة البليارد» يمكن رؤيتها من جميع الجهات؛ على 
الرغم من ضآلة حجمهاء كلما التفتت أو حركت رأسها. كانت ثمة إبر 
حياكة تمسك بالعقدة. كانت تدهن وجنتيها الكرويتين اللتين تبدوان كما 
ول أنّها مركبتين تركيباً على وجهها كلّما ضحكت. تدهنهما بورق الهندباء 
الأحمر الذي يترك فيهما صبغة؛ وكانت نظرتها تشبه نظرة الفأر. وأبناؤها 
الأربعة يسمون: هربرت وغوسته وفرتس وماريا. وكانت ماريا في مثل 
سنّي ) وقد أنهت المدرسة الشعبية للتو وكانت تقيم وتواصل تدريبها على 
الشؤون المنزلية لدى عائلة موظفين في شدليتس» حيث أقامت. وفرتس 
الذي عمل في مصنع عربات القطاو كانافين النادن أل يراك انعد كانت له 
علاقات متناوبة بفتاتين أو ثلاث» يمهدن له الفراش ويذهب معهن إلى 
لأوهرا») ليرقص معهن في مرقص «رايتبان». 

وكان فرتس يربي الأرانب في فناء البناية» أرانب نمساوية النوع» بيد 
أن الأم تروجنسكي كانت تضطر للاعتناء بها؛ لأن فرتس كان منشغلاً جدّاً 
بصاحباته. أمّا غوسته الهادئة التى بلغت حوالى الثلاثين من العمر فقد 
كانت تشتغل ساقية في فاق #انذن» عفل فغطة القطارات الر نسية 4 كاف 
غير متزوجة» وتسكن فى الطابق العلوي من فندق الدرجة الأولى» شأنها 
أن :عمال الفتدق' كلهم . .واخيراً هريرت الذى كان أكبرهم ملتاء والوححيد 
الذي كان يقيم مع أمّه - إذا ما استثنينا مبيت الميكانيكي فرتس الذي لا يتم 
إلا في المناسبات. وقد عمل هربرت نادلاً في مرفأ ضاحية نويفارفاسرء 


576 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وعنه بالضبط سيكون الحديث هنا. إذ أن هربرت أصبح» ولفترة قصيرة 
بعد وقاة أت المسكيدة» هدق المساعى والجهوة العى بذلعها انذاك؛ 
ومازلت اعتبره إلى يومنا هذا صديقاً لي . 

كان هربرت يخدم لدى «شتاربوش»؛4». وهذا هو اسم صاحب حانة 
اتسوم شفيدن» الواقع قبالة كئيسة البخارة البروتستانتية» فكان معظم 
روادهاء مثلما يشير الاسم «تسوم شفيدن»»؛ من الاسكندنافيين. ومع ذلك 
هولم وبحارة الرايخ الألماني الذين كانوا يقومون بزيارات فترسو سفنهم 
الحربية في غدانسك. لم تكن الخدمة في تلك الحانة» الأوروبية فعلاً» 
خالية من المخاطر. فالخبرة التي جمعها في مرقص «رايتبان أوهرا؛ - 
اشتغل هربرت فترة في ذلك المرقص المتواضع قبل أن ينتقل إلى 
#فارفاسر» - جعلته آهلا للسيطرة على الفوضى اللغوية الضاربة أطنابها فى 
حانة #شفيدن» من خلال لهجته الألمانية المحلية المطعمة بالإنجليزية 
وبقليل من المفردات البولندية. كانت هناك سيارة إسعاف تنقله إلى البيت 
مرّة أو مرتين في الشهر برغم إرادته. حينئذ كان يتوجب عليه الاستلقاء 
على بطنه؛ فيتنفس بصعوبة؛ إذ أنه كان يزن أكثر من قنطارين؛ ويثقل 
ينقطع من الشتائم» في الوقت التي كانت تحرص فيه بلا كلل على الاعتناء 
بهء ساحبة كل مرّة إبرة حياكة من عقدة شعرهاء بعدما تجدد ضماداته, 
وتطعن الهواء في اتجاه صورة مؤطرة ومرتّشة علقت قبالة سريرة» تظهر 
رجلا متهدل الشاربين ينظر إلى الأمام بجديّة وتخشّب. كان شاربه يشبه 
بعضا من تلك الشوارب القاطنة في الصفحات الأولى من ألبوم الصور 
الذي كنت احتفظ به. ولم يكن ذلك السيّد الذي أشارت إليه الأم 
تروجنسكى بإبرة الحياكة أحد أفراد أسرتى» إنما والد هربرت وغوسته 
وفرتس وماريا. 

كانت الأمّ تروجنسكي تلسع أذن هربرت المتأوّه والمتنفس بصعوبة 
بكلمات مثل: «ستنتهي مثل ما انتهى أبوك.' إلا أنها لم تنطق صراحة» 


5777 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ولا لمرّة واحدة» كيف كانت نهاية ذلك الرجل الموضوع في إطار أسود 
لامع؛ أو على الأقل كيف بحث عن نهايته . 

أرادت الفأرة التي وخط الشيب شعرها أن تعلم وهي تشبك ذراعيها 
: هما الذي حدث هذه المرّة؟» فأجاب هربرت وهو يتقلب ومن تحته 
السرير يطقطق «سويديين ونرويجيين كالعادة!» 

«كالعادة دائماً! لا تقل هذا الهراء دائماً وكأن لإ يوجد غير هؤلاء. فى 
المرّة السابقة كانوا جماعة من سفينة الطلاب» ما هو اسمها؛ نعم؛ قل لي 
ما اسمها؛ من سفينة «شلاغيتر»» ماذا أقول لك أناء وأنت تقول لي سويد 
ونرويج !) 

فاصطبغت أذن هربرت - لم أستطع رؤية وجهه - بحمرة الغضب 
التي انتشرت حول صيوانها: «هؤلاء الحقراء الأوغاد» يرفعون عقيرتهم 
ويتظاهرون بالرجولة!» 

«اتركهم» فهؤلاء الشبّان الصغار. لماذا تشغل نفسك بهم؟ عندما 
نراهم يتنزهون بالمدينة يبدون دائما منتظمين ومرتبين. إمَا تحدئت لهم عن 
أفكارك حول لينين» أو دلت نفسك بحرب الأهالي في أسبانيا؟؛ لكنّ 
هربرت لم يجبها هذه المرّة» فانصرفت الأم تروجنسكي» مرتجفة الأطراف 
إلى قهوتها في المطبخ . 

كان يتاح لي معاينة ظهر هربرت حالما يتمائل للشفاء» فيرتخي على 
كرسي المطبخ » ويدع حمالات سرواله تسقط على فخذه الملفوفة بسروال 
أزرق» ثم يخلع قميصه الصوف ببطء؛ كما لو أن أفكاراً معقدةً جعلته 
مترددا. كان ظهره مستديراء متحركا بحيوية. فياله من مشهد ورديٌ 
موشى بالنمش! أسفل عظام الكتف نما شعر كثيف على جانبي العمود 
الفقري المطمور بين الشحم.؛ ثم كان الشعر يبدأ بالتجعد هابطاً نحو 
الأسفل إلى أن يختفي في سروال هربرت الداخلي الذي كان يرتديه في 
اليف أيفنا.. كانت الندت القليظة والعديلة الآلزانة المعدريعة من 
الأسود الضارب إلى الزرقة حتى اللون الأبيض المخضرء والتي غطت 
ظهره من حافة السروال الداخلي إلى شاريين الرقبة» فأطبقت على النمش 


7317 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


حتى أوقفت الشعر عن النمو بنتوثهاء مولدةٌ التجاعيد والحكة أثناء تقلبات 
الجوّ؛ هذه الندب بالذات كان مسموحاً لي بأن ألمسها. فأي شيء مسكته 
أنا الراقد في فراشي والمتطلع من النافذة إلى الخارجء أنا الذي أراقبٌ منذ 
أشهر ملحقات المصحّة وغابة «أوبراته» الواقعة خلفها دون أن أدركها أو 
أشملها فعلاً بنظري؛ نعم أي شيء مسكته إلى يومنا هذا كان يضاهي في 
صلابته وحساسيته وفوضاه الندب التي امتلاً بها ظهر هربرت تروجنسكي؟ 
فتلك الأشياء التي مسكتها كانت عبارة عن أعضاء فتيات ونساء وكذلك 
عضوي التناسلي نفسه وإبريق الصبي يسوع المصنوع من الجبس» إضافة 
إلى ذلك البنصر الذي جلبه لي الكلب من حقل الشوفان قبل حوالي عامين 
وسمح لي قبل عام في الاعتناء به ووضعه في زجاجة محكمة الإقفال 
حيث لا يمكن مسّه أبدًء ومع ذلك كان واضحاً وكاملاً لدرجة أنني مازلت 
إلى الآن أتحسس كل جزء من الإصبع فأحصيها إذا ما تنارلت فقط مضربي 
طبلي . كلما أردت تذكّر الندب التي في ظهر هربرت تروجنسكي» أجد 
نفسي جالساًء مطبّلا أمام البرطمان الذي حفظت فيه الإصبع؛ فكنت أطبّل 
لكى أعين ذاكرتى على التذكّر. وكلّما تنفحصت جسد امرأة - كان ذلك 
تادر ها عدف على اهز زاك :د عدف السيفين تلات فريرت 
تروجنسكي ؛ لأنني وجدت نفسي غير مقتنع نحو كاف بتلك الأعضاء التي 
تتمتع بها المرأة والتي تشبه الندب. بيد أنني يمكن أن أقول كذلك: إن 
تحسس النتوءات التي امتلأ بها ظهر صاحبي العريض بشرني آنذاك بالتعرف 
على الكتل المتصلبة وامتلاكها مؤقتاًء تلك الكتل التي تمتلكها النساء 
المستعدات لممارسة الحبّ فترةً قصيرة. وبشرتني العلامات التي كانت في 
ظهر هربرت بالحصول منذ وقت مبكر على البنصر؛ وقبل أن تقوم ندب 
هربرت بتبشيري بشيء ماء بشرتني مضارب طبلي بالندب والأعضاء 
التناسلية وبالعئور أخيراً على البنصر قبل عيد ميلادي الثالث. لكن يجب 
أن أغور بعيداً في الماضي : عندما كنت جنيناًء أي قبل أن يطلق عليّ اسم 
أوسكارء كان لعبى بحبل السرّة قد بشرنى بالحصول فيما بعد على 
المشاري وغلى ثدب ترعررة والتزفات الركانة المتقدة للسناه الغابات 


58 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


والمتقدمات في السنّ وعلى البنصر وإبريق الصبي يسوع» وعضوي 
التناسلي الذي أحمله معي بلا كلل مثل نصب مزاجيّ لعجزي وإمكانياتي. 

واليوم فإنني رجعت إلى عصي التطبيل من جديد» فلم أعد أتذكر 
الندب والأعضاء الجسدية الحسّاسة» بما فيها أعضائىء إلا عبر طريق 
ملتوء وبمعونة المعدات التي أمدتني بالقوة» والتي كان فضلها يعود إلى 
طبلى. فعليّ أن أصل إلى سنّ الثلاثئين. لكي أحتفل بعيد ميلادي الثالث 
للمدة الثانية . لا بد أنكم قد أدركتم قصدي: إن هدف أوسكار هو العودة 
إلى حبل السّرة؛ لهذا السبب بالذات بذلت تلك الجهود كلّهاء إضافة إلى 
ملازمة الندب في ظهر هربرت تروجنسكي . 

وقبل أن أصف ظهر صاحبي وأحلله يجب أن أقول القول في البدء إن 
الجانت الأمامن لجسته الهائل الذائ من الفنعت تمايتة لأله كان يشكل 
دنا شال ا خالا من اديه ماعدا جرح خلفته عضة غانية في يسار عظم 
الساق. فقط من الخلف يستطيع المهاجمون التعرض إليه؛ وفقط من 
الخلف يمكن الوصول إليه. فكانت السكاكين الفنلندية والبولندية تترك 
علامتها على ظهره فحسب, كذلك فعلت مباضع عمال الشحن من جزيرة 
المخازن ومطاوي الصواري التي كان يحملها طلبة الكلية الحربية في سفن 
الطلاب . ١‏ 

وإذا ما انتهى هربرت من تناول الغداء - كانت تُقدم أقراص البطاطس 
ثلاث مرّات في الأسبوع, الأقراص التي يوجد أحد غيرها جعلها رقيقة» 
قليلة السمن» وهشّة في الوقت نفسه مثلما كانت تفعل الأمّ تروجنسكي - 
نعمء إذا ما دفع هربرت الصحن إلى الجانب؛ فإنني كنت أناوله جريدة 
لدي نويستن ناخرشتن»» فكان يدع حمّالات سرواله تهبط إلى الأسفل» ثم 
يخلع قميصهء ويسمح ليء» وهو يقرأ الجريدة» أن أستجوب ظهره. 
فكانت الأمّ تروجنسكي تجلس غالباً إلى الطاولة أثناء ساعات الاستجواب» 
تحل أصواف الجوارب.العتيقة» وتطلق ملاحظات تأيبد أو استهجان» دون 
أن تعراق؛ كما كان معوقعا: عن الإشازة إلى العوات الرهيب المضوز 
والمرتش خلف الزجاج المعلّق في الحائط مقابل سرير هربرت. 


ً”5؟5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كان الاتتجواب ينذا دنا أشر باصي علق تذية. تيت احباناً القر 
بمضرب طبلى. «أضغط مرّة ثانية» يا ولد! لا أعرف أي واحدة منها. يبدو 
أنها اليوم نائمة.» فأضغطٌ مرّة ثانية وبإلحاح. 

«آهء هذه الندبة! كان واحد أوكراني» اشتبك مع واحد من غدنغن. 
وفي البداية جلسا على الطاولة مثل أخوين. بعد ذلك قال القادم من 
غدنغن للأوكراني: روسكي! فلم يتحمل الأوكراني هذه الكلمة؛ لأنه كان 
يحب أن يكون كل شيء ما عدا أن يكون روسياً. كان هذا الأوكراني قد 
عبر نهر فايكسل بقطعة خشب.». وغر أنهارا خرئ» حتى امتلأت جزمته 
بالنقود» فأفرغ نصفها على الشرب والعزائم في حانة شتاربوش قبل أن 
مثل ما هو أسلوبي. وبينما كنت منشغلا بالفكاك بينهما سمعت الأوكراني 
يقول لي. يا شبّوط الماء! لكن شبّوط الماء الحقيقي الذي كان يرفع في 
النهار الطين بالحمّارة» أضاف كلمة كان لها وقع مثل كلمة نازي أو شيء 
من هذا القبيل. فيا أوسكاري العزيز» أنت أعرف بهربرت تروجنسكي» 
ودفعة واحدة انبطح سائق الحمّارة على ظهره. وكان له شكل الوقاد فى 
البحرية» ووجه أصفرء لقد انبطح تحت مشجب الملابس وظل يعوص 
وينوص. وقبل أن أوضح للأوكراني الفرق بين شبّوط الماء وابن 
غدانسكء» طعننى من الخلف - وهذا هو الأثر.» 

وعندما نطق هربرت بعبارته «هذا هو الأثر؛ تصمّح الجريدة في الوقت 
ذاته؛ مشدداً على العبارة» ثم احتسى جرعة من القهوة» قبل أن يسمح لي 
بالضغط على الندبة الأخرى مرّة أو مرتين. 

«آه هذه! هذه فى الحقيقة بسيطة جدًاً. حدئت هذه الندبة قبل عامين 
عندما رست زوارق بيلاو الحربية المتواضعة» فصارت تذعي وتتظاهر» 
وتلعب دور الكابوي وتجنن الفتيات. أمّا كيف التحق ذلك الطائش بصنف 
البحرية فهذا ما لا أستطيع تفسيره إلى اليوم. كان هذا الطائش قادماً من 
يعني أن يأتي بحّار من دريسدن.» 


57 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ولكي أبعد حواس هربرت التي تشبثت بمدينة دريسدن الساحرة 
الواقعة على نهر ألبه؛ وأوطنها من جديد في نويفارفاسر» نقرت مرّة أخرى 
على تلك الندبة التي قال عنها بسيطة جداً. 

الى معك حقّ؛ قل لى من هو هذا! بخحّار فى شعبة الإنذار على 
زورق بخاري. أراد أن يغامر بإطلاق أصوات حادة ثم تحرّش بواحد 
اسكتلندي هادئ كان يجفف قاربه على الشاطئ. يعني تحدث عن 
تشمبرلين وقصّة المظلّة وإلى آخره. نصحته بالهدوء مثلما هي عادتي؛ 
ف دده يد 0 
ل ل وإنما في عصبة الأمم» فرد عليّ بخار 
الزورق: (أنت يا غنيمة الألمان)» قالها باللهجة الساكسونية» فهل فهمتني؟ 
فأكل عدداً من الصفعات التي جعلته يهدأ. لكن بعد نصف ساعة؛ عندما 
انحنيت لألتقط قطعة نقدية سقطت تحت الطاولة حيث ساد الظلام» فلم 
وأخذ هربرت يتصفح «دي نويستن ناخرشتن! ضاحكاًء ثم أضاف: «وهذه 
هي الندبة.» ودفع بالجريدة نحو الأمّ تروجنسكي المتذمرة» وهم 
بالنهوض . وقبل أن يدخل هربرت إلى المرحاض - أدركت مراده من 
خلال تعبيرات وجهه؛ء إذ أنه ضغط على حافة الطاولة لكى ينهض - نقرت 
ورقة لعب الكوتشينة» فقال إن: «هربرت يريد يروح للحمام يا ولد. بعد 
ذلك أحكى لك.2 لكننى نقرت مرّة أخرى» وصرت أدبك وأخبط بقدمى» 
كما يفعل الطفل ذو الأعوام الثلاثة» فينفعني كالعادة. 

«لا بأس إذأء لا بأس. حتى تكفٌ عنّي. لكن باختصار.» فجلس 
هربرت ثانيةٌ : احدك هذا في عي الميازد من العام الثادنين, يوم كان 
الفيناء اويا تمامء وعمال الشحن يتسكعون في الشوارع ويتراهنون على 
من سيكون أبعدهم في لعبة إطلاق البصاق. بعد منتصف الليل - كنا 
انتهينا للتو من تحضير النبيذ الساخن - وإذا بالسويديين والفنلنديين يأتون 


57١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


ممشطين شعرهم ومرتدين ثياباً زرقاء وأحذية لامعة» أتوا قادمين من كنيسة 
البحَارة المقابلة. فلم استبشر بقدومهم خيرأًء فوقفت في الباب أتطلع في 
تلك الوجوه المتدينة بشكل واضح. ففكرت لماذا كانوا يعبثون بأزرارهم 
التي نقشت عليها علامة المرساة» فشهرت السكاكين على الفورء فكانت 
السكاكين طويلة والليل قصير يا أوسكار! نعم؛ السويد والفلنديين لديهم 
حساباتهم مع بعضهم. لكن ما علاقة هربرت تروجنسكي بهم» فذلك أمر 
لا يعرفه إلا الشيطان. وكما لو أن قرداً عضني! فإذا اندلعت يجب أن لا 
يتخلف عنها هربرت. فما أسرع انطلاقي من الباب! فهتف بي شتاربوش : 
«انتبه» انتبه أمامك». يا هربرت!» لكن هربرت كانت عنده مهمة» أراد أن 
ينقذ القسيس الشاب الذي جاء تواً من مالموء أنهى الكليّة؛ لكنه لم يحضر 
أي عيد ميلاد مع السويد والفنلند في كنيسة واحدة» أردت أن أعينه حتى 
يصل إلى داره سالماً. وحالما أمسكت برجل الله من شاله النظيف من 
الداخل» وإذا , بي أودع السنة (في صحتك يا سئة جديدة!) برغم أننا كنا في 
أولغيق الميلاد: عندما انتبهت وجدت نفسي ملقى على طاولة الحانة 
ودمي الجميل ينزف في كؤوس البيرة مجانا. فجاء شتاربوش بشريط 
لاصق من صندوق الصليب الأحمرء ليسعفني برباط مؤقت كما يقال.» 

فعلقت الأم تروجنسكي بامتعاض: «لماذا تدخل نفسك بهذه 
المشاكل؟» ثم أضافت بعد أن سحبت إبرة حياكة من كرة شعرهاء «عدا 
ذلك فأنت لم تذهب إلى الكنيسة أبداء بل بالعكس .» 

ولوّح هربرت بيده استهجاناً ومضى إلى المرحاض يجرجر قميصهء 
وتحتالات سرواله قدلت ارك سار بغيظ وانزعاج ثم هتف بغيظ أيضاً: 
«وهذه هي الندبة!»)» مضى فى فى الممر وكأنه أراد التنصل دفعة واحدة عن 
الكنيسة وض طناك المكاس المرتطلة باك ها لو ان المرسافن يق 
المكان الذي يكون فيه المرء مفكراً حرّاء أو سيصبح مفكراً وسيبقى . 

وبعد أسابيع قليلة وجدت هربرت لانذا بالصدت» غير ميغدد لكي 
اجات اذى مكدر عر مع أن ظهره لم يكن قد ضْمّد بالرباط 
المألوف. ب ل 


7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لم يكن قد أضطجع كجريح في الفراش» ومع ذلك بدا كما لو أنه أصيب 
جرح بالغ. سمعت هربرت يقذف الحسرات بلوعة»؛ ويتضرع يا إلهي» يا 
ماركس» يا انجلس؛ ويطلق الشتائم .كان بين الحين والآخر يهرّ قبضته في 
هواء الغرفة» ثم يتركها تهوي على صدره» فيلحق بها قبضته الأخرى» 
ويلطم على صدره كما يفعل الكاثوليكي الذي يهتف: يا معصيتي» يا 
معصيتى العظمى 22 ناه 213271122 7063 ,3م[ناء 1268 . 

كان هربرت قد أجهز آنذاك على قبطان لتوانيّ » وقد برأته المحكمة 

في الواقع ؛ إذ أنه استخدم حقّه المشروع في الدفاع عن النفس كما يحدث 
عاذة فى عمل كعمله: بيد أن القبطان بقي لتوانيّاً ميتاً على الرغم من 
البراءة» فأئقل كاهل النادل بقناطير من الذنوب» برغم كل ما قيل عن 
القبطان بأنه كان هزيلاء مصاباً بمرض في المعدة. فلم يذهب هربرت 
بعدها إلى عمله. وقدم استقالته. فصار صاحب الحانة شتاربوش يتردد 
على زيارة هربرت» ويجلس على الأريكة إلى جانبه إو إلى جانب الأمّ 
تروجنسكي في المطبخ». ويخرج من حقيبته اليدوية زجاجة عرق العرعر. 
ماركة صفر صفرء أو يجلب للأم تروجنسكي ربع كيلو من القهوة غير 
المحمصة التي كان حصل عليها من الميناء الحرّ. فكان يحاول إِمّا إقناع 
هربرت نفسه؛ أو الأمّ تروجنسكي لكي تقنع ابنها بدورها. لكن هربرت 
بقى متصلباً أو ليّنآء حسبما يشتهي المرء؛ مصرًاً على التوقف عن عمله 
كنادل حانة» في نويفارفاسر» لا سيما مقابل كنيسة البخارين. بل لم يعد 
راغباً قط في العمل نادلاً؛ إذ أن كل من يخدم في حانة سيُطعن ذات يوم؛ 
وكل من يُطعن سيضرب ذات يوم قبطاناً لتوانياً صغيراً حتى الموت؛؟ لأنه 
أراد أن يُبعد القبطان عن جسده ولأنه لم يرد السماح للسكين الليتوانية أن 
تخلف آثرا إلى جاتب الآثاز القلتدية والسويدية والبولندية وتلك: القادفة م 
المدن الحرّة ودولة الرايخ الألماني» أن تخلف ندبة إلى جانب الندب على 
ظهر هربرت تروجنسكي المحروث طولاً وعرضا. 

وقال هربرت: «أننى أفضل الذهاب إلى دائرة الجمرك على العمل فى 
خانة من .حانات فارفاسر .4 بيد أنه لم يلتحق بلذائرة الجمرك: ١‏ 


إزشرضا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


نيوبا 


في العام الثامن والثلاثين ارتفعت نسبة الرسوم الجمركية» وأغلقت 
الحدود مؤقتا بين بولندا والدولة الحرّة. ولم تستطع جدتي إثر ذلك 
الذهاب بالترام إلى السوق الأسبوعي في لانغفورء فتوجب عليها أن تقفل 
#«بسطتها» وتبقى جالسة على بيضها كما يقال» دون أن تواتيها الرغبة 
الصادقة في التفقيس. فتصاعدت نتانة أسماك الرنجة حتى السماءء 
وتكدست البضائع . وصار رجال السياسة يلتقون ببعضهم» متفقين في 
الآراء» باستثناء صاحبي هربرت الذي رقد على الأريكة موزع النفس» 
عاطلاً عن العمل ويقلّبٍ أفكاره مثل متأمل حقيقي. 

كان الجمرك يقدم عملاً وقوتاً وقيافات خضراء وحدوداً خضراء 
جديرة بالحماية. لكن هربرت لم يذهب إلى الجمرك» ولم يرغب في 
العمل نادلاًء بل أراد الاستلقاء على الأريكة ليمعن الفكر. 

بيد أن الإنسان يجب أن يجد عملا ما. ولم تكن الأمّ تروجنسكي 
وحدها التي فكرّت بهذه الطريقة. ومع أنها رفضت إقناع ابنهاء بناءً على 
طلب صاحب الحانة شتاربوشء في العمل نادلا فى فارفاسر من جديد» 
فق القنسة رإنعاة خريرك خم الأريكة تفلا غنم اله نجه فاق ذرهاً 
بالدار ذات الغرفتين» فأخذ يمعن الفكر في الظاهرء إلى أن بدأ ذات يوم 
في معاينة فرص العمل في «دي نويستن ناخرشتن» وأيضاً في جريدة 
«فوربوستن» النازية» ففعل ذلك على مضض . 

كم تمنيت أن أساعده! فهل يعقل أن يضطر رجل مثل هربرت إلى 
ممارسة أشغال أخرى عدا تلك الأشغال المناسبة التي كان يؤديها في ميناء 

نارق 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الضاحية؟ العمل العاديّ في الموانئ أو الأشغال المؤقتة أو دفن أسماك 
الرنجة المتعفنة! إنني لا أستطيع أن أتخيل هربرت يقف فوق جسر متلاو 
ويبصق في اتجاه النوارس» ويقذف بتبغ المضغ. فوردت في ذهني فكرة 
القيام بشركة تجارية مع هربرت: ساعتان من العمل المركز في الأسبوع. 
أو حتى في الشهرء ثم نكون من أصحاب الجاه. إن أوسكار قد أثبت 
براعته من خلال خبرته الطويلة في مضمار قطع واجهات المحلات 
المحترمة بواسطة صوته الماسّي؛ كما أنه سيكون قادراً على القيام بدور 
المراقب في الوقت الذي يخف فيه هربرت يده كما يقال. فنحن لسنا 
يحاحة إلى جهاز لهام أو إلى عثاتيم استباطية أل :صتدوة أذرات» لقد 
نجحنا في مهمتنا دون أن نكون بحاجة إلى مسدّس أو خاتم حديديّ 
للضرب . كنا و «عربة المساجين الخضراء» عالمين لا يحتاجان إلى ملامسة 
بعضهما أبداً إذ أن عطارد» إله اللصوصيّة والتجارة» باركنا؛ لأنني ولدت 
في برج العذراءء فامتلكت خاتمه الذي أختم به أحياناً على الحاجيات 
الصلبة . 
وسيكون من الحماقة إغفال هذه الواقعة» بل سأقصها على عجل» 
دون الاعتراف بالذنب: تمكناء أنا وهربرت عندما كان عاطلاً عن العمل» 
من تحقيق عمليتي سطو من النوع المتوسط شملتا محلين للأطعمة 
الفاخرة؛ إضافة إلى عملية اقتحام نظيفة لمحل فراء» فغنمنا فراء الثعلب 
«الأزرق؛ وقطعة من جلد عجل البحرء إضافة إلى فراء عجمي لليدين» 
ومعطف من جلد الخيل جميل الفصال؛ وإن لم يكن ثمنه غالياء لكن أمّي 
المسكينة كانت سترتديه بكل سرور. 

غير أن ما دفعنا إلى التخلي عن السطو والاقتحام لم يكن تأنيب 
الضمير وحدهء والذي لم يكن في محله تماماً. إنما الصعوبات المتفاقمة 
المتعلقة بتصريف البضاعة. فلكي يتمكن هربرت من بيع تلك الحاجيات 
بما يناسبناء كان يتوجب عليه الذهاب إلى نويفارفاسرء إذ أن الوسطاء 
النافعين كانوا متواجدين فقط فى الضاحية. لكن بما أن تلك الضاحية كانت 
تذكر هربرت بالقبطان الليتوائي الهزيل الجسد؛ الملتهب المعدة» فإنه كان 


م 
1_طماع1© :عا ]آنلا 1 


يحاول التخلص من البضاعة في جادة شيشاو ومصنع هاكل وبورغرفيزن» 
لكن ليس في منطقة فارفاسرء حيث كان الفرو يباع بسهولة كالزبد. وهكذا 
تأخر تصريف غنائمناء لدرجة أن الأطعمة الفاخرة انتقلت في آخر المطاف 
إلى مطبخ الأمّ تروجنسكيء كما أن هربرت أهدى لها فراء اليدين 
العجمي» أو بالأحرى حاول أن يهديه لها. 

وعندما رأت الأمّ تروجنسكي الفراء توقف المزاح وصار الأمر جدياًء 
فتقبلت المأكولات بصمت في الواقع» إذ لعلها فكرة في تغاضي القانون 
عن السرقة الاضطرارية لسدّ الرمق» بيد أن الفراء عني في نظرها الترف 
والترف يعني عادةً الطيش والطيش يعني السجن. هكذا فكرت الأمّ 
تروجنسكي ببساطة وعلى نحو صائب» وضيّقت عينيها اللتين تشبهان عينيّ 
الفأرة» ثم جذبت بعصبية إبره الحياكة من عقدة شعرهاء وهددت بها 
قائلة : «ستنتهي ذات يوم مثل ما انتهى أبوك!» ودفعت بجريدة ادي نويستن 
ناخرشتن» إلى ابنهاء أو جريدة «فوربوستن» بحركة تعني: الآن يجب أن 
تفتش لك عن وظيفة محترمة؛ وليس عن هذه الخزعبلات» وإلا فسوف لا 
أحضر لك الطعام أبداً. 

رقد هربرت بعد ذلك أسبوعاً كاملاً على الأريكة؛ فأصبح ثقيل 
الظل؛ غير مستعد للاستجواب المتعلق بندبه» ولا بتحطيم زجا 
الواجهات الواعد بالخير. لقد أبديت تفهما لموقف صاحبي» وتركته ينعم 
ببقية عذابه» فمكثت برهة عند الساعاتى لاوبشاد وساعاته المستعرضة 
الوقت بحركات مريعة» وحاولت الأمر ذاته مع الموسيقي ماين بيد أنه 
لم يعد يمنح نفسه فسحة صغيرة من الزمن. إذ بدا منهمكأًء هو وبوقه, 
بمتابعة النوتات الموسيقية لكتيبة الخيّالة التابعة لقرّات الصاعقة» مهتمأ 
بمظهره» نشيط الحركة؛ حازماًء في الوقت الذي تدهور فيه وضع قططه 
الأربع شيئا فشيئا بسبب سوء التغذية» تلك القطط التي استحالت إلى 
مخلفات من الزمن الموسيقي الرائع» برغم تشبّعه بالسكر. في مقابل ذلك 
صرت أرى ماتسرات الذي لم يكن يحتسي الخمر في زمن أمّي إلا بصحبة 
الآخرين» جالساً على الدوام في وقت متأخر خلف كأس صغير مخصص 


حرفا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


لجرعة واحدة؛ ويتطلع بنظرة مخمورة. كان يقلّب ألبوم الصورء محاولاً» 
رتلما قفعلت أنا الآنء إحياء أتى المسكينة بصوو ضغيرة سيئة أو جيدة 
الإضاءة» ذم ياي في متغضف الليل عندما تحين ساعة البكاء فيخاطب 
هتلر أو بيتهوفن المتجهمين المعلقين قبالة بعضهماء مستخدما ضمير 
المخاطب الذي يستخدم بين المعارف والأصدقاء» وبدا أيضاً كما لو أنه 
كان يتلقى إجابة من ذلك العبقري الأصمّء في حين كان القائد الزاهد 
بالشرب يلوذ بالصمت؛ لأن ماتسرات الذي كان مسؤول خليّة صغيرة 
وسكيّراء تراءى غير جدير بالتنبؤ بالمستقبل. 

وذات ثلاثاء - أستطيع تذكر اليوم بدقة تامة بفضل طبلي - آن 
الأوان: فتهندم هربرت» هذا يعني أنه ترك الأم تروجنسكي تفرك له 
السروال الضيّق من الأعلى» الواسع من الأسفل» بالقهوة الباردة؛ فحشر 
قدميه في حذاءه الخفيف الوقع» ثم سكب نفسه في سترة بأزرار تشبه 
المرساة؛ وعطر الوشاح الحريري الأبيض الذي حصل عليه من الميناء 
الحرّ بماء كولونيا الذي بات من الممكن الحصول في الميناء الح 
وانتصب متصلباً بقامته المربوعة وقبعته الزرقاء ذات الواقية الأمامية . 

قال هربرت : «سأذهب للبحث عن عمل!2 ثم أزاح القبعة» التي تذكر 
بالأمير هاينريش» إلى جهة اليسارء على نحو يوحي بالجسارة» فتركت الأمّ 
تروجنسكي الجريدة تسقط من يدها. 

وفي اليوم التالي عثر هربرت على وظيفة وعلى بذلة رسمية» فارتدى 
اللون الرمادي الغامق» وليس اللون الجمركي الأخضرء فعُيّن حارساً في 
متحف الملاحة. ومثل جميع الأشياء الجديرة بالحفظ»ء في تلك المدينة 
نفسها الجديرة بالحفظ. ملأت كنوز متحف الملاحة منزل نبيل عتيد 
متحفيّ المظهرء له من الخارج مدخل مرج وزخرفة في الواجهة مرحة» 

غنيّة بالتفاصيل؛ وفي داخله خشب بلوط داكن محفور بنقوش وسلم 
لولبي. كان المتحف يستعرض تاريخ المدينة ذات الميناء البحري» بفهرسة 
منتظمة؛ تلك المدينة'كمن صيتها دائماً فى أنها كانت وبقيت زاخرة بالرخاء 
والتعيم وسط يران أقوياء وفقراء في الغالب. فيا لتلك الامتيازات اللعدوئة 


بغرا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بالوثائق بصياغات معقدة والمشتراة من روساء الدير الكنسية والملورك 
البولنديين! تلك النقوش الفنيّة الملونة التي صوّرت مختلف حالات 
الحصار التي ضربت حول الحصن البحري في مصبٌ فيستولا! وهناء بين 
أنران الهدينة» آنام #معاسلارس لحجسكية الدهين الطالع لصتس 
هارباً من الملك الساكسونيٌ المنافس» حيث أمكن بوضوح رؤية إمارات 
الخوف مرتسمة على وجهه. وكذلك بدا كبير الأساقفة «بوتوسكي» 
والمبعوث الفرنسي «دو مونتي» خائفين؛ إذ أن الروس بقيادة الجنرال 
«الاسكى» كانوا يطوقون المدينة. تلك الأشياء كلها كانت مدونة بدقة» 
تحيت نكن خراءة اماد السفن الفرنسية تحت العلم الذي حمل رسم 
زهرة السوسن في المرسى. وثمة سهم أشار إلى: أن ستانسلاوس 
ليجيجنسكي كان قد هرب بهذه السفينة إلى الوترنغن» عندما استسلمت 
د كو آب . كانت الغنائم الى خصل غليها في 
معارك النصر تشكّل القسم الأعظم من الآثار المعروضة؛ فالحروب 
الخاسرة كانت نادراً ما تحال غنائمها إلى المتاحف, أو أنها لم توردها 
بالتحف منل البداية . 

وهكذا كان الشكل الخشبي المحفور العائد لسفينة شراعية ضخمة من 
فلورنسا كانت ترسو عادةً في بروغه» لكنها كانت ضمن ملكية التاجرين 
«بورتناري» واتاني» المنحدرين من فلورنساء نعم؛ كان ذلك الوجه البارز 
يمثل مفخرة المتحف. وقد تمكن القرصانين وربّاني السفن الغدانسكيين 
باول بينكه ومارتن باردهفيك من الاستيلاء في أبريل / نيسان من العام 
١1377‏ على السفيئة الشراعية المبحرة قرب جزيرة زيلاند» ليس بعيداً من 
ميناء سلايس. وبعد عملية الاستيلاء مباشرة أمرا بقتل جميع طاقم السفينة 
الكبير العددء إلى جانب الضبّاط والقبطان» ثم لبت السفينة بمحتوياتها 
إلى دانسغ . ٠‏ 

وثمة لوحة قابلة للانطباق للرسّام «مملنغ» تمثّل يوم القيامة وحوض 
تعميد مذمقب - أنجز هذان العملان بناءً على طلب تاني الفلورنسيّ 
لمصلحة كنيسة في فلورنسا - وقد عرض هذان العملان في كنيسة مريم. 


5778 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ومازال يوم القيامة يسر العين البولندية الكائوليكية إلى يومنا هذا حسب 
معرفتي . بيد أن مصير الشكل المنحوت من الخشب ظل يشوبه الغمورض 
بعد نهاية الحرب» ففي زمني كان متحف الملاحة يحتفظ به. 

كانت المنحوتة الخشبية الفخمة تصوّر أنثى خضراء الجسد. عارية» 
تتطلع إلى الأمام بعينين منحوتتين من الكهرمان» تتطلع عبر ثدييها النافرين 
المليئين بالعزيمة» رافعة ذراعيها إلى الأعلى, حيث تشابكتا مع بعضهما 
بتراخ» مبرزة في الوقت ذاته أصابعها كلّها. كان هذه الأنثى» المنحوتة 
الشكل» هي التي جلبت النحس . وكان التاجر بورتناري قد أوصى بصنع 
المفال وجعلة على فقاييسن فاة بلجيكية كان مولعا يها فتيحتة له أحد 
حفاري الخشب من ذوي السمعة الجيدة في صناعة الأشكال البارزة. 
وحالما علّق التمثال الأخضر في حيزوم السفينة جرت محاكمة الفتاة بتهمة 
السحر مثلما كان مألوفاً آنذاك. وقبل أن تتحول الفتاة إلى شعلة من لهب» 
وبفعل الاستجواب المحرج الدقيق» وجهت أصابع الاتهام إلى ولي أمرها 
التاجر الفلورنسي وكذلك إلى النحات الذي أخذ مقاييسها ببراعة متناهية. 
وكما يقال فإن بورتناري شئق نفسهء لأنه كان يخشى النار. أمّا النحات 
فقد قطعوا يديه الموهبتين» لكي لا يحوّل الساحرات إلى أشكال خشبية في 
المستقبل . فبيتما كانت المجحاكمات تتجرى فى قااخية ابروغه) زتلفت إلبها 
الأنظار» إذ أن بورتناري كان رجلاً واسع الشراء» وقعت السفيئة ومعها 
الشكل الخشبي تحت اليد القرصانية باول بنكه. أمّا السنيور تاني» التاجر 
الآخرء فقد لاقى مصرعه بفأس بحرية؛ ثم جاء الدور لباول بنكه نفسه: 
فبعد مضي أعوام قليلة لم يحظ بأدنى رحمة من لدن أعيان مدينته» إذ تم 
إغراقه في باحة البرج ذي الطوابق. فالسفن التي يُركب على مقدمها الشكل 
الخشبي عقب موت بنكه صارث سرعان ما تحترق بعد التركيب بفترة 
قصيرة وهي راسية في الموانئ» وكانت الحرائق تنشب في سفن أخرىء, ما 
عدا الشكل الخشبي بطبيعة الحال؛ فقد كان ضد الحريق» فحظي بسبب 
شكله المتوازن المنتظم بالكثير من العشّاق من بين أصحاب السفن. فكلّما 
استقر شكل الأنثى في مكانه المخصص له كان طاقم السفينة يتعرض إلى 


ارم 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عملية إبادة إثر حدوث تمرّد خلف ظهر التمثال» على الرغم من أن الطاقم 
كان ينعم بالسكينة والأمن قبل فترة قصيرة. 

كانت الحملة الخائبة لأسطول غدانسك الحربي تحت إمرة الداهية 
ايبرهارد فيربر ضد الدانمرك في العام ١0717‏ قد أدّت إلى انتفاضات دموية 
في المدينة. كان التاريخ يتحدث في الواقع عن خلافات دينية - إذ قاد 
القسيس البروتستانتي هيغه في العام الثالث والعشرين من ذلك القرن حشداً 
غفيراً من الناس لتحطيم الصور الدينية في الأبرشيات السبع للمدينة - بيد 
أننا ألقينا الذنب في تلك الانتكاسة» التي كان لها أثر بالغ بعيد المدى. 
على الشكل الخشبي الذي زيّن مقدم سفينة فيربر. 

وحين قام شتيفان باتوري بعد خمسين عاما بمحاصرة المدينة دون 
فائدة» ألقى كازبار يشكه. رئيس دير أوليفاء ألقى بالذنب في مواعظه عن 
التوبة على الشكل المنحوت؛ أي على تلك الأنثى الآثمة. لقد استلم ملك 
بولندا المنحوتة تلك هديةً من المدينة» فصار يحملها معه إلى المعسكرات 
في الخلاء؛ متقبلاً منها المشورة الخاطئة. فنحن لا نعلم مبلغ تأثير السيدة 
الخشبية على الحملات السويدية ضد المديئة والتي أت إلى سجن رجل 
الدين المتعصب الدكتور «أغيديوس شتراوخ» أغواما ظويلة» يعد أن كان 
يتآمر مع السويديين» وكذلك إلى احتراق الأنثى الخضراء التي وجدت 
طريقها إلى المديدة من حذيد» وثمة خير ملتيس آفاد بآن شاعرا غارياً 
يسمّى أوبتس وجد فيها ملاذاً بضعة أعوام» إلا أنه توفي مبكراً جدّاء لأنه 
اقتفى آثار المنحوتة المهلكة في عنبر للغلال محاولا مدحها بالقصائد. 

وفي نهاية القرن الثامن عشرء إبان تقسيم بولنداء أصدر البرويسيون 
0 احتلوا المدينة بالقوّة أمرأ ملكيّا-برويسيًا بحضر «الشكل الخشبي 

امتكانت تفي لمر ة التي تذكر بالاسم في الوثائق وأجليت من 

0 أو بالأحرى حبست في البرج ذي الطوابق الذي أغرق في فنائه 
باول بنكه والذي جرّبت من رواقه إرسال صوتي البعيد الأثر بطريقة ناجحة 
للمرّة الأولى»؛ لكي تتصرف طوال القرن التاسع عشر بهدوءء؛ بمواجهة 
المنتجات المختارة للخيال الإنساني الجامح, أي أمام آلات التعذيب. 


54 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وعندما ارتقيت البرج في العام الثاني والثلاثين ثم غزوت بصوتي 
نوافذ بهو المسرح البلدي كانت نيوبا - سمّيت باللهجة الشعبية «البنية 
الخضراء» أو «الفتاة الخضيراء»- قد أبعدت» ولله الحمدء منذ أعوام من 
غرفة التعذيب في البرج. وإلا فمن ذا الذي سيعلم بأن هجومي على 
المبنى ذي الطراز الكلاسيكي كان سيكتب له النجاح؟ فلابد أن يكون مدير 
المتحف الذي حرّر نيوبا من معقل غرفة التعذيب الكابح لقواهاء ليسكنها 
في متحف الملاحة المشيد حديثاً بعد تأسيس الدولة الحرّة» شخصاً 
جاهلاًء ليس من أبناء المدينة. وبعد فترة قصيرة على ذلك الإجراء توفى 
إثر تسمم بالدم» أصيب به ذلك الرجل المغالي في حماسه أثناء تثبيته لرقعة 
يمكن أن يستشف منها بأن ما عرض فوق الرقعة هو شكل خشبي يحمل 
اسم ثيويا : 

ما خليفته الذي كان مطلعاً على تاريخ المدينة حذراًء فقد أراد إبعاد 
نيوبا مرّة أخرى. ففكر في أن يهدي الفتاة الخشبية الخطيرة إلى مدينة 
لوبك؛ ولأن أهالي لوبك لم يتقبلوا الهدية؛ فإن مدينتهم الواقعة على نهر 
ترافه اجتازت حرب القنايل سالمة نسبياً ما عدا كنيستها المبنية بالآجر. 
وهكذا بقيت نيوبه أو «الفتاة الخضيراء» في متحف الملاحة وتسببت في 
وفاة مديرين خلال أربعة عشر عاماً من تاريخ المتحف - لم يكن المدير 
الحذر من ضمنهما؛ إذ أنه طلب أن ينقل إلى مكان آخر - وفي وفاة 
قسيس عجوز عند قدميهاء ورحيل طالب فى المعهد التقنى العالى إضافة 
إلى تلميذين في الصف المتتهي لثانوية بيتري» اجتازا المرحلة الإعدادية 
للترٌ وبفرح غامرء وتسببت كذلك في نهاية أربعة من حرّاس المتحف 
الأمينين الذين كان ثلاثة منهم متزوجين. 

وتم العثور عليهم كلّهمء بما فيهم طالب المعهد التقني» بوجوه 
متغيرة المعالم» وقد غرست في صدورهم أدوات حادة على غرار الأدوات 
التي يعثر غليها المرء في متحف الملاحة: سكاكين الصواري» كلابات 
البحارين: أو الحربون أو النصال المرهفة المجتلبة من الساحل الذهبي 
دإبر خياطة قماش الأشرعةء باستثناء التلميذ الأخير الذي سارع إلى إشهار 


>5:١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


مديته في البدء ومن ثم الفرجار؛ لأن جميع أدوات المتحف الحادة وضعت 
إِمّا في سلاسل أو خلف الزجاج قبل وفاة التلميذ بفترة قصيرة. 

وعلى الرغم من أن المحققين الجنائيين في جرائم القتل قد تحدثوا 
عن أن عملية انتحار مأساوية كانت تختفى وراء كل حالة موت؟ فإن شائعة 
شرت فى الفدينة وعلن نات الجرانن قالت بان :لهذا ماأعمله انيه 
الخضيراء بيديها؛. فاتجهت التهم بجدية إلى نيوبا التي كانت تنقل الرجال 
والصبيان من الحياة إلى الموت. فأخذ الناس يخوضون نقاشات حامية 
وأفردت الجرائد زاوية خاصة بقضية نيوبا للتعبير عن الآراء بحريّة. تحدث 
الناس عن وقائع خطيرة للغاية» وتحدثت إدارة المدينة عن خرافات لا 
تساير العصر: لا يجوز التفكير باتخاذ إجراءات طائشة قبل البرهنة على أن 
ما يسمى بالشيء الرهيب قد حدث حقّاً وفعلا. 

فصار الخشب الأخضر معروضة نادرةً في متحف الملاحة؛ إذ رفض 
المتحف المحلّي قي أوليفا والمتحف البلدي في فلايشرغاسه وإدارة 
أرتوسهوف قبول تلك الشخصية الشبقة. ونشأ نقص في حرّاس المتحف» 
إذ لم يحجم هؤلاء الحرّاس وحدهم عن حراسة العذراء الخشبية» بل أن 
الزوّار كانوا يتجنبون أيضاً المرور بالصالة التى آوت الفتاة ذات العينين 
الكهرمائقن تيحفيق هكذا غادقة كدر طلويلة لف انزاقك البناية القاكمة 
منذ عصر التنوير والتي أتاحت للتمثال المنحوت من الخشب قدراً كافياً من 
الضوء الجانبي. لكن الغبار تراكم المنظفات انقطعن عن المجيء. وتوقف 
المصورون الفضوليون بعد أن لاقى أحدهم حتفه بطريقة طبيعية في الواقع» 
لكن موته جاء مقترنا بالصورة الملتقطة على نحو يثير الاستغراب» توقفوا 
عن توريد صحف الدولة الحرّة وبولئدا والرايخ الألماني وحتى فرنسا 
بصور ذلك النصب القاتل» بل أنهم أقدموا على إتلاف اللقطات الشخصية 
لنيوبا في أرشيفاتهم» مكتفين منذ ذلك الحين بتصوير مراسيم قدوم 
مختلف الرؤساء وزعماء الدول والملوك المنفيين ومغادرتهم» معتاشين 
على معارض الدواجن التي يتضمنها برنامج الزيارة وعلى مؤتمرات الحزب 
القومي الألماني وسباق السيارات وفيضانات فصل الربيع . 


55 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وبقي الأمر على هذا المنوال إلى أن احتل هربرت تروجنسكي» الذي 
لم يكن راغباً في الخدمة نادلاً ولا في العمل بالجمرك بأي ثمن» احتل له 
مكاناً على الكرسيى الجلدي متلفعا بقيافة حرّاس المتحف الرمادية كلون 
الفأرة» إلى جانب باب تلك القاعة التي أطلق عليها لقب «قاعة البُنية 
الاحتفالية». ومنذ اليوم الأول للعمل تبعت هربرت إلى محطة الترام في 
ماكس-هالبه-بلاتس» إذ كنت قلقاً جد عليه. فقال: «ارجع يا عزيزي 
أوسكار إلى البيت. أنا لا أستطيع أخذك معي!» لكنني وقف في عين 
صاحبي الكبير بطبلي ومضربي, مبديا إلحاحا شديداء فقال هربرت: «تعال 
معي إلى حد هوهنتور؛ ثم ارجع بالترام وكن عاقلاً!» لكن عند هوهنتور 
رفضت الرجوع في الخط رقم خمسة»ء فاصطحبني هربرت حتى جادة 
هايلغه-غاسه» ثم حاول التخلص مني ثانية حين وصلنا إلى السلّم 
الكلاسيكيّ الطراز المؤدي إلى المتحف» بيد أنه قطع لي من شبّاك التذاكر 
بطاقة دخول للأطفال وهو يتأفف. كنت في الواقع قد بلغت الرابعة عشرة» 
وكان عليه أن يسدد ثمن الدخول كاملاًء لكن من ذا الذي سيشغل نفسه 
بهذا الموضوع! 

كنا قد حظينا بنهار هادئ لطيف» فلم يكن هناك زوّار ولا مراقبون. 
وكنت بين الحين والآخر أطبّل نصف ساعة» بينما كان هربرت يرقد نصف 
ساعة بين الحين والآخرء ونيوبا تتطلع ساهمة بعينيها الكهرمانيتين متجهة 
بئدييها النافرين صوب هدف محددء لم يكن هدفناء لذلك لم نشغل نفسنا 
بها. رسم هربرت علامة النفي بيده وقال: «إنها ليس على هواي. انظر 
إلى تجاعيد الشحم وإلى لغدها الضخم.» ثم مال هربرت برأسه؛ مقدماً 
تصوراته لنفسه: «الظهر مثل دولاب عائلة بكاملها. هربرت يحب السيدات 
الرشيقات» يحب الصغيرات اللعوبات.» وأخذت أصغي إلى هربرت وهو 
يستفيض بوصف نموذج المرأة التي يهوى فرأيت كيف أنه بدأ ينحت بيديه 
لهائلتين مثل مجرفتين معالم شخص لطيف من جنس النساءء تلك المعالم 
التي بقيت فترة طويلة؛' في الواقع إلى يومنا هذاء تشكل نموذج المرأة 
المثال بالنسبة لي» حتى لو كانت مموهة تحت رداء الممرضات. 


د 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وفي اليوم الثالث من زمننا المتحفي تجرأنا على مغادرة الكرسي 
المجاور للباب. وبحجة القيام بأعمال تنظيف -بدا منظر القاعة بشعاً حقّاً 
- اقتربنا من الأنثى الخشبية الخضراء المضاءة التى ألقت بالظلال حين 
نسحا الخبار وأزلنا تسبيع كلمة الحتكبوت عن الواح البلوط» جاعلين من 
المكان «قاعة البّنية الاحتفالية» بالمعنى الحقيقي للعبارة. لم يكن الأمر 
بمعنى أن نيوبا لم تخلّف فينا أثرأًء بل أنها كانت ترفل بلامبالاة بفتنتها 
الأخاذة التي لم تخلو من التجانس بالتأكيد. غير أننا لم ننعم بنظرتها بعين 
من يرغب في تملكهاء إنما تطلعنا إليها بعين العارف النزيه الذي يتفخص 
ويقيّم جميع التفاصيل. فعثرناء أنا وهربرت - باعتبارنا من عشاق 
الجماليات الهادئين المأخوذين بالسحر بتجرّد من العواطف» مقدمين 
بحركات إبهامنا ملاحظاتٍ تتعلق بتناسب جسد الأنثى - عثرنا على قياس 
من القياسات الكلاسيكية الثمانية للرأس يتناسب من حيث الطول مع جسد 
نيوباء باستثناء وركها القصير إلى حدّ ماء بينما كانت أعضاؤها الممتدة 
بالعرض مثل الحوض والكتفين والقفص الصدري» تتئاسب مع القياسات 
الهولندية للتركيب الأنثوي أكثر من تناسبها مع القياسات الإغريقية. 

وقد أرخى هربرت إبهامه نحو الأسفل ثم قال: «ستكون بالنسبة لي 
نشيطة جذا في الفراش. هربرت يعرف المصارعة من أيّامِ أوهرا وفارفاسر. 
فأنا لا أحتاج إلى امرأة لهذا الغرض .2 كان هربرت طفلاً ملوعاً بالتجارب . 
«بلى؛ لو كانت لها يد هشّة وممتلئة هكذاء من ناحية الخصر مثلاً» فلا 
اعتراض لدى هربرت. ») 

ولو بلغ الأمر مداه لما اعترضنا على نيوبا أو على روح المصارعة 
الكامنة فيهاء وكان هربرت على علم تام بأن ما تمناه وما لم يتمنه من 
امسككانة سلبية أو تشاط متعلق بالتسوة العاريات أو أتضاف العاريات له 
يمكن أن تقدمه النساء الرشيقات اللدنات» بينما تمتنع الممتلثات البدينات 
عن تقديمه؛ فهناك نسوة رقيقات لا يستطعن الاضطجاع بهدوء. وثمة إناث 
ضخمات يشبهن ممرات مائية هادئة لا تفصح عن تدقق أو انهمار. فبسَطنا 
الموضوع عن قصدء مختصرين كل شيء إلى قاسمين مشتركين. موجهين 


32> 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الإهانة لنيوبا بطريقة متعمدة لا تغتفر. فرفعني هربرت على ذراعه لكي أنقر 
بمطرقتي الطبل ثديي الأنثى» فنقرت حتى تطايرت سحب تافهة من نشارة 
الخشب من ثقوب ديدان الخشب الكثيرة المرشوشة بالمبيدات وغير 
المأهولة لذلك السبب . وأثناء النقر على التمثال حدّقنا بالكهرمان المشير 
تفيضاً بالدموع؛ كذلك لم يتقلصا على نحو خطير يشي بالحقد. إنما 
عكست عيناها المشحوذتان المائلتان للاصفرار أكثر من ميلهما للاحمرار» 
حتى وأن تقلصتا بشكل محدودب؛ عكستا محتويات قاعة المعروضات 
رعر سن الانا؟! 0 0 بقهة تامة . والكهرمة 3 البصرء 
مو ع و ل و 1 
نيوبا الظاهر لمصلحتنا حين قسّمنا ما هو أنثوي إلى شيّ فعّال وسلبي على 
طريقة الرجال الضيقة الأفق» فشعرنا بثقة في النفس . ثم طرق هربرت 
مسماراً في صابونة ركبتها وهو يقهقه بشماتة» فصارت ركبتي تؤلمني عند 
كل ضربة» في حين أنها لم ترفع حتى حاجبيها. وقمنا بمختلف الأعمال 
العابثة على مرمى بصر الخشب الناضح بالخضرة: فقذف هربرت نفسه في 
معطف أميرال إنجليزي» متسلحاً بمنظار ثم انتصب تحت القبعة المناسبة 
لأمفيزال البحر:. ا ا ا رأسى 
باروكة شعر بذوائب طويلة» جاعلا نفسي خادماً للأميرال. 00000 
الطرف الأغر وقصفنا كوبنهاغن وشتتنا أسطول نابليون في أبو قير وأبحرنا 
بسفننا الشراعية مجتازين هذا الرأس البحري أو ذاك» ووقفنا وقفات 
تاريخية فمعاصرة أمام المنحوتة الخشبية ذات القياسات الهولندية المستسيغة 
ك تع ليا لمعه ولتي لم تالمل قجا: 

واليوم , بت أعلم بان كل شيء كان يتطلع إليناء رمه يي 
كه ليك اغلع أن تررق كباء الجتران تبه كاف له ذاكر: أفضل من 
ذاكرة البشر. فليس الله العزيز وحده من يرى كل شيء! إذ أن كرسي 
المطبخ أو علاقة الملابس أو منفضة السجائر نصف الممتلئة أو التمثال 


:”> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الخشبي لامرأة اسمها نيوبا كان كافياً لتقديم الشهود غير القابلين للنسيان 
لكل فعل. وكا خدمنا في متحف الملاحة أربعة عشر يوماً أو أكثر. 
فاشترى لي هربرت طبلاً وأعطى الأمّ تروجنسكي مرتين أجرته الأسبوعية» 
إضافة إلى بدل الخطورة. 

وذات ثلاثاء - كان المتحف يقفل أبوابه يوم الاثنين - أمتنع محاسب 
الدخول أن يقطع لي تذكرة أطفال ومنعني أيضاً من الدخول. فأراد هربرت 
أن يعرف السبب. فتحدث المحاسب الذي كان متجهماً نزقاً في الواقع» 
لكنه لم يكن يخلو من الطيبة » عن تنازل قدمه ذات مرّةء أمّا الآن فقد 
أصبح دخول الأطفال غير ممكن. لأن والد الصبي قد اعترض على 
الدخولء لكنه لا يمانع إذا ما بقيت أنا عند شبّاك التذاكر؛ إذ أن الوالد 
بصفته تاجراً مترملاء ليس لديه الوقت للمراقبة» لكن الابن لا يمكن بعد 
اليوم أن يدخل قاعة البُنية الاحتفالية؛ لأن ذلك يعد تصرفاً غير مسؤول. 

وبدا هربرت موشكاً على الاستسلام» فنغزته بتحريض» فأعطى 
المحاسب الحقٌّ من ناحية؛ وسمّاني من ناحية أخرى طلسمه وملاكه 
الحارس» ثم تحدث عن براءة الأطفال التي من شأنها أن تحميهء 
وباختصار: كاد هربرت أن يصاحب المحاسب» فحصل على موافقته 
بدخولي إلى متحف الملاحة للمرّة الأخيرة حسبما قال المحاسب. 

فارتقيت مرّة أخرى السلّم الحلزوني المنمّق» الذي كان يُدهن دائماً 
من جديد»؛» واضعا يدي بيد صاحبي الكبير» حتى وصلنا الطابق الثاني» 
حيث أقامت نيوبا. كان وقت الضحى هادثاً؛ لكن فترة العصر بدت أكثر 
هدوءا. جلس هربرت بعينين نصف مغمضتين في الكرسي الجلدي الذي 
أطلت منه رؤوس المسامير الصفراءء وتربعت أنا عند قدميه. وبقي الطبل 
صامتاًء ثم أخذنا نرمق البوارج من فوقنا والفرقاطات والطرادات والسفن 
ذات الصواري الخمس والسفن الحربية ذات المجاديف والمراكب وزوارق 
السواحل والقوارب الشراعية السريعة التي كانت معلقة كلها تحت ألواح 
البلوط» منتظرين الرياح المناسبة للإقلاع. وصرنا نستطلع الأسطول 
النموذجي ونتفحصه. مترصدين معه هبوب نسمة ريح منئعشة» خائفين من 


53945 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


.كون القاعة الاحتفالية؛ وفعلنا كل ما في وسعنا لكي لا نتفحص نيوبا 
فنخشاها. فما الذي كنا سنهبه لأصوات النخر التى ستصدرها دودة 
الخشب العى يق شانها البزهبة على أن اعناق الطعب: الافير يمكن 
اختراقها بإصرار» ومن ثم تجويفهاء حتى وأن تم ذلك ببطء» وعلى أن 
نيوبا مخلوقة فانية. لكننا لم نلمح أي حركة لدودة. فقد قام مطهّر 
الأخشاب بتطعيم جسد الخشب ضد الديدان وجعله خالدا. فلم يبق لنا 
سوى نموذج الأسطول وحده؛ إلى جانب الأمل الأحمق بهبوب ريح 
الإقلاع وبالمغالاة في التخوّف من نيوبا التي كان من الممكن التخلّي عنها 
ونسيانهاء وإن بمشقة؛ أو لعلّنا سننساها لو لم تصب شمس الأصيل» 
فجأةً عينها الكهرمانية اليسرى إصابة مباشرة فجعلتها متأججة. 

لكنّ هذا الالتهاب لم يكن من شأنه أن يفاجئناء إذ أننا كنا على معرفة 
بالأصائل المشمسة فى الطابق الثانى لمتحف الملاحة» وكنّا نحدد الوقت 
بن خلذل دكات الحاعة وعير سنقوط الصو من [فريق الجخائط الكل البارعدة 
الحربية. كذلك فعلت كنائس الجهة اليمنى من المدينة وكنائس المديئة 
القديمة ما في وسعها بغية إمداد أشعة الشمس المثيرة للغبار بالأوقات 
مقدمة خدمة لتحفنا التاريخية من خلال قرع نواقيسها التاريخي. فليس من 
العجب أن تبدو لنا الشمس تاريخية» جاهزةً للعرض ومتهمة بالتآمر مع 
عينيّ نيوبا الكهرمانيتين. 

وفي ذلك الأصيل؛ حين كنا غير مستعدين للعب» وبلا مزاج أو جرأة 
لممارسة العبث الاستفزازي» أصابتنا النظرة البرّاقة المنطلقة من الخشب 
المتبلد عادة» إصابة مزدوجة» فانتظرنا بانقباض انصراف نصف الساعة 
الأخير الذي علينا أن نتحمله. وفي تمام الساعة الخامسة أغلق المتحف. 

وخلال اليوم التالي التحق هربرت في الخدمة بمفردهء فرافقته إلى 
المتحف. لكنني لم أرغب في الانتظار عند شبّاك التذاكر» فبحثت عن 
مكان مقابل منزل الأعيان الذي استحال إلى متحف. وجلست مع طبلي 
على كرة من حجر الصوان» نبت لها من الخلف ذيل كان البالغون 
يستخدمونه بمثابة درابزين. وغني عن القول إن الجناح الآخر للسّلم كان 


”3 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


محروساً من قبل كرة ممائلة صب ذيلها من حديد الزهر. كنث تادراً ما 
أطبل » وإن فعلت ذلك فبدويٌ مروّع» احتجا حعجاجاً على التساء عابرات اسيل 
اللواتي كن يتسلين بالوقوف أمامي» ليسألني عن اسمي ويتحسسن بأيديهن 
المعروقة شعري الجميل» القصير والخفيف التجعّد آنذاك» حتى انقضت 
فترة الضحى. وفى نهاية جادة «هايلغن-غايست» قت دجاجة سانت 
مانياة حا واد وخضراءء حاضنة بيضها تحت البرج الغليظ 
المنتفخ. كانت الحمائم تنطلق من جدران البرج المتصدعة؛ وتهبط على 
مقربة مني ثم تلغط بكلام مخرف» غير عارفة كم من الوقت سيستغرق 
التفقيس أو ما الذي سيتمخض عنه؛ أو فيما إذا سيتحول هذا التفقيس الذي 
دام مئات الأعوام في نهاية المطاف إلى غاية بحدّ ذاتها . 

وفي الظهر جاء هربرت إلى الجادة» وناولني قطعة مدهونة بالسمن» 
في وسطها سجق نيء بعرض الإصبع» استلها من علبة إفطاره التي ملأتها 
الأمّ تروجنسكي لدرجة فتعذر غلقهاء ثم أومأ لي برأسه على نحو آلي» 
مشجعاً ؛ لأنني رفضت الأكل. في الأخير أكلت» وبدأ هربرت» الذي لم 
يرغب في الأكل» يدن سيجارة. وقبل أن يستعيده المتحف من جديد» 
اختفى في حانة جادة بروتبنكن غاسه ليحتسي كأسين أو ثلاثة من عرق 
المع كنت تطلعت إلى سجدحر الثانة منايما منت العرق + اقلم يسينيني 
تفريغه للكؤوس في جوفه. بعد فترة طويلة من تغلبه على السلّم اللولبي 
للمتحف» وبعد أن عدت إلى الجلوس على كرة الصوان» بقي أوسكار 
محتفظاً في عينه بحنجرة صديقه الرجراجة. 

وكنيكا فشينا حلت العناء تسر واجية البعسف الفلرئة العاحة 
فأخذ يقفز من نموذج دائري إلى آخرء معتلياً الحوريات وقرون الشرب» 
ملتهماً الملائكة الغلاظ الممسكين بالزهور؛ جاعلا الأعناب الناضجة 
بالرسم شديدة النضج حمّاًء ليحل في منتصف حفل ريفيّ» ويلعب لعبة 
«البقرة العمياء»» ويتأرجح في أرجوحة الزهور. ثم صار يشرّف المواطنين 
الذين كانوا يمارسون التجارة بسراويل فضفاضة ضيقة من الأسفل. فاصطاد 
يلا طاردته الكلاب» حتى وصل المساءً أخيراً إلى ذلك الشبّاك في الطابق 


4 ؟” 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الثاني الذي سمح للشمس بإضاءة عين كهرمانية على نحو قصير لكنه دائم. 
ترحزحت على مهل من كرة الصوان» فارتطم الطبل بالحجرء فتطاير طلاء 
الإطار الأبيض للطبل وأجزاء من اللهب المسئن المصبوغء متساقطة بيضاء 
وبجيزاء على السلم المؤدي إلى المدخل. 

وزنما كنت أنشدت معتظعا فل أو ليحت بضلاة» أو أحعفيت نينا 
ما: فبعد برهة وجيزة كانت سيارة الإسعاف تقف أمام بوّابة المتحف. 
وفوراً أحاط المارّة بالمدخل» فتمكن أوسكار من التسلل إلى المنزل مع 
رجال الطوارئ. فطلعت السلم على نحو أسرع من أولئك الذين يفترض 
أنهم يعرفون التفاصيل المكانية للمتحف من خلال الحوادث السابقة. 

فيا عجبي من أنني لم أضحك حين رأيت هربرت! كان معلقاً بهيكل 
نيوبا من الأمامء يريد سفد الخشبء فكان رأسه يغطي رأسهاء وقد تشبثت 
ذراعاه بذراعيها المرفوعتين المتشابكتين. كان منزوع القميص» حيث عثر 
عليه مثنيا بانتظام على كرسي الجلد إلى جانب الباب» وقد عرض ظهره 
الندب جميعهاء فقرأت تلك الكتابة» وأحصيت الحروف» فوجدتها كاملة 
غير منقوصة؛ كذلك لم تكن هناك أي إشارة إلى ندبة جديدة. 

ووجد رجال الطوارئ الذين اقتحموا القاعة ورائي صعوبة بالغة في 
فصل هربرت عن نيوبا. كان هربرت المتهيّج للتعشير قد انتزع من سلسلة 
الأمان ساطوراً بحرياً مرهف النصلين» فطعن نيوبا بنصل عميقاً في 
الخشب» 'لكن التصل الآخر ارتم بلحمه أثناء هجومه على الأنثن - ومفلما 
نجح في الالتحام من الأعلى» فإنه لم يعثر على شيء في الأسفل» حيث 
انفتح سرواله» وحيث أطلّ عضوه منتصباً بلا وعي» غير عاثر على مستقر 
لمرساته. وعندما فرشوا البطانية المنقوش عليها «خدمات الطوارئ البلدية» 
على جسد هربرت» تلمس أوسكار طريقه إلى طبله كعادته حين يفقد 
شيعا فقرع الطبل بقبضتيه عندما أخرجه رجال المتحف من (قاعة البنية 
الاحتفالية» وأنزلوه السلّم ثم نقلوه أخيرا بعربة الشرطة إلى البيت. 

والآن أيضاًء أي فى المصّحةء وبعدما استعاد أوسكار في ذهنه 
#خاولة النعت ين لدعي و الهم » تر جو رسا أذ رشن| يديد ٠‏ لكى 


احد0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


يهيم مرّة أخرى في متاهة الندب على ظهر هربرت تروجنسكي الغليظة» 
الملونة» الصلبة» السريعة التأثرء المتنبئة بكل شيء» المستبقة كل شيء؛ 
المتجاوزة لكل صلابة وحساسية: الآن» بعدما انتزعوا هربرت من منحوتته 
القاسية القلب. دخل برونوء معيني» برأسه اليائس الكمثريّ الشكل» فأبعد 
قبضتي عن الطبل بحذر» ثم علقه في القائمة اليسرى للسرير» في طرف 
سريري الفعدي» ورد علي البطانية على نحو مستو. 

قال منبهاً: «يا سيّد ماتسرات؛ إذا ما واصلت التطبيل بححدة على هذا 
المنوال؛ فإن الناس فى الأماكن الأخرى سيسمعون بأن هناك من يطبّل 
سكوبوعةة. الآتريه أذ عونك قرف أو تطبل بهقوء على الأقل 4 نعم 
يا برونو» إنني أريد أن أملي على طبلي الصفيح فصلا آخر هادئاًء على 
الرغم من أن هذا الموضوع بالذات ينزع صارخاً نحو فرقة موسيقية 
رافك حائمة حل الشراة, 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


إيمان ورجاء ومحبه 


كان هناك موسيقي اسمه ماين» يستطيع النفخ في البوق ببراعة تامة. 
وقد سكن في الطابق الرابع»ء تحت سقف المبنى المؤجرء وكان ماين 
يحتفظ بأربع قطط» واحدة اسمها بيسمارك » ويحتسي خمر العرعر من 
الفجر حتى وقت متأخر. وصار فعل ذلك زمناً طويلاً إلى أن حلت به نكبة 

إن أوسكار لا يودٌ اليوم أن يؤمن أيماناً كاملاً بعلامات التنبؤء ومع 
ذلك كان هناك ما يكفي من العلامات المنذرة بالشؤم الذي كان يرتدي 
على الدوام أحذية عسكرية ضخمة.» ويقطع خطوات واسعة بأحذيته 
العيكربة المتشكمة واشاء الأحذية التي عقدت النيّة على حمل الشؤم 
معها حيثما حلّت. لقد مات صاحبي هربرت تروجنسكي جريحاً في 
الصدرء إثر طعنة سددتها له أنثى خشبية» لكن الأنثى لم تمث. فحتم 
عليها بالشمع الأحمر وححفظت في قبو المتحف بحجة الترميم والصيانة. 
بيد أن المرء لا يستطيع خزن النكبة في القبو. فوجدت طريقها مع مياه 
الصرف إلى المجاري» واختلطت بقنوات توزيع الغاز حتى وصلت إلى 
جميع البيوت» ولم يدرك أحد من أولئك الذين كانوا يضعون قدور 
حسائهم على اللهب الأزرق بأن النكبة قد جلبت معها طعامها الرديء 
للطهي . 

وعندما دفن هربرت في مقبرة لانغفور» رأيت للمرّة الثانية شوغر ليو 
الذي حظيت بمعرفته في مقبرة برنتاو. فقدم لنا كلئّاء الأمّ تروجنسكي 
وغوسته وفرتس وماريا تروجنسكي والسيّدة كاتر البدينة والعجوز هايلاند 


5١ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الذي كان يذبح الدجاج للأمّ تروجنسكي أثناء حفلات فرتس و أبي 
المفترض ماتسرات الذي بدا سخياً كما كان يحلو له أن يظهرء فدفع نصف 
تكاليف الدفن» ويان برونسكي الذي كان قليل المعرفة بهربرت» لكنه 
حضر لكي يلتقي بماتسرات». وريما د ف أبقناء على أرض مقبرة حيادية ؛ 
قدم لنا كلنا تعازيه المرتبكة التي لا : تقرقكيين القرس: والتوورنة» ذم ناولناء 
والرذاذ يتطاير من فمهء قفازه المرتجف الأبيض من فرط العفوتة. عندما 
وصل شوغر ليو إلى الموسيقي ماين الذي ارتدى ثياباً نصفها مدني ونصفها 
الآخر من قيافة قوّات العاصفة الألمانية» رفرف قفازه. فتشكلت علامة 
لككارثة نكية محدقة : إذ حلّق قماش قفَاز ليو الماحل اللون» مستنفراً إلى 
الأعلى» ثم طار بعيداًء ساحباً معه ليو عبر القبور. فسمعناه يصرخ» بيد 
اله جو اجلمات للك الى يج لد الى قراس اليه لم تكن كلمات 
تعزية . 

وعلى الرغم من أن أحداً لم يتزحزح مبتعداً عن ماين» إلا أنه وقف 
معزلا وحيذا ؛ بين المشيعين» فتعرّف عليه شوغر ليو وشخصهء فبان عليه 
الاضطراب وهو منشغل ببوقه الذي جلبه معه خصيصاًء وعداك أنذاماً زائعة 
على قبر هربرت. أنغام رائعة؛ لأن ماين كان قد شرب من عرق العرعر 
الذي لم يذقه منذ زمن طويل» لأن موت هربرت» الذي كان في سنّهء قد 
هرّ أعماقه؛ بينما جعلنى موت هربرت ألوذ بالصمت أنا وطبلى على 
السواء . ْ 1 

فكان هناك موسيقي اسمه ماين» يستطيع العزف على البوق ألحاناً 
عذبة. وكان يسكن في الطابق الرابعء تحت سقف البناية المؤجرة» 
ويحتفظ بأربع قطط» واحدة منها اسمها بيسمارك» ويشرب من زجاجة 
العرعر منذ الصباح حتى المساء. إلى أن التحق بصئف خيّالة العاصفة في 
نهاية العام السادس والثلاثين حسبما أعتقدء أو بداية العام السابع 
والثلاثين» فصار ينفخ على البوق مع الجوقة الموسيقية» بإتقان في الواقع » 
لكن ليس على نحو رائع؛ لأنه تخلّى عن زجاجة العرعر واندسٌ في سروال 
الخيّالة الجلدي؛ فلم يعد يستطيع النفخ إلا صاحياً وبضجيج عال. 


0؟ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبعدما فقد رجل الصاعقة ماين صديق صباه هربرت تروجنسكي الذي 
أنضم معه في العشرينات إلى الشبيبة الشيوعية أوّل الأمرء قبل أن يقوم 
بدفع بدل العضوية في منظمة «الصقور الحمر»» بعدما دفن هربرت تحت 
التراب» هرع ماين إلى البوق وإلى زجاجة العرعر من جديد. إذ أنه أراد 
أن يعزف ألحاناً عذبة» دون أن يكون صاحياً؛ فهو قد احتفظ بأذنه 
الموسيقية حتى عندما اعتلى صهوة الجواد البنّى» فأخذ لهذا السبب رشفة» 
وظلّ محتفظاً أثناء العزف بمعطفه ذي القماش المدني فوق قيافته 
العسكرية» على الرغم من أنه عقد العزم على النفخ في البوق عبر تراب 
المقبرة بقيافة بنيّة» حتى لو كان حاسر الرأس . 

كان هناك رجل عاصفة احتفظ بمعطفه فوق قيافة الخيّالة التابعة لقرّات 
العاضفة غندها عزف على البوق آتقاناً رائعة تهاما وضافة قر العرغز 
على قبر صديق صباه. حين أراد شوغر ليوء الموجود في المقابر كلهاء أن 
يبلّغ تعازيه إلى المشيعين» سمع المشيعون جميعهم تعازي شوغر ليو. إلا 
رجل العاصفة الذي لم يسمح له أن يلمس قمًاز ليو الأبيض؛ لأن ليو قد 
عرف رجل الصاعقة» فخاف منه» وزعق به وحرمه من القفاز والتعزية 
معاً. فانصرف رجل العاصفة إلى داره بلا تعزية» حاملاً معه بوقه الهامدء 
فعثر هناك في دارهء تحت سقف البناية المؤجرة» على قططه الأربع . 

وثمّة رجل عاصفة اسمه ماين» احتفظ» منذ الأزمان التي كان يحتسي 
فيها عرق العرعر كلّ يوم ويعزف على البوق عزفاً جميلاًء بأربع قطط في 
داره» واحدة منها اسمها بيسمارك. وعندما عاد رجل الصاعقة ماين إلى 
داره ذات يوم» قادماً من جنازة صديق صباه هربرت تروجنسكيء ويدا 
حزيناً وصاحياً من جديدء لأن أحداً ما امتنع عن تقديم التعزية له فوجد 
نفسه وحيداً في الدار مع قططه الأربع التي أخذت تتمسح في جزمته» 
جزمة الخيّالة الطويلة؛ فقدم لها ماين جريدة مليئة برؤوس السمكء مما 
جعل القطط تصرف النظر عن الحذاء. وبدت الدار في ذلك اليوم مشبعةً 
برائحة القطط الأربع» التي كانت في الواقع هررة جميعهاء أحدها اسمة 
بيسمارك» ويسير على قوائم سوداء منقطة بالأبيض. لكن ماين لم يكن 


او ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لديه عرق العرعر فى الدار. لذلك ضحت الدار برائحة القطط أو الهررة. 
لعلّه كان سيشتري من متجر بضاعة المستعمرات الذي نملكه زجاجة خمر 
لو لم يكن سكنه في الطابق الرابع تحت السقف؛ إذ أنه كان يخشى من 
السلّم ومن الجيران الذين أغلظ لهم اليمين مرّات عديدة بأنه لن يضع أبداً 
قطرة من العرعر على شفتيه الموسيقيتين» وبأنه سيبدأ حياة جديدة شديدة 
الشباب الباطلة . 

كان هناك رجل اسمه ماين » وبعدما وجد نفسه ذات مرّة بمفرده فى 
داره تحت السقفاء مع قططه الأربع» التي كان أحدها يدعى بيسماركء 
استهجن رائحة القطط على نحو خاص؛ إذ أنه شهد اليوم أمرأ محرجاء 
وكذلك لأن داره كانت خالية من عرق العرعر. وبما أن الظمأ والحرج قد 
اشتدا وتصاعدت معهما رائحة القطط. هرع ماين » الذي كان موسيقيا من 
حيث المهنة وعضواً فى جوقة خيّالة العاصفة» إلى الكلاب المعدنى 
الملقى بجانب موقد النار المنطفئ» وهوى به على الهررة حتى وصل إلى 
قناعة بأن الهررة الأربعة» بما فيها الهرّ بيسمارك» قد قضى نحبها وانتهى 
أمرهاء على الرغم من أن رائحتها في الدار لم تفقد من قوتها الملحّة 

وكان هناك ساعاتي اسمه لاوبشادء يسكن في الطابق الأوّل من البناية 
المؤجرة» حيث كنا نسكن» مقيما في دار من غرفتين» أطلت نوافذهما 
ارعاية الشعب؟ التابعة للحزب القومى الألمانى وعضواً كذلك فى جمعية 
الرفق بالحيوان ويتمتع بقلب رقيق عطوفء. فكان يساعد الناس المتعبين 
كان الساعاتى يجلس فى المساء عند النافذة متأملاء ممعناً التفكير فى 
تشييع جنازة جاره الذي شهدها وقت الضحىء رأى الموسيقي ماين الذي 
كان يسكن في الطابق الرابع من البناية المؤجرة ذاتهاء حاملاً في باحة 
البناية كيس بطاطس مملوء إلى النصفء لكنه بدا مبللا من الأسفل ويقطرء 


ا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


زحشره في أحد صندوقي القمامة. ولأن صندوق القمامة كان مليئاً بمقدار 
علاثة أرباع» فلم يفلح الموسيقي في قفل غطاء الصندوق إلا بمشقة . 

وكان هناك أربعة هررة؛ أحدها اسمه بيسمارك» وكان صاحبها 
507 اسمه ماين. ولأن الهررة غير المخصيّة كانت لها رائحة لاذعة 
وقوية» فإن الموسيقي قضى عليها ذات يوم بكلآب معدني معد لإذكاء 
النار؛ إذ أن الرائحة بدت له؛ لأسباب خاصة؛ مزعجة تمامأء فدس الرمم 
فى كيس بطاطس» ثم هبط به السلالم الأربعة» وكان على عجلة من أمره 
فحشر الصرّة في صندوق القمامة بجانب قضيب نفض البسط؛ لأن الكيس 
كان خفيف النسيج فبدأ يقطر في الطابق الثاني. ولمّا كان صندوق القمامة 
ممتلئاً إلى حدّ ماء فقد توجب على الموسيقي أن يضغط الكيس والقمامة 
معاً لكي يتمكن من إغلاق الصندوق. وقبل أن يغادر البناية المؤجرة إلى 
الشارع الجانبي - إذ أنه لم يرغب في العودة إلى داره الخالية في الواقع من 
القتطط. والمشبعة برائحتها - بدأت القمامة المضغوطة تتمدد حتى رفعت 
الكيس ومعه غطاء الصندوق. وكان هناك موسيقي صرع هرره الأربعة 
ودفنها في صندوق القمامة ثم غادر البناية ليفتش عن أصحابه. وكان هناك 
ساعاتى يجلس متأملاً عند النافذة» فلاحظ كيف أن الموسيقى ماين حشر 
كسا تصق محتلن فى .صنذوق القمامة» كم غادر الباحة الخارجية» ولااحظ 
أيضاً بأن غطاء صندوق القمامة ارتفع بعد لحظات قليلة على انصراف ماين 
وصار يرتفع باستمرار. 

كان هناك أربعة هررة» قُتلت ضرباًء لأن رائحتها كانت قويّة ذات يوم 
غير عادي. فحشرت في كيس ودفنت فى صندوق القمامة» بيد أن الهررة 
التي كان ادها بدعى بيسمارك + لم ثزهى روحها تماناء إِنما كانت ذات 
سبع أرواح كما هي القطط عادة. فأخذت تتحرك في الكيس فجعلت 
صندوق القمامة يتحرك؛. ووضعت الساعاتي لاوبشاد الذي مازال يمعن 
التفكير عند النافذة أمام سؤال محدد: احزر ما الذي يوجد في الكيس الذي 
حشره الموسيقي ماين في صندوق القمامة؟ وكان هناك ساعاتي لم يطق 
رؤية شيء ما يتحرك في صندوق القمامة؛ فخرج من. داره في الطابق الأوّل 


30> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


من البناية المؤجرة» فاتجه نحو باحة البناية المؤجرة» وفتح غطاء صندوق 
القمامة والكيس» او ا 
ليعتني بها. بيد أنها فارقت الحياة تحت أنامل الساعاتي في الليلة اللاحقة 
قاين أبامه سوى أن يرفع دعوة لدى جمعية الرفق بالحيوان» لني كا 
عضواً فيهاء ثم أبلغ القيادة المحلية للحزب القومي الألماني عن عملية 
تعذيب الحيوانات» تلك العملية التي من شأنها أن تضرّ بسمعة الحزب. 

كان هناك رجل عاصفة قتل أربعة من الهررة» فقامت القطط التي لم 
تمت تماماً بإفشاء سرّه» مما حدا بالساعاتي إلى أن يقيم دعوة عليه. 
فوصل الأمر إلى حدّ الإجراءات القضائية» وتوجب على رجل العاصفة أن 
يدفع غرامة نقدية. بيد أن الأمر نوقش أيضاً من قبل قرّات العاصفة» 
فقررت فصل رجل العاصفة من الحزب بسبب قيامه بتصرفات مشيئة مخلة 
بالآداب. وعلى الرغم مما أظهره رجل العاصفة من شجاعة فائقة في الليلة 
الواقعة بين الخامس والعاشر من نوفمبر العام الثامن والثلاثين» التي أطلق 
عليها فيما بعد «ليلة الراي بخ البلورية»؛ حين ساهم مع آخرين في إحراق 
بيعة لانغفور البهوفيد في اميش ابلسليغ1] وحين اشترك وبفعالية أيضاً في 
صباح اليوم التالي بتصفية المحلآت التجارية الموصوفة مسبقاً بدقة؛ فإن 
اندفاعه المتحمس لم يحل دون طرده من صنف خيّالة العاصفة. وبسبب 
عملية تعذيب الحيوان اللاإنسانية جُرّد من رتبته ومن ثم شطب اسمه من 
قائمة العضوية؛ بحيث أنه لم يتمكن من الانتساب إلى كتائب الدفاع 
المحلية إلا بعد عام كامل» تلك الكتائب التي ضمتها قرّات الحزب النازي 
المسلحة إليها فيما بعد. 

كان هناك تاجر بضائع مستعمرات» قفل متجره ذات يوم من أيّام 
نوفمبر/ تشرين الثانى» لأنّ المدينة برمتها كان هائجة مائجة» فأخذ ابنه 
أومكان معدن بوت الترام رقم خمسة حتى بوّابة لانغاسه؛ إذ أن البيعة 
اليهودية نشبت فيها النار هناك» مثلما حدث للبيع في تسوبوت ولانغفور. 
كانت النار قد أتت على البيعة حتى آخرها فاتخذ رجال الإطفاء 
الاحتياطات اللازمة لثلا ينتقل الحريق إلى المنازل المجاورة. كان أصحاب 


”> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


القيافات العسكرية والمدنيون منهمكين في تجميع الكتب والأدوات 
المقدسة والأقمشة الغريبة أمام البيعة» ثم أضرمت النار في الجبل 
المتراكم. فاستغل تاجر بضائع المستعمرات الفرصة ليدفئ أصابعه 
ومشاعره فوق النار العلنية العامة. بيد أن ابنه أوسكارء الذي لاحظ بأن أباه 
كان متشغلا» متأجج المشاعرء اسفن لسك ثم حتثٌ خطاه في اتجاه 
رواق تسويغهاوس» بفعل القلق على طبوله المصنوعة من الصفيح الأبيض 
الأحمر الطلاء . 

وكان هناك تاجر لعب أطفال اسمه زيغسموند ماركوس يبيع ضمن ما 

يبيع طبولاً بيضاء حمراء الطلاء . كان أوسكار الذي تحدثنا عنه قبل برهة 
كر شار انلك الطيول؛ لأنه كان تالا من نيك المينة؟ وخبزكادر علي 
العيش بلا طبل صفيح. لذلك ا 0 ٠‏ قاصداً 
رواق تسويغهاوس» إذ أن حامي طبوله كان يقيم هناك . ألا أنه وجده في 
وضع جعل عليه , بيع الطبول مستحيلاً بعد الآنء هنا أو في العالم برمته. 

وزار رجال د النارية» الذين اعتقدت بأنئي فررت منهم» زاروا 
ماركوس قبلي» فغمسوا الفرشاة بالصبغ وكتبوا على الواجهة بالخط 
الألماني القديم عبارة #خنزير يهودي»» ثم أخذوا يركلون بكعرب 
أحذيتهم» ربما بسبب الانزعاج من خط أيديهم نفسهء الواجهة الزجاجية» 
حتى بات اللقب الذي خلعوه على ماركوس لا يقرأ إلا عن طريق 
الحدس . دخلوا المحل عبر الواجهة المحطمة؛ محتقرين الباب» وأخذوا 
يلعبون بلعب الأطفال على طريقتهم الصريحة الواضحة. فعثرت عليهم 
أثناء اللعب بعدما توغلت فى المحل عبر الواجهة الزجاجية كذلك. كان 
البعض منهم قد أنزل سرواله إلى الأسفل» فأطلق سجقاً با من مؤخرته» 
اختلطت فيه حبّات بازلاء غير مهضومة جيّداً؛ أطلقه على السفن الشراعية 
والقرود العازفة الكمان وعلى طبولي . كلهم كانوا يشبهون الموسيقي ماين» 
إذ ارتدوا قيافة ماين التابعة لقَوات العاصفة» لكن ماين لم يكن معهم. 
نعم؛ مثلما كان هؤلاء الموجودون هنا غير موجودين في مكان آخر. 
وشهر أحدهم خنجره وصار يطعن الدمى فيفتقهاء وبدا كل مرّة خائب 


/اه 5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الظنَ محبطاء لأن شيئاً آخر عدا النشارة لم يتدفق من هياكلها وأعضائها 
المنتفخة . فشعرت بالقلق على طبولي التي لم تثر إعجابهم» وكان طبلي 
لم يتحمل غضبهمء لكنه أجبر على الصمت فخرٌ على ركبتيه. لكن 
ماركوس كان قد فلت من غضبهم. ولمّا أرادوا التحدث إليه في مكتبه؛ 
فإنهم لم يطرقوا الباب؛ بل خلعوه» على الرغم من أنه لم يكن مقفلا. 

لقد جلس تاجر لعب الأطفال خلف طاولته» واضعاً على كمّي بذلة 
عمله الرمادية الغامقة واقيات من القماش كعادته؛ فكشفت قشرة الرأس 
المتساقطة على كتفيه عن مرض شعره. كان أحد الرجال يحمل بين أصابعه 
دمية من مسرح العرائس» فصدم ماركوس بعجوز «القرفوز» الخشبية» غير 
أن ماركوس لم يكن قابلاً للكلام» أو الإهانة والأذى. كان أمامه على 
الطاولة قدح ماء» استوجبت شربه نوبةٌ ظمأء تولدت في اللحظة التي 
نشّفت فيها واجهةٌ محلّه المتصدعة بجلبةٍ لهاته. 

وثمّة طبّال على الصفيح اسمه أوسكارء بعدما انتزع منه بائع لعب 
الأطفال ورب محل بائع لعب الأطفال أدرك بأن أزماناً عصيبة ستمر 
بطبّالي الصفيح الأقزام من أمثاله. فانتقى من وسط الأنقاض» وهو يوشك 
على مغادرة المحلّ؛ طبلاً سليماً واثنين آخرين متضررين قليلء ثم خلف 
رواق تسويغهاوس وراء ظهره» معلقاً الطبول في رقبتهء ليفتش في 
كولنماركت عن أبيه الذي ربما كان يفتش عنه. في الخارج كان الوقت 
وقت ضحى تشرينيّ متأخر. وإلى جانب المسرح البلدي» بالقرب من 
محطة الترام وقفت نساء متدينات وفتيات قبيحات كنّ يرتجفن من البرد 
ويوزعن كُتيبات عن التقوى ويجمعن النقود في علب من صفيح وحملن 
لافتة ثبتت في عمودين خشبيين» اقتبست نضأ من رسالة بُولص الأولى إلى 
أهالي كُورِنقُوس ورد في الإصحاح الثالث عشر. استطاع أوسكار أن يقرأ: 
"الإيمان-الر جاء-المحبّة". فتعامل أوسكار مع تلك المفردات الثلاث كما 
يتعامل البهلوان مع الزجاجات: سريع الإيمان ومعصرة عرق الرجاء ودُرر 
الغرام وكوخ الرجاء الصالح وخمرة النساء المشتهاة واجتماع الدائنين. هل 
تؤمن بأنها ستمطر غداً؟ شعب ساذج الإيمان تماماً يؤمن ببابا ثويل. بيد أن 


4م0؟” 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بابا نويل كان في الواقع بابا الغاز. أعتقد أن هناك رائحة الجوز واللّوزء بيد 
أنها كانت رائحة غاز. والآن فسيحل عما قريب» حسبما أعتقد» أوّل عيد 
بشارة قبل عيد الميلاد كما قيل. وفعلا فُتحت مفاتيح الغاز على آخرها في 
عيد البشارة الأوّل والثاني حتى الرابع» مثلما يفتح المرء حنفيات الغازء 
لكي تبدو رائحة الجوز واللّوز جديرة بالتصديق» ولكي يستطيع كاسروٌ 
الجوز الإيمان بكل ارتياح: بأنه سيأتي. سيأتي. لكن من ذا الذي أنى؟ 
أهو الطفل يسوعء؛ المخلّص؟ أم رجل الغاز وساعة القياس تحت إبطه تتك 
بلا انقطاع؟ وجاء ليقول: أنا منقذ هذا العالم» فبدوني لا يمكنكم أن تطهوا 
الطعام. فبدا ليّن الطبع» أتاح للآخرين فرصة التحدث معه؛ فعرض عليهم 
تعريفة مناسبة» وفتح صنبور الغاز المنظف حديثاًء فأطلق الروح المقدسة» 
ليتسنى لهم سلق اليمام» ثم وزّع جوزاً ولوزاً قابلاً للكسرء فكسر الجوز 
والأّوز على الفور فتضوّع منها كذلك: الروح والغازء لدرجة أصبح معها 
سهلاً على أولئك السهلي التصديق بأنهم نظروا وسط الهواء الأزرق 
الكثيف إلى جميع رجال الغاز الواقفين أمام المحلات التجارية باعتبارهم 
موزعي هدايا عيد الميلادء ونظروا إلى الطفل يسوع معروضاً في جميع 
الأحجام والأسعار. فآمنوا هكذا بمؤسسة الغاز باعتبارها المنقذ الوحيد 
الذي يرمز القدر عبر منظم نسب الغاز المتصاعدة والمنخفضة» وينظم 
احتفالات الزمن السابق لعيد الميلاد بأسعار معقولة؛ زمن البشارة» ذاك 
الذي آمن كثيرون بعيد الميلاد الذي سيتمخض عنه كما كان مقدراء والذي 
لم يستطع تجاوز أيّامه الاحتفالية العصيبة» إلا أولئك الذين نفد مخزونهم 
من الجوز واللّوز - مع أنهم كانوا كلهم على اعتقاد بأن لديهم منه ما 
يكفي . 

بعدما أتضح أن الإيمان ببابا نويل» موزع هدايا الميلاد» كان يعني 
الإيمان برجل الغازء لجأ المرء» دون أن يضع تسلل رسالة بُولص إلى 
أهالي كورنئوس بنظر الاعتبار» إلى المحبّة: أحبّك». هكذا قيل» أوه؛ إنني 
أحبّك. فهل تحبني أنت؟ هل تحبني؛ قُل. هل تحبني حقّاً؟ إنني أحبّك 
أيضاً. ومن فرط الحبّ فقد سمّى أحدهما الآخر فجلاًء نأحبًا الفجل» ثم 


58 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


قضم أحدهما الآخرء فجل قضم فجلاً الآخر من شدّة الحبّ. فصارا 
يقصان على بعضهما أمثلة من الحبّ السماوي المدهش والأرضيّ أيضاً بين 
الفجل» ويهمسان قبل القضم بانتعاش وجوع وحذة: قل ليّ يا فجل هل 
تحبني؟ إذ أنني أحبّ نفسي أيضاً. وحينما قضموا الفجل من فرط الحبّء 
معلنين الإيمان برجل الغاز دينا للدولة. لم يبق بعد الإيمان والمحبة 
المكتسبة سلفاً؛ سوى البضاعة الثالثة الكاسدة التي وردت في رسالة بولضن 
إلى أهالي كورنثوس: الرجاء. فبينما كانوا يقضمون الفجل والجوز واللوز 
تمنوا أن يُحسم الأمر قريباً» لكي يواصلوا القضم أو يبدءوا من جديدء 
متمنين أثناء موسيقى الختام أو بعدها أن يحسم أمرّ الحسم قريبا. فكانوا لا 
يعلمون ما الذي يجب أن يحسّمء بل تمنّوا أن يُحسم الأمر عاجلاًء أن 
يحسم غداًء متأملين أن لا يكون الحسم اليوم؛ إذ ما الذي يمكن أن 
يفعلوه بالحسم المفاجئ. وعندما حُسم الأمرء خلقوا منه سريعاً بداية 
جديدة حافلة بالأمل؛ إذ أن الحسم هناء في بلادنا هذه يعني دائما بداية 
وأملاً لكل حسم بما فيه الحسم النهائي. فقد ورد أيضاً: طالما بقي 
الإنسان يأمل؟ فإنه سيبدأ دائماً من جديد بالحسم الزاخر بالأمل . 

لكنني لا أعرف» نعم: لا أعرف مثلاً من ذا الذي يختفي تحت لحية 
بابا نويل» وما الذي يخفيه خادمه في خرجه؛, لا أعرف كيف يفتح المرء 
صنابير الغاز وكيف يحدّ من تدفقها؛ إذ أن عيد البشارة انهمر منهاء أو 
مازال ينهمر؛ فذلك ما لم أعرفه؛ فهل تم على سبيل التجربة» لكن لمن 
هذه التجربة» فذلك ما لم أعرفه؛ ولم أعرف فيما إذا عليّ الاعتقاد بأنهم» 
حسبما أتمنى» سينظفون صنابير الغاز بحنان» لعلها تنعب لا أعلم في أي 
فجرء أو في أي مساء. ولا أعلم فيما إذا كان الأمر يتوقف على أوقات 
اليوم؛ إذ أن المحبة لا تعرف مواقيت يوم محددة» كما أن الرجاء يكون. 
عادةٌ بلا نهاية» والإيمان بلا حدودء باستثناء العلم أوالجهل» فهما مقيدان 
بأزمان وحدودء وغالباً ما ينتهيان قبل الأوان باللحية الكنّة والخرج واللوزء 
فيتحتم عليّ القول ثانية: إنني لا أعرف شيئاً أوه» لا أعرف مثلاً بأي 
شيء سيتخمون الأمعاء؛ ولا أعرف أي مصران ضروري للامتلاء؛ لا 


35> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لك و و ل ن ملحقات» حتى لو كانت أسعار الحشوء 
ناعماً كان أم خشناء مقروءةً؛ لي معاجم سينتقون أسماء 
الحشو؛ لا أعرف بأي شيء سيملئون المعاجم والأمعاء أيضاً؛ لا أعرف 
يأ لحم؛ ولا أعرف بأي لغة: فللكلمات معنىء لكن الجزارون 
يتكتمون» وأنا أقطع شرائح» وأنتٌ تفتح الكتب» فأقرأ ما يطيب لي» إلا 
أنك لا تعلم ما يطيب لك: شرائح سجق ونصوص مقتبسة من الأمعاء - 
سوف لا نعلم أبدا من ذا الذي سيجبر على الصمتء ومن ذا الذي 
سيُخرسء لكي تتخم الأمعاء وتضج الكتب باللغط» فتحشر وتّقحم 
لتوصف بكثافة تامة» لا أعرف ذلك كلهء بل أشعر: بأن الجرّارين أنفسهم 

هم الذين سيملئون الأمعاء باللغة والسجق» وبأن ليس هناك رسول أسمه 
0 بل كان ذلك الرجل يدعى شاؤول وكان حقّاً شاؤولاً: فتحدث 
لأهالي كورنئوس بصفته شاؤولاًء تحدث لهم عن السجق الزهيد الثمن 
بشكل غير معقول» فسمّاه إيماناً ورجاءً ومحبةٌ» ثم امتدحه باعتباره سهل 
الهضمء بحيث أنه ما زال يجلبه إلى الناس حتى يومنا هذاء بهيئات شاؤول 
المتغيرة باستمرار: 

بيد أنهم خطفوا مني بائع لعب الأطفال» وبه أردوا محو لعب الأطفال 
من الوجود. 

كان هناك موسيقي اسمه ماين يعزف على البوق بشكل رائع تماماًء 

وبائع لعب أطفال اسمه ماركوس؛ كان يبيع الطبول البيضاء والحمراء 
الطلاء . 

وثمّة موسيقي اسمه ماين امتلك أربعة هررة واحد منها اسمه 
بيسمارك , 

وطبّال على الصفيح اسمه أوسكارء كان معتمداً على بائع لعب 
الأطفال . 

وموسيقي يدعى ماين» قتل قططه الأربع بخطاف النار. 

وساعاتي اسمه لاوبشاد؛ كان عضواً في جمعية الرفق بالحيوان. 


5355١ 
1 1_طماع1© :عا ]آنلا‎ 


وطبّال على الصفيح اسمه أوسكارء فخطفوا منه بائع لعب الأطفال. 

وبائع لعب أطفال اسمه ماركوس» أخذ معه لعب الأطفال كلّها في 
هذا العالم . 

وموسيقي اسمه ماين» فلو أنه لم يمت» لعاش إلى يومنا هذا لينفخ 
غلى البوق الحانا زائعة: 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الكتاب الثانى 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حطام 


يوم الزيارة: لقد جلبت لي ماريا طبلا جديداً» وحين أرادت أن 
تناولني إياه مع إيصال محل لعب الأطفال من فوق قضبان السريرء أشرت 
بالنفي» وضغطت على زرٌ الجرس عند رأس السرير» إلى أن دخل برولق» 
معيني» مثلما كان يفعل كل مرّة عندما تجلب لي ماريا طبلا مغلفا بالورق 
الأزرق. ففك رباط الطرد وترك ورق التغليف يسقط إلى الجوانب» لكي 
يثنيه بعناية بعد رفع الطبل على نحو احتفالي نوعاً ماء ثم خطا برونو 
وعندما أقول خطا؛ فإنني أعني ما أقول» فقد خطا مع الطبل في اتجاه 
المغسلة» ثم فتح الماء الساخن» وأزال بحذر السعرٌ الملصوق عن حافة 
الطبل» دون أن يخدش الطلاء الأبيض الأحمر. وحين أوشكت ماريا على 
المغادرة إثر زيارة قصيرة غير مرهقة كثيرء حملت معها الطبل القديم 
الذي عطبته أثناء وصفي للظهر التروجنسكيّ والمنحوتة الخشبية؛ إضافة 
إلى تفسيري المجحف إلى حذ ما لرسالة الرسول بولص الأولى الموجهة 
إلى أهالي كورنئوسء» لكي تضعه في قبو دارناء إلى جانب الطبول 
المستهلكة التي خدمتني لأغراض بعضها مهني وبعضها شخصي . لكن 
ماريا قالت قبل أن تنصرف: «بلى» بلى» لا يوجد مكان كثير في القبو. 
أحبّ أن أعرف أين أخزن بطاطس الشتاء. » ْ 

فتجاهلت عتاب ريّة البيت الناطقة بلسان ماريا مبتسماًء ورجوتها أن 
رفم الطبل المسرّح من الخدمة بالحبر الأسود حسب الأصول» وأن تنقل 
المعلومات التي دوّنتها على قصاصة ورقء إضافة إلى البيانات المقتضبة 
حول سيرة حياة الطبل؛ في دفتر اليوميات المعلّق منذ أعوام في الجهة 


16 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الداخلية لباب القبو المطلع على أحوال طبولي في العام التاسع والأربعين. 

هرّت ماريا رأسها مستجيبة بطاعةٍ ثم ودعني بقبلة. وكان ولعي 
بالترتيب والنظام قد بقي غير مفهوم بالنسبة لهاء بل مخيفاً بعض الشيء. 
وبات أوسكار يتفهم تردد ماريا وشكوكها بصورة جيدة» فهو نفسه لم يكن 
يعرف كيف جعلته تلك الحذلقة المتطرفة في دقتها يتحوّل إلى جامع 
للطبول المضابة بالعطب: قضلا عن أنه كان يعمقى + وازال» أن لآ يرى 
أبداً كومة الحطام في قبو البطاطس العائد للدار الواقعة في حيّ بلكه. إنه 
يعلم عبر التجربة بأن الأبناء يستهينون بما يجمعه الأباء فيتنكرون له» وأن 
ولده كورت سيستهزأء في أحسن الأحوال» بجميع الطبول التعيسة حيئما 
يستولي على الميراث ذات يوم. 

فما الذي كان يدفعني إلى الإعراب عن رغبتي أمام ماريا كل ثلاثة 
أسابيع بالاحتفاظ بطبولي التي كان مقدراً لها أن تملأ قبو دارنا لو أن ماريا 
نفذت رغباتي بانتظام؛ بحيث أنها ستحتل مكان البطاطس؟ 

كانت الفكرة الثابتة النادرة التي كان بريقها يزداد ندرة» وهي أن متحفاً 
ما ربما سيهتم ذات يوم بآلاتي العاجزة المصابة بالعاهات» خطرت في 
ذهني لأوّل مرّة بعدما تجمعت في القبو عشرات الطبول. وبناء على ذلك» 
فإن مصدر ولعي بالتجميع لا يمكن أن يكون قد أتى من هذه الزاوية» إنما 
كان - وهذا التعليل بات يزداد رسوخاً كلما أمعنت التفكير - يعود إلى 
مركب بسيط: عسى ولعل الطبول ستنفد ذات يوم» وتصبح نادرة» أو 
توضع تحت الحضرهء أو تتعرض للإبادة. ذات يوم سيجد أوسكار نفسه 
مضطرًاً إلى إيداع بعض الطبول غير المتضررة كثيراً لدى سمكري 
ليصلحهاء فيساعدني على تجاوز الزمن الرهيب الخالي من الطبول من 
خلال تزويده لي بالمحاربين القدماء المرقعين. 

وبهذا المعنى» لكن بصيغ أخرىء أدلى أطباء مصحّة الأمراض العقلية 
بآرائهم فيما يتعلق بباعث نزعة التجميع الكامنة في أعماقي. بل أن الآنسة 
الدكتورة هورنشتيتر أرادت أن تعرف اليوم الذي تحوّل إلى يوم ميلاد 


احا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


عقدتى . فذكرت لها العاشر من نوفمبر من العام الثامن والثلاثين بالتحديد. 
إذ أنني فقدت في ذلك اليوم زيغسموند ماركوس» المعني بإدارة مخزن 
وا حتى لو كان الحصول على طبل جديد في الموعد المناسب قد 
اصبح عسيراً عقب وفاة أمّي المسكينة؛ إذ أن زيارات يوم الخميس لرواق 
تسويغهاوس قد توقفت بصورة حتمية» بيئما كان ماتسرات لم يهتم بآلاتي 
إلا بإهمال وتراخ» وبات يان برونسكي نادراً ما يأتي إلى دارناء فأصبحت 
حالتي ميئوساً منهاء عندما أقتحم محل بائع لعب الأطفال؛ بحيث أن نظرة 
ماركوس القابع وراء الطاولة التي أبعدت عنها جميع الأشياء خاطبتني 
بوضوح تام: سوف لا يهديك ماركوس طبولاً بعد اليوم» فهو لم يعد 
يتاجر بلعب الأطفال؛ إنما قطع علاقاته التجارية بتلك الشركة التي كانت 

تنتج الطبول البيضاء الحمراء الرائعة الطلاء وتزودك بها. 

ومع ذلك» فإنني لم أكن مقتنعاً آنذاك بأن زمن اللعب المبكرء المبهج 
نسبياًء قد انتهى بنهاية تاجر لعب الأطفالء فانتقيت من محل ماركورس 
الذي تحوّل إلى كومة أنقاض طبلاً سليماً وآخرين منبعجين من الحافة» ثم 
حملتها غنيم إلى الدار» بنيّة أنني اتخذت احتياطات كافية. فتعاملت مع 
تلك القطع باحتراس» مقللاً من التطبيل» لاغياً أمسيات التطبيل برمتهاء 
وامتنعت» على كره مني ١‏ عن تطبيل الإفطار الذي كان يجعل نهاري قابلا 
للتحممّل. فكان أوسكار يمارس الزهد. حتى أصابه الهزال» فعغرض على 
الدكتور هولاتس ومساعدته المضمدة إنغا المخشوشنة العظام على الدوام. 
فكانا يناولاني دواءً حلواً وحامضاً ومرّاً وخالياً من الطعم» مقليان بالذنب 
على غددي التي كانت تنغص راحتي وعافيتي بإفرازاتها الزائدة أو الناقصة 
حسب رأي الدكتور هولاتس. 

ولكي يفلت أوسكار من يد هولاتس» فإنه أصبح يمارس زهده 
باعتدال» فزاد وزنه من جديدء واتخذ تقريباً شكل أوسكار القديم ذي 
الأعو ام الثلاثة الذي استعاد اكتنازه من خلال تحطيمه النهائي لآخر طبل 
عائد إلى ماركوس . 

كان طبل الصفيح يتشقق متهالكاً بلا انضباط» متنازلاً عن الطلاء 


تحن 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الأحمر الأبيض» فعلاه الصدأ وهو معلق فوق بطنى بأصواته النشاز. وبدا 
من العيث مناشدة ماتسرات ل ار 
للمساعدة بطبيعته» بل إِنّه كان سخيّاً. لكنْ الرجل أصبح لا يفكر إلا 
بخزعبلات الحزب بعد رحيل أمّى المسكينة» ان حم 
الخلية الحزبية التي كان يقودهاء أو أنه كان يتسلّى عند منتصف الليل» بعل 
تناوله الكثير من الكحول؛» بمخاطبة صورتي هتلر وبيتهوفن بإطاريهما 
السوداوين المعلقتين في غرفة الجلوس» وكان يخاطبهما بسريّة وبصوت 
عال معاًء طالباً من العبقري أن يوضح له المصير ومن القائد أن يتنبأ له 
بالمستقبل» ناظرا إلى قيامه بتجميع معونات لدم في حالات الصحو 
باعتباره مصيره المحتوم. وتذكرت على كره تلك الآحاد التي كانت تجمع 
فيها المعونات» لكنني قمت بمحاولة واهية للحصول على طبل في يوم من 
تلك الأيْام. كان ماتسرات قد عاد ظهراً إلى البيت بعد أن أمضى فترة 
الفمحى في الشارع العام ؛ يجمع المعونات أمام دور السينماء وكذلك أمام 
متجر شتير نفيلد» و لي بعد الطعام اللذيذ 
حسبما أتذكر إلى اليوم -كان ماتسرات يطبخ بشغف وبشكل ممتاز» في 
زمن ترمّله - استلقى مجمّع المعونات على الأريكة ليأخذ قيلولة. وحالما 
بدأ يتنفس بأنفاس النائم» قبضت على علبة النقود نصف الممتلئة فوق 
البيانر» واختفيت في الدكان تحت طاولة البيع» ومعي تلك الحاجة التي 
كان لها شكل علبة المواد الغذائية المحفوظة» وجنيت على علبة الصفيح 
المضحكة. ليس بمعنى أنني أردت أن أصبح ثرياً بقطع النقود الصغيرة 
تلك! بل أن شعوراً احدق آمرق تريب العلية كطبل + وكيف :ما قرعت 
العلبة» خالطاً النقود» فإنها لم تصدر.سوى إجابة واحدة مطالبة: بتبرع 
صغير لمعونة الشتاء! يجب أن لا يجوع أيّ أحد أو يموت من البرد! فتبرع 
بمبلغ صغير لمؤسسة معونة الشتاء! 

وبعد نصف ساعة استسلمت بيأس فتناولت من خزينة الدكان خمس 
قطع نقدية من فئة خمسة فلوس» وتبرعت بها لمؤسسة معونة الشتاء» ثم 
أعدت علبة النقود التي ازدادت ثروة إلى مكانها فوق البيانو» لكي يعثر 


م 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عليها ماتسرات ويقتل يوم الأحد في قرقعة علبة جمع التبرعات لمعونة 
الشتاء . 

لقد برأتني تلك المحاولة الفاشلة إلى الأبدء فلم أعد استخدم للتطبيل 
أي علبة صفيح أو جردل مقلوب أو قعر طست غسيل. وإذا ما فعلت 
ذلك» فبفعل السعي إلى نسيان تلك الأحداث العابرة غير المشرّفة» فلا 
أفرد لها مكاناًء أو لا أتعرض إليها في هذه الأوراق إلا بأقل ما يمكن. 
فعلبة حفظ الطعام ليست طبلاً من صفيح» والدلو يبقئى دلواً والطست يبقى 
الوعاء نفسه الذي يغتسل المرء جسده فيه أو يغسل جواربه. وإذا لم يوجد 
اليوم ما يمكن أن يعوض عن الطبل» فإنَ الوضع زماناً كان مماثلاً؛ إذ أن 
طبل الصفيح الأبيض الحمر اللهب يفصح عن نفسه بنفسهء فلا يحتاج إلى 
شفيع أو وسيط . 

كان أوسكار وحيداء مغدوراء ومستباحاء فكيف يستطيع المحافظة 
على ماء وجهه ذي الأعوام الثلاثة إذا كان ينقصه كل ما هو ضروري» أي 
الطبل؟ فكان علي أن أقوم بمحاولات التضليل والخداع أعواماً طويلة: 
مثل التبوّل في الفراش أحياناء أو الذكر الطفولي المتعجل لصلاة المساء 
كل يوم» وإظهار الخوف من بابا نويل الذي كان يدعى غريف في حقيقة 
الأمرء أو الطرح غير المنقطع للأسئلة المضحكة الحريّة بذوي الأعوام 
الثلاثة مثل: لماذا توجد عجلات في السيارات؟ كل هذه الأمور القديمة 
المستهلكة التي كان البالغون ينتظرونها مئّي توجب عليّ إنجازها من غير 
الاستعانة بطبلي ‏ حتى أوشكت على الاستسلام» فأخذت أبحث بيأس عن 
ذلك الذي لم يكن أبي في الواقع» لكنه أنجبني على أكثر الاحتمالات. 
فوقف أوسكار منتظراً يان برونسكي في رنغ شتراسه» بالقرب من الحيّ 
البولندي. 

وكانت وفاة أمَى المسكينة قد فككت العلاقة الوديّة أحياناً بين 
ماتسرات والخال اللي ترتقّى إلى درجة سكرتير في دائرة البريد» حتى 
أنهتهاء وإن ليس بصورة مفاجئة» لكن شيئاً فشيئاء كلما تفاقمت الأوضاع 
السياسية» على الرغم من الذكريات الجميلة المشتركة. وبانهيار روح أمّي 


2338 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الهيفاء وجسدها المكتنز انهارت أيضاً علاقة رجلين» انعكست شخصيتهما 
في تلك الروح» فكانا يتغذيان من لحمهاء لكن عقب زوال الغذاء والمرآة 
المحدّبة لروحهاء لم يعثرا على ما هو أكثر نقصأ وقصوراً من تجمعاتهما 
الرجالية المتناقضة المبادئ سياسيّاء على الرغم من تدخينهما للتبغ نفسه. 
لكن لا دائرة البريد البولندي ولا نقاشات قيادة الخلية» التي كانت تخاض 
بلا تكلّفء كان من شأنها التعويض عن المرأة الرائعة الرقيقة الإحساس» 
حتى وإن ارتكبت الخيانة الزوجية. وعلى الرغم من الحذر - كان 
ماتسرات يراعي الزبائن والحزب؛ ويان إدارة البريد- فقد تمت بضعة 
لقاءات بين أبويّ المفترضين خلال الفترة التي أعقبت وفاة أمّي المسكينة 
حتى نهاية زيغسموند ماركوس . 

وكا نسمع مرةٌ أو مرتين في الشهر وقع براجم يان على زجاج غرفة 
الجلوس في دارنا بعد منتصف الليل. وإذا ما سحب ماتسرات الستارة 
ليفتح النافذة فتحة واسعة؛ فإن الارتباك كان يعتري الرجلين دفعة واحدة 
وبلا حدودء إلى أن يعثر أحدهما على عبارة الإنقاذ» مقترحاً لعبة ورق في 
سافة متاخرة:. فكانا يأبان بغري من دكان الشضرة وإذا ما رفضن اللعب 
بسبب وجود يان ء أو لأنه كان فى السابق قائداً لفرقة كشفية - لقد حل 
فرقته في تلك الأثناء - فعليه أن يلزم جانب الحذرء فضلاً عن أنه لم يكن 
يجيد لعب الورق» أو أنه لا يلعبه بشغف, فإن الخبّاز ألكسندر شفلر كان 
يقدم نفسه عادة باعتباره الرجل الثالث. ومع أن الخبّاز المحترف لم يرتح 
إلى الجلوس قبالة يان على طاولة واحدة؛ في حين أنه كان يحمل قدراً من 
التعلّق بأمّي المسكينة» فانتقل هذا التعلق إلى ماتسرات مثل قطعة ميراث» 
إضافة إلى أن مبدأ شفلر القائل بأن تجار المفرق عليهم أن يتضامنوا 
ويوحدوا كلمتهم؛ كلّ ذلك حدا بالخبّاز القصير الساقين إلى القدوم من 
كلاينهامرفيغ بخطى حثيثة» ملبياً نداء ماتسرات» ليأخذ مكانه على طاولة 
غرفة الجلوس ويخلط الورق بأصابعه المصفرة الطحينية المصابة 
بالتسوس» ثم يوزعه كمن يوزع أرغفة الخبز على شعب جائع . 

وبما أن تلك الألعاب المحظورة كانت تبدأ عادة بعد منتصف الليل 


/؟ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وتتوقف في الثالثة فجراء لأن شفلر يجب أن يلتحق بفرنه» فكان يصعب 
علي الفرار من الفراش من فراشي بقميص النوم» إلا نادراء متفاديا إصدار 
أى جلبة» لأصل بلا طبل إلى الزاوية المظللة تحت الطاولة. 
ْ ومثلما لاحظتم في السابق» فإن أسفل الطاولة كان يمنحني أجود 
وضع للمراقبة: حيث كنت أعقد المقارنات. لكن كيف تغيّر كل شيء منذ 
رحيل أمّي المسكينة! إذ لم يعد يان برونسكي محتاطاً من الأعلى» فيخسر 
اللعبة تلو الأخرىء وجريئاً من الأسفل فيشنٌ الغزوات بجواربه الخالية من 
الحذاء بين فخذيٌّ أمّي. لقد اختفت الشهوة الحسيّة من تحت الطاولة في 
تلك الأعوام» ناهيك عن الغرام. ستة بنطلونات كانت تشد ست سيقان 
رجالية عارية» أو مؤثرة السراويل الداخلية» كاشفة عن نماذج مختلفة 
لهياكل أسماك» ست سيقان كثيفة الشعر أو خفيفته» باذلة قصارى جهدها 
أضعاف المرّات» لكي لا تلامس بعضها البعض» حتى عن طريق الصدفة» 
بيد أنها انبسطت من الأعلى» فاتخذت شكل أبدان ورؤوس وأذرع» 
منهمكة في اللعب الذي كان يجب أن يمنع لأسباب سياسية» ذلك اللعب 
الذي كان يحتمل الاعتذار والانتصار فى حالتى الكسب أو الخسارة: لقد 
شترة رولننا اللغة الرف ا سين كتبيك ندرنة غنات الغددة ورقة 
الديناري بثقة وبساطة لمصلحة الرايخ الألماني الكبير. 

وبات من الممكن التكهن باليوم الذي سيأتي» بحيث تجد ألعاب 
المناورات نهايتها -مثلما تنتهي جميع المناورات ذات يوم. لتتحول إلى 
حقائق عارية عند الضرورة كما يقال» وعلى مساحة شاسعة. وفى بداية 
صيف العام التاسع والثلائين استطاع ماتسرات العثور ؛ أثناء النقاشات 
الأسبوعية للخلية الحزبية» على أشقّاء للعب الورق لا يثيرون الريبة 
والإحراج» بدلاً من موظف البريد البولندي وقائد الكشّافة السابق. فعاد 
يان برونسكي مرغماً إلى المعسكر الذي عُيّن له» فتمسك بأصحاب 
البزيد» من آمعال البرّاب المعوّق كرييلة الذي كان يقف على ساق أتضر 
من الساق الأخرى بخمسة سنتمترات منذ خدمته في كتيبة بلزوردسكي 
الأسطورية. وعلى رغم رجله العرجاء ؛ فإن كوبيلا كان بوَاباً ممتازاً فضلاً 


١/و؟‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عن أنه كان حرفياً ماهرأًء وقد كنت أمئّي نفسي بأنه سيصلح طبلي العليل 
بحسن نيته المتوقعة. وفقط لأن الطريق إلى كوبيلا كان يمرّ عبر يان 
برونسكي فقد صرت أقف قرب حي البولنديين كلّ عصر تقريباً حوالي 
الساغة السادسة» كىن أثناء السكونة المقيفنة لشهر اغسطس» محرا 
رجوع يان المنظم من الدوام إلى أهله. لكنه لم يأت. ودون أن أضع 
أمامي السؤال الآتي: ما الذي كان يفعله أبوك المفترض بعد الدوام؟ كنت 
غالباً ما انتظر إلى الساعة السابعة؛ أو السابعة والنصف. ومع ذلك؛ فإنه 
لم يأت. كان بإمكاني الذهاب إلى الخالة هدفغ. من المحتمل أيضاً أن 
يكون يان متوعكاًء أو محموماً؛ أو واضعاً ساقه المكسورة في الجبس. 
بيد أن أوسكار بقي ثابتاً في موضعه؛ مكتفياً بتشخيص بصرة بين الحين 
والآخر إلى نوافذ بيت سكرتير البريد وستائره. كان ثمة حياء غريب يحيل 
دون زيارته للخالة هدفغ التي كانت نظرتها المنبعثة من عيني البقرة الدافئتين 
الحئونتين تجعله حزيئاً؛ كما أنه لم يكنّ كثيراً من الود لأطفال الزوجين 
برونسكي» الذين هم على أكثر الاحتمالات أخوته غير الأشقاء. إذ أنهم 
كانوا يتصرفون معه كما لو أنه دمية» ويريدون أن يلعبوا معهء فيستخدمونه 
كلعبة أطفال. فبأي حقّ كان شتيفان ذو الخمسة عشر عاماًء أي فى سنّ 
أوسكار نفسه» يعامله معاملة أبوية متعالية ويقدم له النصائح والتعاليم 
دائماً؟ وكذلك مارغا ذات الأعوام العشرة المضفورة الجدائل بوجهها 
الممتلئ والمستدير استدارة البدر التي كانت تنظر إليه كما لو أنه دمية 
تلبسها ثم تجردها من ملابسها حسبما تشاء أو تمشطها أو تفرّشها أو تسوّي 
شعرها أو تربيها؟ بالطبع إنهما كانا يريان فيّ ذلك الطفل القزم غير الطبيعي 
السيئ الحظ. حاسبين نفسيهما أصحّاء واعدين بمستقبل زاهرء وكانا أيضاً 
من أحبّاء جدتي كولياجك التي جعلت من الصعب عليهاء للأسف 
الشديدء اذترى فن واحدا من احتانيا؛ إذ كان من الصعب إرضائي أو 
السيطرة علىّ من خلال الحكايات والكتب المصورة. فما كنت انتظره من 
عت ومازلت اتشيلة إل يريا هذا بععة وإنسهاف كان رافصا تماماًء 
لذلك كنت تادراً ما أثاله: لقد أزاة أوسكار آن يتتدى بمفال جدّه كولياجك 


1 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أن يستتر لديها عن الأعين» وأن لا أتنفس الهواء أبداً خارج جانبها الساكن 
الريح » إن كان ذلك ممكنا. 

وإنني لم أبقي على شئ إلا وفعله بغية الوصول إلى أسفل أثواب 
جدتي! لا أريد القول هنا إنها لم تكن راغبة في أن يجلس أوسكار تحتها؛ 
إنما كانت تتردد»ء فتصدني في أغلب الأحيان» ولعلها كانت ستهب أي 
أحد آخر شبيه بكولياجك ملاتا إلا أنا الذي لم أمتلك أصابعه أو عود 
القّاب المطاوع لمشعل النيران؛ فيجب أن تغير خيول طروادة أوّْل الأمر 
قبل أن أصل إلى الحصن المنيع . 

وأوسكار ألفى نفسه يلعب بكرة من المطاط مثل طفل حقيقي ذي 
ثلاثة أعوام» ملاحظاً كيف أنه كان يدحرج الكرة بمحض الصدفة تحت 
الأثواب» ثم يتسلل خلف الذريعة المدورة» ليستعيد الكرة ثانية؛ قبل أن 
تكتشف جدّته الحيلة. إذا كان الناس الكبار حاضرين هناك؛ فإن جدتى لا 
تسمح لي بالبقاء ويلك ضعت الأدراب» إذ أذ الكبان البالين كارا 
يحيراره يها بويد حرونها باكر ختطريكها فوق حرفل البوطاطلين الخريفي» 
مستخدمين دائما عبارات مقذعة؛ جاعلين جذتي» التي لم تكن شاحبة 
بطبعهاء تصاب بحمرة الخجل على نحو حاد ولفترة طويلة» فتكون 
الحمرة منسجمةً؛ أسفل شعرها الأشيب إلى حدّ ماء مع وجه المرأة ذات 
الستين عاماً . 

وعندما تكون جدتى آنا بمفردها - كان ذلك نادراً ما يحدث» وفى 
القليل النادر كنت أراها عقب وفاة أمّي المسكينة؛ لاسيما بعدما 520-057 
بسطتها في سوق لانغفور الأسبوعي - تبدو أكثر ميلا للسماح لي في البقاء 
متطوعاً فترة طويلة تحت ثيابها التي لها لون البطاطس. حيئئذ أكون لست 
بجاحة إلى السيلة الفية ار كر البطاط الأغبى منهاء لكي يتاح لي 
الدخول؛ فتزحلقت ذات مرّة بطبلى على الأرضية الخشبية»؛ طاوياً إحدى 
ساقي ومثبتاً الأخرى في قطعة أثاث؛ متحدراً في اتنجاه جبل الجِدّة؛ 
وحين وصلت إلى قدميها رفعت بمضربي الطبل الدثار المضاعف أربع 
مرّات» وأصبحت تحته على الفورء ثم أسدلت الستارة بطبقاتها الأربع في 


وكا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


آن والحده وفغت ساكناً طوال وقيقة» سلما ماما لرائحة اليد 
اللاذعة» الزنخة بعض الشىء»؛ التى استنشقتها بمسامئّ كلّهاء تلك الرائحة 
المهيمئة :ذائماً تتحت الأثواب.والتى ل تيع قط لتقلبات المواسم ».بعد 
ذلك بدأ أوسكار يطبل. كان يعرف ما تحبّ جدته سماعه» فقرع لها 
أصوات مطر أكتوبر» الشبيهة بتلك التى لابد أن تكون قد سمعتها آنذاك 
سو ايه لت ازاز اعنات اطاشن عندما زحف تحتها كولياجك 
مشعل الحرائق المطارد ذو الرائحة القوية. - جعلت رذاذاً من المطر مائلةً 
يسقط على صفيح التطبيل» إلى أن تعالت التأوهات وأسماء القديسين من 
فوقي» وبقي الأمر متروكاً لكم لتتعرفوا من جديد على التأوهات وأسماء 
القديسين التي ارتفعت حدتها آنذاك في العام التاسع والتسعين» عندما 
جلست جدتي تحت المطر بينما قبع كولياجك في المكان الجاف. 

لما كنت أنتظر يان برونسكي قبالة حيّ البولنديين في أغسطس من 
العام التاسع والثلاثين» فكرت كثيراً في جدّتي. فمن المتوقع جداً أن 
تكون الآن في زيارة للخالة هدفغ. وعلى الرغم من إغراء فكرة الجلوس 
تحت الأثواب واستنشاق رائحة الزبد الزنخة؛ فإنني لم أصعد درجتي 
السلّم؛ ولم أقرع الباب ذا الرقعة المكتوب عليها اسم: يان برونسكي. فما 
الذي كان يمكن أن يقدمه أوسكار لجدّته؟ لقد كان طبله محطماً»لم يعد 
بوسعه أن يعطي شيئاً: لأنّه نسي صوت المطر في أكتوبر وسقوطه الناعم 
المائل على نار أعشاب البطاطس . وبما أن جدَّة الي يه 
إلا بخلفية من أصوات سقوط المطر الخريفي؛ فإنه لبث في رنغشتراسه» 
يتطلع إلى عربات الترام القادمة من الجهة المقابلة» وكذلك خلفهاء حيث 
كانت أجراسها تقرع في شارع هيرشأنغر ذهاباً وإياباً» سائرة كلها على 
الخط رقم خمسة. 

افهل كنت أنتظر يان؟ ألم استسلم فبقيت مغروساً في مكاني» لأن 
شكلاً مقبولاً للاستسلام لم يحضرني بعد؟ إن الانتظار الطويل يلعب دوراً 
تربويأء يمكن أن يؤدي بالمنتظر إلى تصوير مشهد اللقاء والتحية في ذهنه 
تصويراً تفصيلياً من شأنه أن يصادر من المنتظر أي فرصة لمفاجأة ناجحة. 


/ق” 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ومع ذلك فإن يان فاجئني . نقيت مشدودا إلى مكاتي يمضرئن متاهيين: 
مسكوناً بهاجس رؤية يان غير المتأهب؛, لكي أطبّل له ببقية ببقية طبليى. ودون 
إعطاء تفسير أردت الإعلان بوضوح عن حالتي اليائسة من خلال ضربة 
على الصفيح أو صرخة منه؛. فخاطبت نفسي: بعد خمس عربات ترام» 
بعد ثلاث» بعد هذا الترام» فتصورت, راسماً الرعب في ذهني» بأن عائلة 
برونسكي انتقلت إلى مودلين أو وارشو تلبية لرغبة يان فتخيلعة رئيس 
سكرتارية البريد في برومبيرغ أو تورن» لكنني بقيت أننظر تراماً آخرء حانثاً 
بكل ما قسمت به من قبل» واستدرت في اتجاه دارنا؛ وإذا بأوسكار يُمسك 
من الوراء؛ فوضع أحد البالغين يديه على عينيه فأغمضهما. 

وشعرت بيدي رجل ناعمتين؛ جافتين على نحو لطيف, انبعثت منهما 
رائحة صابون فاخر؛ لقد شعرت بيان برونسكي. وبعدما تخلى عنْي 
واستدار حول نفسه» مقهقهاً بصوت عال ملفت للنظر» كان الأوان قد فات 
فلم استعرض على الصفيح حالتي اليائسة. لذلك أودعت مضربي خلفٌ 
حمّالات سروالي القصير حدٌ الركبة» القذر الذي بليت جيوبه آنذاك؛ لأن 
ليس هناك من كان يعتني بي. فرفعت بيدي الطليقتين طبلي المربوط بخيط 
قنّب بائس» رفعته إلى الأعلى شاكياًء رفعته إلى نكر عينيٌ» بل إلى 
الحد الذي يرفع فيه حضرة القسيس فيهنكه القربان أثناء القداس» كان 
بإمكاني القول: هذا هو لحمي ودميء لكنني لم انطق بحرف» إنما اكتفيت 
برفع الصفيح الرثٌّ المفكك إلى الأعلى» ولم أعلن عن رغبتي في التغيير 
الجذري, أو الرائع حسب الإمكان» بل طالبت فقط بتصليح طبلي» 
ولاشيء سوى ذلك. فقطع يان فوراً قهقهته غير المبررة» المتوترة عصبياً 
مثلما أنصتٌ لها. فأبصر طبلي الذي لم يكن ممكناً إغفاله» ثم حرر بصره 

من الفح الجتكش.» وصار يبحث عن عينيّ اللامعتين اللتين مازالتا تنمان 
حقًاً عن طبيعية مَنْ كان في سنّ الثالثة» لكنه لم يلمح في البدء سوى قزحية 
عين زرقاء لا تنفع ولا تضرء فيها بريق أضواء وانعكاسات» وكلّ ما يحسبه 
المرء على العين من تعبيرات؛ أخيراً استجمع نواياه الطيبة» أي ما كان في 
متناول ذاكرته» بعد تأكده من أن نظرتي لا تختلف قيد شعرة عن أي نقرة 


و" 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ماء في عرض الشارع فرحة بالانعكاس» ثم أجبر نفسه على أن يستعيد في 
عينيّ نظرة أمّي ذات المعالم المشابهة» وأن كانت عيناها رماديتي اللرن» 
تلك النظرة التي عكست له على العموم حظوةٌ وهوى لأعرام عديدة. ربما 
أدهشه انعكاسه فيهاء الذي مازال لا يعني شيئاًء بمعنى أنه كان أبي» أو 
والدي بتعبير أدق. إذ أن عينيه وعينيّ أمّي وكذلك عينيّ اتسمت كلها بنمط 
من الجمال الماكر السذاجة؛ المشعٌ بالغباء» والذي كان يرتسم على وجوه 
آل برونسكي كلهم» بما فيهم شتيفان» لكن ذلك لا ينطبق على مارغا 
برونسكي إلا قليلاً» غير أنه شديد الانطباق على جدتي وشقيقها فنسنت. 
وعلى الرغم من زرقة عيني المحاطة برموش سوداء؛ فإن أحداً لا يمكن أن 
ينكر وجود نفحة من دماء مشعلي النيران الكولياجيكية تسري في عروقي - 
على المرء أن يتذكر فقط تحطيمي للزجاج - بينما كان اختلاق الملامح 
الماتسراتية-الرينانية من شأنه أن يكلفني جهداً فائقاً. 

ولو ستل يان مباشرة فى تلك اللحظة» يان الذي كان يحبّ التهرب» 
عبن .رفغت .طلنء تارك لعيك أن تمارسا تأثير اه لاعغرف بالقول: إن 
عيئن أيه آقس .هما اللقاق ترمقاتي الآن ربا كنت أنا تنسي انظ إل 
نفسي. لقد كان لي ولأمه الكثير من الأمور المشتركة. ومن المحتمل أن 
عمّي كولياجك المقيم في أمريكاء أو في قاع البحرء هو الذي يرمقني 
الآن. إلا مانسرات وحده. فهو لا يتطلع إليّء وهذا أمر جيّد. وأخذ يان 
الطبل من يدي» ثم قلبه وصار ينقر عليه؛ يان» غير العملي الذي لا يعرف 
كيف يبري قلم الرصاص بصورة صحيحة:» تظاهر وكأنه يفهم شيئاً عن 
تصليح الطبول» ثم أتخذ قراراً بين وذلك كان نادراً ما يفعله» وأمسك 
بيدي -مما لفت انتباهي؛ لأن الأمر لم يكن عاجلا- وقطع بي الشارع» 
وعثر وأنا بيده على رصيف محطة الترام «هيرسأنغر»» ثم استقل الترام رقم 
خمسة حين جاء» وسحبني معه إلى مقطورة المدخنين. 

كان أوسكار قد عرف بأننا سنذهب إلى المدينة» قاصدين ميدان 
«هيفيلوس'؛ حيث البريد البولندي والبوّاب كوبيلا الذي يملك العدة 
والقدرة اللتين يطالب بها طبل أوسكار منذ أسابيع . 


كو 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وكان بإمكان رحلة الترام تلك أن تتحول إلى سفرة فرح وبهجة. لو 
يعدت ذلك عشية الأول من سبتمبر من العام التاسع والثلائين» بحيث 
أن عربة الترام رقم خمسة ومقطورته امتلأت منذ محطة ماكس-هالبه 
بالمصطافين المتعبين القادمين من حمّام البحر في «بروزن» فصارت تقرع 
أجراسها في اتجاه المدينة. فأي مساء من أماسيّ الصيف المتأخر كان 
سيدعونا بعد تسليم الطبل إلى قهوة فايتسكه لنتناول عصير الليمون بقصبة 
المصّ لو لم ترسو البارجتان «شليزين» واشليزفغ-هولشتاين» في مدخل 
الميناء» قبالة فتسربلاته؛ عارضتين أمام حوض التزوّد بالذخائر المشيّد 
بالآجر الأحمر هياكلهما الفولاذية وأبراجهما المضاعفة المتحركة وفوهات 
مدافعها. فكم سيكون المشهد جميلاً لو قرعنا جرس بِوّابِ البريد البولندي 
لنودع في عهدته طبل طفل لا يؤذي أحداً ليصلحه لولم يكن البرية 
محصناً من الداخل بالصفائح المدرعة؛ موضوعاً في حالة دفاع» بعدما 
تحوّل عاملوه وموظفوه وموزعو رسائله إلى حماة قلعة أثناء حلقات التعليم 
التي كانت تعقد نهاية الأسبوع في ناحيتي غدنغن و أوكسهوفت. واقتربنا 
من بوّابة أوليفاء فأخذ العرق ينضح من جسم يان برونسكي عندما حدّق 
في الاخضرار المترب لأشجار شارع هندنبورغ وأخذ يدن من سجائره 
ذات العقب الذهبي أكثر مما كان يسمح له به تقتيره. لم يكن أوسكار رأى 
أباه المفترض يتصبب عرقاً بهذا الشكل» باستئناء مرتين أو ثلاث حين 
راقبه مع أمّه فوق الأريكة. 
بيد أن أمّي المسكينة رحلت منذ زمن» فلماذا يتصبب يان برونسكي 
عرقاً؟ اتضح لي بعد أن لاحظت بأنه كان يهّم بالنزول قبل الوصول إلى أي 
محطة, إلا أنه كان ينتبه إلى حضوري في لحظة تأهبه للنزول» فيعود إلى 
مكانه من جديدء انصياعاً لي ولطبلية اتفيخ لي بأنه كان يتصبب عرقاً 
بسبب البريد البولئدي الذي توجب عليه حمايته باعتباره موظفا حكوميا. 
كان قد تهرّب من تلك المهمّة؛ فاكتشفني وطبلي المتصدع في رنغشتراسه 
عند زاوية هيرسأنغر» فقرر اارجوع إلى واجبه الرسمي» فجرجرني معهء 
أنا الذي لم اكن موظفاً ولا مؤهلاً للدفاع عن مبنى البريد» ثم صار يسح 


ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


عرقاً ويدخن بشراهة. لمّاذا لم يغادر الترام في محطة ما؟ بالتأكيد إنني 
سوف لا أثنيه عن ذلك. كان في أفضل سنوات عمرهء فهو لم يبلغ 
الخاسة والأربعين بعد.. زرقك كانت عينهء ويتاً كان شغره» ويذاه تاعمتان 
ترتجفان» ولو أنه لم ينضح عرقاً لبدا مضمّخاً بماء كولونيا المعطرء وليس 
بالعرق البارد الذي توجب على أوسكار الجالس إلى جانب أبيه المفترض 
أن يشمه. 

نزلنا في سوق الأخشابء, وانحدرنا على الأقدام في خندق المدينة 
القديمة. حدث ذلك في مساء صيف متأخر ساكن الريح. فكانت كنائس 
المدينة القديمة تقرع أجراسها النحاسية للسماء كعادتهاء معلنة الساعة 
الثامئة. لعبة أجراس دفعت أسراب الحمام إلى التحليق: «عليك أن 
تمارس الإخلاص والنزاهة أبدأ حتى اللحد البارد.» كان وقع هذه العبارة 
جميلاً يحت على البكاء. لكن القهقهات انتشرت في كلّ مكان. نساء مع 
أطفال لوحتهم الشمس» برانس استحمام من الصوف المنفوش» كرات 
شاطئ ملونة وسفن شراعية كانت تترجل من الترامات التي أقلت آلاف 
المستحمين ترا في حمامات غلتكاو وهويبوده البحرية. كانت الفتيات 
الصغيرات يلعقن مرطبات التوت المثلجة بألسن متحركة تحت النظرات 
التي لم تزل ناعسة. صبية ذات أربعة عشر ربيعاً أسقطت «دوندرمتها؛ 
المثلجة» فانحنت لتلتقط الجليد المتسخ ثانية» لكنها ترددت فجأة» تاركة 
السائل المنعش طعمأ للرصيف ونعال المشاة القادمين» إن هذه الفتاة 
ستلتحق قريباً بركب الكبار البالغين» فلم تعد تلعق المرطبات المثلجة في 
عرض الشارع . 

وانعطفنا إلى اليسار عند جادة شنايدرمولن. كان رهط من رجال 
الدفاع الوطني التابع لأمن الرايخ الألماني قد منعوا المرور عبر ميدان 
هيفيليوس الذي تصبّ فيه الجادة : كانوا فتيانأء وكذلك أرباب أسرّ حملوا 
شارات على أذرعهم وتسلحوا ببنادق الشرطة القصيرة. وكان من السهل 
تجاوز هذا الحاجز بالالتفاف عليه والوصول إلى البريد من ناحية «ريهم». 
لكن يان برونسكي تقدم مباشرة نحو قوات الدفاع الوطني. كان واضحاً 


54 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


واضحاً؛ إذ أراد أن يوقفوه على مرأى من مسئوليه الذي أمروا بالتأكيد 
بمراقبة ميدان هيفيليوس من مبنى البريد نفسه» ويجبروه على الرجوع من 
حيث أتى» ليقدم صورة ناصعة بصفته بطلا تعرض للمنع؛ لكي يستقل 
الترام رقم خمسة مرّة أخرى» ويذهب إلى داره. 

وسمح لنا رجال الدفاع الوطني بالمرورء لعلّهم لم يفكروا في أن هذا 
السيّد الشديد الأناقة» وبمعيته الصبي ذو الأعوام الثلاثة» ينويان الدخول 
إلى مبنى البريد. فنصحونا بلطف باتخاذ الحذرء ثم زعقوا بنا «قف» بعد 
أن نفذنا عبر البوّابة المسلحة بالقضبان ووقفنا أمام مدخل البريد. فالتفت 
يان إلى الخلف بارتباك؛ حينئذ قُتح باب المبنى الثقيل بمقدار شق ثم 
سُحبنا إلى الداخل : فوقفنا في صالة زبائن البريد البولندي شبه المظلمة» 
المنعشة البرودة. اح لاب ب 0 
كانوا ينظرون | 0 فأسقطوه من حسابهم؛ واعترفوا صراحة بأن 
الشبية قد أثيفت علي أ ي أن سكرتير البريد برونسكي أراد أن يفلت. 
ترد يان مبعوية بالحة اف ني التتبهات عن لندسه؟ لكن أحداً لم يصغ لهء 
فأحيل إلى مجموعة كانت مكلفة بنقل أكياس الرمل من القبو ووضعها 
خلف واجهات النوافذ في صالة الزبائن الرئيسية. وأخذوا يكومون هذه 
الأكياس وسواها من الخزعبلات خلف النوافذء ويدفعون قطع الأثاث 
الثقيلة مثل دواليب الملفات قرب المدخل الرئيسي» لكي يحصنوا الباب 
على عجل عند الضرورة. 

وأراد أحد منهم أن يعرف من أناء غير أن وقته لم يكن كافياً لانتظار 
إجابة يان. وبدا الناس متوترين» ويتحدثون تارة بصوت عال وطورا 
بصوت خفيف مبالغ في حذره. وصار طبلي وعناؤه وعوزه في حكم 
النسيان؛ لأنْ كوبيلا الذي اعتمدت عليه ليعيد الاعتبار إلى ذلك كومة 
الحطام المعلقة فوق بطني» بقى غير مرئي؛ ربما كان في الطابق الأوّل أو 
الثاني من مبنى البريد» يحمل بهمة ونشاط أكياس الرمل الممتلثة التي 
يُفترض أن الرصاص لن يخترقهاء شأنه شأن موظفي البريد القائمين على 
خدمة الزبائن وموزعي الرسائل. بدا حضور أوسكار محرجاً ليان 


53 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


برونسكي . فانسحبت على الفور حين تلقّى يان توجيهات من رجل أطلق 
عليه الآخرون لقب الدكتور «ميشون». بعد قليل من البحث والتفادي 
الحذر للسيّد ميشون - الذي ارتدي خوذة بولندية من الفولاذ؛ فاتضح أنه 
كان مدير البريد - وبعد قليل عثرت على السلم المؤدي إلى الطابق الأوّل 
وعلى قاعة متوسطة الحجمء خالية من النوافذ» في نهاية الممر تقريباًء 
وليس فيها رجال يحملون صناديق عتاد أو أكياس رمل. وكانت على 
أرضيتها الخشبية سلال غسيل متحركة على عجلات ومعبثة بالرسائل التي 
نُصقت عليها طوابع ملونة . ولتت القاعة عرف ةو وكام سدرانيا نا 
فاتحاً. وئمة ة رائحة نطاط خميفة. ومصباح مشع م بلا غطاء. كان أوسكار 
متعبأ أكثر بكثير من قدرته على البحث عن زرّ الكهرباء. ومن بعيد كانت 
أجراس كنيسة القديسة ماريا والقديسة كاترينا والقديس يوحنا والقديسة 
بريغيتن والقديسة بابرا وترينتاتس والنعش المقدس: تعلن مجتمعةً قيام 
الساعة التاسعة. فيا أوسكار عليك أن تذهب إلى الفراش! فاضطجعت فى 
سلّة الرسائل ومهدت الطبل المنهك إلى جانبي ثم غفوت. 


58> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


البريد البولندي 


نمت في سلّة غسيل مليئة بالرسائل التي تريد الذهاب إلى «ووج» 
و«لوبلين" و«لفوفوتورون» و«كراكوف» و«اجستوخاوا؛ أو القادمة من ووج 
ولوبلين والمبيرغ» و«ترون؟ وكراكوف وجنستوخاو”* . غير أنني لم أحلم 
بمتاكا بوسكا جستوخوفسكا ولا بتمثال العذراء الأسودء وكذلك لم أقضم 
في الحلم قلب مارجالك بلزودسكي المحفوظ في كراكوف ولا كعك 
مدينة تورن الذي اشتهرت به المديئة. بل إنني لم أحلم حتى بطبلي الذي 
مازال بلا تصليح؛ فاضطجع أوسكار على الرسائل في سلّة غسيل 
متحركة» خالياً من الأحلام» ولم ينصت قط للهمس والوسوسة والثرثرة» 
أي أنّه لم ينصت إلى البوح الذي كان يرتفع حسب اعتقاد المرء كلّما 
تكدست رسائل كثيرة فوق بعضها. بيد أن الرسائل لم تبح لي بشيء؛ 
لأنني لم أنتظر أي بريدء فليس هناك من يرى فيّ مستلماً لبريده» ناهيك 
عن أن يرى فيّ مرسلا. ورقدت بكل صلف وعجرفةء ساحيا سلك 
الإرسال الهوائي فوق جبل الرسائل الزاخر بالأخبار التي يمكن أن تهمّ 
العالم برمته. ولذلك كان من البديهي أن لا توقظني تلك الرسالة التي كتبها 
المدعو بان ليج ملفيجك من وارشو إلى ابنة أخيه في غدانسك-شيلدلتس» 
تلك الرسالة المنذرة بالخطر التي كان من شأنها أن توقظ سلحفاة عمرها 
ألف عام؛ فلم توقظني إلا نيران المدافع الرشاشة القريبة أو اللعلعة المدوّية 





(*) استخدم غراس صيغة الكتابة البولندية لتلك الأماكن التي كانت موضع النزاع بين 
بولندا ويروسيا» ثم وضع لها الأسماء الألمانية المقابلة . 


54 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


البعيدة» المنطلقة من فوهات الأبراج المزدوجة للمدمرات البحرية الراسية 
فى الميئاء الخر. 
1 إن هذه الأشياء تُكتب ببساطة : مدافع رشاشة وأبراج مزدوجة. ألم 
يكن ذلك مجرد زخخات مطرء أو هطول جليدء أو قصف رعود الصيف 
المتأخر الشبيهة بتلك الرعود التي جاءت بمناسبة ولادتي؟ كنت غارقاً في 
النوم؛ غير مستعد للخوض في مضاربات على هذا النحوء فاستنتجت» 
والأصوات مازالت تتردد في أذنيّ» استنتاجاً صحيحاً مثلما يفعل الغاطون 
في نومهم حين يسمون الوضع باسمة هاتفين: إنهم يطلقون النيران الآن! 

وحالما تسلّق أوسكار سلّة الفسيل» ليخرج منهاء وقبل أن يستقر في 
نعله؛ توجس خيفةً على طبله الحسّاس السريع التأثر. وبيديه الاثنتين نبش 
السلّة التي هجع فيها وصنع حفرة وسط الرسائل المرتخية طولاً وعرضاًء 
بيد أنه لم يتعامل معها بقسوة وخشونة» فلم يمزقها أو يثنيهاء أو يختمها 
أيضاًء إنما فرقها عن بعضها بحذرء مظهراً عناية خاصة بالرسائل المزودة 
بالختم البنفسجي «بوجكا بولسكا"» وبالبطاقات البريدية كذلك» محترساً 
لئلا ينفتح ظرفء. إذ أن الأسرار البريدية يجب أن تصان حتى في ظل 
الأحداث المحتومة المغيرة لكل شىء. 

وفي القدر الذي تصاعدت فيه ثيران المدافع الرشاشة اتسعت الحفرة 
المخروطية في سلّة الغسيل المعبئة بالرسائل. أخيراً اكتفيت» فوسدت 
شان السظير متقحسه الندهق 1157 وابلاكت عله النظلاد الكقيت» الى 
فقط ثلاث فاته كلا بل عشر أو عشرين مدةء وجعله متدانحلا 
بالظروف» حلا وشدّاء مثلما يفعل البنّاء بالآجر عندما يريد إقامة جدار 
وطيد. وحالما نفضت يدي من تلك الإجراءات الاحترازية التى قصدت 
منها توفير حماية لطبلي من الأعيرة النارية والشظاياء انفجرت أَرّل قذيفة 
بضادة للديانات انام واجهة ميش التريق المحلاية ليان عيقبليوس» على 
مستوى ارتفاع صالة خدمات الزبائن . 

وكان باستطاعة مبنى البريد البولندي المشيد بمتانة أن يتحمل» 
ويبساطة؛ عدداً من تلك الانفجارات» دون خشية من أن يتمكن أفراد 


58 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ابعر القرىي من العام تقد لحدهم سهولة» تعحون غلى وجه الضرعة 
تتسع لعملية اقتحام من الأمام قد تدربوا عليها دائما تدريباً ميدانيا. 
وغادرت قاعة تخزين الرسائل الآمنة الخالية من النوافذ والمفصولة 
عن ثلاثة مكاتب ورواق في الطابق الأوّل»ء وبدأت أبحث عن برونسكي. 
وإذا ما صرت أفتش عن أبي المفترض يان برونسكي» فإنني كنت أفتش 
ببداهة» وبتلهّف أكبر من تلهفي على يان» عن البرّاب المعوّق كوبيلا. لقد 
ركبت الترام عشية الأمس» متخلياً عن عشائي» فأتيت إلى المدينة» ومن 
هناك إلى ميدان هيفيلوس» ثم دخلت مبنى البريد الذي لم يعن لي شيئا في 
السابق» لكي أصلح طبلي. وإذا لم أعثر على البوّاب في الوقت المناسب» 
أي قبل الهجوم المتوقع حدوثه بالتأكيد؛ فسيكون من الصعب التفكير في 
أي إمكانية تثبيت متقنة لطبلي المتداعي . 

إذاًء كان أوسكار يفتش عن يان» قاصداً كوبيلا فى حقيقة الحال؛ 
فصار يذرع الممر الطويل المرصوف بالبلاط» جيئةٌ وذهاباً» شابكاً ذراعيه 
على صدره» بيد أنه ظلّ وحيداً مع خطاه. لقد استطاع التفريق في الواقع 
بين رصاص البنادق المتفرق الذي انطلق بلا شك من مبنى البريد وبين 
إسراف الحرس القومي المتواصل في تبديد الذخيرة» لكن لابد أن يكون 
الرماة المقترون قد استبدلوا أختام البريد في مكاتبهم بآلات مشابهة» دامغة 
هي الأخرى. لم يكن هناك في الممرر أي أثر لاستعداد أو تحرك من أجل 
التصدي لأي هجوم محتمل. كان أوسكار وحده يقوم بأعمال الاستطلاع 
والتفتيش» غير أنه كان يقف أعزلء, بلا طبل» أمام صلاة القدّاس 
الافتتاحية الصانعة للتاريخ في ساعة مبكرة من ساعات الصباح التي لم 
تحمل في فمها ذهباًء كما يقال عادة في الأمثال» بل الرصاص وحده. 

وكذلك لم أعثر على أي مخلوق في المكاتب المطلّة على باحة 
البريد. فقلت مؤكداً إنه لتصرف أخرق . فتوجب عليهم أن يحصنوا المبنى 
من جهة شارع شنايدهمولن» يسبب أنْ مركز الشرطة الواقع هناك» والذي 
لا يفصله عن باحة البريد سوى سياج خشبي ومنصة شحن الطرود 
البريدية» شكل هدفاً مثالياً للمهاجمة» لا يمكن العثور عليه إلا في الكتب 


نذا 


ثغرة» 


1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


التعليمية المصورة. طفت على المكاتب وعلى قاعة الرسائل المسجلة 
وغرفة موزعيّ الحوالات البريدية وصندوق توزيع الأجور ومكتب استلام 
البرقيات: فوجدتهم هناك. خلف الصفائح الفولاذية وأكياس الرمل» 
منتصبين خلف أثاث المكاتب المقلوب» يطلقون الرصاص بتعثر واقتصاد 
شديد. 

كانت النوافذ الزجاجية لمعظم الغرف قد أقامت علاقة ما مع المدافع 
الرشاشة للحرس القومي. وتفحصّت الأضرار على نحو عابر» وعقدت 
مقارنات بين زجاج النوافذ الذي كان يتحطم تأثير صوتي الماسي في أزمان 
السلام الهادئة المنتظمة الأنفاس. والآن» إذا ما طلب متي أحد المساهمة 
في الدفاع عن البريد البولندي؛ كأن يتقدم مني الدكتور ميشون القصير 
المفتول العضلات» ليس بصفته مديرا بريدياء بل بصفته مديرا عسكريا 
للبريدء ليجعلني مدافعاً في خدمة بولنداء لما بخلت عليه بصوتي: أنني 
مستعدء من أجل بولندا ومن أجل اقتصاد بولندا المزدهر ازدهاراً بريّاًء 
الاقتصاد الذي مازال يحمل ثماراً يانعة» أن أحطم وبكلٌ سرور زجاج 
نوافذ المنازل المواجهة لنا في ميدان هيفيليوس» ومعها زجاج منازل ناحية 
ريهم وخط البناء الزجاجي في شارع شنايدهمولن» بما فيه مركز الشرطة» 
وزجاج نوافذ خندق المديئة القديمة» وكذلك جادة الفرسان» أي الزجاج 
المنظف بشكل ممتازء لأحيله بصوتي؛ وخلال دقائق» وعن بعد مؤثر أكثر 
من ذي قبل» إلى ثقوب سوداء تسرح فيها الريح وتمرح. كان من شأن 
ذلك أن يشيع الاضطراب في صفوف الحرس القومي والمواطنين 
المتفرجين» وربما سيعوض عن التأثير الذي يمكن أن يحدثه عدد كبير من 
المدافع الرشاشة» وسيحملء» منذ بداية الحرب؛ على الاعتقاد بوجود 
سلاح سرّيء على الرغم من أن ذلك لم يكن بوسعه إنقاذ البريد البولندي . 

لكن أوسكار ظلّ بعيداً عن المساهمة؛ فالدكتور ميشون ذا الخوذة 
البولندية لم يطالبني بتأدية يمين الولاء» بل وجه لي صفعة موجعة عندما 
ارتطمت بساقيه وأنا أهبط السلّم بعجلة نحو صالة خدمات الزبائن» ثم بدأ 
يطلق الشتائم بصوت عال وباللغة البولندية» قبل أن يتفرّغ لمهماته الدفاعية 


58> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


م أخرى . فلم يبق أمامي سوى أن أتقبل الصفعة؛ لأن الناس ١‏ بمن فيهم 
الدكتور ميشون الذي تقع عليه المسؤولية في نهاية المطاف؛ كانوا 
مستنفرين » خائفين» ولذلك فهم معذورون. 

لقد أبلغتنى الساعة المعلقة فى صالة خدمات الزبائن بأنها أشارت إلى 
الرابعة وعشرين دقيقة» وبعدما وصلت إلى الدقيقة الواحدة والعشرين بعد 
الرابعة استنتجت بأن المناوشات القتالية الأولى لم تصب الساعة بضرر. 
كانت تدورء وأنا لم أعد أعرف فيما إذا كانت طمأنينة الزمن ورزانته علامة 
سيئة أم علامة حسنة. وعلى أية حال» أمضيت فترة في صالة خدمات 
الزبائن» باحثاً عن يان وكوبيلاء متحاشياً الارتطام بالدكتور ميشون» غير 
أنني لم أعثر على خالي ولا على البوّاب» إنما تأكدت من حجم الأضرار 
البشعة في الجصّ إلى جانب المدخل الرئيسي. فسُمح لي أن أكون شاهداً 
السنّ؛ شعره الأشيب مفروق بعناية» فكان يتحدث بلا انقطاع وبانفعال» 
بينما كان الآخرون يضمدون جرحه في عضده. وحالما انتهوا من لفٌ 
الجرح البسيط بالشاش الأبيض. أراد أن يثب ويتناول بندقيته ليقذف بنفسه 
مرّة ثانية خلف أكياس الرمل التي لم تكن في الواقع واقية من الرصاص. 
فكم كان حسنئاً عندما أصيب بعارض ضعف خفيف نتج عن نزيف حادء 
ألقى به أرضاًء فأجبره على اتخاذ جانب الهدوء الذي بدونه لا يستعيد 
رجل عجوز عافيته من جديد. فضلاً عن أن السيّد المتوتر الأعصاب ذو 
الخمسين عاماً والخوذة الفولاذية» الذي أطلّ من جيب سترته المدنية مثلث 
منديل رجل شديد التأنق» هذا السيّد ذو الحركات التى نمّت عن سمو ونبل 
برونسكي عشية الأمس إلى استجواب صارم؛ أصدر هذا السيّد أمرا إلى 
الرجل المصاب بأن يتخذ جانب الهدوء باسم بولندا. 

كان الجريح الآخر ملقى» وهو يتنفس بصعوبة» على جُوال تبن» ولم 
يبد أي رغبة في الانبطاح ثانية خلف متاريس الرمل» إنما بقي يصرخ بإيقاع 


ه6خ23238> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


منتظم وبصوت عال وبلا خجل؛ لأنه كان مصاباً في بطنه. وحالما هم 
أوسكار بتفقد رهط الرجال خلف أكياس الرمل» لعله يعثر أخيراً على 
صاحبيه» اهتزت قاعة خدمات الزبائن إثر انفجار قذيفتين في وقت واحد 
تقريباً» انفجرت الأولى فوق البوابة الرئيسية والثانية إلى جانبهاء فقفزت 
الدواليب التي رُحزحت وراء البوّابة» كاشفةً عن أكداس الأضابير التي 
اخذت ترقرف يعد ذلك فاقدة وضعها النظامي» هابطة 'غلى البلاط. 
لتلامس في انزلاقها قصاصات الأوراق فتغطيهاء تلك القصاصات التي لا 
عد لها ندا أن تتعرف عليها بمقتضى الحسابات الإدارية الأصولية. من 
العبث القول إن زجاج النوافذ الأخرى تطايرت شظاياه وإن مربعات كبيرة 
أو صغيرة من الجصّ تساقطت من السقف والجدران. وثمة جريح ثالث 
أخذوا يجرجرونه إلى منتصف الصالة عبر زوابع الجصّ والجيرء ليطلعوا 
السلّم إلى الطابق الأوّلء بناءً على أمر الدكتور ميشون ذي الخوذة 
الفولاذية . واقتفى أوسكار آثار الرجال المرافقين لموظف البريد الذي كان 
يطلق التأوهات والحسرات بين درجة سلّم وأخرى» دون أن ينادي عليه 
أحد بالرجوعء أو يحاسبه» أو يوجه له صفعة كتلك التي وجهها له الدكتور 
ميشون قبل فترة قصيرة بيده الرجولية الخشنة. بيد أنه؛ من ناحية ثانية» 
بذل قصارى جهده. لكي لا يرتطم بساق من تلك السيقان البالغة الحجم 
المدافعة عن البريد. 

عندما بلغت الطابق الأوّل خلف الرجال الذي قطعوا السلّم ببطء 
شديدء تحقق ما حدثني به قلبي: لقد جلبوا الجريح إلى تلك القاعة 
الخالية من النوافذ» التي حُوّلت إلى مخزن للرسائل» وكنت قد حجزتها 
لنفسي. كما أنهم توصلوا إلى قناعة بأن سلال الرسائل» حتى لو كانت 
قصيرة» تمثل مضجعا مريحا للجريح» لانعدام وجود الفراش. في الحال 
شعرت بالندم؟ لأنني أسكنت طبلي في واحدة من سلال الغسيل المتحركة 
المليئة بالرسائل التي لم توزع بعد. فهل ستتسرب دماء موظفي البريد 
وموزعي رسائله الممزقين» المنخوبين بالرصاص» مخترقة طبقات 
الأوراق المتكدسة فوق بعضها عشر أو عشرين مرّة» لتمنح طبلي ذلك 


ك43؟3 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


اللون الذي لم يتعرف عليه إلى الآن إلا بصفته طلاء؟ فما الذي يجمع بين 
طبلي ودماء بولندا؟ فليصبغوا ملفاتهم ومعها أوراق النشّاف بذلك العصير! 
فليسكبوا المداد الأزرق من محابرهمء» وليعبثونها باللون الأحمرا 
َليُحمّروا نصف مناديلهم وقمصانهم البيضاء المنشّاة على نحو بولندي! إذ 
أن الأمر في نهاية المطاف يتعلق ببولندا وليس بطبلي! وإذا كان من المهمّ 
بالنسبة لهم» في حالة ضياع بولنداء أن تضيع وهي باللونين الأبيض 
والأحمرء فهل من الواجب أن يضيع معها طبلي المشبوه بما فيه الكفاية 
بفعل الطلاء الطازج؟ 

وشيئاً فشيئاً رسخت في ذهني فكرة أن الأمر لم يكن له علاقة 
ببولندا؛ إنما بطلي المتصدع. لقد استدرجني يان إلى البريدء لكي يزود 
الموظفين غير المكتفين ببولندا كإشارة مضيئة لاندلاع حدث جسيم» 
وكعلامة ميدان متوهجة لغرض التفريق بين الجيوش المتحاربة. أثناء 
الليل» وبيئما كنت راقداً فى سلّة الرسائل المتحركة؛ دون أن أتحرك في 
الواقع أو أحلمء فصن فوطت النورة المكلفين بالحراسة كبارة تبن : 
بكلمة السرّ: لجأ إلينا طبل أطفال محتضر . أننا بولنديون ويجب أن نوفر له 
الحماية» لا سيما أن إنجلترا وفرنسا وقعتا معنا معاهدة حماية . 

وفي الوقت الذي كانت فيه تلك التأملات التجريدية غير المجدية تحدٌ 
من حريتي في اتخاذ خطوات عملية قبالة باب مخزن الرسائل المفتوح 
بمقدار النصف ارتفعت للمرّة الأوَلى أصوات المدافع الرشاشة في باحة 
البريد. ومثلما تنبأت» فقد تجرأ الحرس القوميّ على القيام بأوّل هجوم 
انطلاقا من مركز الشرطة في شارع شنايدهمولن. وبعد فترة وجيزة ارتفعت 
أقدمنا عن الأرض: إذ أن رجال الحرس القومي نجحوا في نسف باب 
فاعة الطرود المشرفة على منصة شحن سيارات البريد. وتوغلوا على الفور 
في القاعة نفسهاء ومن ثم في مكان تسليم الطرودء حيث كان باب الرواق 
المؤدي إلى صالة خدمات الزبائن مفتوحا. 

كان الرجال الذين حملوا الجريح ووضعوه في سلَّة الرسائل التي 
أخفيت فيها طبلي قد اندفعوا إلى الخارج؛ فلحق بهم آخرون. ومن 


/ام" 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


خلال الجلبة استنتجت بأن القتال نشب في ممر الطابق الأرضي» ثم انتقل 
إلى مكتب استلام الطرودء فاضطر الحرس القومي إلى الانسحاب. فوطأ 
أوسكار مخزن الرسائل بتردد في البدء» ومن ثم بوعي وإدراك. كان وجه 
الجريح أصفر رمادياء فكشّر بأسنانه وصار يقلّب مقلتيه خلف أجفانه 
المطبقة» ثم يبصق دما كالفتائل المتخثرة. وبما أن رأسه كان متدليا فوق 
حافة سلة البريد؛ فإن خطر تلويثه الرسائل لم يكن قائما. كان على 
أوسكار أن يقف على أطراف قدميهء ليصل إلى السلّة. لكن مؤخرة 
الرجل بدأت تضغط بشدةٌء هناك» حيث دفن الطبل بالتحديد. فتمكن 
أوسكار من النبش» متخذاً الحيطة إزاء الرجل والرسائل معاء ثم غار 
عميقاً وصار يجذب بقوّة» ثم مرّق في الأخير عشرات الظروف تحت 
الرجل المتأوّه. 

واليوم أودّ أن أقول بأنني حالما لمست حافة طبلي» اقتحم مجموعة 
من الرجال السلّمء منطلقين إلى الأعلى على امتداد الممرء ثم رجعوا من 
جديد بعدما طردوا الحرس القومي من قاعة الطرود»ء فأصبحوا منتصرين 
إلى حين؛ إذ أنني سمعتهم يشحكوق: وبقيت انتظر قرب الباب» مختبئاً 
خلف إحدى سلال البريد» إلى أن تقدم الرجال من الجريح» فضمدوه 
وهم يتحدثون يصوت عال, ويلوحون بأيديهم» ثم أخذوا يطلقون الشتائم 
بهمس خافت. 

وعلى حد ارتفاع القاعة المخصصة لخدمات الزبائن انفجرت عبوتا 
مدفعية ثقيلة -- ولحقت بهما قذيفتان» ثم ساد الصمت من جديد. بينما 
كانت صليات المدمرات الحربية الراسية فى الميناء الحرٌ تذهب بعيداء 
هادرةً بطيبة قلب» وبانتظام» بعدما اعتاد 0 عليها. ودون أن يلاحظني 
الرجال المجتمعون لدى المصاب» انسحبت من مخزن الرسائل» خاذلا 
طبلي» وطفقت أبحث مرّة أخرى عن يان» أبي المفترض وخالي وعن 
البواب كوبيلا. 

كان المسكن الرسمي لرئيس سكرتارية البريد ناجالنك» الذي أرسل 
عائلته إلى برومبيغ أو إلى وارشوء يقع في الطابق الثاني. فتشت في البدء 


584 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


عض المخازن المشرفة على باحة البريد» فعثرت بعد ذلك على يان 
وكوبيلا في غرفة الأطفال العائدة لمسكن ناجالنك الرسمي. وبدت غرفة 
لطيفة منيرة» مكسوة بورق جدران طريف» لكن رصاص البنادق الطائش 
خرقه للأسف الشديد في , بعض المواضع . كان بإمكان المرء الوقوف عند 
نافذتين أيَام السلمء ٠»‏ ليتأمل ميدان هيفيليوس» فيجد متعة في ذلك. كان 
هناك حصان هرّاز وكرات مختلفة وقلعة مليئة بجنود مشاة وخيّالة 
مصنوعين من الرصاص» وقد كبوا على وجوههم. وثمة علبة كرتون 
مفتوحة» ومعبئة بسكك قطارات ونماذج مصغرة لعربات شحن ودمى 
مستهلكة كثيراً أو قليلاء وحجر عرائس مليئة بالفوضى» باختصار كانت 
هناك وفرة في لعب الأطفال» نمّت عن أن رئيس السكرتارية ناجالنك لابد 
أن يكون والداً لطفلين» صبىّ وفتاة مدللين. كم كان رائعاً إجلاء الطفلين 
إلى واشو؛ فوفرت على نفسي فرصة اللقاء بشقيقين» تعرفت على أمثالهما 
عير ولديٌ يان. ثم تخيلت بقليل من الشماتة كيف أن ولد رئيس 
السكرتارية قد شعر بألم حين ودّع جنته الطفولية الزاخرة بجنود الرصاص؛ 
ربما دس في جيب سرواله بعضاً من رماة الرماح» ليعزز بهم فرقة الخيّالة 
البولندية فيما بعد. إذا ما دارت المعارك حول حصن مودلين. 

أوسكار يتحدث الآن كثيراً عن جنود الرصاص» ومع ذلك فإنه لا 
يستطيع التملّص من الاعتراف: لقد نُضدت على الرفٌ العلوي لدولاب 
مخصص للعب والكتب المصورة والألعاب الجماعية آلاتّ موسيقية صغيرة 
الأحجام؛ حيث اصطف بوق عسليّ الصفرة أخرس إلى جانب لعبة نواقيس 
منصاعة الاشتباكات المسلحة» بمعنى أنّها كانت تقرع أجراسها كلما 
انفشجرت قذيفة. وفى أقصى اليمين تمطت آلة أكورديون ملونة ممتدة 
باعوجاج . كان الوالدان غريبي الأطوار تماماء لدرجة أنها أهديا لذريتهما 
اله كمان حقيقية صغيرة بأربعة أوتار حقيقية أيضا. والتصب إلى بجائب 
الكمان - يمكن للمرء أن لا يصدق ذلك - انتصب طبل صفيح ذو طلاء 
أبيضن أجعر» ميشع رفيا ذائرته البتضناة و يه 
بين قطعتين من لعب البناء» منعتاه من التدحرج . لكنني لم أحاول قط 


2219 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


سحب الطبل من الرفٌ بقدراتي الذاتية؛ إذ أن أوسكار كان على علم 
بالمدى المحدود الذي تصل له يدهء فكان يسمح لنفسه في بعض الأحيان 
بأن يلتمس من البالغين تقديم هذا الصنيع أو ذاك» بعدما يستحيل وضعه 
القزمي إلى حالة عجز. 

كان يان برونسكي وكوبيلا منبطحين وراء أكياس الرمل التي ملأت 
الثلث السفلى من النافذة المحاذية للأرضية. فأصبحت النافذة اليسرى من 
تعوية ياذه. يبعا لبر كويلواعاتت الع #ادركف على النورييان 
البرّاب لم يكن له ما يكفيٍ من الوقت لكي يسحب طبلي الراقد تحت 
الرجل الجريح الباصق دمأ والذي انضغط شيئاً فشيئاً بكلّ تأكيد, 
ا ا فكان يصوّب ببندقيته في فترات 
منتظمة من خلال فجوة في متراس الرمل» مطلقاً النيران نحو زاوية شارع 
شنايدرمولن عبر ميدان هيفيليوس» حيث تموضع مدفع مضاد للدبابات قبل 
جسر راداونا بمسافة قصيرة. 

كان يان قد اضطجعء مكورّراً جسده؛ ومخبئاً رأسه. ويرتجف. 
فتعرفت عليه من خلال بدلته الأنيقة قَةَ الرمادية الملطخة بالجصٌ والرمال» 
وقد انحلٌ ربّاط فردة حذائه اليمنى الرمادية اللون كذلك» فانحنيت وربطتها 
على هيئة عقدة لطيفة» وعندما جذبت العقدة؛ ارتعد يان» فحرف عينيه 
العميقتيّ الزرقة نحو كُمّه اليسار, ثم رمقتني بنظرة بليلة ة زرقاء على نحو لا 
يصدق. وعلى الرغم من أنه تأكد بشكل عابر مثلما تأكد أوسكار بأنه لم 
يصب ؛ فإنه بكى بصمت. لقد كان يان خائفا. فتجاهلت نحيبه وأشرت 
إلى طبل ابن ناجالنك المجلىّ؛ طالباً من يان بحركات واضحة أن يتقدم 
ل و و 0 فيأتي لي بالطبل. 
لكن خالي لم يفهمني . إن أ بي المفترض لم يفقه ما أردت؛ إذ بذا عشيق 
اق السكة مدنا بخرقه ممثلثاً به لدرجة أن إشارتى المتوسلة به من 
أجل تقديم المساعدة بدت صالحة أيضاً لمضاعقة خوفه . كان على أوسكار 
أن يصرخ به» لكنه خشي من أن يكتشفه كوبيلا الذي بدا كما لو أنه لم يعد 
يصغي إلا لصوت بندقيته . فاضطجعت إلى يمين يان خلف أكياس الرمل» 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ملتصقاً به لكي أنقل إلى الخال التعيس الحظء والأبّ المفترض» جزءاً 
من رباطة جأشي المعهودة. فتراءى لي إثر ذلك وكأن شيئاً من الاطمئنان 
يان عليه . 

لقد تمكنت أنفاسي المنتظمة تماماً أن تسدي نصيحة لنبضه بخصوص 
الاننظام التقريبي. ولمًا لفت أوسكار نظر يان مرّة ثانية إلى طبل ناجالنك 
الابن» وبصورة مبكرة في الواقع» حين أدرت رأسه ببطء وبرفق» ومن ثم 
سيد في اتجاه الرف الخشبي المعبأ بألعاب الأطفال» فإن يان لم يفهمني 
هذه المرّة أيضاً؛ إذ أن الخوف تملكه من الأسفل إلى الأعلى» ثم غمره 
رجوعاً من الأعلى إلى الأسفل» إلا أنه اصطدم بمقاومة عنيفة هناك» ربما 
بسبب الحذاء المزود بنعلين داخليين» فأراد الخوف أن يحرر نفسه» لكنه 
ارتد عبر المعدة والطحال والكبدء حتى استقر هارباً في رأسه التعيس» 
لدرجة أن عينيه الزرقاوين جحظتاء فكشفتا عن شرايين دقيقة بيضاء شديدة 
التعقيد» لم يجد أوسكار من قبل فرصة لإدراكها في مقلة أبيه المفترض . 

لقد كلفني صدّ مقلتي الخال ومنح قلبه بعضاً من اللياقة وحسن 
السلوك جهداً ووقتا. غير أن جهدي الذي بذلته في خدمة علم الجمال 
ذهب هباءً في اللحظة التي استخدم فيها جماعة الحرس القومي مدفعاً 
ميدانياً من العيار المتوسط للمرّة الأولى» فقوضوا السياج الحديدي أمام 
مبنى البريد بإصابات مباشرة»؛ بعدما رصدوه بالماسورة»ء موجهين إليه 
ضربات في الصميم» دعامةٌ حجرية إثر أخرى» وبدقة جديرة بالإعجاب» 
نمت عن مستوى تدريبي رفيع» فاجبروها على الركوع على ركبتها نهائياً 
مكتسحة معها القضبان الحديدية. شهد خالى يان المسكين انهيار 
الدامات: التي بلغ عددها خمس عشرة إلى عشرين دعامة: بقلبه 
وروحهء فأصيب بالذهول على نحو طاغء كما لو أن المرء لم يحوّل 
القواعد الحجرية وحدها إلى تراب» بل قوّض معا أيضاً قواعدٌ تمائيل 
الآلهة الوهمية الأليفة» العزيزة على قلب الخال والضرورية بالنسبة له 
ضرورة حياتية . ّْ 

وعلى هذا النحو فقط يمكن تفسير السبب الذي حدا بيان إلى مقابلة 


555 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كل إصابة مدفع بصرخة حادة» من شأنها أن تتمتع بفضيلة الماس القاطع 
للزجاج مثل صراخي القاتل للزجاج لو أنها كانت واعية» محددة الهدف . 
لقد صرخ يان من كل أعماقه في الواقع» لكن صراخه كان طائشاء فلم 
يحقق شيئاًء ماعدا أن كوبيلا قد ألقى بجسده الخشن العظام المعوق» 
اللائق ببوّاب مثله ألقى به في اتجاهناء ثم رفع رأسه النحيل الخالي من 
الأهداب والذي يشبه رأس الطيرء وحرك حدقتيه الرماديتين المترقرقتين 
بالبلل نحو اتحادنا الاضطراري» ثم أخذ يهر يان ويان ينهنه بلا انقطاع. 
ففتح قميصه؛ وصار يتحسس جسد يان بلهوجة بحثا عن الإصابة - كنت 
على وشك أن أضحك-» ثم قلبه على ظهره» بعد أن فشل في العثور على 
أي أثر لجرح» فقبض على فكه»؛ وحرفه عن مكانه وجعله يطقٌ» وأجبر 
نظرة يان البرونسكيّة الزرقاء على تحمّل وميض الأضواء الكوبيلانية الرمادية 
المترقرقة بالماء» ثم صب عليه الشتائم باللغة البولندية وبصق في وجهه. 
وقذفه في الأخير بتلك البندقية بالذات التي تركها يان أمام كوّة المتراس 
التي سُويت من أجله» دون أن يستخدمها إلى الآن؛ إذ لم يُسحب من 
البندقية حتى صمَّام الأمان. فلطمه أخمص البندقية على صابونة ركبته لطمة 
جافة. بدا وكأن الوجع الجسدي القصير الذي أعقب للمرّة الأولى تلك 
الآلام الروحية قد فعل فعلاً حسناً؛ إذ أنه تناول بندقيته» وكاد أن يصاب 
الرعب حين لامست أصابعه الأجزاء الحديدية الباردة التي انتقلت برودتها 
إلى دمه على الفورء ثم زحف نحو كوّة متراسه» مشفوعاً بلعنات كوبيلا 
وتشجيعه . 

كان لأبي المفترض تصوّر واقعي عن الحربء على الرغم من خياله 
الرقيق الثري» بحيث كان من الصعب عليه؛ بل من المستحيل» أن يكون 
شجاعاً بفعل انعدام قرّة التخيّل. فقبل أن يدرك مجال الرماية من خلال 
كوّة المتراس المعينة له» ودون أن يبحث عن هدف مجرٌء أفرغ مخزنه 
فوق سطوح المنازل المشرفة على ميدان هيليفيوس» ببندقية مائلة وبسرعة 
وتخبّط» ليختبأ بيدين طليقتين خلف ستار الرمل. فقرأت تلك النظرة 
المتوسلة بالتساهل والتسامح» التي قذف بها يان البرّاب من مخبئه؛ 


5847 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يصفتها اعتراف بالذنب» متردداً ومكذكر معاء أقدم عليه تلميذ مقصّر في 
أداء واجباته . فحرّك كوبيلا فكه السفلي» ثم انفجر بالضحك» ؛ كمن لا 
يريد التوقف» لكنه انقطع فجأة عن القهقهة على نحو يثير الرعب» ورفس 
يان برونسكي» الذق كان رئيسا له يصتقه سكرتيرا : فى البريد» رفسه ثلاث 
أو أربع مرّات في صابونة الركبة» ثم تأهب ليركل خاصرة يان بحذائه غير 
المتناسق» لكنه تخلى عن ذلك بعد أن مشّط رصاص المدافع الرشاشة بقية 
الزجاج العلوي في غرفة الأطفال؛ جاعلا السقف يخشوشن والحذاء الطبّي 
يهبط إلى الأسفل» فألقى بنفسه وراء بندقيته وأخذ يطلق بتجهم ولهوجة 
رصاصة إثر أخرى» كما لو أنه أراد أن يعرّض الوقت الذي أضاعه مع يان 
فحن ذلك أيضا على الأشعهلاك الاجنالى للدخيرة إنان الحرت 
العالمية الثانية . 1 

ألم يلحظ البوّاب كوبيلا وجودي؟ إلا أن هذا الرجل الذي يمكن أن 
يكون متزمتاً عبوساً ومتعجرفاً يصعب الاقتراب منه» شأنه شأن معوقي 
الحرب المطالبين بالاحتفاظ بقدر من الاحترام والإجلال» تركني حرًا في 
تلك الحجرة التي عصفت في أركانها الريح والتي كان هواؤها مشبعاً 
بالرصاص . فهل ظنّ كوبيلا بأنها كانت غرفة أطفال» حيث يمكن لأوسكار 
البقاء فيها ليلعب أثناء فترات توقف الاشتباكات؟ إنني لا أعلم كم من 
الوقك أفضينا: فكدت أنا مستلقيا ب بين يان وجدار الغرفة اليسارء أي أننا 
أصبحنا معاً خلف أكياس الرمل وكرياد وراء بندقيته يطلق الرصاص نيابة 
عن شخصين. وفى حوالى الساعة العاشرة هدأت حذة الاشتباكات؛ فساد 
السكون لدرجة لخي لفطك أن أسمع طنين الذباب» وأصوات مرتفعة 
وأوامر قادمة من ميدان هيفيليوس» فأرهفت سمعي أيضاً لالتقط الهّزِيم 
العميق للمدمرات العاملة في حوض الميناء. كان اليوم من أيَامم سبتمبر 
الصاحية والمصحوبة بالغيوم» فكانت الشمس ترسم الأشياء كلها بلون 
الذهب القديم برقة وحسّاسية شديدتين» لكنها بدت ثقيلة السمع في الوقت 
ذاته. كنت أنتظر قدوم عيد ميلادي الخامس عشر في الأيّام القادمة» 
فتمنيت أن أحصل على طبل صفيح كما هو الحال كلّ عام في شهر 


ادحا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


سبتمبر» وليس أقل من طبل صفيح؛ فوجهت حواسي بثبات على طبل من 
صفيح مطليّ بالأبيض والأحمرء متنازلاً عن كنوز العالم جميعها. 

كان يان قد توقف عن الحراكء وأخذ كوبيلا يتنفس بانتظام؛ مما 
حمل أوسكار على الاعتقاد بأنه نام؛ مستغلا الفترة القصيرة لتوقف القتال 
ليأخذ قيلولة؛ لأن الناس كلّهمء بما فيهم الأبطال» يحتاجون في نهاية 
المطاف إلى قيلولة منعشة. إلا أنا وحدي» فقد كنت متيقظاً تماماًء طامعاً 
في الحصول على الصفيح بكل ما أوتي به سني من صرامة وعناد. ليس 
لأن طبل الفتى ناجالنك خطر فى ذهنى الآن» أثناء السكون المتنامى 
واتغذاة طنين كباب أنيكها الفيف انيل اااتصر ابكار ل تنافى الظيل 
لحظة واحدة أثناء الاشتباك» عندما كان ممتلئا بصخب المعركة. والآن فإن 
الفرصة عرضت نفسها علىّ» بحيث منعتني أي فكرة عن التقصير إزاءها. 

فنهض أوسكار على مهل» وتقدم بهدوء» متجنباً شظايا الزجاج» ومن 
ثم اندفع بتصميم نحو الرفٌ الخشبيّ المليء باللعب» فشيّد منصّة من 
كرسيّ أطفال ومن قطع لعبة البناءء وهو مشغول الفكرء حتى ارتفعت 
المنصة وباتت مأمونة بما يكفى لجعل أوسكار مالكاً لطبل جديد كل 
الجدّة؛ حينئذ أدركني نورك كر لد ومن ثم لحقت بي قبضة البوّاب 
البفشتة, 

فأشرت بيأس إلى الطبل القريب؛ لكن كوبيلا جذبني إلى الخلف. 
فرفعت ذراعيّ معاً مطالباً بالحصول على الصفيح» فبدا المعرّق متردداء 
وأوشك أن يمد يده ليتناوله فيجعلني سعيداً» إلا أن نيران المدافع الرشاشة 
اجتاحت في تلك اللحظة غرفة الأطفال» فانفجرت قذائف مدفعية أمام 
البوابة الرئيسية؛ فقذفني كوبيلا نحو الزاوية حيث قبع يان برونسكي» 
وارتمى» هو نفسه»؛ من جديد خلف بندقيته وحشا مخزنه مرتين في الوقت 
الذي علقت فيه عيناي بطبل الصفيح . ْ 

وحين هجع أوسكار إلى جانب يان برونسكي» خالي الوسيم الأزرق 
العينين» الذي لم يقو على رفع أنفه» اكتسحني رأس الطير الأحنف القدم 
ذو النظرة المائعة كالماء والعديم الأهداب؛ فألقى بي جانباً خلف أكياس 


50 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الرمل قبل أن يبلغ هدفه. لكن أوسكار لم ينتتحب بقدر ما ازداد غضبه. 

لقد تكائرت الديدان الضخمة العديمة العيونء البيضاء الزرقة» تبحث 
عن رمّة مجدية: فما شأني أنا ببولندا! وكيف كانت بولندا هذه؟ إن لهم 
فرسانهم؛ فعليهم أن يركبوا خيولهم! كانوا يقبلون أيدي السيدات» ثم 
يلاحظون في الأخير بأنهم لم يقبلوا الأصابع المتعبة لتلك السيّدة» إنما 
قتلوا فوهة مدفع خال من الزينة. حينئذ كانت الآنسة العذراء المنحدرة من 
صلب مصانع كروب تنفجر وتمصمص بشفتيها مقلّدةٌ أصوات المعارك 
بشكل سيئ» لكنه حقيقي» تماما مثلما يسمعها المرء في برامج الأخبار 
الأسبوعية» فتقذف بحلوى المفرقعات غير المستساغة في اتجاه بوّابة 
البريد» ساعية إلى فتح ثغرة فيهاء ففتحتهاء فأرادت أن تعضعض الردهة 
الخارجية المحيطة بالسلّم منطلقة من قاعة خدمات الزبائن المخلوعة 
الباب» حتى لا يستطيع أحد الصعود أو الهبوط بعد ذلك. أمّا أتباعها 
المنتصبون خلف المدافع الرشاشة» أو في عربات الاستطلاع الأنيقة 
المدرعة التي حملت أسماء بديعة» مخطوطة بالفرشاة» مثل «أوستمارك» 
وازوديتنلاند»؛ فإنهم لم يكتفوا بذلك» فانطلقوا بجعجعة؛ مدرعين 
ومستطلعين ذهابا وإيابا قبالة البريد: سيدتان في عمر الشباب مولعتان 
بالتعليم والتدريب رغبتا في تفقّد قصرء لكن القصر كان مقفلا. فأدّى ذلك 
إلى التصعيد من لهفة وقلق الفاتنتين المدللتين المعتادتين على الدخول أينما 
حلتاء وأجبرهما على إلقاء نظرات رمادية الزرقة خارقة» ومن العيار ذاته» 
على مخادع القصر القابلة للرؤية» لكي يشعر أمناء القصر بالسخونة 
والبرودة والضيق . 

وحالما تحركت إحدى عربتي الاستطلاع المدرعة في اتجاه البريد - 
أظنّ أنها كانت «أوستمارك» - قادمة من جادة رترء دفع يان؛ خالي الهامد 
منذ فترة محددة» دفع بساقه اليمنى نحو كوّة الرماية» ثم رفعها إلى الأعلى 
على أمل أن تلمحها عربة استطلاع. فتطلق عليها النار؛ أو تشفق عليها 
رصاصة طائشة؛ فتمس بطتها أو كعبهاء وتصيبها بجرح يتيح للجندي 
الانسحاب الأعرج المبالغ فيه. بدا وضع ساقه هذا متعباً على المدى 


36> 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الطويل» فصار يتخلى عن رفعها بين الحين والآخر. أخيراً عندما انقلب 
على ظهرهء وأسند باطن ركبته بيديه معأء وجد ما يكفي من القوّة لعرض 
بطة الساق وكعبها بصورة متواصلة. وبأمل أكبر في النجاحء أمام القذائف 
المتنائرة أو الدقيقة التصويب. 

ومع تفهمي ليان آنذاك. والذي لم يزل قائماً إلى اليوم» لكنني أبديت 
تفهماً أرضا لما أظيره كويلة هن خضي يعدما رآ رئيسة فى تلك البحالة 
اليائسة المزرية .. فالتفض البوّاب قافرا إلى الأعلى وفى القفزة الانية شرف 
غلبثان بل أصيع قزقنا باشرة» :تابنك لابب يان وزمعها تيان سه 
ونهض بالصرّة» ثم طرحها أرضاًء وقبض عليها ثانية» فترك التلابيب تنهار 
من علوء وأخذ يوجه الضربات يمنياً وشمالآء متأهباً بيمناه» متخلياً عن 
ضراك اكاذركة ببيناء وهو سحلي .واراة أن نوضة اللكية الكيرى فيفتاء 
ويسراه معاء فأرسلهما لكي تصيبا يان برونسكي» أبي المفترضء» إصابة 
بليغة - فحدث في تلك اللحظة ارتطام وصليل» مثل ارتطام الملائكة 
إجلالاً لله أو مثلما يغني الأثِيدُ في المذياع» فلم يصب برونسكي» بل 
أصاب كوبيلا؛ إذ أن قذيفة ما سمحت لنفسها بتذوق متعة الاحتفال» 
فضحك الآجر حتى استحال إلى حطام واستحالت الشظايا إلى تراب 
والجصّ إلى طحين» فعثر الخشب على الساطورء. وأخذت غرفة الأطفال 
الغريبة تحجل كلها على قدم واحدة؛ ثم تفتقت الدمى» وجمح الحصان 
الهرازء ممنيا نفسه بفارس لكي يسقطه؛ فانكشفت عيوب التصميمات في 
لعبة قطع البناء» والحيلت كتانب الرتاحين البوليدية أركانت الغرفة الأريعة في 
وقت واحد - أخيراً انقلب حامل الرفوف ومعه لعب الأطفال: فصارت 
لعبة النواقيس تقرع أجراس الفِضحء وصرخت آلة الأكورديون» ونفخ 
البوق لشخص ما؛ لقد أصدر كل شيء نغمة» كما الجوقة المتمرنة: 
فصارت تزعق وتصهل وتقرع وترتطم ببعضهاء. متصدعة تصرٌ وتعج 
بالصياح والصخب فطمرت أسساً في أقصى الأعماق. أمّا أنا الذي كنت 
متواجداً لحظة الانفجار في زاوية الحماية الملائكية لغرفة الأطفال» مثلما 
يليق بطفل ذي ثلاثة أعوام» فقد سقط علي الطبل» وصار من نصيبي - لم 


5255 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


يصب طبل أوسكار الجديد إلا بخدوش بسيطة في الطلاء» دون أن يحدث 
فيه ثقب واحد. ١‏ 

وحين رفعت بصري عن ملكيتي المكتسبة توآ التي تدحرجت مباشرة 
أمام قدميّ وجدت نفسي مجبراً على مساعدة يان برونسكي . كان من 
الصعب عليه أن يزيح عنه جسد البوّاب الثقيل. في البدء ظننت أن يان قد 
أصيب أيضاً؛ إذ أنه كان يئن وينشج بصورة طبيعية كما هو النشيج. أخيراً 
عندما زحزحنا كوبيلا إلى الجانب» كوبيلا الذي كان يتأوه بصورة طبيعية 
كذلك» اتضح بأن الأضرار التي لحقت بجسد يان كانت طفيفة للغاية» فقد 
خدشت شظايا الزجاج خده الأيمن وظاهر يده ليس إلا. فتأكدت من خلال 
مقارنة عاجلة بأن دم أبي المفترض كان فاتحا أكثر من دم البرّاب الذي 
اصطبغ سرواله على حد ارتفاع الفخذ بلون قان ريّان. وكان من الصعب 
التعرف على من تسبب في تمزيق سترة يان الرمادية وقلبها على بطانتهاء 
فهل كان كوبيلا أم القذيفة؟ فقد تفتقت بصورة بشعة من ناحية الكتفين» 
فبرزت بطانتها وتحررت أزرارها وتقطعت خيوطها وانقلبت جيوبها. 

إنني أطلب الرفق بياني المسكين والتساهل معه» لأنه جمّع من جديد 
كلّ ما أفرغته العاصفة القاسية من جيوبه قبل أن يخرج كوبيلا بمعونتي من 
غرفة الأطفال؛ فعثر على مشطه وعلى صور أحبائه -كانت من ضمنها 
صورة نصفية لأمّي المسكينة - ومحفظة نقوده التي لم ثفتح عندما تبعثئرت 
أشياؤه. بدا متعبًء بل خطيراً جداً بالنسبة له» خاصةً وأن أكياس الرمال قد 
عُصف بها جزئياء أن يقوم بمفرده بتجميع ورق اللعب المتناثر في أرجاء 
الغرفة؛ لأنه أراد أن يحصل على الأوراق الاثنتين والثلائين كلهاء وحين 
لم يعثر على الورقة الثانية والثلائين شعر بالغمٌء لكن أوسكار وجدها 
مختبئة بين حجرتين للدمى مخربتين وناولها له ابتسم على الرغم من أنها 
كانت سبعة «ماجة». 

وبعدما سحبنا كوبيلا من غرفة الأطفال وأوصلناه أخيراً إلى الممر 
وجد البوّاب المعوّق القدرة على النطق ببعض المفردات المفهومة من قبل 
يان» فسأل بقلق: «هل أن كل شيء على ما يرام؟» فقبض على سرواله بين 


/ا؟ ؟ 
1_طماع1© :117 ]آنلا 1 


ساقيه الشائختين» فامتلأت قبضته وهر رأسه بالإيجاب. فكم كنا فرحين 
كلّنا: فاستطاع كوبيلا الاحتفاظ بعزّة نفسه وكرامته» وعثر يان على أوراقه 
الاثنتين والثلاثين» بما فيها الورقة سبعة ماجةء وحصل أوسكار على طبل 
جديد صار يرتطم بركبته في كل خطوة أثناء قيام يان وشخص آخر سمّاه 
يان فكتور بحمل البوّاب الذي أنهكه النزيف ونقله إلى الطابق الأسفل 


حيث مخزن الرسائل . 


5448 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بيت الورق 


ساعدنا «فكتور فيلون» فى نقل البرّاب الذي كان يزداد ثقلاً كلّما ازداد 
تإيقه» تان فكتور القضير النظر اتماماً قد وشيم في ذلك النباعة اتظارئة' فلم 
يتعثر بدرجات السلّم الحجرية. لقد اشتغل آنذاك موزعاً للحوالات 
النقدية» بحيث بدا وقع هذه المهنة غريباً بالنسبة لشخص يعاني من قصر 
النظر. واليوم فإنني أطلق على فكتور لقب فكتور المسكين. ومثلما 
تحولت أي إلى أمّي المسكينة بعد رحلة عائلية إلى سدّة المرفأء تحوّل 
فكتور إلى فكتور المسكين المنزوع النظارة بعدما فقد نطّارته - لكن هناك 
أسباب أخرى لعبت دوراً أيضاً في الأمر. 

وكنت أسأل صديقي فيتلار أثناء الأيام المخصصة للزيارة: «هل رأيت 
فكتور المسكين مرّة أخرى؟» بيد أننا فقدنا آثار فكتور فيلون منذ رحلة 
الترام من فلنغيرن إلى غيرسهايم -سوف أتحدث عن تلك الرحلة فيما 
بعد. ولم يبقى سوى الأمل بأن لا يقبض عليه مطاردوه وأن يعثر على 
نظارته أو على نظارة أخرى مناسبة له وأن يسعد الناس بتوزيع الحوالات 
النقدية مثلما كان يفعل زماناًء حتى لو لم يكن في خدمة البريد البولندي» 
بل في خدمة البريد الاتحادي» بنظره القصير ونظارته. قال يان الذي 
أمسك بكوبيلا من جانبه اليسار وهو يلهث: «أليس هذا أمر فظيع؟؛ 
فأعرب فكتور المحمّل بجهة البوّاب اليمنى عن قلقة: «كيف سينتهي 
الوضع إذا لم يأت الإنجليز والفرنسيون؟ ١‏ 

«لكنهم سيأتون لا محالة! لقد صرّح روج-سمغلي في الإذاعة يوم 
أمس : (لدينا تعهّد بأن فرنسا ستقف وقفة رجل واحد إذا نشبت الحرب!)» 


1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فوجد يان صعوبة في الحفاظ على توازنه حتى نهاية الجملة؛ إذ أن مرأى 
ا ا التعهد 
البولندي-الفرنسي موضع الشكُ» بأنه سينزف دمه كله قبل 0 
هبّة رجل واحدء فتكتسح الحزام الأمني على الحدود الألمانية الغربية. 
"إنهم بالتأكيد في الطريق الآن. وإن أسطول إنجلترا يمخر عباب بحر 
البلطيق!» 

كان فكتور فيلون يحب الألفاظ الفخمة البليغة» حين كان جانبه 
الأبدة بتكملا يمه الزاب العضات: يطرحا يزه موزتاحة لين كما 
لو أنه وقف على منصة مسرحء تاركاً أصابعه الخمسة تتكلم فوق السلّم: 
«هلمّواء هلمُوا أيها البريطانيون المتبجحون!» 

وبينما كان الرجلان يواصلان على مهل تقييم العلاقات البولندية- 
الفرنسية-الإنجليزية؛ كان أوسكار يقلّب أفكاره في ذهنه كتب غريتشن 
شفلر بحثاً عن تلك التفاصيل المتعلقة بذلك. فقد جاء في تاريخ كايزر عن 
مدينة دانسغ : «إبّانَ الحرب الألمانية-الفرنسية من العام 1817/1-1417٠0‏ 
توغلت أربع سفن حربية فرنسية إلى خليج دانسغ في عصر الواحد 
والعشرين من شهر أغسطس في العام 2181٠١‏ ثم تقاطعت في المرسى 
ووجهت فوهات مدافعها نحو الميناء والمدينة» غير أن الطرّاد «نمفه» الذي 
كان تحت قيادة القبطان فايكلمان تمكن في الليلة اللاحقة من إجبار قطع 
الأسطول الراسية في خليج بوتسغ الضحل المياه على الانسحاب.' 

وقبل أن نصل مخزن الرسائل في الطابق الأول اهتديت إلى رأى 
الوقائع فيما بعد وهو: أن الأسطول البريطاني كان راسياً محمياً أو غير 
محمىّ عند لسان بحريّ في اسكتلندا والجيش الفرنسى الجرّار كان مجتمعا 
للغذاء» معدا بأنه نقذ مياق الفعيد البولتدى"الفرتسى غير بضبعة دورياك 
استطلاعية عسكرية في خط-ماجنو الدفاعي وذلك قبل فترة وجيزة على 
اجتياح البريد البولندي وأراضي بولندا المحييطة قيض علينا الدكتور 
ميشون أمام المخزن والمستوصف المؤقت, وكان مازال يعتمر خوذته 
الفولاذية» تارك طرف المنديل الأنيق يطل من جيب سترته عند الصدرء 


6.6 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبرفقته مبعوث وارشو المسمى كونراد. ومباشرة دب الذعر بيان برونسكي 
الذي تظاهر بشتى أنواع الإصابات وبجميع ضروب التمثيل. حينما قدم 
فكتور فيلون غير الجريح والمسلّح بنظارته نفسه باعتباره رامياً يمكن 
الاستفادة منه» سمح لنا بدخول القاعة الخالية من النوافذ والمضاءة 
بالشموع على نحو شحيح؛ لأن محطة توليد الطاقة لمدينة دانسغ لم تكن 
مستعدة لتزويد البريد البولندي بالكهرباء. 

أصدر الدكتور ميشون الذي لم يكن مقتنعاً بإصابات يان» ولم يكن 
قد وضعه بالضرورة في حسابه باعتباره مقاتلا صالحا للدفاع عن البريد» 
أصدر أمراً لسكرتير البريد بالعمل كرجل إسعاف والاعتناء بالجريح وبي 
أيضاً» بعدما ربت على رأسي بيأس مثلما شعرت» وأن يضعني نصب عينيه 
لثلا أتورط في الاشتباكات . 

ثم انفجرت قذيفة مدفع على حد ارتفاع قاعة خدمات الزبائن» فصرنا 
نختضٌ مثل زهر النرد. فارتمى ميشون ذو الخوذة الفولاذية وكونراد 
المبعوث الرسمي لوارشو وموزّع الحوالات النقدية فيلون في الاتجاه 
المعاكس لمواضعهم القتالية. ووجدنا أنا ويان أنفسنا مع سبعة أو ثمانية من 
الجرحى في قاعة مقفلة» لا يصل إليها ضجيج القتال. حتى الشموع لم 
يتراقص لهبها بشكل غير طبيعيَ حين أظهرت المدافع جديتها. كان الجو 
هادئاً تماماً على الرغم من كثرة المتأوهين أو بسببهم. لف يان فخذ كوبيلا 
بشرائط الشراشف الممزقة وقد فعل ذلك بلهوجة وعلى نحو بدئي خال من 
المهارة» ثم فرغ للاعتناء بنفسه؛ غير أن وجنة الخال وظاهر يده توقفا عن 
النزيف. فصمتت الجروح متيبسة» لكنها كانت مؤلمة» فصارت تغذي 
مخاوف يان؛ تلك المخاوف التي لم تجد لها منفذاً في تلك القاعة 
الخفيضة الخانقة. وأخذ يفتش جيوبه باضطراب» فعثر على اللعبة الكاملة 
العدّة والعدد: لعبة «سكات»»؛ فسنعلب سكات إلى أن ينهار خط الدفاع. 

خلطت الأوراق الإثنتان والثلائون» وقُطعتء ثم وُزعت على 
الحاضرين. وبما أن سلال البريد كانت محجوزة كلها من قبل» فقد أسندنا 
كوبيلا إلى سلّة ثم ربطناها أخيراً بحمّالات سروال جريح آخر؛ لأنه كان 


”7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


يميل بين الحين والآخر إلى الانهيار» وجعلناه في وضع لا يسمح له بإسقاط 
ورقه؛ إذ أننا كنا بحاجة إلى كوبيلا. فما الذي كنّا سنفعله بدون الرجل 
الثالث الضروري للعبة سكات؟ كان من الصعب على أولئك الراقدين في 
سلال البريد التفريق بين الأسود والأحمرء فلم يرغبوا في أن يلعبوا 
السكات. في الواقع لم يكن كوبيلا راغباً في لعب السكات؛ بل أراد 
الرقاد. لقد أراد البوّاب أن يترك الأمور تجري على هواها. كما أنه كان 
يوقي فن: رؤرة أعمال التتريقى الأخيرة وهو كنرف الذيقة نكا عن 
الغاتين عن الرموقن بيدا أننا لم تسيم له يإتفاة هته الهالة القشرية: 
فربطناه» واجبرنها على أن يلعب دور الرجل الثالث» ولعبت أنا دور الرجل 
الثاني -فلم يتعجب أحد من أن هذا القزم يستطيع أن يلعب السكات. 

نعم» عندما منحت صوتي لغة الكبار للمرّة الأولى وقلت «ثمانية 
عشراء رمقني يان وهو يرفع رأسه من الورق بنظرة قصيرة» لكنها كانت 
نظرة زرقاء على نحو لا يوصفء ثم هر رأسه استجابة» فأضفت 
«عشرون؟» فأجاب يا بلا تردد «أرفع أكثر.» قلت: «اثنان. والثلاثة؟ أربعة 
وعشرون؟»2 فتأسف يان: «اكتفيت.2 وكوبيلا؟ لقد أوشك أن يخرّ على 
الأرض على الرغم من الحمّالات. لكننا رفعناه إلى الأعلى» وانتظرنا 
الصخب الذي ستقدمه قذيفة مدفعية في الخارج» بعيدة عن غرفة لعبناء 
حتى تمكن يان من الهمس خلال الهدوء الذي عم فور ذلك: «كوبيلاء 
أربعة وعشرون! ألم تسمع برهان الصبي؟! 

لم أكن أعلم من أيّ أغوار سحيقة طفا البوّاب» فبدا كما لو أنه رفع 
أجفانه برافعة لولبية. وأخيراً شرد بصره المندّى فى اتجاه الأوراق العشر 
التي دسها يان في يده بسرّية وبلا أي أثر للدسيسة. . 

قال كوبيلا «اكتفيت.2 ذلك يعني أننا قرأنا العبارة من شفتيه اللتين 
جفتا أكثر من قدرتهما على الكلام. 

فقذفت بورقة «سنك؛ عادية. ولكي يقدم يان الذي نافس متحديا على 
أوّل ابَضْرَة» فقد كان عليه أن يزعق بالبوّاب» ويلكزه في الخاصِرّة بفظاظة 
انطوت مع ذلك على صفاء نيّة» لكي يتمالك نفسه» وأن لا ينسى 


ودين 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


«الأكل»» لأنني كنت انتزعت منهما أوراق «الطرنيب» كلّهاء وضحيّت 
يملك سنكء أكله يان بماجة شاب؛ ولأنني احتفظت بورقة واحدة من نوع 
الديناري» فقد رجعت إلى اللعب». فأكلت آس يان الديناري» وسحبت منه 
العشرة بالكوبا ولد - رمى كوبيلا تسعة ديناري» فأصبحت واثقاً تمامأ من 
الفوز عبر ناي الكوبا الذي كان في حوزتي: بلعبة اثنين ضد ثلاثة القائمة 
على أكثر من ثلاثين نقطة وأربع ودياك سار ؛ ثبي عشر فلسال». 
وبعدما تمكن كوبيلا الذي أمتلك الولدين معا من أن يسحب منّي الشاب 
الديناري بالولد السنك في الجولة الثانية - كنت أقدمت لحظتها على 
مجازفة كبيرة في نزلة حاسمة- دبّت الحيوية في اللعب. إثر ذلك نزل 
البوّاب الذي بدا كالملسوع وبسبب الأكل؛ نزل بآس» فتوجب على أن 
أبصرٌ في اللعب» ثم رمى يان بالعشرة التي التهمها كوبيلا على الفور, 
فسحب الملك. فتوجب عليّ أن آكل» لكنني لم أفعل ذلك» إنما قذفت 
بثمانية سنك» فبذل يان قصارى جهده. ليلتحق باللعب من خلال العشرة 
كوباء فأكلتهاء ويا للعنة؛ لقد التهم كوبيلا فوقها مباشرة بكوبا ولد التي 
نسيتها أو ظننتها عند يان» بيد أنها كانت عند كوبيلاء فأكل مباشرة وأخذ 
يصهل» ثم ألحق بها ورقة الماجة الولد بطبيعة الحال» فتوجب على أن 
أنزل» بينما كان يان يحاول اللحاق وسع جهده؛ أخيراً أتحفوني بورقة 
كوباء بيد أنها لم تنفع شيئاً: أحصيت اثنتين وخمسين نقطة: نزلة حاسمة 
بلا تكرار ثلاث مرّات نزلة كبرى تساوي ستين أضاعت مائة وعشرين أو 
ثلاثين فلسا”**". فنقّدني يان «غولدنين» في قطع نقد صغيرة» فسددت 
الحساب؛ لكن كوبيلاء انهار ثانية على الرغم من أنه كسب اللعب» فلم 
يدعني أدفع له النقد» وحتى القذيفة التي انفجرت عند ردهة السلم في تلك 
اللحظة؛ لم تثر اهتمام البرّاب قطء مع أنها انفجرت عند ردهة سلّمه التي 
كان يغسلها ويمسحها منذ أعوام دون أن يشعر بالكلل . 





)2# وضع غراس هنا 47 حرفاً في كلمة واحدة. 
(#*) كلمة واحدة من ثمانية وسيعين حرفاً. 


يدن 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فجأة اجتاح الخوف يان حين ارتجٌ باب قاعة الرسائل» حيث جلسناء 
وبات لهب الشمع لا يعرف ما الذي حل به وفي أي اتجاه عليه أن يلقي 
بنفسه. لكن عندما فرقعت قذيفة المدفعية الأخرى عند الواجهة الخارجية 
البعيدة» بدا يان مخبولاً وهو يخلط الورق» فغلط في التوزيع مرتين» بيد 
أنني آثرت الصمت. طالما كانوا يطلقون النيران» فإن يان لم يكن مستعداً 
لتقبّل التشجيع أو المواساة» فأصبح مرهف الأعصاب من فرط التوتر 
يأكل خطأء وينسى الفتح أو النزول» وينصت إلى الخارج بأذنيه الصغيرتين 
المكتنزتين حسيّاً. في حين كنا ننتظر بصبر نافد عودته إلى ميدان اللعب. 
وبينما كان يان يواصل دعم اللعب بلا تركيز» فإن كوبيلا كان حاضرا 
دائماًء هذا إذا لم يكن منهاراً للتو» أو محتاجاً إلى أحد يسنده من 
الجانب. لم يكن لعبه في الواقع سيئاً أبداً مثلما توقعنا منه. فكان لا ينهار 
إلا بعد أن يكسب الجولة» أو يخسّرنا نزلة كبرى بتحدّء فبدا حاضراً من 
أجل اللعب وحده. وإذا ما كنا نحسب ونعيد الحساب؛ فإنه كان يتعلق 
متكرفا بجيالات السروال المستعارة» ولم يسمح إلا لعقدة حنجرته. 
المرتجفة بشكل مخيف» أن تفصح عن بقاء البوّاب كوبيلا على قيد الحياة. 

كان أوسكار قد شعر بالإرهاق من لعبة الورق الثلاثئية هذه. ليس 
بسبب الأصوات والانفجارات الناجمة عن محاصرة البريد أو الدفاع عنهء 
تلك الأصوات التي أثقلت على أعصابي بإفراط» إنما بفعل انهيار كساء 
الجدران المباغت المبتكر والمحدد زمنيا مثلما تراءى لى. وإذا كنت إلى 
اليوم لم أكشف نفسي على حقيقتهاء بلا تزويق» إلا أمام المعلّم بيبرا 
وعقيلته السائرة في نومها؛ فإنني قدمت نفسي الآن أمام خالي وأبي 
المفترض» وأمام البوّاب المعوّق» أي أمام الناس الذين لا يمكن أن يكونوا 
شهوداً علىٌ في أي حال من الأحوال» قدمت نفسي حسبما ورد في شهادة 
الميلاد باعتباري مراهقاً ذا أربعة عشر ربيعاً» ويلعب الورق بطريقة لا تخلو 
من مهارة» وإن بدا متجازفاً. لقد أسفرت هذه الجهود المرهقة العشسجية 
مع إرادتي» وغير المتناسبة مع قياساتي القزمية» عن آلام حادة في الرأس 
والمفاصل بعد حوالي ساعة من لعبة الورق. 


م 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


كان أوسكار راغباً في التوقف عن اللعب» وقد أتيح له ما يكفي من 
الفرص للفرار في الفترة الفاصلة ما بين انفجار قذيفتين متواليتين في وقت 
قصيرء بحيث أن المبنى كان يرتج برمته لوقعهماء لو لم يأمرني الشعور 
بالمسؤولية» الذي بدا مجهولا بالنسبة لي حتى تلك الساعة» بالبقاء 
لمواجهة خوف أبي المفترض بالدواء الناجع الوحيد إلا وهو الاستمرار في 
لعب «السكات؛. 

لقد واصلنا اللعب» مانعين كوبيلا عن الموث. فلم يبلغ به الأمر إلى 
ذلك الحد. إذ أنني كنت حريصاً على أن يبقى الورق في متناول اليد. 
بعدما ما سقطت * شموع الشحم إثر انفجار عند ردهة السلّمء واستسلم 
اللهب» كنت حاضر الذهن الذي ففعلت ما يجب فعله. إذ انتشلت علبة 
الكبريت من جيب يان» فسحبت معها سجائره ذات عقب مذهّب» وجلبت 
الضوء إلى العالم ثانية؛ فأشعلت ليان سيجارة ريغاتا المهدئة. وأقحمت 
اللهب الصغير على العتمة ومضةً إثر أخرى» قبل أن ينسل كوبيلا مستغلا 
الظلام . 

ثبت أوسكار شمعتين على طبله الجديد» ثم وضع السجائر في متناول 
اليدء إلا أنه نفسه أعرض عن التبغ» فصار يقدم إلى يان سيجارة بين آونة 
وأخرى», ثم حشر وأحدة بين شفتي كوبيلا الملتويتين» فتحسن الوضع 
قليلاء وانتعش اللعب» وصار أوسكار يقدم لهما التبغ التسلية والعزاء 
ويهدئهماء لكنه لم يحل دون خسران يان اللعب جولة بعد جولة. كان يان 
ينضح بالعرق ويدغدغ شفته العليا بطرف لسانه كلّما ركرٌ على اللعب. كان 
متأججاً لدرجة أنه دعاني في نوبة حماس ألفريد أو ماتسرات» ثم حسب 
كوبيلا أمّي المسكينة التي شاطرته اللعب. وعندما صرخ أحد ما في الممر 
معلناً عن أن: اكونراد قد أصيب» رمقني بنظرة مايه بالحجاب لم وان 
لأرجوك يا ألفريد أغلق المذياع. لأن أحداً لم يعد قادراً حتى على سماع 
كلامه!» وشعر يان المسكين بالانزعاج حقَّاً عندما تح الباب على حين غرّة 
فسحب عبره كونراد النخائر القوى» فقال باحتجاج: «أغلقوا الباب» حيث 
يأتي تيّار الهواء!». فعلاً كان هناك تيّار هوائيّ» فارتعش لعب الشموع 


م.م 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بترددء ولم يهدأ إلا بعد أن كوّم الرجال كونراد في زاوية ماء ثم أغلقوا 
الباب خلفهم. بدا مظهرناء نحن الثلاثة» مليئا بالمخاطرة» إذ كان ضوء 
الشموع يغمرنا من الأسفل» ويمنحنا مظهر السحرة القادرين على كل 
شيء. أخذ كوبيلا يزايد بورقة كوبا وقال سبعة وعشرون ثم ثلاثون» كلا 
لم يقل بل غَرْغَرَ تاركاً في الوقت نفسه عينيه تزوغان» وثمة شيء ما 
استقر في كتفه اليمنى وأراد الخروج» فاهترٌء متظاهرا بالحياة على نحو 
عابث تماماًء ثم همد أخيراء بيد أنه جعل كوبيلا يتداعى إلى الأمام» 
فحرّك معه سلة الغسيل المليئة بالرسائل ومعها الرجل الميّت المنزوع 
الحمّالات» لكن يان بادر بحركة وخز واحدة» معلناً عن استعداده الكامل 
إلى إيقاف كوبيلا وسلّة الغسيل معاًء وحين أعيق كوبيلا مرّة ثانية من أن 
يجأر في الأخير «كوبا يد؛ فيهمس يان «أتحدى!»؛ حتى يعصر كوبيلا نفسه 
على القول «جواب! أدرك أوسكار بأن الدفاع عن البريد البولندي قد كُتب 
له النجاح» وأن أولنك الذي شتوا للعو هجوماً فأشعلوا فثيل الحرب 
خسروها حال اندلاعها؛ حتى لو تمكنوا في مجرى الحرب من احتلال 
بلاد التّبت والآسكا والجزر الشرقية والقدس. 

لكن المصيبة هو أن يان لم يستطع أن يلعب اللعبة الحاسمة التي كان 
سيكسبها بكل ثقة فينزل بأكثر من ثلاثين نقطة بأربع أوراق. وأخذ يان 
يعزف النغمة ذاتهاء فصار يناديني الآن بآغنس وحسب كوبيلا غريمه 
ماتسرات» مسحب يكلف ونه ديتارى ولد بقلت :أن اتظاهر أماليه 
باعتباري أمّي المسكينة وليس ماتسرات -» والحق بها كوبا ولد - إنني لا 
أحب» ولا بأي حال من الأحوال» أن أستبدل بماتسرات -» فانتظر يان 
بنفاد صبر إلى أن نزل ماتسرات المزعوم الذي كان في الواقع بوَاباً معوقاً 
يدعى كوبيلا؛ فاستغرق ذلك وقتاً طويلاء لكن يان طرق الأرضية الخشبية 
بآس كوباء دون أن يفقه شيئاً أو لم يستطع أن يفقه ما حدثء بل لم يكن 
له أن يفقه شيئاً على وجه صحيح.ء فكان أزرق العينين على الدوام» 
وينضح بعطر الكولونياء فلم يفهم أو يدرك لماذا أسقط كوبيلا الأوراق 
كلّها من يده» ثم قلب سلّة الغسيل مع الرسائل والرجل الميّت معهاء إلى 


حكن 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


أن انقلب الميّت وفوقه كتلةً من الرسائل وأخيراً السلّة المضفورة من 
الخيزران بعناية» فوزعت علينا سيلاً من الرسائل» كما لو أننا كنا المرسل 
إليهمء كما لو أنه توجب علينا أن نلقى بالورق إلى الجانب فنقرأ خطابات 
التوبيخ ثم نجمع الطوابع. لكن يان لم يرغب في القراءة ولا في الجمع» 
فهو قد جمّع الكثير في طفولته» وأراد أن يلعب» ويخوض اللعبة الحاسمة 
إلى النهاية» أراد أن يكسب وينتصر ليس إلا. فقوّم كوبيلا وأوقف السلة 
على عجلاتهاء لكنه ترك الميّت ملقى» ولم يدفن الرسائل في موضعها 
ثانيةً» فأثقل السلّة على نحو واهء ومع ذلك بانت عليه الدهشة عندما عجز 
كوبيلا المعلّق بالسلّة الخفيفة الحركة عن البرهنة على وجود لحم كاف 
للجلوس فصار ينحرف باستمرار» حتى زعق به يان: «الفريد؛ أرجوك؛, لا 
تفسد علينا اللعبة» هل تسمعني؟ فقط هذه اللّعيبة القصيرة ثم نذهب إلى 
البيت» فاسمعني!» 

ونهض أوسكار متعباًء لكنه تغلب على آلام المفاصل والرأس 
المتزايدة» ووضع يديه المطبلتين الصلبتين الصغيرتين على كتفي يان 
برونسكي وأجبر نفسه على التكلّم بصوت خافت لكنه شديد الإلحاح: 
«اتركه يا بابا. إنه ميّت وما يقدر يلعب بعد. إذا تريد يمكن نلعب ستة 
وستين . 1 

أخلى يان» الذي ناديته بأبي للتوء سبيل ما بقي من لحم البوّاب» 
ا طافحة بالزرقة» ثم أجهش في البكاء لاء لا لا 

..فأخذت أتحسسه بحنوء بيد أنه واصل النفي. فقبّلته قبلات ذات 
معنى ١‏ غير أنه لم يفكر إلا باللعبة الحاسمة التي يجب أن تخاض حتى 
النهاية. فأخذ يشكو لي بصفتي أمّي المسكينة: ل 0 
كنت سأحملها معي بالتأكيد إلى البيت.» وأتقنت -أنا ابنه- الدورء فأيدته 
وأقسمت له بأنه كان سيكسب» ٠‏ بل أنه كسب في الواقع» وما عليه إلا أن 
يؤمن بذلك ويصغي إلى آغنس. لكن يان لم يقتنع بي ولا بأمّي» بل صار 
ينتحب بصوت عال ويتظلّم شاكياء ثم هبط إلى نوع من الوأوأة غير 
المنعُمة» وصار يستل روق اللعب من تحت جبل كوبيلا الذي أصابه 


ينانا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الفتور» ناكشاً ما بين ساقي البرّاب» فجادت كتلة الرسائل بوابل منهاء لكن 
يان لم يهدأ له بال إلى أن جمع الأوراق الاثنتين والثلاثين كلّهاء ونظفها 
من العصير اللزج الذي نرّ من سروال كوبيلاء وبذل جهداً مع كل ورقة 
بمفردهاء ثم خلط بغية اللعب وهم بالتوزيع ‏ فأدرك في آخر المطاف». 
ومن خلف أديم جبينه المهذب المظهر» غير المنخفض» الناعم الذي لا 
يخلو من الشقافية» بأن لا رجل ثالثاً في هذا العالم يمكن أن يشاطره لعبة 
السكات . 
حينئذ ساد الصمت في قاعة الرسائل» أمّا في الخارج فقد تبرّع المرء 
بدقيقة حداد مديدة من أجل زميل السكات والرجل الثالث. فتراءى 
لأوسكار كما لو أن الباب مُتح بهدوء؛ فتطلع عبر الأكتاف. متوقعاً حضور 
كل ما هو لا أرضيء» فأبصر وجه فكتور فيلون الغريب الفارغ» الكفيف 
البصر. «لقد فقدت نظارتى» يا يان. هل أنت بعدك موجود هنا؟ إننا نريد 
أن نهرب. فقدني» لأني أضعت نظّارتي!» 
ربما تصوّر فكتور المسكين أنه ضل طريقه إلى هذه القاعة»؛ فسحب 
وجهه العديم النظارة» إذ أنه لم يحظ بإجابة ولا بنظارته ولا بذراع تقوده 
ثم أغلق الباب» فسمعت برهةً قصيرة كيف كان فكتور يتلمس طريقه في 
العو وهو ينا الضمات لبور م لكن ما هذه الدعابة التي دارت في 
رأس يان فجعلته يستغرق في الضحك» بهدوء في البدء وفي ظل الدموع, 
ومن ثُمّ بصوت فرح مرتفع» لاعباً بلسانه الطري الوردي المدبب من أجل 
كل ما هو ناعم ورقيق» قاذفاً بالورق إلى الأعلى» وهناك؛ حين عم سكون 
الرياح وسكون الآحاد في الحجرة التي احتوت الرجال الصامتين 
والرسائل» بدأ يشيد بيتاً من الورق حسّاساًء يشيده بحركات متأنية رزينة 
وأنفاس مكتومة: فتشكل الأساس من سبعة كوبا وسنك بنت» وسقفهما 
بالديناري والملك. وأقام إلى جانب الأساس الأول الرصين أساساً آخر من 
تسعة كوبا وماجة آس» وربط الأساسين بالأولاد والعشرات القائمة عموديا 
وبالبئنات و«الآسات» على نحو عرضى» بحيث أن كل شىء صار يسند 
بعغضلة البعفن: حيتئذ قرر أن يضيف طابقاً ثالثاً على الطابق الثاني» ففعل 


م4 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ذلك بيدين مليئتين بالعزيمة اللتين لابد أن تكون أمّي المسكينة قد تعرفت 
عليهماء راضخة لطقوس شبيهة بهذه. وعندما أسند كوبا بنت على الملك 
ذي القلب الأحمر؛ فإن البناية لم تتقوضء كلا؛ إنما انتصبت شامخة» 
سريعة التأئرء تتنفس بخقّة في تلك القاعة المليئة بالقتلى المقطوعي 
الأنفاس والأحياء الذين حبسوا أنفاسهم؛. فسمحت لنا أن نطوي أيديناء 
ودفعت بأوسكارء المتشككء» الذي تفخص بيت الورق حسب قواعد البناء 
جميعها إلى تسيان الدكعان الكاوى والننانة الى لات عبر فجوات بات 
تاعة الرسائل بالكضاء والغراة» مود انطياعا آذ هذه القاعة الفشيرة) 
وبداخلها بيت الورق» كانت تتاخم 0 ناا ل ناف 

لقد استخدموا قاذفات اللهب» متجنبين الهجوم الأمامي» مصممين 
على تطهير المكان من آخر المدافعين بعد طروء إلى درجة أن الدكتور 
ميشون اضطر في الأخير إلى خلع خوذته الفولاذية» وهرع نحو شرشف 
أبيض . ولأنه لم يكتف بذلك» فقد تناول منديل سترته وصار يلرّح بهماء 
معلنا التنازل عن البريد البولندي. فغادر مبنى البريد عبر المخرج الجانبي 
على جنهة اليساز ثلاثون رجلا ملفوحيق بحرارة الدختان» وباعين نضفت 
عمياء»؛ شابكين أيديهم على مؤخرة رؤوسهم. فاصطفوا أمام جدار الباحة» 
منتظرين رجال الحرس القومى المتقدمين ببطء. فيما بعد قيل إن ثلاثة أ 
اريعة وجال تدكدوا مع القرار ألناء فترة اصطفاف المدافعين فى الباحة 
عندما كان المهاجمون في الطريق إليهم: هربوا عبر موقف سيارات البريد» 
مرورا بموقف سيارات الشرطة المحاذي لكراج البريد»ء حتى دخلوا البيوت 
الفارغة في حيّ ريهمء البيوت الفارغة لأنها أخليت من أهلها. فعثروا هناك 
على ثياب» بل عثروا على شارات الحزب ونياشينه» فاغتسلواء وهذبوا 
مظهرهم الخارجيء ثم تسللوا واحداً تلو الآخر؛ وقيل عن أحدهم: إنه 
دخل إلى محل جاراكه فركب له نظارة جديدة؛ لأن الأوّلى فقدت إثناء 
الاشتباكات في مبنى البريد. . وسمح نفسهء وهو مسلح بعدساته الجديدة 
باحتساء م أردفه بآخر فى سوق الأخشاب؛ لأنه كان ظمآن 
بفعل قاذفات اللهب؛ تلك النظّارة التي أزاحت بعضاً من الضباب أمام 


اق 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بصرهء لكنها لم تزيحه تماماً مثلما فعلت النظارة القديمة» ثم هرب هرباً 
مازال قائماً إلى يومنا هذا؛ إذ أن مطاردوه كانوا صعبي المراس. غير أن 
الآخرين - وأقول هنا بأنهم كانوا حوالي ثلاثين رجلاً لم يصمموا على 
الهرب - اصطفوا عند الجدارء قبالة البوّابة الجانبية» فى الوقت الذي أسند 
فيه يان قلب الملكة على قلب الملك وسحب يديه بسعادة غامرة. 

فما الذي يمكن أن أضيفه بعد ذلك؟ لقد عثروا علينا. ففتحوا الباب 
بغتة وصرخوا بنا: الأخرجوا!» وجلبوا معهم الهواء والريح» فجعلوا بيت 
الورق ينهارء إذ لم يكن لديهم أدنى إحساس بالمعمار. كانوا يحلفون 
بالخرسانة ويبنون من أجل الخلود. فلم يلقوا بالا إلى وجه سكرتير البريد 
الغاضب المهان. وعندما ساقوه إلى الخارج لم يلحظوا بأن يان هجم على 
الورق فخطف بعضاً منهء وأنني» أي أوسكارء قمت بإزالة أعقاب الشموع 
من طبلي المكتسب حديثاً. ثم حملته معي معرضاً عن بقايا الشموع؛ لأن 
أضواء الكشّافات كانت ساطعة حين سُلطت علينا؛ غير أنهم لم ينتبهوا إلى 
أن مصابيحهم اليدوية قد أعمتناء فلم نعثر حتى على الباب. كانوا يزعقون 
خلف المصابيح الميدانية والبنادق القصيرة المشرعة «اخرجوا!» ومازالوا 
يصرخون «اخرجوا؛ حتى بعد أن أصبحنا أنا ويان في الممر. كانوا يعنون 
كوبيلا بأمرهم «اخرجوا؛ وكونراد المبعوث الرسمي لوارشو ويوبك أيضاً 
وفيشنفسكي الصغيرء الذي أشتغل عندما كان حيّاً في استلام البرقيات. 
فشعروا بالخوف لأن أولئك لم يستجيبوا لهم. وبعد أن أدرك رجال 
الحرس القومي بأنهم أصبحوا موضع سخريتناء أنا ويان؛ لأنني كنت أقهقه 
بصوت عال كلما زعقوا «اخرجوا!»» فتوقفوا عن الزعيق وقالوا «هكذا 
إذً!»» ثم قادونا إلى باحة البريد حيث وقف الثلاثون شابكين أيديهم خلف 
رؤوسهم؛ شاعرين بالعطش؛. وحيث صورهم برنامج أخبار الأسبوع . 

وحالما اقتدنا عبر البوّابة الجانبية اتجهت نحونا كاميرات برنامج أخبار 
الأسبوع المثبتة فوق عربات الركّاب» فصوّرت لنا فيلماً» عرض فيما بعد 
في جميع دور السينما. لكنني عُزلت عن الجمع الواقف عند الجدارء 
فتذكر أوسكار حالته القزمية» أي ضآلة حجمه التي تغفر له كلّ شيء» 


اما 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فاجتاحته أيضاً آلام المفاصل والآم الرأس» فسقط هو وطبله على الأرض» 
وأخذ يتخبّط ويتلوىء معانياً من نوبة ألم بمقدار النصفء متصنعاً نصفها 
الآخرء بيد أنني لم أتخل عن طبلي أثناء النوبة المؤلمة. وعندما أمسكوا به 
وحشروه في سيارة رسمية تابعة للحرس القومي النازي. لمح أوسكار» 
بعدما تحركت به السيارة» يان المسكين وهو يبتسم ببلادة وفرح معاء 
قابضاً على حفنة من ورق السكات في يديه المرفوعتين» وأخذ يلوّح بكوبا 
بنت» حسب ظني» مودعاً ابنه الذي أقلته السيارة . 


١١م‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


راقد في «سازيبه» 


قرأت للتو الفقرة التي كتبتها في الأخيرء وإذا لم أكن راضياًء فعلى 
الأقل يجب أن يكون قلم أوسكار راضياً في هذا الخصوص؛ إذ أنه تمكن 
من السرد المقتضب والاختصار والمبالغة بين الحين والآخر بذريعة 
المعالجة المقتضبة بوعي, هذا إذا لم يكن قد مارس الكذب . إلا أنني أودّ 
أن أتمسك بالحقيقة؛ معرضاً على حين غرّة عن قلم أوسكار» لأصيدمة 
هنا: أوَلاً أن اللعبة الأخيرة ليان» التي لم يستطع خوضها إلى النهاية 
00 »لم تكن لعبة النزلة الحاسمة» إنما لعبة «ديناري» غير مزدوجة؛ 
انا أن د أوسكار لم حمل معه طبل الصفيح الجديد وحده عندما غادر قاعة 
الرسائل» إتما أيضا الطبل المتصدع الذي سقط من سلة الغسيل مع الرسائل 
والرجل القتيل المنزوع الحمّالات. إضافة إلى أنه عندما غادرناء 0 ويان» 
قاعة الرسائل» لأن رجال الحرس القومي طلبوا منّا مغادرتها بمصابيحهم 
الميدانية وبنادقهم القصيرة» وقف أوسكار لائذا في ظل رجلين من رجال 
الحرس القومي لهما ملامح الأعمام الموحية بالطيبة» فانخرط في بكاء 
زائف يدعو إلى الرثاء؛ مشيراً إلى يان» أبيه» إشارات اتهام؛ حوّلت 
المسكين إلى رجل شرّير جرجر معه طفل برئ إلى البريد البولندي لكي 
يستخدمه بمثابة واقية رصاص على الطريقة البولندية غير الإنسانية . 
لقد مني أوسكار نفسه بما يرضي طبليه السليم منهما والمعطوب من 
خلال تلك المسرحية الخيانية المفتعلة» فكان محقًا في ذلك: إذ ركل 
رجال الحرس القومي يان في ظهره ثم لكزوه بأعقاب البنادق» وتركوا لي 
طبليٌ معأ. وربتٌ حارس قوميّ عجوزء أحاطت بفمه وأنفه تجاعيد الهموم 


51 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


التي يتعرض لها أرباب العوائل غير المرتاحين» ربت على خديء بينما 
إحتضنني رجل آخر أشقر الشعرء أبيضهء ذو عينين ضاحكتين بلا انقطاع» 
استحالتا شقين طوليين» فأصبحتا غير مرئيتين» بحيث أن أوسكار تأثر 
سوال وكلّما شعرت اليوم بخجل أحياناً من ذلك الموقف المشينٍ 
فإنني أسارع إلى القول: إن يان لم يلحظ ما فعلتٌ؛ لأندكان كشي 
بالورق» وبقى مشغولاً به بعد ذلك أيضاء فلم يستطع أحد أن ينحيه عن 
ورق السكات» حتى ولا أكثر أفكار الحرس القومي مرحاً أو شيطانية كان 
من شائها أن تغريه بالانصراف عن الورق. وبينما كان يان يقيم في مملكة 
بييوت الورق الأبدية» قاطناً بفرح غامر في بيت منها يؤمن بالسعادة» وقفناء 
رجال الحرس القومي وأناء - إذ أن أوسكار كان محسوبا على الحرس 
القومى- وقفنا بين جدران الآجرء على أرضية الرواق المبلطة. 
العقوت: الماك ذه بالجبس ؛ المعو اغلة بالحيظاة والجواجر عان انجر 
متشنج ١‏ لدرجة أن المرء * خشى. أسوأ العراقب في ذلك اليوم ؛ ؟ لأن أعمال 
ا ا ا اا 
لهذا الظرف الطارئ أو ذاك فتفقد تماسكها. 

بالطبع أن هذا الإدراك المتأخر ليس من شأنه أن يغفر لي شيئاًء 
لاسيما وأن - كنت أفكر في أعمال الهدم دائما كلّما رأيت سقالة بناء - 
بيوت الورق لم تكن غريبة علي بصفتها السكن الوحيد الصالح للبشر. 
فهناك تتشكل نقطة التحمّل العائلي» إلا أنني كنت مقتنعاً في عصر ذلك 
اليوم بأنني رأيت في يان برونسكي ليس فقط صورة خالي فحسب. إنما 
أبي المفترض . فهذه إذا أسبقية ميّرته عن ماتسرات إلى آخر الأزمان؛ لأن 
ماتسرات كان إمَا أب لي أو لم يكن. 

وفي الأوّل من سبتمبر / أيلول- أتكهن هنا بأنكم قد تعرفتم على 
عبد الورق المسوور يان برر نكي خلال ثلك الوم المنحوس باعتباره 
أبي - في ذلك اليوم بالذات أرّخت لخطيئتي الثانية الكبرى . فبتّ لا أطيق 
السكوت أبدأء على الرغم من النبرة المتوجعة. عن أن طبلي» كلاء بل أنا 


ردنا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


نفسيء الطبّال أوسكارء أوصلت أمّي المسكينة إلى القبر أوّل الأمر ومن ثم 
خالي وأبي يان برونسكي . 

لكنني» ومثل أي شخص آخر ء أخذت أتذرع بضعة أيَام بجهلي 
الذي أصبح موضة آنذاك ومازال إلى الآن يلائم بعض الوجوه مثل قبعة 
أنيقة ؛ لأن شعوراً بالذنب غير مهذّب» لا يمكن طرده من الغرفة بالبكاء» 
جعل الألم يعتصرني على وسادة المصحّة. وجلب أوسكار الجاهل 
الماكرء الضحية البريثة للبربرية البولندية» جُلب محموماً متهيّج الأعصاب 
إلى المستوصف البلدي. فأبلغ ماتسرات في اليوم ذاته» إذ أنه أبلغ عن 
غيابي في المساء الذي سبق ذلك» مع أنه لم يتأكد بعد بأنني ملك له. غير 
أن الرجال الثلاثين الذين يمكن أن يضاف إليهم يان» أولئك الرجال الذين 
رفعوا سواعدهم وعقدوا أيديهم على أقفيتهم» فقد جلبوا بعد أن صوّرهم 
برنامج الأخبار الأسبوعي إلى مدرسة فكتوريا الفارغة » فاستقبلهم معتقل 
اشيسشتانغه؛ ومن ثم الرمال الرخوة خلف جدران مقبرة سازبه البالية 
المتداعية. لكن كيف عرف أوسكار ذلك؟ لقد عرفته من خلال شوغر 
ليو إذ لم يُعلن رسمياً بطبيعة الحال على أي رمال أو خلف أي جدار تم 
إعدام الرجال الواحد والثلاثين» وفي أي رمال دُفن أولئك الثلاثون شخصاً 
وواحد. 

كانتت هدفغ برونسكي أوّل من تلقى أمراً بإخلاء السكن الواقع في رنغ 
شتراسه لأنه خجز لسكن عائلة أحد كبار ضبّاط القوّة الجويّة . وبينما كانت 
تحرّم أمتعتها بمعونة شتيفان» متحضّرة للانتقال إلى رامكاوء حيث كانت 
تمتلك بضعة هكتارات من الأراضى الزراعية بالإضافة إلى غابة ومسكن 
ريفيّ مستأجرء بلغ الأرملة خبر وهب عيئيها اللتين عكستا معاناة هذا 
العالم كلّها دون أن تفقه منه شيئاًء وبمعونة ابنها شتيفان» وهبها القدرة» 
وإن ببطءء على فك رموزه التي حولتها إلى مجرد أرملة على نحو شديد 
الصراحة. ورد في الخبر: 

«قلم محكمة شعبة ايبرهارد س.ءت.ل. -*9154١‏ 

تسوبوت» في 5 أكتوير ١979‏ 


ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


السيّدة هدفغ برونسكي» 

نوّد أن نبلغك بناءً على الأوامر الرسمية بأن برونسكي» يان» قد كم 
عليه بالإعدام من قبل المحكمة العسكرية بسبب العصيان المسلح فتمم 
إعدامه . 

(مراقب القضاء الميداني)» 


فها أنتم قد رأ يتم بأنهم لم يذكروا سازبه بكلمة واحدة. لقد راعوا 
مشاعر أهاليهم وأردوا أن يوفروا عليهم تكاليف الاعتناء بقبر جماعيّ رحب 
يلتهم الكثير من الزهورء فتحملوا بأنفسهم نفقات العناية وربما الدفن 
أرقا عن خلال تسوية أرقن سبازبه الرهلية: وتجميع الخراطيش الفارغة» 
معدا واحذة ح إذ أن واحدة منها لأبد آن تبقن ملقاة على الأرضن ذائماً- 
لأن الخراطيش المتنائرة ستشوّه منظر أيّ مقبرة محترمة» حتى لو كانت 
مهملة. وتلك الخرطوشة التي تبقى عادةً ملقاة والتي يتوقف عليها كل 
شيءء عثر عليها شوغر ليو الذي لم تخف عليه أي عملية دفن» مهما 
بلغت سريتها. بدا ليو الذي تعرّف عليّ أثناء تشييع جنازة أمّي المسكينة 
وجنازة صديقي هربرت تروجنسكي المليء بالندب» والذي علم بالتأكيد 
في أي موضع طمروا زيغسموند ماركوس - لكنني لم أسأله عن ذلك قطء 
بدا سعيداًء بل كان يطفح بالسرورء عندما ناولني في أواخر نوفمبر -كنت 
غادرت المسعوضف نوا “تلك الخرظطرشة الفارغة المققية للسة: 

بيد أنني وقبل أن أقودكم متعقباً شوغر ليو إلى مقبرة سازبه مع 
الخرطوشة المتأكسدة قليلاء والتي ربما آوت الرصاصة المخصصة ليانء 
أرجو منكم أن تعقدوا مقارنة بين السرير المعدني للمستوصف البلدي في 
دانسغ» قسم الأطفال» والسرير المعدني للمصحّة المحلية الأمراض 
العقلية. فكلاهما كان مطلياً بالدهان الأبيضء, ومع ذلك فقد كانا 
مختلفين. فكان سرير قسم الأطفال أقصر إذا ما قيمنا الطول» لكنه أكثر 
ارتفاعاً إذا ما قسنا القضبان العمودية. وعلى الرغم من أنني كنت أفضل 


ك كنا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


صندوق العام التاسع والثلاثين ذا القضبان العالية؛ فإنني اليوم وجدت 
راحتي» التي باتت قنوعة متواضعة» في هذا السرير المخصص للكبار على 

يقة الحل الوسطي. تاركاً لإدارة المصححة البتّ الإيجابي أو السلبي َْ 
اعانين الجاري منذ بضعة أشهر والمتعلق بمحني سريراً عالياًء معدنياً في 
الواقع ومطلياً باللون الأبيض. وبينما أصبحت اليوم أعزل متروكاً لرحمة 
الزوّار؛ فقد كان هناك حاجز شديد الارتفاع في قسم الأطفال يفصلي أيّام 
الزيارة عن ضيوفي الزوار ماتسرات والزوجين غريف وشفلر» فيقسّم حين 
أوشكت إقامتى فى المستوصف على الانتهاء ذلك الجبل المتحرك بأربعة 
آلرات قوق بعضها والذى كنت أطلق عليه انب عدي آنا كرلياجك» 
يقسّمها إلى أجزاء حزينة متكدرة وتتنفس بصعوبة. كانت تأتي فتقذف 
الحسرات وترفع بين الحين والآخر يديها الضخمتين المتنوعتين» مظهرة 
راحتيها الواسعتين الورديتين» ثم ترخي يديها وراحتيها بالكسار وقنوط» 
لتصفع بهما فخذيهاء لدرجة أن صوت هذا الصفع مازال حاضرا في ذهني 
إلى اليوم» لكنني لم أستطع تقليده على الطبل إلا بصورة تقريبية. ومنذ 
زيارتها الأوّلى اصطحبت معها شقيقها فنسنت برونسكي الذي كان يتحدث 
بهدوء في الحقيقة؛ لكن بإلحاح وبلا انقطاع, عن ملكة بولندا» مريم 
العذراء» أو يغئّي لها أو يروي عنها بالغناء. وكان أوسكار يشعر بالارتياح 
ل .0 منهما. أخذ فنسنت وجدّتي يفتحان 
أمامي أ عينهم البرونسكية الصاحية» منتظرين مني» أنا بذلت قصارى 
جهدي با عواقب لعبة الورق في البريد البواتدى وخمئ التوتر 
العصبي», أن أقدم لهما دليلاً أو كلمة تعزية أو تقريراً ملطفاً عن الساعات 
الأخيرة ليان التى أمضاها بين الخوف ولعب السكات. أرادا أن يسمعا 
اعترافاً» أو شهادة براءة أقدمها ليان؛ كما لو أنني كنت قادراً على تبرئة 
ساحته» أو أن شهادتي سيكون لها وزن وقوة إقناع . 

فما الذي كان سيقوله هذا التقرير لمحكمة شعبة ايبرهارد: أناء 
أوسكار ماتسرات» اعترف بأننى كمنت ليان الذي كان فى طريق العودة إلى 
داره في عشية الأوّل من 0 فاستدرجته بوانيلة طبلى المحتاج إلى 


5715 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


تصليح» استدرجته إلى البريد البولندي بالذات والذي كان قد غادره قبل 
زليل؛ لأنه لم يكن راغباً في الدفاع عنه. ولم يدل أوسكار بهذه الشهادة؛ 
ولع يبرا أساحة أبيه المفترض» بيد أنه كان عاب بالتشنج العنيف كلما عزم 
على الإدلاء بهذه الشهادة بصرت عالء؛ فقّصّرت أوقات الزيارة بناءٌ على 
طلب رئيسة الممرضات» ومُنع جدّي المفترض فنسنت وجذتي آنا من 
الزيارة . 

وحالما غادر العجوزان اللذان قدما من بيساو مشياً على الأقدام» 
جالبين لي معها تفّاحاً. حالما غادرا ردهة الأطفال بحذر مبالغ فيه ينم عن 
تجن تارقاك» شانهسا شأن أغل الريك كلّهمء ازداد إحساسي الكبير 
بالذنب بالقدر نفسه الذي ابتعدت فيه أثواب جذتى المتمايلة وبذلة العيد 
السوداء التي ارتداها شقيقهاء والناضحة بروث الأبقار. 

وثمة وقائع عديدة جرت في وقت واحد: فبينما كان ماتسرات وآل 
غريف وآل شفلر يتدافعون بالفاكهة والكعك أمام سريري» وبينما كان 
الناس يقدمون لزيارتي من بيساوء مارين ب بغولدكروغ وبرنتاو» سيراً على 
الأقدام» لأن خط الترام الموصل بين كارتهاوز ولانغفور لم يكن مفتوحاًء 
وبينما كانت الممرضات البيضاوات الثياب الساحرات يثرثرن ثرثرة 
المستشفيات» معوضات عن الملائكة» لم تكن بولندا قد مُقدت آنذاك؛ إلا 
أنها فقدت فيما بعد. بل أنها باتت مفقودة عقب الأيّام الثمانية عشرة 
الشهيرة؛ حتى لو كان سيتضح قريباً بأن بولندا مازالت لم تُفقد؛ ومثلما هو 
الأمر اليوم» ونكاية بفريقي شليزين وأوستبرويسن» فإن بولندا لم تُفقد 
بعد. 

آهء أنت يا فرقة الفرسان المشتطة! المدمنة على التوت الأزرق وأنت 
على صهواتهاء وبرماح وبيارق بيضاء حمراء. كآبة كتائب الخيّالة 
وعراقتها. هجمات مثالية. في الميادين عند وودج وكونتو. مولدين. 
افق قلقي أن إنيا فكت بالمسةة معطرة حلول الكووت ؤاتما! وبعف 
ذلك فقط تهجم فرقة الخيالة» أي حين 7 تصبح الواجهة الخلفية والأمامية 
بديعة فاتنة» فتصبح المعركة ا يه ويستحيل الموت موديلا 


/7”1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


للرسامء يقف ثابتاً على ساق» أو غير ثابت» فترتمي على التوت الأزرق 
لتلتهمه» أو الزعرور البرّي» فتجمح هائجةً متفجرةً؛ فتحتٌ على الإثارة 
التي بدونها لا ينطلق الفرسان مندفعين بخيولهم. حملة رماح» أغراهم 
حب المغامرة من جديد» يحرفون خيولهم حيث أكوام الغلال المغطاة 
بالطين والقش - أيضاً هذا المشهّد يمثّل صورة حيّة - ويجتمعون خلف 
رجل يسمونه في أسبانيا دون كيخوته؛ إلا أن اسمه كان بان كيهرت» وهو 
بولندي قح» ذو هيئة نبيلة يرنو عليها الحزن» وقد رسحٌ في أذهان رماحيه 
تقبيل اليد على الخيل» فصاروا الآن يقبّلون يد الموت كل مرّة من جديد 
باحترام وإجلال كما لو أنهم يقبّلون يد سيّدة؛ إلا أنهم اجتمعوا في البدءء 
مخلفين الشفق وراء ظهورهم - إذ أن الجو الملائم كان رصيدهم 
الاحتياطي-»؛ ومن أمامهم المدرعات الألمانية» تلك الجياد التي خرجت 
من مؤسسات كروب فون بوهلن أوند هالباخ لتربية الخيول» فلم يعتلى 
أحد من قبل صهوة كريمة مثل صهواتها. لكن ذلك الفارس نصف 
الأسبانى ونصف البولندي الذي ركب الموت - بان كيهورت الموهوب» 
القفةك غلك إل مح الذي شدت إليه الراية البيضاء الحمراءء فدعاكم إلى 
تقبيل يده؛ ثم نادى» في لحظات الشفق» حيث تطقطق اللقالق بمناقيرها 
بيضاء حمراء على السطوح وحيث الكرز الأحمر يقذف نواته؛ نادى على 
فرسانه: «أنتم أيها البولنديون النبلاء؛ إن هذه ليست مدرعات من الفولاذ» 
بل مجرد طواحين هواء؛ أو خراف؛ إنني أدعوكم إلى تقبيل اليد!» 

هكذا إذاً غارت كتائب الخيّالة على الفولاذ من الجناح الرمادي» 
فزادت الشفق احمرارا. لعل المرء سيغفر لأوسكار هذه القافية الختامية» 
وكذلك الوصف الشعري المرهف لتلك المعركة. ربما كان من الأصح لو 
أتيت على حجم الخسائر التي منيت بها فرقة الخيّالة البولندية» وأضع هنا 
إحصائية تذكر ما سمي بغزوة بولندا بصورة جافة وملحّة. إنني سأضع هنا 
علامة إيضاح حسب الطلبء أو أعلن عن وجود هامش ماء وبذلك سأبقي 
على القصيدة كما هي. فحتى العشرين من سبتمبر/ أيلول كنت أسمع» 
وأنا راقد في فراش المستوصف. صليات البطاريات المدفعية المنصوبة في 


18" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


إنجاه مرتفعات يشكنتالر وغابات أوليفر. ثم استسلمت آخر جيوب 
المقاومة في شبه جزيرة هيلا. وبذلك أصبح بمقدور مدينة دانسغ التجارية 
الحرّة أن تضم آجرها القوطيّ الطراز إلى مملكة الرايخ الألمانية العظمى» 
وتهلل احتفاءً بالقائد المستشار أدورلف هتلر المنتصب بلا كلل في عربة 
المرضيدس السوداء» مودياً العسبات بلا توقفة من ؤاوية قاكمة تماماء 
متطلعاً بتلك العينين الزرقاوين اللتين كان النجاح المشترك يجمعهما مع 
عيني يان برونسكي » فيما يتعلق بالحظوة لدى التساءة 
أعتقد أن اسمها كان ابيرئي) أو «أيرني»» عندما ناولتني أرلي أو بيرني 
طبليّ؛ المحطم منهما الذي جعلني مذنباً والسليم الذي غنمته إِيّان الدفاع 
عن البريد البولندي» أدركت بأن ثمة شيئاً آخرء ماعدا طبول الصفيح» كان 
يقف إلى جانبي في هذا العالم ألا وهو: الممرضات! 

وغادرت المستوصف البلدي تؤللا وسلحاً بمعرفة جديدة2 يقودئى 
ماتسرات من يدي؛ لكي أقوم في لابسفيغ وأنا أقف على قدمي الطفل 
الأبدي ذي الأعوام الثلاثة» بتطبيع نفسي على الحياة والضجر اليوميين 
وعلى أيّامِ الآحاد في سنوات الحرب الأولى الأشد ضجرا. 

وذات ثلاثاء في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني - كنت وطأت الشارع 
العام للمرّة الأولى بعد أسابيع من النقاهة - التقى أوسكار وهو يطبل لا 
على التعيين» متذمراًء غير عابئ بالطقس البارد الممطر» التقى بطالب 
اللاهوت السابق شوغر ليو في زاوية ماكس-هالبه-بلاتس-بروزئر فيغ. 
فوقفنا قبالة بعضنا مترددين وقتا طويلا ونبتسم» وبعدما أخرج قفازيه 
الشتويين من جيبي سترته السوداء الطويلة التي بلغت ركبتيه؛: وترك القرابين 
المصفرّي البياض الشبيهين بجلده يزحفان على أصابعه وعلى راحتىّ يديه 
صرت على علم بمن التقيت» وبما سيجلبه لي هذا اللقاء -فاعترى أوسكار 
الخوف . 

كنا مازلنا نتفرّج على واجهات متجر-قهوة-القيصر»ء مشيعين بأبصارنا 


لا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عربات الترام الذاهبة في خطي خمسة وتسعة التي كانت تتقاطع عند 
ماكس -هالبه-بلاتس» ومن ثم تطلعنا إلى المنازل المتمائلة البناء في بروزنر 
فيغ » دائرين بضع مرّات حول أعمدة الإعلانات» حيث تدارسنا ملضقاً كان 
يتحدث عن تغبير عملة «الغولدن» الغدانسكية بمارك الرايخ الألماني» فقمنا 
نان لمن عن اتخوق تسيل العثرنا في أسدا. لون الاين 
والأزرق على شىء من اللون الأحمرهء فاكتفينا بذلك. وهممنا بالعودة إلى 
نيذان ناكلين-غاليه 4 يفيل دقع نوص قبو أوسكاو ببدية الملقوقين بالقتاز 
نحو مدخل بيت» وأخذ يلوح بأصابعه اليسرى المغلفة بالقفاز خلف 
ظهره» لينزلها إلى أذيال سترته» فصار يتحسس بها داخل جيب سرواله» 
ثم كوّرها؛ إذ أنه عثر على شيء» فتفحص اللقْطّة وهي في جيبه» وسحب 
قبضته الملمومة» فرحاً بما عثر عليه» فنفض أذيال سترته من جديد» دافعاً 
بقبضته المستورة بالقفاز إلى الأمام؛ وصار يمدها حتى أقحم أوسكار في 
زاوية جدار المدخل - كانت ذراعه طويلة وكان الجدار غير مطاوع؛ بل 
غير راغب في التمدد - آنذاك فتح الجلد ذا الأصابع الخمسة» بعدما 
أوشكت على الاقتناع بأن ذراعه ستقفز من رمّانة كتفه» لتصبح حرّةٌ طليقة» 
فتلطم صدري» وربما ستخترقه» خارجة من بين عظام الكتف» لترتطم 
ثانية بجدار الممر المتعفن - ومع ذلك؛ فإن أوسكار لم ير قط ما خبأه ليو 
في قبضته؛ إلا أنه احتفظ على أية حال بنصٌ النظام السكني المعلق في 
الممر الذي لا يختلف من حيث الجوهر عن نظام السكن في لابسفيغ . 

وقبل أن يصل إلى معطفي البحريّء ضاغطاً على أحد أزراره التي لها 
شكل المرساة» فتح ليو قفازه بسرعة» لدرجة أنني سمعت مفاصل أصابعه 
تطقطق : لقد رقدت الخرطوشة الفارغة فوق القماش اللامع المتعطن الذي 
حمى الجانب الداخلي ليده. 

وحين كوّر ليو قبضته من جديد» ببّ مستعداً لإتباعه؛ إذ أحسست 
بأن القطعة المعدنية تلك قد خاطبتني مباشرة. فسرنا إلى جانب بعضناء 
أوسكار على يسار ليوء هابطين بروزنر فيغ» دون أن نتوقف أمام أي 
واجهة متجر أو عمود إعلان» فقطعنا ماغدهبورغر شتراسه. مخلفين ورائنا 


ارم 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


البنايتين العاليتين في نهاية بروزنر فيغ اللتين لهما شكل الصندوق. حيث 
برقت فوقهما كشّافات الإنذار للطائرات المقلعة والهابطة» ثم سرنا في 
البدء بمحاذاة سياج المطارء ثم تحولنا أخيرا إلى الشارع الجاف المبلطء 
متعقبين سكة ترام الرقم خمسة الممتدة في اتجاه بروزن. 

ولم نتبادل حرفاً واحداً لكن ليو مازال قابضاً على الخرطوشة 
بقفّازه. وإذا ما بان عليّ التردد» راغباً في العودة من حيث أتيت بسبب 
البرد والبلل؛ فإنه كان يفتح قبضته» جاعلاً قطعة المعدن تحجل على راحة 
يده فيغريني بمائة خطوة من السير؛ ومن ثم مائة خطوة صغيرة أخرى» 
حتى أنه صار يتصرف على نحو موسيقيّ عندما قررت فعلاً الرجوع قبل 
الوصول إلى مزرعة المديئة سازبه. فاستدار على كعب حذائه؛ وأمسك 
بالخرطوشة؛ واضعاً فتحتها إلى الأعلى» ثم ضغط بالثقب على شفته 
السفلى البارزة» المبللة باللعاب» كما لو أنه كان يضغط بمبسم ناي» 
تاصدر خليطاً من الأضصوات الحصورحة والحادة والتدغمة كال اتخمها 
الضباب تحت المطر المشتد على الدوام. فشعر أوسكار البرة» لبن فنا 
موسيقى الخرطوشة جعلتني أشعر بالبرد» إنما الجرّ العام» الذي بدا وكأنه 
أوصي به وصاية» وبسبب الطقس البالغ السوء الذي لا تطيقه حتى الكلاب 
والذي منعني من بذل أيّ جهد لإخفاء ارتجافي اللا 

فما الذي أغراني بالتوجه إلى بروزن؟ حسناً؛ إنه صائد الفثران ليو 
الذي بدأ يصفر في الظرف الفارغ . لكن هناك من كان يصفر لي أكثر 
فأكثر. كان الصفير يأتي من المرسى ومن ناحية نويفارفاسر الواقعة خلف 
الضباب النوفمبري الذي بدا وكأنه انطلق من حجرات الغسيل» فتناهت إلى 
أسماعنا صمارات البواخر والعواء الجائع للزوارق البخارية الداخلة إلى 
الميناء والخارجة منه» عبر شوتلاند وشيلمول ومستعمرة الرايخ الألماني» 
بحيث أصبح من اليسير جدّاً بالنسبة لليو أن يستدرج أوسكار المرتجف من 
خلال أبواق الضباب وصفَارات الإنذار وعزف الخرطوثشة الفارغة. 

رقف تور ليو بمتنافاة الأسلاك العائكة المواضية لناسية يلركن 
التي فصلت المطار عن ميدان التدريب الجديد وعن خنادق تسنغلن» وظل 


١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


يراقب بدني المرتعد فترة طويلة برأس مائل وبلعابه السائل عبر الخرطوشة . 
فارتهف لعات الخرطوقة».وأساكف بها يشفعه الشقلن كم خلع سعرية 
الطويلة ذات الفتحتين كالذيل» تلبية لخاطر عنّ له» فصار يطوّح بذراعيه 
بعنف» وألقى على رأسي وكتفي بالقماشة الثقيلة المشبعة برائحة التراب 
الرطب . فواصلنا را 51 لم أعد أتذكر فيما إذا خف البرد عن 
أوسكار آنذاك. لكن ليو صار يثب أحياناً خمس خطوات إلى الأمامء ثم 
يقف. فبدا بقميصه الكثير التجاعيد» الأبيض بشكل مرعب, مثل مخلوق 
خرج للتو بطريقة مليئة بالمجازفة من غياهب معتقلات القرون الوسطى 
الممائلة للبرج ذي الطوابق؛ مخلوق رسم بنفسه النموذج المثالي للعته 
والجنون. 

حالما كان ليو يلمح أوسكار مترنحاً تحت السترة السوداء الطويلة؛ 
فإنه كان ينفجر بالضحك دائمأء ثم يرفرف بجناحيه كما الغراب الناعب» 
مختنماً القهقهة كلّ مرّة من جديد. يبدو أننى كنت أشبه فعلاً طائراً غريياً؛ 
فإذا لم يكن هذا الطائر عُدافاً أسحم اللون» فهو بلا كنك غراب ناعق» 
لاسيما وأن أذيال السترة الطويلة أخذت ترفل ورائى مسافة من الطريق» 
ماسحة إسفلك: الشارع» مخلقاً وزاي أثراً ملكياً جليلاً جغل أوسكار يشنصر 
راقدة في أعماقه ولم تتضح معالمها بشكل كامل بعدء إن لم تكن جسّدتها 
تحسيد! نيا 

وعند وصولنا إلى ماكس-هالبه-بلاتس أدركت بأن ليو لم يفكر في 
قيادتي إلى بروزن أو نويفارفاسرء إنما كان هدف المسيرة هذهء منذ 
البذاية» مقبرة سازبه وخنادق «تسنغل»» حيث وقع ميدان الرماية الحديث 
المخصص للشرطة بالقرب منها مباشرة. 

وكانت خطوط الترام الذاهبة إلى الحمّامات البحرية أو القادمة منها لا 
تأتي منذ نهاية سبتمبر حتى نهاية إبريل إلا كل خمس وثلاثين دقيقة. بعدما 
خلفنا آخر منازل ضاحية لانغفور وراء ظهرناء أقبل نحونا ترام بلا مقطورة» 
وبعد فترة قصيرة تجاوزتنا عربة الترام التي انتظرت الترام القادم من الاتجاه 


7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المعاكس عند تحوّيلة ماغدهبورغر شتراسه. وقبل أن نصل إلى مقبرة 
سازبه بمسافة قصيرة تجاوزنا الترام قارعاً أجراسه؛ ثم أقبلت نحونا عربة 
كنا رأيناها منذ فترة طويلة تنتظر واقفةً وسط الضباب؛ لأنها حملت في 
مقدمتها مصباحاً أصفر رطب الاصفرار بسبب سوء الرؤية . 

وبينما بدأ أوسكار يحتفظ في عينه بوجه سائق الترام المسطح المتجهم 
الملامح قاده شوغر ليو من إسفلت الشارع إلى الرمل الرخو الذي أوحى 
منظره بمنظر كثبان الرمل في الشاطئ. كان هناك جدار مربّع أحاط 
بالمقبرة؛ وثمة بؤابة صغيرة تشرف على الجنوب». حديدها كثير الزخارف» 
بدت مقفلة» بيد أنها سمحت لنا بالدخول. للأسف لم يتح لي ليو وقتاً 
كافياً لتأمل شاهدات القبور المتزحزحةء الآيلة إلى السقوط» المقلوبة على 
أنقياة التق كان معظتها تحر يخفرة من الكل ومن الجرالت» تلك 
التاهدات الى القت من ختر المتراة اللبريدى أ من الصكون الازكانيةم 
وك شينة جات صنوبر ساحلية عجفاء انتتصبت على الممرات الملتوية 
قد عرّضت عن الزينة الشجرية للمقبرة. كانت أمّي تفضّل في حياتهاء كلّما 
استقلت الترام» هذه البقعة المتداعية على جميع الأماكن الهادئة الأخرى . 
والآن فإنها رقدت في برنتاوء حيث التربة الخصبة التي نبتت فيها أشجار 
الدردار والإسفئدان." ْ 

قبل أن أثبّت قدميّ وسط ذلك الخراب المهيّج للعواطف اقتادني ليو 
من المقبرة عبر بوابة مشرعة خالية القضبان في الناحية الشمالية من 
الجدار؛ فوقفنا على أرض رملية ممهدة خلف الجدار مباشرة. كانت 
أشجار الصنوبر والغنستر وأحراش الزعرور البريّ تخوض في مياه راكدة 
بجلاء؛ متجهة نحو الساحل. وحين تطلعت إلى المقبرة لفت نظري على 
الفور بأن جزءاً من جدار المقبرة كان مبيضاً حديثاً بالجصٌ. وبدا ليو 
منشغلاً تماماً أمام الجدار ذي البياض الفاقع الموجع مثل قميصه المجعّد 
والذي كان يشى بالجدّة. فصار يخطو خطوات واسعة مجهدة. وبان عليه 
بأله كان تحصى خطاء». يل كان يخصيها بصوت غال وبالحسات اللاتينن 
مثلما اعتقد أوسكار ويعتقد إلى يومنا هذاء وكذلك رئّل نصّاً مثلما تعلّم 


انخرونا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


في كلّية اللاهورت. فرسم ليو علامة على مسافة عشرة أمتار من الجدارء 
ووضع قطعة من الخشب أمام الجصّ المطليء المرقع حديئاًء مثلما 
توصلت فى تفكيري؛ وقد فعل ذلك كلّه بيده اليسار؛ لأنه أمسك 
الخرطوشة بيعتاة: وبعد بحث وقياسات مطؤلة» وضع إلى جوار قطعة 
الخشب تلك الخرطوشة المعدنية الضيّقة قليلاً من الأمام» والتي كانت 
تأوي نواة من رصاصء إلى أن فتّش أحد ما بسبابته المعقوفة عن مركز 
الضغط» فألغى عقد إيجار الرصاصة دون أن يلجأ إلى القطع أو التمزيق 
فأمرها بالانتقال الحامل للموت. فوتفنا وأطلنا الوقوف» حتى ترك شوغر 
ليو لعابه يسيل خيوطاً فخيوطاًء ثم شبك ققّازيه ببعضهما وأنشد في البدء 
شيئا ما باللاتينية» لكنه توقف على حين غرّة؛ إذ لم يجد من له القدرة 
على الإجابة ترتيلا. فاستدار ليو ونظر بانزعاج ونفاد صبر عبر الجدار إلى 
طريق بروزنر الريفي» ثم صار يلوّح برأسه في ذلك الاتجاه» حيث كانت 
عربات الترام الفارغة غالبا تتوقف عند التحويلة» متفادية الارتطام ببعضها 
من خلال قرع الأجراس. لعلّ ليو كان يننظر أهالي الموتى. بيد أن أحداً 
منهم لم يأت سيراً على الأقدام أو في الترام» لكي يقدم له التعازي 
بقمازه . 

فقط مرّة واحدة هدرت فوق رأسينا طائرات أرادت الهبوط. لكننا لم 
نتطلع إلى الأعلى» فتحملنا صخب المحركات» دون أن نكون راغبين في 
الاقتناع بأن تلك الإشارات المضيئة والمنطفئة في مقدمة الجناح كانت 
عائدة إلى ثلاث طائرات من طراز «يو 407.: متأهبة للهبوط. وبعدما 
غادرئنا المحركات بفترة وجيزة - بدا الهدوء شديد الحرقة مثل بياض 
الجدار المنتصب أمامنا- دسٌ ليو يده في قميصه» فسحب شيئاً ماء ثم 
وقف إلى جانبي» وخطف رداء الغربان من كتف أوسكار ثم هرع قافزاً في 
اتجاه الجينستا والزعرور وصنوبر الشواطئ حتى أسقط أثناء القفز حاجة 
ماء وقد فعل ذلك بحركات موحية» فيها محاكاة لمن سيلتقط تلك 
الحاجة. وحين اختفى ليو كليّاً - هام على وجهه؛ لكنه بقي في مجال 
الرؤية إلى أن ابتلعه أبخرة الضباب الحليبية البياض الملتصقة بالأرض - 


000 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وجدت نفسي بعد ذلك وحيداً مع المطرء فهرعت نحو رقعة الكرتون: 
التي كانت عبارة عن ورقة سبعة «ماجة». وعقب أيّام قلائل على لقاء مقبرة 
سازبه التقيت بجذتي آنا كولياجك في سوق لانغفور الأسبوعي. بعدما 
ألغيت الضرائب الجمركية والحدود في بيساو أصبح بمقدورها أن تجلب 
بيضها وزبدهاء إضافة إلى الكرنب الأخضر وتفاح الشتاء إلى السوق. كان 
الناس يشترون بكثرة وبسرور أيضاً؛ لأنْ زراعة المحاصيل باتث وشيكة 
مما كان يتطلب توفير المخزون الغذائي. وفي اللحظة التي لمح فيها 
أوسكار جدّته تقف وراء بضاعتهاء استشعر ورقة السكات تلامس جلده 
مباشرة» تحت المعطف والبلوزة وبدنه الصغير. فى البدء هممت بتمزيق 
السبعة ماجة عندما عدت بالترام من سازبه إلى داك مده لنت الاقف حين 
سمح أحد الجباة بالركوب مجانا. 

لكن أوسكار لم يمزق الورقة» إنما سلمها إلى جدته. لابد أنها 
شعرت بالعرب حين أبصرته» إذ ربما ظئّت بأن أوسكار لا يأتي بأيّ خبر 
سار. بيد أنها لوّحت إلى الفتى ذي الأعوام الثلاثة المختبئ بمقدار النصف 
خلف سلال السمكء بالقدوم إليها. فعقّد أوسكار الأمرء متفخصاً في 
البدء سمكة قدّ بلغ طولها ذراعاً كاملة» ثم أراد أن يتفرّج على السرطان 
الصغير القادم من بحيرة أوتومين والذي مازال يتمرن على المشي السرطانيّ 
جماعات وبهمّة عالية؛ فأخذ أوسكار نفسه يتمرن على طريقة التحرّك 
تلك» فاقترب من ناحية معطفه الخلفية من بسطة الجدّة» فأطلعها أوّل 
الأمر على أزرار البحرية المذهبة حين ارتطم بالحامل الخشبي لطاولة 
معروضاتهاء دافعاً بالتفّاح إلى التدحرج. وقدم شفيتفيغر بحجر البناء 
الساخن الملفوف بالجرائد» فدسٌ الآجر تحت أثواب جذتى» وانتشل 
بخطاف حديدي الحجارة الباردة كسابق عهده. ورسم عدا فلن رقعة 
معلقة في رقبته» ثم انتقل إلى بسطة أخرى؛ حينئذ ناولتني جدتي تفاحة 
لامعة . | 

فما الذي يمكن أن يقدم لها أوسكار إذا ما ناولته تفاحة؟ لقد قدّم لها 
في البدء ورقة السكاتء ثم الخرطوشة التي لم يتركها ملقاة في سازبه. 


كردن 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فأخذت آنا برونسكي تنظر وقتاً طويلاًء وبلا إدراك» إلى الحاجتين 
المتباينتين ثماماً؛ حينئدذ قرّب أوسكار قمه من أذنها الغضروفية الشائخة 
تحت منديل رأسها ثم همسء منخلياً عن كل حذرء مفكراً في أذن يان 
الصغيرة المتوردة المكتنزة؛ ذات الشحمة الطويلة الجميلة التكوين: (إنه 
يرقد في سازبه»؛ هكذا همس أوسكار وانطلق مسرعاً مكتسحاً معه سلّة 
مليئة بالكرنب الأخضر. 


دسم 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ماريا 


بينما كان التاريخ يتشدق بالأنباء الخاصة كالمركبة المشحمة جيّداً التي 
أخذت تجوب شوارع أوروبا وطرقها البحرية والجويّة» بعد أن احتلها 
خائضةً في الماء والهواء» فإن أعمالي التجارية المقتصرة على تحطيم طبول 
الأطفال المصبوغة أو المصنوعة من الصفيح قد سارت على نحو سيئ» 
مترددة» بل أنها توقفت. وبينما كان الآخرون يقذفون بالمعدن النفيس 
بإسراف وبذخ» فإن صفيحي قد نفد. لكن أوسكار نجح في إنقاذ آلة 
جديدة من البريد البولندي خالية من الخدوش نوعاً ماء بحيث أنه منح 
قضية الدفاع عن البريد مغزى» ومع ذلك فما الذي يمكن عناه طبل السيّد 
ناجالنك الابن لأوسكار الذي كان يحتاج في أفضل أوقاته إلى ثمانية أسابيع 
تقريباً ليحيل الطبل الجديد إلى حطام! وبدأت فور خروجي من 
المستوصف البلدي بالعمل على الطبل؛ محدثاً زوابع عنيفة» شاكياً فقدان 
الممرضات. كان العصر الممطر في مقبرة سازبه لم يدع صنعتي تلتقط 
أنفاسهاء بل على العكسء إذ أن أوسكار ضاعف من جهوده» مستخدماً 
مهارته وشطارته بغية إفناء الشاهد الأخير على العار الذي لحق به من قبل 
أفراد الحرس القومي؛ أي إبادة الطبل . 

بيد أنه صمدء وصار يرد عليّء ويقرع مردداً الشكوى كلما قرعته. 
ومما أثار عجبي هو أنني بدأت أتذكر موّزع الحوالات فكتور فيلون أثناء 
تلك الضربات التى هدفت إلى محو جزء محدد زمنياً من الماضي الذي 
شهدته, على الرغم من أن فيلون لا يمكن أن يشهد ضدي بسبب قصر 
نظره. لكنه ألم يتمكن من الهرب وهو قصير النظر؟ فهل يمكن أن يبصر 


عونل 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


قصار النظر أكثر من غيرهم» وأن فيلون هذا الذي كنت أطلق عليه لقب 
المسكين قد قرأ إشاراتي مثل صورة خيّال الظلٌ السوداء البيضاءء فأدرك 
خيانتي وحمل معه سرّ أوسكار وعاره بفراره إلى أنحاء العالم كلّها؟ 

وفي منتصف ديسمبر / كانون الأوّل فقدت اتهامات ضميري الأحمر 
اللهب المعلق في رقبتي قؤة الإقناع: فكشف الطلاء عن تشعبات دقيقة 
كالشعرء وأخذ يتقشّر. لقد خارت قوى الطبل» فبات رقيقاً متشققاً دون أن 
يصبح شقًافا. وكما هو الأمر عادة حين يعاني شيء ما فيسعى جاهداً 
للوصول إلى النهاية؛ فإن الشاهد الذي شهد المعاناة يود عادةً أن يختصر 
المعاناة» ويضع لها نهاية عاجلة. فأسرع أوسكار خلال أسابيع البشارة 
الأخيرة التي سبقت عيد الميلاد ليشتغل حتى استغرب الجيران ومعهم 
ماتسرات» إذ أن أوسكار أراد أن يفرغ من حساباته قبل حلول ليلة عيد 
الميلاد؛ لأنني منيّت نفسي بالحصول على طبل جديد في تلك المناسبة» 
فأنجزت مهمتي. وقبل الواحد والعشرين من ديسمبر بيوم واحد استطعت 
أن أجرّد ذلك الشيء المنكمش المهزوز والصدئ الشبيه بسيارة محطمة 
بفعل الاصطدام؛ أجرده من بدنه؛ ومن روحه أيضاًء كما أنني؛ ومثلما 
تمنيت» طويت صفحة الدفاع عن البريد البولندي إلى الأبد. 

لم يكن هناك أي إنسان - هذا إذا ما كنتم مستعدين للنظر إليّ 
باعتباري إنساناً - شهد خيبة أمل في ليلة عيد الميلاد تلك مثل أوسكار 
الذي قدمت له الكثير من الهدايا تحت شجرة الميلاد» ما عدا طبل 
الصفيح. وثمة لعبة بناء في صندوق لم أفتحه أبدأء إضافة إلى إوزة 
متأرجحة اعتبرت هدية خاصة» من شأنها أن تجعلنى البطل الأسطوري 
لوستقري ةقارس الازة .. .ويعنالة ايها من تدرا توضع -على. طاولة العطايا 
ثلاثة أو أربعة كتب مصوّرة» لكي يغيظني؛ إلى جانب قفاز وحذاء برقبة 
ورباط وبلوزة حمراء حاكتها غريتشن شفلر صالحة للاستعمال. وبفزع 
وذهول انزلق بصر أوسكار من صندوق البناء إلى الإوزة» ثم حدّق في دب 
الكتب المصورة الذي أريد له أن يكون طريفاً مضحكاًء فوضع كفوفه على 
مختلف الآلات الموسيقية . كان الحيوان المزعج الكاذب يمسك بطبل» 


58 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ذيدا كما لو أنه قادر على التطبيل» وسيبدأ حالاً بفقرة تطبيل» وكأنه منهمك 
في التطبيل؟ بينما كانت حصتي إوزة» وليس طبلاء فأصبح لدي ربما أكثر 
من ألف قطعة بناء خشبية» لكن لم يكن بيئها طبل واحد؛ فحصلت على 
قفّاز يصلح لليالي الشتاء المثلجة الشديدة البردء لكدني لم أحضل في 
فبضتي على شيء مستدير ناعم؛ بارد كالصقيع؛ مصبوغ» ومصنرع من 
الصفيح» فأحمله معي في ليل الشتاء؛ لكي يستمع الصقيع إلى بعض 
البياض ! 

آنذاك فكر أوسكار فى+ أن هاتسرات مازال يخفى الطفلء أو أن 
غريتكن شغلر التي جات بصحة عتارفا من أجل إيادة بلة عيد الميلاة 
جلست على الطبل. لعلّهم أرادوا الاستمتاع أوَّلاً بفرحي بالإوزة وبقطع 
البناء والكتب المصوّرة قبل أن يسلّموا الكنز الحقيقى. فاستسلمت وصرّت 
أتصفح الكتب المصورة كاللحيق اف ايت لور الإززة وأخذت أتأرجح, 
شاعراً باشمئزاز فظيع طوال نصف ساعة على الأقل. ثم توجب عليّ أن 
أجرب البلوزة على الرغم من سخونة البيت التي لا تطاق» وأن أضع قدميّ 
في الحذاء بمعونة غريتشن شفلر - أثناء ذلك حضر الزوجان غريف أيضاً؛ 
لأن البطة كانت معدة لستة أشخاص- وبعد التهام البطة المحشوة بالفاكهة 
القابلة للقلي التي حضرها ماتسرات بطريقة ممتازة؛ وخلال تناول التحلية 
التي كانت عبارة عن برقوق أصفر وكمثرى» وحين أمسكت يائساً بكتاب» 
وضعه لي غريف زيادة على الكتب المصورة الأربعة الأخرى؛ بعد الحساء 
والبطة والكرنب الأحمر والبطاطس المملحة والبرقوق والكمثرى» أي 
بعدما تشربئا بدخان المدفأة الحجرية» غنينا كلّناء بما فينا أوسكار» أغنية 
عيد الميلاد ثم أردفنا إليها مقطعاً: أفرحي يا شجرة التنوب أوه يا شجرة 
التنوب أوه يا شجرة التثوب كم هي خضراء جلاجلك؛ نعم؛ء جلاجلك 
القارعة في كل عام من جديدء لكنني أردت الحصول أخيراً على طبلي - 
بذلت الأجراس في. الخارج كلّ ما في وسعها- كنت أريد الحصول أخيراً 
على طبلي» وجوقة نافخي الأبواق الثملة التي انتمى إليها الموسيقي ماين 
في السابق والتي نفخت لدرجة أن فصوص الجليد المتجمدة على حواف 


ارون 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


النوافذ. . . لكنني أردت الحصول عليه؛ وهم لم يعطوه؛ لم يسلموه لي. 
فكان أوسكار يقول «نعم» وهم الا4؛ حيتئذ صرخت؛ لأنني لم أصرخ منذ 
زمن. فشحذت صوتي دفعة واحدة بعد استراحة طويلة على شكل آلة مدببة 
شارخة للزجاج؛ لكنني لم أقتل به مزهريات أو كؤوس بيرة أو مصابيح» 
ولم أقص به واجهات مخازن تجارية ولم انتزع قوّة البصر من أي نظارة» 
بل أن صوتي لم يكن حمل شيئاً إلا ضد الكريات المشعّة على أنشودة أوه 
يااكتجرة الثرت المشعة يور اعتثالاء .وفند الأجزاين الضكيرة المصنوعة 
من الزجاج الإسفنجي الهش وضد أطراف شجرة الميلاد: فتنائرت حلي 
شجرة المسيح مرددة أصوات التكسر»ء وتساقطت بلا موجب أشواك 
التتوب بما يملأ مكانس ومقشّات عديدة» غير أن الشموع ظلت متوهجة 
بصمت وقدسية» ومع ذلك فإن أوسكار لم يحصل على طبل. فلم يظهر 
ماتسرات أي تفهّم؛ كما أنني لم أعد أعرف فيما إذا أراد أن يؤدبني أو أنه 
لم يفكر ببساطة في تزويدي بالطبول في الوقت المناسب وبوفرة. كان كلّ 
شيء يسير حثيئاً في اتجاه الكارئة» وبحكم أن الفوضى الضاربة أطنابها في 
متجر بضائع المستعمرات والتي بات من الصعب التستر عليها جاءت 
متزامنة مع الهلاك المدمر الذي هددت به فقد قدّم ماتسرات لي 
وللمتجرء مثلما يفعل المرء عادةً خلال أيّام الضيق» مساعدة في الوقت 
المناسب. وبما أن أوسكار لم يكن يتمتع بالقامة المطلوية» نعلا عن أنه 
كان يرفض الوقوف وراء طاولة المتجر ليبيع الخبز المجمّف والسمنٍ 
والعسل الاصطناعي ؛ فإن ماتسرات الذي سأسميه أبي مخ ديل+ نسي 
للأمر ليس إلا استقدم ماريا تروجنسكي» شقيقة صديقي المسكين 
هربيرت» لإدارة المتجر. 

لم يكن اسمها ماريا فحسب» بل أنها كانت ماريا بالفعل. إضافة إلى . 
أنها تمكنت خلال أسابيع قليلة من تحسين سمعة المحل» مبدية إلى جانب.. 
إدارتها اللطيفة الصارمة التي رضخ لها ماتسرات متصاغراً قدراً من الفطنة , 
فيما يتعلق بتقدير حالتي. وقبل أن تحتل ماريا مكانها وراء طاولة البيع , 
قدمت لي عدة مرات طست غسيل مستهلك كبديل للطبل عندما كنت : 


رين 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أجوب سلّم البناية ذي الدرجات التي تربو على المائة» طلوعاً وهبوطأًء 
شاكياً وأنا معلق كومة الحطام على بطني. بيد أن أوسكار رفض البديل» 
ممتنعاً بكل صبر وصمود عن التطبيل على قعر طست. وحالما وضعت 
ماريا قدميها في المحل عرفت كيف تفرض إرادتها على ماتسرات» مما 
أدّى إلى تلبية رغباتي. غير أنه بات من الصعب في الواقع دفع أوسكار إلى 
الدخول إلى محلآت لعب الأطفال إلى جانب مارياء إذ أن دواخل تلك 
المحلآت الممتلئة بجميع الألوان والأشكال كانت ستجبرني بالتأكيد على 
عقد مقارنات مؤلمة مع محل زيغسموند ماركوس الذي سحقته الأقدام. 
فكانت ماريا تتركني برقة وطاعة انتظر خارج المحلٌ» أو أنها كانت تنظم 
عملية الشراء بمفردهاء وصارت تأتي لي بطبل صفيح جديد كل أربع أو 
خمسة أسابيع» حسب الحاجة»؛ واضطرت إِبَّانَ السنوات الأخيرة للحرب 
0000 حتى الطبول حيث وضعت تحت إشراف الدولة إلى تقديم 
السكر أو أوقية من القهوة للباعة لكي تحصل على طبلي لي خفية» أي 
تحت الطاولة كما يقال. لقد فعلت ذلك كله دون أن تتأفف أو تهرّ رأسها 
أو تقلب عينيهاء إنما باهتمام جديّ وبالبداهة ذاتها التي كانت تبديها كلّما 
البستني سراويلي المرقعة وجواربي ومعاطفي البيضاء. وعلى الرغم من 
خضوع علاقتي بماريا إلى التغيير المستمر في الأعوام اللاحقة» والتي لم 
تتضح معالمها تمامأ إلى يومنا هذا؛ فإن الطريقة التي كانت تسلمني بها 
الطبل بقيت على حالهاء حتى لو ارتفع سعر طبل الأطفال اليوم ارتفاعاً 
كبيراً مقارنة بالعام .195٠‏ 

واليوم أصبحت ماريا مشتركة في مجلة للموضة؛ فأضحت ترتدي 
ثبابا أنيقة من زيارة إلى أخرئ: وآنذاك؟ هل كانت ماريا جتفيلة؟ كان لها 
وجه مستدير نضرء ونظرة باردة» لكنها لم تنطلق بفتور وبلادة من عينين 
مجللتين برموش كثيفة قصيرة» عيئين رماديتين وبارزتين إلى حد ما تحت 
الحاجبين الكثيفين المتصلين فوق عرق الأنف. وكانت عظام وجهها 
المتميزة اللي كان أذيعها يتوتر أزرقٌ عند اشتداد البرد» فينفلق بألمء كت 
وجهها سطحاً مستوياً .* يشي بالهدوء الذي لا يعكر صفوه الأنف الصغير غير 


رضن 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المنفر أو الغريب الشكل. ٠‏ بل المتناسق على رغم دقته ؛ بينما كان جبينها 
مستديراء خفيضأًء وقد بانت عليه» منذ زمن مبكرء تجاعيد التأمل 
العمودية فوق عرق الأنف الذي علاه شعر الحاجبين. وقد التصق بصدغيها 
شعرها الخفيف التجعّد البئّي الذي بات لونه اليوم مثل لون الجذوع 
المبللة» ليطبق من هناك على جمجمتها الصغيرة الثابتة الخالية من القحفة 
الناتئة مثلما كانت جمجمة الم تروجنسكي . عندما ارتدت ماريا المريلة 
البيضاء وانتصبت وراء طاولة محلنا بدأت تضفر جدائل خلف أذنيها 
الصلبتين الضاجتين بالعافية» حيث كان الدم يسري فيهما على عجل» 
والتي لم تنفصل شحمتاهما بحرية» للأسف الشديد» بل بدتا ضعيفتي 
الخلايا والأنسجة» خارجتين مباشرة من اللحم فوق الفكُ الأسفلء دون 
أن تخلفا تجاعيد قبيحة» لكنها كافية للاستدلال على طباع ماريا. فيما بعد 
ثرثر ماتسرات في رأس الفتاة لكي تكوي شعرها: لكن الأذنين ظلتا 
مختفيتين. أما اليوم فقد أضحت ماريا تعرض علناً أذنيها الملتحمتين تحت 
شعر رأسها الكثيف؛ المقصوص على طريقة الموضة الحديثة» بيد أنها 
صارت تموّه ذلك العيب الجمالي الطفيف بأقراط ضخمة خالية من 
الذوق. ومثلما كان رأس ماريا يمكن القبض عليه بكف واحدة؛ فإن 
وجنتاها كانتا مكتنزتين؛ وعظام وجنتيها بارزتين» وكانت لها عينان 
واسعتان تمددتا بسخاء على جانبى الأنف غير المثير للانتباه» وكان كتفاها 
عريضين بالقياس إلى حجم جسدها الصغير أكثر من المعدل المتوسط» 
وكان ثدياها ممتلئين نافرين أسفل الذراعين مباشرة ولها حوض متناسب مع 
المؤخرة الثرية» على العكس من الساقين الرشيقتين القويتين اللتين تتيحان 
الرؤية من أسفل العانة واللتين حملتا المؤخرة. 

لعل ماريا كانت حنفاء القدمين آنذاك» وتراءى لى كذلك بأن يديها 
الفعيرقين دافا كاننا شرن واصاءدا قايظة #السوى عل النشضن هن 
التناسب النهائي لقوامها اللطيف. فهي لم تستطع نكران يديها الطفوليتين 
تكرانا ثاماً إلى يوهنا هتاء آنا قدماها اللعاق كانعا تعائيان زمانا من وطأة 
أحذية التجوال الضخمة» وفيما بعد من أحذية المسكينة أمّي الأنيقة 


فرضنا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المظهر» القديمة الطراز» التي لم تكن تناسب حجم قدميها بالضبط » 
فقدتاء على الرغم من الأحذية غير الصحّية المستعملة» الحمرة الطفولية 
والطرافة» متكيفتين مع نماذج الأحذية الألمانية الغربية الحديثئة وحتى 
الإيطالية المنشأ. ولم تكن ماريا تتكلم كثيراً» لكنها كانت تغني بسرور أثناء 
غسل الأطباق وأثناء ملأ أكياس السكر الزرقاء من فئة نصف الكيلو أو 
ربعه. بعد إغلاق المحلّ حين يقوم ماتسرات بحساب المدخول [الدخل] 
اليومي» أو حين تسمح ماريا لنفسها باستراحة قصيرة لمدّة نصف ساعة؛ 
فإنها تسارع إلى التقاط هرمونيكا الفمّ التي أهداها لها شقيقها فرتس قبل أن 
يستدعى ليساق إلى غروس -بوشبول . 

كانت ماريا تعزف كل شيء على هرمونيكا الفم: من أغاني الجوالين 
التي تعلمها في الأمسيات المحلية لاتحاد الفتيات الألمانيات إلى ألحان 
الأوبريتات الهزلية والأغاني الشائعة التي استرقت سمعها من المذياع ومن 
شقيقها فرتس الذي أمضى في العام الأربعين أثناء سفرة رسمية بضعة أيّام 
في دانسغ . مازال أوسكار يتذكر كيف أن ماريا كانت تعزف لحن «قطرات 
المطر؛ بطقطقة لسانها وكيف أنها استدرجت من هرمونيكا الفم أغنية 
«الريح روت لي لحناً؛ دون أن تقلّد المغنيّة سارة لياندر. بيد أن ماريا لم 
تخرج آلتها قط أثناء العمل» حتى لو لم يكن هناك زبائن» إنما تمتنع عن 
الموسيقى» وتكتب بأحرف دائرية صبيانية الشكل قطع الأسعار أو قوائم 
الإنذار. وعلى الرغم من أنها كانت تقود المحل» بحيث لا يمكن غض 
النظر عن كسبها للزبائن من جديد الذين» أولئك الذين باتوا يشترون 
بضاعتهم من المنافسين عقب وفاة أمّي المسكينة وجعلتهم من العملاء 
الدائمين؛ فقد احتفظت إزاء ماتسرات يقدرين الخصوع الذي يضاهي 
الاحترام دون أن يحمل ذلك الرجل جل المقتنع بنفسه دائماً على الحيرة ة أو 
الاضطراب ولو لمرّة واحدة. 

كان غالباً ما يكرر حجته القائلة: «أنا الذي أتيت في آخر الأمر بالبنت 
إلى المحل وعلمتها؛ عندما يطلق بائع البقَّال غريف وغريتشن شفلر 
تلميحات لاذعة. بتلك البساطة كانت استدلالات ذلك الرجل الذي لا 


ازفرونا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


يبدو في الواقع مرهف المشاعر متميزاً وجديراً بالاحترام إلا أثناء هوايته 
المفضلة؛ أي أثناء الطهي. يجب على أوسكار أن يترك له هذا الأمر: 
فالضلوع التي كان يطبخها بالكرنب المخلل وكلى الخنزير المخلوطة 
بصلصة الخردل وشرائح اللحم المرشوشة بمدقوق البقسماط المحضرة 
على طريقة فييناء لاسيما سمك الشبّوط مع القشدة والفجل المتخصص به 
تخصصاً كاملاً؛ ذلك كله كان يمكن رؤيته وشمّه وتذوقه. وإذا لم يكن 
يقدم الكثير لماريا في المحلّ؛ لأن البنت كانت تتمتع أوّلاً بحاسة فطرية 
في التعامل مع المبالغ النقدية الصغيرة» وثانيا لأن ماتسرات لم يكن يفقه 
إلا القليل من حيل التجارة بالمفرق ودقائقهاء ولم يكن صالحاً إلا 
للمشتريات من أسواق الجملة» لكنه علم ماريا الطهي والقلي والطبخ 
بالبخار؛ إذ أنها حين بدأت بالعمل فى المحل كانت غير قادرة على جلب 
ماه املق تورن كادت 05 كنات خاو المذة عافيق لدى عائلة موظنين 
في «شدلتس». وما لبث ماتسرات أن أصبح يرى نفسه مثلما كان يراها إِبّان 
حياة أمّي المسكيّنة : كان يحكم في المطبخ؛ مصعداً مهاراته من أكلة فاخرة 
إلى أخرىء فصار يمضي ساعات طويلة في غسل الأواني بكل سرور 
وارتياح» ويجهز إلى جانب ذلك المشتريات التي بات الحصول عليها إيان 
أعوام الحرب عسيراً باستمرارء ويقيّد الحسابات والطلبيات المتعلقة 
بشركات مبيعات الجملة والمكتب التجاري» مواظبا على تبادل الرسائل مع 
دائرة الضرائب» باستثناء بعض الانقطاع» مرتبا الحاجيات في واجهة كل 
أربعة عشر :يوماء ترتيبا لا يغلو عن مهارةء بل عقف عن خيال وذوق: 
منفذا بمسؤولية واعية آموره الحدية» كان مفهلا عبلة وشصينة أن 
ماريا كانت تنتصب بثبات ورباطة جأش وراء طاولة المحل. 

وربما ستسألونني ما الذي تعنيه كل هذه المقدمات وهذه الاستطرادات 
المسهبة حول عظام حوض البنت وحاجبيها وشحمتي أذنيها ويديها 
وقدميها؟ إنني أقف إلى جانبكم تماماًء وأدين معكم هذا الطريقة في وصف 
الناس. فأوسكار مقتنع بما لا يقبل الشك بأنه نجح إلى حدٌ الآن في تشويه 
صورة مارياء إن لم يكن قد أخطأ في رسمها إلى الأبد. لذلك فثمة جملة 


537 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أخيرة في هذا الصدد»ء أتمنى أن تكون جملة إيضاحية: إن ماريا كانت 
الحبّ الأوّل لأوسكارء إذا ما استثنيت الممرضات المجهولات الهوية. 
فأدركت تلك الحالة بعدما أنصتٌ ذات يوم؛ وكنت نادراً ما أفعل ذلك» 
فلاحظت بأي قدر من الجدّة والإلحاح والاحتراس في الوقت نفسهء أفضى 
أوسكار بهواه إلى طبله» فاستقبلت ماريا ذلك التطبيل بالاستحسان. ومع 
ذلك» فإنني لم أظهر أي تفهّم كلّما هرعت إلى هرمونيكا فمهاء لتقطب 
جبينها فوق طبلة الحلق؛ معتقدةً بأنها يجب أن تصاحبني في العزف. لكنها 
كانت غالباً ما تنكس يديها وتتطلع إليّ بجديّة» من خلال مضربي الطبل 
وبوجه عميق الهدوء. ثم تسرح بيدهاء قبل أن تمسك ثانية بجورب الرتق» 
لتتحسس شعري القصير بحركة رقيقة ولذيذة كالنعاس. 

كان أوسكار الذي لم يحتمل عادةً أي لمسة حتى لو كانت حانية 
كتلك» قد سمح ليد ماريا بذلك» فوقع تحت تأثير التحسس لدرجة أنه 
كان يقرع ساعات طويلة على الصفيح» وبوعيء» إيقاعا يغري بالتحسس» 
إلى أن تصغي له يد ماريا أخيرأء فتفعل به فعلاً حسنا. وإلى جانب ذلك 
كانت ماريا تأخذني كل مساء إلى الفراش» فتجردني من ثيابي وتغسلني 
وتساعدني على ارتداء البيجامة» وتنصحني تفرية مثانتي قبل النوم؛ 
وتصلّي معي الصلاة الربّانية الكاثوليكية؛ على الرغم من أنها كانت 
بروتستانتية المذهب؛ وتلحق بها ثلاث مرّات دعاء حييت يا مريم؛ مضيفة 
بين الحين والآخر: أهيم بك حبًّا يا يسوع وأموت دونك» ثم ترد عليّ 
الغطاء بوجه لطيف», يجعل المرء متعبا. ومهما بدت جميلة تلك الدقائق 
التي كانت تسبق إطفاء الضموء - كنت شرعت آنذاك تدريجياً في تغيير 
الصلاة الربّائية (وأهيم بك حبّا يا يسوع) إلى (أحبيك يا نجمة البحر وحبًا 
بمريم)» ملمحا تلميحات رقيقة- فإن ذلك التحضير المسائي لهجعة الليل 
كان مؤلماً بالنسبة لي فكاد يقوّض سيطرتي على أعصابي ويمنحني» أنا 
الذي كنت أحافظ كل الوقت على ماء وجهىء؛ حمرة الخجل الغادرة التى 
تضرّج غخزوة المرافتى والقباب المعييني  ١‏ 

أوسكار يقرّ بأن: كلما كانت ماريا تخلع عني ثيابي بيديها لتضعني في 


7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


حوض الغسيل المصنوع من الزنك» مزيلة عن جلدي غبار التطبيل 
بممسحة الشطف والفرشاة والصابون ثم تجليني؛ نعم كل مرّةء عندما 
أردك» أنا الذي بلغت السادسة عشرة» بأنني كنت أقف عارياً أمام فتاة ذات 
سبعة عشر عاماً تقريباً. تجتاحني حمرة الخجل بعنف» فأصبح متوهجاً 
على نحو متواصل. ومع ذلك» بدا كما لو أن ماريا لم تلحظ تغيّر لون 
جلدي. فهل اعتقدت بأن ممسحة الغسل والفرشاة جعلتاني ساخناً؟ أم أنها 
قالت لنفسها إن النظافة هي التي سخنت أوسكار؟ أم أنْ ماريا كانت خحجولة 
ومؤدبة بما يكفي لاكتشاف الشفق المسائي اليومي على جلديء إلا أنها 
تغاضت عنه عمداً؟ وأصبحت إلى اليوم غرمة لعللت العيفة المفاجئة التي 
لا يمكن التستر عليها قط والتي تدوم خمس دقائق أو أكثر. كان الدم يندفع 
متدفقاً في عروقي كلما أتى أحد ما بقربي» من أولئك الذين لست بحاجة 
إلى التعرف إليهم؛ على ذكر الأطفال الصغار الذين يجلون في حوض 
الحمّام بممسحة الشطف والفرشاة» تمامأ مثلما كانت حمرة الزناد النارية 
تتمكن من جدّي كولياجك مشعل النيران حين يأتي أحد على ذكر كلمة 
عود الثقّاب في حضوره. 1 

كان أوسكار يقف كما الهندي الأحمرء كان المحيط الخارجي 
يبتسم» ويعتبرني غريب الأطوار» بل شادًاً: فما الذي كان يعني محيطي إذا 
ما صوبن الأطفال الصغار برغوة الصابون ودعكت أجسامهم ومررت على 
مناطقهم الصامتة ممسحة الشطف؟ فكانت مارياء ابئة الطبيعة» تسمح 
لنفسها بالقيام بأفعال شديدة الجرأة في حضوري» وبدون أي تردد. فباتت 
تخلع جوربها الطويل» مبتدئة من الأعلى» قبل أن تمسح أرضية غرفتي 
الجلوس والنوم؛ تلك الجوارب التي أهداها لها ماتسرات فأرادت أن 
تحافظ عليها. وذات سبت بعد إغلاق المحل - ذهب ماتسرات إلى مكتب 
اللجنة المحلية للحزب لإنجاز بعض الأشغال» فبقينا بمفردنا- خلعت ماريا 
جونلتها وبلوزتها وبقيت واقفة إلى جانبي عند طاولة غرفة الجلوس بالتنورة 
الداخلية البائسة» النظيفة أيضاًء وبدأت تزيل بالبنزين بعض البقع المتسخة 
من الجوئلة والبلوزة. 


كرض 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كيف كان ممكناً أن تنضح ماريا بعطر الفانيلا اللطيف الخلآب 
بسذاجة حالما تنضو ثيابها الخارجية فتتبدد رائحة البنزين؟ فهل كانت تفرك 
نفسها بعرق الفانيلا؟ أم كان هناك عطر رخيص يمثل ذلك الاتجاه 
العطري؟ أم كان ذلك العطر خاصاً بها مثلما كان محلول النشادر بالنسبة 
للسيّدة كاتر أو مثلما كانت رائحة الزبد الزنخ قليلاً تحت ثياب جدّتي 
كولياجك؟ فأخذ أوسكار الذي كان يبحث عن حقيقة الأمور يتقضّى عطر 
الفانيلا: ماريا لم تفرك جسدهاء بل كانت رائحتها هكذا. نعم؛ إنني مقتنع 
إلى اليوم بأنها لم تنتبه أبداً إلى عطرها الملازم لها؛ لأن إذا ما ارتجفت 
حلوى «فانيلا البودنغ» على الطاولة في يوم أحد بعد لحم العجل المشوي 
والبطاطس المهروسة والقرنبيط المطيّب بالزبد البنيّ؛ ترتجف لأنني كنت 
اضرب قائمة الطاولة بحذاتي الطويل + فإن ماربا التي كانت تحت الجريش 
الأحمن لم تأكل.من البودتخ إلا قليلاً وعلى نض + بينما كان أوسكار 
ومازال مغرماً بهذا النوع البسيط من الحلوى» والذي هو ربما أكثر أنواع 
الحلوى ابتذالا . 

وفي يوليو/ تمّوز من العام الأربعين؛ عقب فترة وجيزة على النبأ 
الخاص عن مجرى الهجوم العاجل والناجح على فرنسا بدأ موسم 
الاصطياف على شواطئ بحر البلطيق. وفي الوقت الذي بعث فيه رئيس 
العرفاء افرقين» شقيق هاريا يدل تطافات البريف هن رازيس انكل ماشترات 
زفاريا قرارا بأن يذغي آرسكان إلى البسرء لآن هواة التحر سكون ناذعاً 
جدّاً لصحته. فكان على ماريا أن ترافقنى إلى شاطئ بروزن أثناء استراحة 
الظهر - كان المحلّ يغلق من الساعة الواحدة إلى الثالثة - حتى لو تأخرت 
إلى الرابعة فإن ذلك لا يضر؛ إذ أنه سيقف عند الضرورة وبكل سرورء 
وراء طاولة البيع ويعرض نفسه للزبائن. فتمّ شراء لباس سباحة لأوسكارء 
أزرق اللون بأزرار على شكل المرساة؛ وجلبت ماريا معها لباساً أخضر 
وشيّت حواشيه بالأخضرء كانت أهدته لها الراهبة اغوسته» ترسيخاً 
للانتماء المذهبي. وثمة برنس حمّام أبيض من الصوف المنفوش حشر في 
حقيبة استحمام تعود إلى أزمان أمّي المسكينة التي خلفتها مثلما خلفت 


وخرضنا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المعطف. إضافة إلى جردل من البلاستك ومجرفة صغيرة وقوالب مختلفة 
للكعك الرملي لم يكن لها أي موجبء فحملت ماريا الحقيبة» وحملت 
أنا الطبل. 

كان أوسكار يشعر بالخوف من المرور بالترام بمحاذاة مقبرة سازبه. 
ألم يخشى أن تفسد عليه رؤية ذلك المكان الصامت» البليغ العبارة معاً» 
رغبة الاستحمام التي لم تكن كبيرة أصلاً؟ فسأل أوسكار نفسه: كيف 
ستتصرف حينئذ روح يان برونسكي عندما يمرّ مهلكة قرب قبره» راكباً 
الترام ذا الأجراس» حتى لو كان مرتديا ثياب صيف خفيفة؟ 

وتوقف الخط رقم تسعة» فنادى الجابي باسم محطة سازبه» فتطلعت 
بضيق عبر ماريا نحو اتجاه بروزن» حيث كان الترام المعاكس يتقدم زاحفا 
وحجمه يكبر ببطء. والآن فعلى البصر أن لا ينحرف! فما الذي يمكن 
مشاهدته هناك؟ أشجار صنوبر ساحلية هزيلة ومشبّك حديدي مزخرف 
وفوضى الشواهد المتداعية التي لم يعد هناك من يقرأ سطورها سوى 
الحسك وأعواد الشوفان الصمّاء. فمن الأفضل التطلع عبر النافذة إلى 
الأعلى: حيث هدرت طائرات يو 01 المتينة بما لا تستطيع فعله إلا 
الطائرات ذات المحركات الثلاثة أو الذباب العظيم الضخامة في سماء 
يوليو/ تموّزالصاحية. ثم تحرك ترامنا قارعاً أجراسه. فتركنا الترام القادم 
من الجهة المقابلة يحجب عنًا الرؤية» وبعد المقطورة الأخيرة مباشرة 
استدار رأسى إلى الخلف؛» فأحطت بالمقبرة المتداعية وكذلك بجزء من 
الجدار الشمالي الذي وقع الموضع الأبيض منه؛ والذي كان ملفتاً للنظر» 
في الظل» إلا أن الأمر برمته بدا مؤلما. . . 

وتناءى ذلك الموضع شيئاً فشيثاًء واقتربنا من بروزن» فرمقت ماريا 
من جديد. كان جسدها يملأ ثوباً صيفاً خفيفاً منقوشاً بالزهورء وقد 
انتظمت سلسلة من الكرز الخشبي القديم المتمائلة الخرز على جيدها 
البض والشاحب معاء مرتخية فوق عظم الترقوة الصلب» طافحة بالنضج 
مثلما أوحت. فهل شعرت بذلك أم شممته فعلا؟ 

انحنى أوسكار إلى الأمام قليلاً - حملت ماريا رائحة الفائيلا معها إلى 


ل كرذرا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بحر البلطيق » فاستنشقت الطيب بعمق» متجاوزاً برهةً يان برونسكي 
الرميم. لقد لقد تحوّل الدفاع عن البريد البولندي إلى تاريخ قبل أن ينسلخ 
لحم المدافعين عن عظامهم؛ لكن أوسكارء الناجي» تنم عطورا الجر 
مختلفة عن تلك التي حملها الأب المفترض الشديد التأنق زماناً والذي بات 
اليوم ينا مستويا . 

وفي بروزن اشترت ماريا رطلاً من الكرزء وأمسكت يدي - كان تعلم 
بأن أوسكار لا يسمح بذلك إلا لها وحدها - وقادتنا حوية غير غابة 
الصنوبر الساحلية إلى شاطئ الاستحمام. وعلى الرغم من بلوغي الستة 
عشر عاماً تقريباً فإن مراقب المسبح الذي لم يكن يمتلك قدرة على 
التخمين سمح لي بدخول قسم السيّدات. كانت حرارة الماء بلغت ثماني 
عار ورج ة والهواء ستا وعشرين والريح شرقية - وسيكون الطقس المتوقع 
ضاحا؛ دُوْنت هذه الأشياء عن اللوحة السوذاء إلى جانب ملفة جبيعية 
الإنقاذ الذي تضمن نصائح تتعلق بإسعافات ردٌ الحياة» فضلاً عن رسوم 
ساذجة بالية الأسلوب. كان الغرقى يرتدون كلهم ملابس سباحة مقلمة» 
وحمل المنقذون شوارب وقبعات قشء عائمين فوق مياه غدّارة خطرة. 
وسارت خادمة المسبح الحافية القدمين أمامناء وقد لمت حول جسدها 
حبلا كما التائبة» معلقةٌ في طرف الحبل مفتاحاً ضخماً يصلح لفتح أكشاك 
الاستحمام جميعها. ثمة ممرات والدرابزين كانت على الممرات. وأحاط 
حصير من ليف جوز الهند المتيبس بالأكشاك. فحصلنا على الكشك رقم 
01 . كان خشبه دافئاً وجافاء ولونه أبيض طبيعياً؛ مائلاً إلى الزرقة» أودّ 
أن ألقبه باللون الأعمى. وثمة مرآة إلى جانب كوّة الكشك» لم تأخذ حتى 
نفسها مأخذ الجد. 

كان على أوسكار أن يخلع ثيابه في البدء» ففعلت ذلك مولياً وجهي 
إلى الجدار» ولم أفسح لها المجال لتساعدني إلا على كره. ثم أدارتني 
ماريا إليها بقبضتيها المشدودتين العمليتين» ورفعت لباس السباحة الجديد 
لتحشرنى بلا مبالاة فى ذلك الصوف الضيّق الفصال. حالما زرّرت 
حمالات سروالي رفعتني فوق مصطبة خشبية أمام الجدار الخلفي للكشك 


رونا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وضغطت الطبل والمضربين على فخذيّ وبدأت تنضو ثيابها بحركات قويّة 
سريعة. وفي البدء طبلّت قليلاًء وأحصيت أيضاً ثقوب الخشب الداكنة 
على ألواح الأرضية» ثم تخليت عن التطبيل والإحصاء على السواء. كان 
من غير المفهوم بالنسبة لي هو أن ماريا بدأت تصفر باستقامة وبشفتين 
مزمومتين على نحو غريب حين ترجلت عن الحذاء؛ فصفرت نغمتين 
عاليتين» ومن ثم منخفضتين» فخلعت جوربيهاء وأخذت تصفر مثلما 
يصفر سائق عربة البيرة» متجردة من القماش المطبوع بالزهور لتعلّق التثورة 
الداخلية فوق الثوب وهي تصفرء ثم أسقطت مشد الثديين غير منقطعة عن 
الصفير.ء وصارت تصفر بمشقة دون أن تعثر على لحن مناسب عندما 
خلعت سروالها الداخلي إلى حد الركبة والذي كان في الواقع عبارة عن 
شورت رياضيء تاركة إيَاه ينزلق على القدمين» وخرجت من فردتي 
السروال الملفوفتين» ثم أزاحته إلى الزاوية بأطراف قدمها اليسرى. 

وأرعبت ماريا أوسكارٌ بمثلثها المشعر» فهو كان يعلم وعن طريق 
أمّه؛ المسكينة في الواقع» بأنّ النساء لسن قرعاوات من الأسفل» بيد أن 
ماريا لم تكن امرأة بالمعنى التي كانت عليه أمّه حين برهنت لماتسرات 
ويان برونسكي على أنها امرأة حقيقية. 

وحينئذ عرفتها على الفورء فجعلني الغضب والخجل والاستياء وخيبة 
الأمل والتصلّب نصف الغريب ونصف المؤلم الذي دبّ في رشاشة مائي 
الصغيرة تحت لباس السباحة» جعلنى أنسى الطبل والمضربين من أجل 
للك التقترب السديه التق اتقد وانتقال انان دركتب أرسكا رمن 
ماريا. فتلقفته بشعرهاء فترك وجه يلتحم بالشعره حتى نبت بين شفتيه. 
فضحكت ماريا وهمّت بإزاحته عنها. لكنني صرت أجذبها إليّ أكثر فأكثر» 
ع انطيت نار ضطر القائيلا :يننا واصلك خازيا الشحكه وتركتني 
ملتصقاً بعطرهاء بذا كأنها شعرت بمتعة» إذ أنها لم تتوقف عن الضحك . 
غير أنني لم أتخل عنها إلا بعد أن تزحلقت قدماي» فجلب لها تزحلقي 
ألمء حينئذ فقطء أي بعد أن حصرت الفائيلا الدمعّ في عينيّ كما لو أنني 
تذوقت فطراً أو شيئاً شبيهاً له في حدّتهء وليس طعم الفانيلاء أي بعدما 


ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لوثتني الرائحةٌ الأرضية التي أخفتها ماريا خلف الفانيلا بطعم الفناء إلى أبد 
الآبدين» تلك الرائحة التي تسمّرت على جبين يان برونسكي الرميم . 

وانزلق أوسكار على أرضية الكشك العمياء» وكان مازال يبكي حين 
رفعته ماريا التي عادت إلى الضحك ثانية» وحضتته في ذراعيهاء وصارت 
تداعبه وتضمه إلى عقد الكرز الخشبي الذي كان بمثابة قطعة الملبس 
الوحيدة التي بقيت على جسدها. ثم استعادت شعرها من شفتي وهي تهز 
رأسها متعجبة: «أنت فعلا وغد صغير! تدفع نفسك وما تعرف ما هي 
القصة. ثم تبكي بعد ذلك !) 


١5م‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المسحوق الفؤار 


هل يعني لكم هذا المصطلح شيئاً معيناً؟ كان يمكن الحصول على 
هذا المسحوق في أكياس مسطحة خلال فصول السئة كلها كانت أمي 
تبيع في محلنا جِوَّيْسِئَة المسحوق الفرّار في أكياس خضراء حدّ التقيؤ» وقد 
استعارات لونها من النارنج» وأطلقت على نفسها اسم: مسحوق فوّار 
مخلوط بطعم البرتقال. وثمة مسحوق فرّار بطعم التوت الشوكي» وكذلك 
مسحوق فوّار إذا ما صب فوقه المرء ماءٌ صافياً من الحنفية»: فإنه يصدر 
وشوشةً ويفور ويتفاعل» وإذا ما شربه المرء قبل أن يهدأ يكون طعمهء عن 
بُعدء مثل طعم الليمون» ويكون اللون في القدح أكثر حدَّةٌ: لوناً أصفر 
اصطناعياً يتظاهر بمظهر السمّ. فما الذي كُتب على الأكياس إضافة إلى 
نوعية الطعم؟ كُتب: منتج طبيعي - محميّ قانونياً - يحفظ بعيداً عن 
البلل- وجاء تحت خط منقوط : افتح من هنا. 

أين يمكن» ما عدا ذلك» شراء المسحوق الفوّار؟ وليس فقط فى 
محل أمَيء إنما في جميع محلآت يضائع المستعمرات؛ باستثناء قهوة- 
كايزر ومتاجر البضائع الاستهلاكية» يمكن شراء المسحوق الموصوف 
أعلاه . وكان الكيس الواحد منه يباع هناك أو في دكاكين المرطبات جميعها 
بغلائة فلوس. وكناء أنا ومارياء نحصل على المسحوق الفوّار مانا إلا 
إذا ما عجزنا عن الانتظار حتى الوصول إلى البيت؟؛ حينئذ نضطرٌ إلى دفع 
ثلاثة أو ستة فلوسء» لأننا لم نكن نحصل على ما يكفي» فنطلب كيسين 
من المسحوق من محلات بضائع المستعمرات أو دكاكين المرطبات. 

فمن منّا بدأ بالمسحوق الفوّار؟ هذه هي مسألة الخلاف بين العشّاق! 


5 


1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


فأنا أقول إن ماريا هي التي بدأت. ماريا لم تدع يوماً بأن أوسكار هو الذي 
بدأ. إنما تركت السؤال مفتوحاًء وحين تُحرج بالسؤال؛ فإنها تجيب على 
أية حال: «المسحوق الفوّار هو الذي بدأ.» وبالطبع أن أي إنسان سيعطي 
الحقّ لمارياء إلا أوسكار الذي لم يقتنع بحكم الإدانة هذا. إنني لا أودّ 
أنداً الاعتراف:بأن: كيسا من المسحوق الفوّار من المخل بسعر ثلاثة فلوس 
هو الذي أغرى أوسكار. كنت أآنذاك في السادسة عشرة وكان يهمنى أن 
أدين نفسي أو ماريا عند الضرورة» لكن لا أورجه الاداثة إلى كيس مزه 
مسحوق الفوار؛ يجب حفظه عن الرطوبة. 

حدث ذلك بعد أيّامِ قلائل على عيد ميلادي» فكان موسم الاستحمام 
قن انتهى تسب التقويم الستري ٠‏ بيد أن الطقسن لم بحت أن يعرف قينا 
عن شهر سبتمبر / أيلول. فعقب أغسطس ممطر استعرض الصيف كل ما 
قدر عليه؛ فكان يمكن قراءة إنجازاته المتأخرة على اللوحة المجاورة 
لملصق جمعية الإنقاذ الذي سُمَّر على قمرة مراقب المسبح: الهواء ١9‏ 
درجة - الماء ٠١‏ - الريح جنوبية شرقية - الطقس صحو غموما. 

وبينما كان فرتس تروجنسكي يكتب» بصفته رئيساً للعرفاء في القرّة 
الجوية؛ بطاقات البريد من باريس وكوبنهاغن وأوسلو وبروكسل - كان 
الملعون يقوم دائماً بسفرات رسمية -حظيناء أنا ومارياء ببعض السمار 
بفعل الشمس . في يوليو كان مكاننا الثابت قبالة جدار الشمس التابع لحمّام 
العائلات. ولأن ماريا كانت تشعر بالاضطراب من الممازحات السمجة 
لبعض تلاميذ مدرسة «كونراديموس» ذوي السراويل القصيرة الحمراءء 
ومن المغازلات المملة المتكلفة لتلميذ فى ثانوية-بتري» فقد تخلينا في 
منتصف أغسطس عن الحمّام العائلي» وعدرنا على عكان هادئ في حمّام 
النساء؛ قريباً من الماء» حي خاضت تساء بدينات فى المدّ حدّ دوالى بطة 
الساقع قتعاف الألقان كل مساق بعر اللطليق التصيرة» وعيك كان 
الأطفال الصغار العراة» غير المؤدبين يكافحون ضد القدرء بمعنى أنهم 
كانوا منهمكين بتشبيد قلاع من الرمل سرعان ما كانت تنهار. 

وحمّام النساء: إذا ما اختلت النساء بأنفسهن؛ معتقدات بأن ليس 


ونا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


هناك من يراقبهن؛ فإن على الفتى الذي أضمره أوسكار في شخصه آنذاك 
أن يقمض عينيه لثلا يتحوّل إلى شاهد إجباريّ على الأنوثة غير المتكلفة: 

كنا قد اضطجعنا على الرمل» ماريا بلباس السباحة الأخضر الأحمر 
الحواف وتدمورتة :تسن آنا بالباس الأزرق: نوندا الرمل هاجعا والبحز 
غافياً. والقواقع نيحئعيا الأقدام. فلم تعد تصغي إلى أيّ شيء. أمّا 
الكهرمان الذي يقال عنه إنه يجعل المرء حي متيقظاً فقد رقد فى مكان آخرء 
والريح الك بحدوت لرحة الطفس اتجاهها الجتوين الشرتي شت على 
مهل» والسماء القصيّة المرهقة لم تنقطع بالتأكيد عن التثاؤب؛ وكذلك كنّاء 
ماريا وأناء متعبين. والآن فإن الكرز هجع كنواة رطبة إلى جانب نواة كرز 
العام الماضي الخفيفة الجافة البياض. فصار أوسكارء وبتأثير مشهد الفناء 
الكبير» يهيل الرمل ومعه نواة الكرز ذات العام الواحدء أو الألف عام؛ أو 
تلك التي مازلت فتيّة» على طبله؛ صانعاً منه ساعة رمل» ثم حاول أن 
يمثل دور الموت من خلال عبثه بالعظام. فتخيلت أجزاءً من هيكل ماريا 
العظمي الشديد اليقظة تحت اللحم الغافي الدافئ؛ مستمتعاً برؤية ما بين 
الزند وعظم الكغْبرّة» وجعلت لعباتي الإحصائية تصعد وتهبط فوق عمودها 
الفقري» متوغلاً في نقرتي الوركين» متسليًاً بعظم القص . 

وعلى الرغم من اللهو كله الذي شملت نفسي به باعتباري الموت 
المصحوب بساعة الرمل؛ فإن ماريا تحركت. ثم مدت يدها إلى حقيبة 
الشاطئ» بلا تبضّرء معتمدة على أصابعها وحدهاء باحثة عن شىء ماء 
بيغا جعلت بقية الرمل تناب مع ثواة الخرؤ الأخيرة في الطبل المليء 
بمقدار النصف. ولأن ماريا لم تعثر على ما بحثت عنه» ولعلّه كان 
هرمونيكا الفمّء فقد قلبت الحقيبة: لكن لم تسقط على ملاءة الاستحمام 
أي هرمونيكاء إنما كيس من جويسئة المسحوق الفوّار. 

وتصنعت ماريا الدهشة؛ أو ربما فوجئت بالفعل. بينما أصبت أنا 
بالمفاجأة حقَّاً. فأخذت أقول فى نفسىء معيداً القول ومازلت أعيده إلى 
اليوم: كيف وصلت هذه السلعة الرخيصة التي لا يشتريها سوى الأطفال 
أبناء العاطلين عن العمل وعمّال الشحن؛ لأنهم لا يملكون النقود الكافية 


”30> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لشراء الليمون العادي» كيف وصلت هذه البضاعة الكاسدة إلى حقيبة 
الشاطى؟» 

وأثناء ما كان أوسكار يفكر في الأمرء شعرت ماريا بالعطش» فتوجب 
عليّ أنا كذلك الاعتراف بالعطش الملحٌ؛ على الضدّ من إرادتي» قاطعاً 
تأملاتي. لم يكن لدينا قدح» وكان على أحدنا أن يقطع خمساً وثلاثين 
خطوة على الأقل للوصل إلى ماء الشرب» هذا إذا ما ذهبت ماريا. وإذا ما 
عنّ لأحد أن يخطو بين جبال اللحم اللامعة بدهان الجلد المستلقية على 
الفلهر أو البطن» ليستعير قدحا من مراقب المسبح» ويفتح حنفية الماء 
المجاورة لقمرة المراقب؛ فإن ذلك يعني تحمل آلام الرمل الساخن. 
فتوجسنا من الذهاب» وتركنا الكيس الصغير ملقى على ملاءة الاستحمام. 
أخيراً تناولته قبل أن تتناوله مارياء بيد أن أوسكار وضعه ثانيةٌ على 
الملاءة» لكي تلتقطه ماريا. لكن ماريا لم تمد يدها إليه. فمددت يدي 
وناولته إلى مارياء فأعادته إلى أوسكارء فشكرتها وأهديته لها ثانيةٌ إلا 
أنها لم تتقبل أي هدية من أوسكار. فرقد هناك وقتاً طويلاء بلا حراك. 

لقد أصبح أوسكار متيقناً من أن ماريا هي التي تناولت الكيس بعد 
استراحة مقبضة للصدر. لكن ذلك لم يكن كافياً: فمزقت ماريا شريطاً من 
الورق؛ حيث كُتب تحت الخط المنقوط: افتح من هنا! ثم قدمت لي 
الكيس المفتوح . فرفض أوسكار شاكراً تلك المرّة. فأفلحت ماريا في أن 
تبدو مهانة» ووضعت الكيس المفتوح على الملاءة بكلّ إصرار. فما الذي 
بقي أمامي سوى التقاط الكيس وتقديمه إلى ماريا قبل أن يدركه رمل 
البيح 9 

وبات أوسكار واثقاً من أن ماريا هي التي دسّت إصبعاً في فتحة 
الكيس» وهي التي استدرجت الإصبع للخروج» وعرضته للرؤية بشكل 
قائم: فبان على قبّة الإصبع شيء أبيض وأزرق؛ المسحوق الفوّار. ثم 
قدمت لي إصبعهاء فتقبلته بالطبع. وعلى الرغم من أن رائحته صعدت إلى 
أنفي على الفورء إلا أن وجهي تمكن من أن يعكس اتطباعاً باستساغة 
الطعو. كانت ماريا سن الع حرفت يدهاء فلم ريسع أوسكان إلا آنا بغر 


5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بعضاً من المسحوّق الفوّار وسط الطبق الوردي. غير أنها لم تكن تعلم ما 
الذي متععه كلت الكرية الضعية , بذا لها الثل الذي هجع في صحن 
يدها ديد ومدهشا. فالحنيت إلى الأمام» واستجمعت بصاقي كله 
فجعلته يصبح من حصّة المسحوق الفوار» وفعلت ذلك مرّة أخرى» ثم 
أسندت ظهري إلى الخلف بعدما نفد بصاقي. فبدأ يوشوش ويفور في يد 
مارياء وتفجر المسحوق مثلما يتفجر البركان. فاستشاط» لأعلم غضب أي 
شعب أخضر. لقد حدث شيء ما لم تره ماريا من قبل ولم تشعر به أبداء 
إذ أن يدها أخذت تهترٌ وترتجف» تريد التحليق؛ لأن المسحوق لدغهاء 
ولأن المسحوق حل فى يدهاء ولأن المسحوق جعلها منفعلة» ومنحها 
عباتا + اخداناة سانا . 

ومع أن الاخضرار ازداد باطراد؛ فإن ماريا احمردت» فسرحت بيدها 
نحو فمهاء لتلعق باطن اليد بلسان طويل» وصارت تكرر ذلك بيأس» 
لدرجة أن أوسكار أوشك على الظنّ بأن اللسان لم يلغ مجرد إحساسها 
الانفعالي بالمسحوق, إنما تضاعف حتى بلغ الذروة» وربما تجاوز حدود 
الذروة التي توضع عادةٌ لكل إحساس . لكنّ الإحساس تراخى بعد حين» 
فأخذت ماريا تكركر وتتطلع حولها لتتأكد فيما إذا كان هناك شهود 
للمسحوق الفوّار» ثم ألقت نفسها على ملاءة الاستحمام؛ لأنها أبصرت 
بقرات البحر المتنفسات تحت ملابس السباحة يضطجعن حولها من كل 
جانب» بلا اكتراث وبأجسام بنيّة بفعل الدهان؛ فاختفت منها حمرة الحياء 
شيئاً فشيئاً فوق ذلك الغطاء الأبيض. وربما كان بإمكان طقس حمّام 
الاستجمام في ساعة الظهيرة تلك أن يغوي أوسكار بالنوم لو لم تنهض 
ماريا مرّات عديدة عقب نصف ساعة., لتتجرأ على الإمساك بكيس 
المسحوق الفوّار؛ لم أعد أعلم فيما إذا كانت تتصارع مع نفسها قبل أن 
تفرغ بقية المسحوق في يدها المجوّفة» تلك اليد التي لم يكن تأثير 
المسحوق غريبا عليها. قبضت على الكيس بيدها اليسار فترة بمقدار الفترة 
التي يحتاجها المرء لتنظيف نظارته» وأمسكت بيمينها الطبق الوردي 
الساكن المشاكسس لسرانها. ليس بمعنى أن ماريا ركزت بصرها على الكيس 


5 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أو اليد المجوّفة» وليس بمعنى أنها جالت ببصرها بين ما هو فارغ ونصف 
ممتلىع» إنما اخترق بصر المسافة الفاصلة بين الكيس واليدء فجعلت عينيها 
أثناء ذلك صارمتين معتمتين. فأتضح إلى أي قدر كانت النظرة الصارمة 
أضعف من الكيس الممتلئ إلى حد النصف. فاقترب الكيس من اليد 
المجوّفة» فنزلت اليد على رغبة الكيس» وفقدت النظرة صرامتها المنقّطة 
بالكآبة» وأصبحت فضولية» وفي الأخير نهمة ليس إلا. وبرزانة مصطنعة 
يجيه كنت ناريا ما بك .من الممعرق فى صحن يدها المكتين الباف 
على الرغم من سخونة الجرّء فتركت الكيس والرزانة يسقطان معاّء ثم 
أسندت بيدها الطليقة الأخرى قبضتها الممتلئة» ونظرت طويلا إلى 
المسحوق بعينين رماديتين» ورمقتنى بنظرة رمادية» طالبةٌ منى» بعينيها 
الرماديتين» أن أقدم لها شيئاً؛ أرادت أن أمنحها بصاقي» لكن لم لا تأخذ 
بصاقها هي؛ إذ أن أوسكار قد نشف ريقه! ثم أنها تملك أكثر منه بالتأكيد» 
فاللعاب لا يتجدد بتلك السهولة» فلتأخذ بصاقهاء فهو جيّد كذلك» إن لم 
يكن أفضل من بصاقيء» ثم أنها لا بد أن تكون تملك منه أكثر مما ملكت 
في كل الأحوال؛ لأنني لم أستطع أن أنتج منه بتلك السرعة» ولأنها كانت 

وأرادت ماريا الحصول على لعابي» فبدا واضحاً منذ البداية بأن لعابي 
وحده كان موضوعاً في الحسبان» فلذلك لم تنتزع متي نظرتها المطالبة 
بإلحاح» فألقيت الذنب في هذا العناد الغاشم على أذنيها الملتحمتين غير 
الطليقتين. لقد ابتلع أوسكار ريقه؛ متخيّلاً أشياءً يسيل لها لعابه عادةٌ» 
لكن غددي اللعابية منيت بالفشل» ولعل ذلك كان بسبب هواء البحر أو 
الهواء المالح أو هواء البحر المالح» فتوجب علي النهوض»ء مدفوعاً إلى 
ذلك بفعل نظرة مارياء لأضع قدميّ على الدرب. وتوجب عليّ أن أقطع 
أكثر من خمسين خطوة» دون الالتفات إلى اليمين أو اليسارء عبر الرمل 
الساخن, ثم أرتقي السلّم الأشد سخونة» وأفتح الحنفية» وأدير رأسي 
وأضع فمي المفتوح تحت الحنفية» لأشرب وأتمضمض وابتلع ريقي» 
لكي يحصل أوسكار على اللعاب من جديد. 


3 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وعندما تغلبت على المسافة الفاصلة بين قمرة مراقب الحمّام وملاءتنا 
البيضاءء بغض النظر عن الدرب اللامتناهي المحاط بمنظر مرعب» 
وجدت ماريا مضطجعة على بطنهاء محافظة على رأسها بين ذراعيها 
المتشابكتين» وقد ارتخت ضفائرها بكسل على ظهرها المقوّس . فلكزتها؛ 
إذ أن أوسكار أصبح يملك لعاباًء لكنها لم تتحركء فلكزتها ثانية . غير أنها 
لم ترغب في النهوض . ففتحت يدها اليسرى بحذر. بدت راضية بذلك؛ 
ثم قوّمت أصابعها اليمنى: كان الصحن ورديّاًء ساخناً وفارغاً» وثمة 
رطوبة بين الخطوط . 

فهل استحضرت ماريا لعابها؟ ألم تسطع الانتظار؟ أم أنها نفخت 
المسحوق الفوّار عن يدهاء وخنقت إحساسها قبل أن تحسٌ به» وفركت 
يدها بملاءة الاستحمام لتنظفهاء حتى تكشفت يد ماريا الطفولية الأليفة 
ومعها نتوءات راحتها الصالحة لقراءة الحظ السهلة التصديق بالخرافات 
وعطارد الدسم وحزام الزهرة المفتول بمتانة. وعقب فترة قصيرة على ذلك 
ذهبنا إلى البيت» وبات أوسكار لا يعلم أبداً فيما إذا كانت ماريا قد تركت 
المسحوق يفور للمرّة الثانية في اليوم ذاته» أم أنها جعلت ذلك الخليط 
المؤلف من المسحوق الفوّار ولعابي يستحيل» خلال تكراره بعد بضعة 
أيَام» وزراً عليّ وعليها. 

لعلّها كانت مصادفةً» أو مجرد صدفة خضعت لرغباتناء تلك التى 
دفعت بماتسرات إلى مفاتحتنا على نحو ملتبس معقّد في مساء الاستحمام 
الموصوف توّا - وكنّا تناولنا وقتها حساءً من التوت البريٌ المطبوخ 
وبطاطس مفرومة ومقلية - فاتحنا بأنه أصبح عضواً في ناد صغير للعب 
الورق ضمن إطار منظمته المحليّة» وأنه سيلتقى فى حانة شبرنغر مرتين فى 
الأسبرع بأشقاء الوزق الذى كانوا كليم من مشوولي الخلايا الحربية: 
إضافة إلى زيلكه» قائد المنظمة المحلية الذي كان يودٌ الحضور أحياناً» 
ولهذا السبب بالذات يجب أن يذهب إلى هناك» وتركنا للأسف بمفردنا. 
فمن الأفضل إيواء أوسكار خلال أمسيات الورق في بيت الأمّ تروجنسكي . 
وأبدت الأمّ تروجنسكي موافقتهاء لاسيما وأن هذا الاقتراح قد حظي 


54 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


برضاها أكثر من الاقتراح الذي قدمه إليها ماتسرات عشية ذلك اليوم» دون 
معرفة مارياء الذي أفاد بأن ماريا نفسهاء وليس أوسكارء يمكنها أن تجعل 
أريكة بيتنا مبيتاً لها مرتين في الأسبوع . 

كانت ماريا تنام قبل ذلك على السرير الواسع الذي كان صديقي 
هربرت يوسد فيه زماناً ظهره المليء بالندب . كانت الأثاث الكبيرة الحجم 
موضوعة في الغرفة الخلفية الصغيرة. كان سرير الأمّ تروجنسكي في غرفة 
الجلوس . أمّا غوسته تروجنسكي التي مازالت تشتغل في تقديم الأطعمة 
الباردة في فندق «عدن» حيث أقامتء فكانت تأتي أحياناً أثناء أيَام 
استراحتهاء ونادراً ما كانت تنام في البيت» وإذا ما فعلت ذلك فعلى 
الأريكة. لكن إذا ما أتت إجازة من الجبهة بفرتس تروجنسكي إلى البيت» 
بحملا بالوذانا من البلدان العيذة4 فإن تجان الجنهة» أن المتفل الرسمي 
بين الدول» كان يرقد في سرير هربرت وماريا في فراش الأمّ تروجنسكي 
والمرأة العجوز تجعل الأريكة مأوى ليلياً لها. 

بيد أنّ هذا النظام اختلٌ نتيجة مطالبي» ففي البدء كان عليّ أن أرقد 
على الأريكة. فرفضت هذا المطلب رفضاً قصيراً لكن بشكل قاطعء ثم 
أرادت الأمّ تروجنسكي أن تتخلى لي عن فراشها المخصص للنساء 
العجائز» مكتفية لنفسها بالأريكة. غير أن ماريا اعترضت» إذ أنها لم تكن 
راغبة في أن تقض تلك المنغصات مضجع الأمّ العجوزء فأعلنت عن 
استعدادهاء دون أن تستخدم كلمات كثيرة» لاقتسام سرير الندل السابق 
الذي كان يرقد فيه هربرت» معبرة عن رأيها على النحو التالي: استمشي 
الأمور مع أوسكار الصغير في سرير واحد. فالمسكين ليس أكثر من نص- 
ربع حصة.) 

وهكذا صارت ماريا تحمل بياضات فراشي من سكننا في الطابق 
الأرضي إلى الطابق الثاني مرتين في الأسبوع خلال الأسابيع التي أعقبت 
ذلك الاتفاق»ء ونصبت.على شمالها مرقدي ومرقد طبلي. وفي الليلة 
الأولى للعبة ورق ماتسرات لم يحدث شيء قط. كان سرير هربرت تراءى 
لي واسعاً جدّاًء فرقدت فيه أوّل الأمرء ثم تبعتني ماريا. كانت قد اغتسلت 


دين 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ومنكمش. كان أوسكار ينتظر قدومها عارية ومششعرة) فخاب ظنْه في 
البدء» ألا أنه شعر بالارتياح؛ إذ أن القماش المنتزع من دُرِجٍ الجدّة قد أقام 
له جسرا لطيفا خفيفاء ذكره بثنيات أزياء الممرضات البيضاء . 

وحلت ماريا ضفائرها وهي تقف قبالة دولاب الزينة وتصفر ذ في الوقت 
ذاته. كانت تضفر داشا كلنا خلعت ملابسها أو ارتدتها أو ضفرت جدائلها 
أو حلتها. وحتى أثناء التمشيط اا للحي مرا 
ونشرت تعره ل ريت الدولاب سردات للبلا » 50 
مستخفة: فقذفت أباها المصوّرء المرتّش والملتحي والموضوع في إطار 
أسود من خشب الأبنوس» قذفته بقبلة يدوية» ثم قفزت إلى السرير بقوّة 
مبالغ فيهاء وصارت تهترٌّ وأمسك بلحاف الريش أثناء الهزة الأخيرة» 
مختفيةً تحت جبل اللحاف إلى حدّ حنكهاء فلم تمسني قطء أنا الذي 
رقدت إلى جانبها في فراشي الخاص بي» ومدّت يدها من تحت اللحاف 
لتطال بذراعها الطويلة التي انزاح عنها كمّ ثوبهاء باحثة عبر رأسها عن 
السلك الكهربائى العازل الذي يمكن من خلاله إطفاء النور فعثرت عليه 
وضغطت على الزرّء ثم قالت بصوت شديد الارتفاع «تصبح على خير!» 
غرقت حقّاً في النوم» اذ إبجارما البرس اليد انا يمه لجاز نري 
كال مكدر لكنّ صورا صغيرة جديرة لاو ل 
المنتشر بين الجدران وورق التعتيم أمام النافلة ؟ فإن ممرضات شقراوات 
كن ينحنين فوق ظهر هربرت» ثم تشكل من قميص ليو شوغر الأبيض 
المجعد ورس »2 وهذا أمر منطقي ١‏ وحلق. ثم حلق ليتحطم مرتطما بجدار 
مقبرة بدت مرممة حديثاً بالجصّ و هلمٌ جرًا. . 

وأخيرأء وبعدما قامث رائحة الفانيلا المتزايدة باطراد بتعكير صور 


6 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الفيلم ومن ثم قطعه تماماً قبل النوم» وجد أوسكار طريقه إلى الأنفاس 
الهادئة المماثلة التي تمرّست عليها ماريا منذ فترة طويلة . 

وبعد ثلاثة أيَام قلدمت لي ماريا عرضاً شبيهاً محتشماًء يتعلق بذهاب 
الفتيات إلى الفراش. لقد جاءت بقميص النوم؛ وصارت تصفر أثناء ما 
كانت تحلّ شعرهاء فصفرت أيضاً أثناء التمشيطء وألقت بالمشط جانباً: 
ثم رتبت دولاب الزينة» وقذفت الصورة بقبلة يدوية ووثبت الوثبة ذاتها 
المبالغ فيهاء فأخذت تهتزء ثم أمسكت باللحاف وبدأت تتطلع - كنت 
أتأمل ظهرها - فأبصرت كيساً - كنت أعجبت بشعرها المسبل الجميل - 
فاكتشفث شيئاً أخضر - كنت أغمضت عينىّ منتظراً حتى ألفت منظر كيس 
المسحؤّق الفوّار - حينئذ صرخت لوالب السرير تحت ماريا الملقية 
بلحافها إلى الوراء؛ فانضغط الزرّء وحين فتحت عينيّ بسبب ضغط الزرٌ 
تأكد ما ظنّه أوسكار: لقد أطفأت ماريا الضوء وصارت تتنفس بلا انتظام 
في الظلام» فلم تألف منظر كيس المسحوق الفوّار؛ لكن بقي من غير 
المؤكد فيما إذا كان الظلام الذي أوصت به قد كتّف من وجود المسحوق 
الفوّار» وعانه على التفتّح وأمر لليل بالحوامض المولدة للفقاعات. 

كنت على وشك الاعتقاد بأن العتمة أتت إلى صالح أوسكارء إذ أنني 
انتبهت بعد دقائق قليلة - إذا ما حقّ للمرء التحدّث هنا عن دقائق في 
الظلام الدامس - إلى حركات في طرف السرير؛ كانت ماريا تحاول 
اصطياد السلك الكهربائي» فعضّها السلك, أثناء ذلك امتلأت مرّة أخرى 
إعجاباً بشعر ماريا الطويل المرتخي على قميص نومها. فكم كانت أشعة 
المصباح تحت قماش المظلة المنثئني صفراء متساوية في غرفة النوم» وبدأ 
اللحاف المنتفخ» الممهد دون أن يمسه أحدء يتكوّم باستمرار في طرف 
الأقدام. فلم يجرؤ الكيس على التحرّك فوق التل في الظلمة. وأخذ ثوب 
نوم ماريا القادم من عصر الجدّات يحف» فارتفعت ذراع منه ومعها اليد 
الطفولية» فجمّع أوسكار اللعاب في تجويف فمه. 

كنا أفرغنا في الأسابيع التي لحقت ذلك أكثر من دستة من أكياس 
المسحوق الفوّار ذات الطعم الحامض على الأغلب» وأخيراًء بعدما نفد 


"0١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


الحامض» لجأنا إلى طعم الليمون والتوت البرّي» بالطريقة ذاتهاء بحيث 
كنا تفوّره نبصاتىء فيؤلد شعورا كانت مازيا تعطية حَقْ قدره.. لقذ تكوّنت 
اكير فى السميع اللداك: وصرت أستخدم الحيّل التي كان من شأنها 
أن نسيل الماء بسرعة وكثرة في فميء وبتٌ قادراً على غمر ماريا 
بالإحساس المبتغى من خلال محتوى الأكياس الفوّار ثلاث مرّات متتابعة 
قصيرة المذة. 

ويلك مانا مرتاحة لأرتكارع كادي تفكه إلى عدرغا احياناء 
وتقبله مرتين أو ثلاثاً في ناحية ما من وجههء ثم تغط سريعاً في النوم؛ بعد 
أن يلمحها أوسكار تطلق في الظلام ضحكة صبيانية صغيرة. وأضحيت 
أجد صعوبة مستمرة في النوم. وقد بلغت السادسة عشرة؛ متحليّاً بروح 
خفيفة حيويّة» شاعراً بحاجة طاردةً للنوم وهي أن أقدم. من أجل حبّي 
لمارياء إمكانيات أخرى لا عهد لنا بها من قبل» غير تلك التي كانت تغفو 
في المسحوق الفرّارء فيوقظها بصاقيء ويتوّلد منها الشعور ذاته دائماً . 

ولم تقتصر أفكار أوسكار على الوقت الذي كانت يعقب إطفاء النورء 
إنما صرت أحتضن الطبل نهاراًء وأظلٌ أقلب في ملخصّات راسبوتين 
المستهلكة من كثرة القراءة» متذكراً حالات المجون السابقة المرافقة 
للدروس بين غريتشن شفلر وأمّي المسكينة» مستنطقاً غوته أيضاً الذي 
كنت أملك قصاصات من روايته «فالفيرفاندشافتن»» كما الحال مع 
راسبوتين»؛ فأخذت من مبرأ الناس بالصلاة شهوانيتة فهذبتها بالإحساس 
الطبيعي لأمير الشعراء؛ ذلك الإحساس الذي شمل العالم برمته» ثم 
منحت ماريا ملامح ملكة قيصرية» إضافة إلى ملامح الأميرة «أناستازياة» 
واخترت سيّدات من أتباع راسبوتين النبلاء» الغريبي الأطوار؛ لأرى ماريا 
عما قريب. وقد طردها ذلك الشبق المتهيج جنسياء متحلية بالشفافية 
السماوية لأوتلي أو تسير خلف شهوة «شارلوتن» التي سيطرت عليها بكل 
عفّة. أمَا أوسكار فقد تخيّل نفسه مرّة راسبوتين شخصياً ومن ثمّ قاتله: 
وتمثّل كثيرا شخضية النقيب» وثادرا مت تخشيّل بعل شارلوتن المتقلب 
المزاج المضطرب» ورأيت نفسي مرّة واحدة - يجب أن أعترف بذلك - 


0 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


روحاً ملائكية تحوم في هيئة غوته المعروفة حول ماريا الغافية. ومما كان 
يدعو إلى الاستغراب هو أنني انتظرت من الأدب حوافز أكثر من الحياة 
الحقيقية العارية. وعلى هذا النحو؛ فإن يان برونسكي الذي ظالما رأيته 
بحرت لم أتي المسكيفة: لآ يمكن أن يقدم لى شيئاً بذكز في هذا 
الصدد. ومع أنني كنت أعلم بأن هذا التشابك القائم بالتناوب بين أمّي 
ويان أو ماتسرات وأمّي ؛ التشابك المرهق الزافر الحسرات المتحوّل في 
الأخير إلى تأوّه خائر» التشابك المهلهل المنشرخ الذي يسحب أسلايه كان 
يعني الحبّ» غير أن أوسكار وعلى الرغم من ذلك لم يقتنع بأن الحبّ 
يعنى ممارسة الحبّء فصار يبحث بفعل الحبّ عن حبّ آخرء لكنه 
؟ الحبّ المتشابك نفسه. فأضمر الكره لهذا الحبّ قبل أن 
يتمرّن عليه بوصفه حبّاً. وأن يدافع عنه أمام نفسه باعتباره الحبٌ الحقيقي 
الوحيد والممكن. 

والتهمت ماريا المسحوّق الفرّار وهي مضطجعة. ولأنها أخذت 
ترجف ساقيهاء متقلبة حالما فار المسحوق» فإنّ ثوب نومها أنزلق أثناء 
الإحساس الأوّل مرّات عديدة إلى حدٌ الفخذين. وخلال الفوران الثاني 
تمكن الثوب» في معظم الأحوال» من الالتفاف والتدحرج إلى ثدييهاء 
متسلقاً البطن. وبتلقائية» ودون أن أضع إمكانية قراءة غوته أو راسبوتين 
بنظر الاعتبارء أفرغت بقية مسحوق التوت البرّي في نقّرة السّرة» بعد أن 
كنت ملأت به يدها اليسرى أسابيع طويلة» فتركت بصاقي يسيل قبل أن 
تستطيع الاحتجاج» وعندا بدأ يغلي على فوهة البركان» أضاعت ماريا 
جميع الحجج اللازمة للاحتجاج : إذ أن السرّة المتأججة الغليان تميّزت 
كثيراً عن اليلّ المجوّفة. لقد كان المسحوق الفوّار نفسهء وظلٌ بصاقى هو 
البصاق نفسهء وكذلك الإحساس لم يكن مختلفاً عمًا سبقه من إحساس» 
بيد أنه كان أكثر حدّةٌ» وأشدّ فعالية. فحلّ حينئذ ذلك الإحساس المفرط 
القرّة بحيث أن ماريا لم تعد قادرة على إيقافه. فانحنت وأرادت أن توقف 
بلسانها غليان التوت في قِذْر سرّتهاء مثلما كانت تقضي من قبل على 
مسحوق الجويسئة في يدها المجوّفة بعدا أدّى واجبه» لكن لسانها لم يكن 


ينان 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


طويلاًء فبدت لها سرتها متنائية أبعد مسافة من أفريقيا ومن أطراف أمريكا 
الجنوبية . غير أن سرّة ماريا كانت قريبة متّي» فأوغلت لساني فيهاء باحثاً 
عن التوت» فعثرت على الكثيره حتى أضعت نفسي أثناء التجميع» 
ووصلت إلى نواح» ليس فيها مكان لغفير غابات يسأل عن تصريح خاص 
بالتجميع» شاعراً بالمسؤولية أمام كل حبّة توت بمفردهاء بحيث أنني لم 
أضع أمام بصري وحواسي وقلبي وسمعي سوى التوت» ولم أعد أشمّ 
سوى التوت وحدهء فأخذت أطارد التوت» لدرجة أن أوسكار لم يلحظ 
إلا عرضاً بأن ماريا كان مرتاحة لمثابرة التجميع» لذلك أطفأت النورء 
تاركة لنفسها النوم المليء بالطمأنينة» وسمحت لك بمواصلة البحث؛ إذ 
أن ماريا كانت حافلة بالتوت. 

وحين عجزت عن العثور عليه؛ عثرت على الفطر في مكان آخرء 
كنا لو أن«ذلكمغدت بالضففة المحفن. ولأنواقى يكعن] تست 
الطحلب» فقد عجز لساني» فاستنبت لي إصبعاً آخر إضافة إلى أصابعي 
العشرة التي بدت عاجزةً أيضاً. وعلى هذا النحو حصل أوسكار على 
مضو طبله الثالق. كان يالكا بما يكن (ذلاك. فقرسك الطعلنيه ولم 
أقرع الصفيح. وبتّ لا أفقه شيئاً: فهل كنت أنا الذي طبلت» أم أنها 
ماريا؟ وهل كان ذلك طحلبي أناء أم طحلبها؟ فهل كان الطحلب والإصبغ 
الحادي عشر يعودان إلى أحد آخرء بينما كان الفطر يعود لى؟ وهل كان 
لذلك اليد المنتصب في الأسقل رآسه الخاضن :يه وإرادته؟ من ذا الذي 
سنحب أه و ارسكارء آم البقد المتضي' آم أنا؟ 

وماريا التي كانت نائمة من الأعلى ومنهمكة من الأسفل» وعطر 
الفانيلا البريء والفطر المختبئ تحت الطحلب الشديد الصرامة الذي كان 
مسحوقاً فرّاراً على أية حال» والذي لم يكن راغباً به» كذلك لم أكن راغباً 
به أنا نفسي» ذاك الذي أستقل بنفسهء مبرهناً على وجود رأس لهء واهباً 
شيا من اتقسة» السعفظ فى رقائي + الذى كات احلامه غير لخلامي» 
والذي لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة؛ لكنه مع ذلك 5200 
فصار اليوم يمضي في طريقه الخاص به؛ لأنني أدركت وجوده للمرّة 


530 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الأرّلى» فكان عدرًاً لي؛ مما اضطرني دائماً إلى التحالف معهء ذاك الذي 
خانني وخذلني» فنويت على خيانته وبيعه بشمن بخسء. ذاك الذي الذي 
كنت أخجل منه حتى ضاق ذرعاً بي» وكنت أغسله» فيجلب لي الوسخ 
من جديد» ذاك الذي كان لا يرى شيئا لكنه يشم كل شيء» الغريب علىّ» 
حتى أنني وددت أن أخاطبه بلغة الاحترام» المتمتع بذاكرة مختلفة عن 
ذاكرة أوسكار: إذا ما دخلت ماريا إلى غرفتي اليوم ويتنحى لها برونو 
بمراعاة في الممر؛ فإنه لم يعد يتعرف على ماريا مرّة أخرى» ولم يود 
ذلك» بل يعد قادراً عليه؛ فأصبح يسترخي بكسل وعدم اكتراث» بيئما 
كان قلب أوسكار المنفعل يجعل فمي يتلجلج : «اسمعي» يا مارياء فهذه 
اقتراحات رقيقة: إنني أستطيع شراء فرجار» لأرسم دائرة حولناء وأقدر أن 
أقيس بالفرجار نفسه زاوية ميل رقبتك بينما أنت تقرئين أو تخيطين» أو 
تحركين مؤشر مذياعي الصغير كما تفعلين الآن. اتركي المذياع وشأنه؛ 
فهذه اقتراحات رقيقة: إنني أستطيع تطعيم عينيّ بلقاح لتدمعا من جديد. 
إن أوسكار سيضع قلبه في مفرمة أوّل قصّاب إذا ما وضعت روحكُِ في 
الوقت ذاته. وكان يمكننا أيضاً أن نشتري حيواناً من قماش ليعمّ الهدوء 
بيئناء وإذا ما عزمت أنا على تحضير الديدان وأنت على الصبر فيمكئنا 
الذهاب لنصطاد السمك» فنكون أكثر سعادة. أو المسحوق الفؤار لذلك 
الزمان الماضى» هل تتذكرينه؟ عندما كنت تسميئنى حامض الفوار» 
فأغلي» وأنت تطلبين المزيدء فأعطيك البقية - مارياء المسحوق الفرّار 
إنها اقتراحات رقيقة! فلماذا تقلبين مؤشر المذيع» فهل تنصتين إلى المذياع 
وحده كما لو أن شهوة ضارية لسماع الأنباء الخاصة سكنتك؟؛ 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لا يمكن إجراء التجارب على صحن طبلي الأبيض إلا بشكل سيئ»ٍ 
فيجب أن أدرك ذلك؛ لأن صفيحي كان ينشد الخشب ذاته دائماً» مفضّلاً 
أن يُسأل بالقرع ليجيب بالقرع» أو أن يترك السؤال والجواب معلقين وهو 
يتجاذب أطراف الحديث بتكلّف تحت الدوّامة. فطبلي ليس مقلاة يمكن 
شسيكنيا امطاعا: ليرمى بها اللحم النيء؛ ولا هو حلبة رقص للأزواج 
الذين لا يعلمون أصلا فيما إذا كانوا مرتبطين ببعضهم. لهذا السبب فإن 
أوسكار لم ينثرء حتى في ساعات العزلة» المسحوق الفوّار على طبله؛ 
ليخلط به بصاقه؛ صانعاً منه مشهداً لم ير مثيلاً له منذ أعوام» مشهداً أفتقده 
كثيرا. بلا شك أن أوسكار لم يستطع الامتناع تماماً عن المحاولة 
بالمسحوق المذكور؛ بيد أنه تصرف على نحو مباشرء فأبعد الطبل عن 
الموضوع برمته . لقد عرضت نفسي مجرداً من كلّ شيء؛ إذ أنني بلا طبل 
مجرد شخص منكشف على الدوام. 

وفي البدء كان من الصعب العثور على المسحوق الفوّار» فبعثت 
برونو إلى جميع محلات بضائع المستعمرات في ناحية غرافنبيرغ» ثم 
تركته يأخذ الترام إلى غيرسهايم؛ ورجوته أيضاً أن يحاول الحصول عليه 
في المدينة» بيد أن برونو لم يحصل على المسحوق الفوّار حتى في أكشاك 
المرطبات التي يجدها المرء في نهاية خطوط الترام. كانت البائعات الفتيات 
لم يعرفنه قطاء وأصحاب الأكشاك الكبار السنّ كانوا يتذكرونه بإطناب وهم 
يفركون جبهاتهم متفكرين - كما أبلغني برونو -» ثم يقولون: «يا رجل؛ 
ماذا تطلب؟ المسحوق الفوّار؟ أوه! لقد مضى الزمان الذي كان موجوداً 


ان 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فيه؛ زمن فيلهلم؛ في البداية تماماء في ظلّ أدولفء كان موجوداً في 
الدكاكين. كانت تلك أزمان! لكن إذا تريد ليمون أو كوكا؟» 

كان معيني يشرب على حسابي بضع زجاجات من الليمون أو الكوكا 
كولاء غير أنه لم يوفر لي ما طلبته منه؛ ومع ذلك أصبح ممكناً إعانة 
أوسكار. فأظهر برونو نفسه بأنه لا يكل ولا يتعب: إذ أنه جلب لي يوم 
أمس كيساً خالياً من الكتابة؛ كانت عاملة المختبر الكيماوي التابع لمصححة 
الأمراض العقلية» التي كانت تسمى بالآنسة كلاين؛ أعلنت عن استعداهاء 
وبتفهّم تامء لفتح علبها وأدراجها الصغيرة ومعاجمها العلمية» لتأخذ بضعة 
غرامات من هنا وبضعة غرامات من هناكء ثم تخلطء إثر اختبارات 
عديدة؛ مسحوقا فؤاراء قال عنه برونو: إنه قابل للفوران والدغدغة واتخاذ 
اللون الأخضر وله طعم محترز جدّاً كطعم المسحوق الفوّار. 

اليوم كان يوم زيارة» لكن في البدء جاء كليب» فضحكنا معأ حوالي 
ثلاثة أرباع الساعة على أشياء جديرة بالنسيان. كنت قد راعيت كليب 
ومشاعر كليب اللينينية» فلم أعرّج بالحديث على ما كان موضوع الساعة» 
ولم أذكر شيئاً عن النبأ العاجل حول وفاة ستالين» الذي أبلغني به المذياع 
الصغير الذي أهدته لي ماريا قبل أسابيع. إلا أن كليب بدا عارفاً بالأمرء 
إذ أن هناك شريط حداد أسود خيّط بطريقة بدائية كان مشدوداً على ذراع 
معطفه ذي المربعات الرمادية. بعد ذلك نهض كليب فدخل فيتلار وبدا 
كأن الصديقين كان متخاصمين من جديدء إذ أن فيتلار حيّا كليب 
ضاحكاء صانعاً من أصابعه قرون شيطان» فقال متهكما وهو يعاون كليب 
على ارتداء المعطف لقد : «فاجئني موت ستالين اليوم صباحاً أثناء 
الحلاقة!» وبخشوع أملس كشحم الخنزير» وبوجه عريضء كشف النقاب 
عن القماش الأسود فوق كم معطفه. قائلاً بحسرة: «لذلك حملت شارة 
الحداد»؛ ثم بدأ يترنم بلحن من بوق آرمسترونغ؛ فعزف مطلع لحن 
الجئازة هنعم ومدءاء0 :216 - ثم تسلل عبر الباب. 

إلا أن فيتلار بقي واتفاء فلم يبد رغبة في الجلوسء, إنما صار يتبختر 
أمام المرآة» فابتسمنا لبعضنا بتفاهم حوالي ربعة ساعة» دون أن نقصد 


باه" 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ستالين. وكنت لا أعلم فيما إذا أردت أن أجعل منه أميناً لأسراري» أم أن 
الأمر أرتبط بنيتي على إخراج فيتلار. فلوّحت له لكي يدنو من السرير» ثم 
أوحيت لأذنه بالاقتراب فهمست فى صيوانها العريض الشحمة: «مسحوق 
وّار؟ عل تتهم مع هذا باخرطريدة» 

وثمة وثبة مروعة حملت فيتلار على الابتعاد عن سريري ذي 
القضبان؛ فلجأ إلى اللهجة المنبرية وإلى حركات مسرحية عرف بهاء فأفرد 
لي سبابته ثم فحٌ: «لماذا تريد بحقّ الشيطان إغرائي بالمسحوق الفوّار؟ أما 
زلت تجهل بأننى ملاك؟؟ وأخذ يرفرف بجناحيه كالملاك مبتعداً. دون أن 
ينى السحطاق العراةالمعلقة قوق التسسلة, إن الشنبات خاري ممةة 
الأمراض العقلية غريبو الأطوار ويميلون إلى التصنّع . 

ثم جاءت ماريا. كانت قد فصلت فستاناً ربيعياً جديداً» واعتمرت 
قبّعة أنيقة رمادية مثل لون الفئران» ذات زخرف بارع أصفر صفرة القش 
ومقتصدء لكنها لم ترفع هذه التوليفة عن رأسها حتى داخل غرفتي . فألقت 
عليّ بتحية عابرة» عارضة لي خدهاء ثم فتحت على الفور المذياع الصغير 
الذي أهدتني إيَاه في الواقع» غير أنها وضعته في خدمتهاء مثلما بدا لي» 
إذ كان على ذلك الصندوق البلاستيكي الكريه أن يعرّض عن جزء من 
حديئنا أثناء وقت الزيارة. «هل تلقيّت الخبر اليوم في الصباح؟ رائع» 
وإلا؟؛ فأجبت بصبر: «نعم» يا ماريا. فالمرء لم يخنب موت ستالين حتى 
عنّي أناء لكن أرجوك اقفلي المذياع.» فانصاعت ماريا بصمت» ثم 
جلست وهي لم تزل معتمرة القبّعة» فتحدثنا كالعادة عن كورت. 

«تصوّر يا أوسكارء الوغد لا يريد أن يلبس الجوارب الطويلة بعد 
الآنء واليوم نحن في مارس/ آذار فمحتمل أن تبرد الدنياء قالوا ذلك في 
المذياع.» فتغافلت نبأ المذياع وتحزبت لكورت فيما يتعلق بقضية 
الجوارب الطويلة : «الولد صار عمره اثنا عشر عاماً يا مارياء وصار يخجل 
من جوارب الصوف الطويلة أمام زملائه التلاميذ. » 

انعم» إِنَّ صحته بالنسبة لي أهمّء ولابد أن يلبس الجوارب حتى عيد 
الفصح.» 


مه0” 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


نطقت بهذا الميعاد بصورة قاطعة» لدرجة أتني حاولت التخفيف 
والتلطيف بحذر: «إذاً يجب أن تشتري له سروال تزحلق على الجليد؛ لأن 
جوارب الصوف قبيحة فعلاً. ارجعى بتفكيرك إلى الوراء عنذما كنت فى 
العمر نفسه . أيّام باحة بنايتنا في لابسنية؟ ما الذي فعلوه آنذاك بالقزم الذي 
توجب عليه أن يلبس الجوارب الطويلة حتى حلول الفصح؟ نوجي آيكه 
الذي بقى في كريتا وأكسل ميشكه الذي قد في هولندا قبل نهاية الحرب 
بفترة قصيرة وهاري شلاغه, ما الذي فعلوه بالقصير؟ لطخوا جواربه 
الصوفية الطويلة بالقطران» فبقيت ملتصقة به» فنقل القزم إلى المستشفى 
على أثرها.» 

قذفت ماريا كلماتها بغضب: «كانت زوزي كاتر قبل كل شيء؛ فهي 
صاحبة الذنب» وليس الجوارب.» وعلى الرغم من أن زوزي كاتر التحقت 
بصنف المخابرة في بداية الحرب ومن ثم رحلت إلى بافاريا فيما بعد 
وقيل إنها تزوؤجت؛ فإن ماريا كانت تحمل ضغائن مستمرة على زوزي التي 
كانت تكبرها ببضعة أعوام؛ كما هي النساء عادةً اللواتي يعرفن كيفية 
الاحتفاظ بالبغض من أيّامِ الشباب إلى زمن الجدّات. ومع ذلك فإن 
الإشارة إلى جوارب القزم الصوفية الملطخة بالقار تركت بعض التأثير. 
فتعهدت ماريا بشراء سروال تزحلق على الجليد لكورت. ثم تمكنا من 
إعطاء الحديث وجهة أخرى. فتم تناول الإطراء الذي حظي به كورت» 
عبّر مدرّس الثانوية كونمان خلال الاجتماع الأخير لأولياء الأمر عن 
استحسانه «فتخيّل الآن يا أوسكار؛ إنه ثانى أحسن واحد فى الصف! 
ويساعدني في المحل») لا أستطيع أن أقول لك كيف!» كيرت رأسي 
اعترافاً وإعجاباًء ودعوتها أن تصف لي آخر مقتنيات محل المأكولات 
الفاخرة. ثم شجعتها على تأسيس فرع جديد في أوبركاسل. إذ أن الوقت 
كان مناسباء كما قلت لهاء والانتعاش الاقتصادي مازال مستمراً - التقطت 
ذلك؛ بالمناسبة» من المذياع » فوجدت الظرف مناسباً لقرع الجرس على 
برونو ليأتي؛ فدخل وناولني الكيس الأبيض الذي احتوى على المسحوق 
الفوّار. 


30> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كانت خطة أوسكار محكمة, فبلا أي إيضاح رجوت ماريا أن تعرض 
يدها اليسرى. في البدء أرادت أن تقدم لي يمناهاء لكنها صوبت نفسها 
بنفسه» فقدمت لي ظاهر يدها اليسرى وهي تهرّ رأسها ضاحكة؛ متوقعة 
قبلة على اليد. فتعجبت عندما قلبت راحتها وكوّمت المسحوق بين خطي 
نتوءات راعة اليل. القد سمحت لي ذلك ثم آصابها الزعب عندما الخنى 
أوسكار على يدها وأفرز بصاقه الوافر على جبل المسحوق الفوّار. 
فاستنكرت ما قمت به «آه؛ أترك هذا العبث يا أوسكار!» ثم قفزت متخذة 
مسافةً وصارت تحدّق بهلع في المسحوق الذي فار وأزبد حتى استحال 
لونه أخضر. فاحمرّت ماريا من الجبين إلى الأسفل. وأوشكت أن أمني 
نفسي بالنجاح» إلا أنها أصبحت أمام المغسلة في ثلاث خطوات» ودعت 
الماء المقزز يسيل على مسحوقناء باردا في البدء ومن ثم ساخناً ففسلت 
يديها بصابونتي. 

«إنك فعلاً لا تطاق أحياناً يا أوسكار» فما الذي سيقوله عنّا السبّد 
بولستريين !1 رمدت برونوء الذي أحتل موقعه في طرف السرير أثناء 
محاولتي» بنظرة طالبا منه التساهل معي. ولكي لا تشعر ماريا بالخجل 
أكثر من ذلك فقد صرفت المعين من الغرفة» وحالما أطبق الباب على 
القفل رجوت ماريا أن تقترب ثانية من السرير: «ألا تتذكرين؟ أرجوك 
تذكري» المسحوق الفوّار! كان سعر الكيس الواحد ثلاثة فلوس! أرجعي 
بتفكيرك إلى الوراء: طعم الحميّض والتوت» كم كانت رغوته جميلة» بل 
فورانه والإحساس, الإحساس يا ماريا!» 

لكن ماريا لم تتذكرء إذ ركبها مني خوف أخرق» فارتعد جسمها 
قليلآء وأخفت يدها اليسرى؛ ثم حاولت بتشنج إيجاد موضوع آخر 
للحديث» فحدثتني مرّة أخرى عن تفوّق كورت في المدرسة» وعن موت 
ستالين» وعن الثلاجة الجديدة في محل ماتسرات للمأكولات الفاخرة وعن 
الفرع المزمع تأسيسه في أوبركاسل. بيد أنني بقيت مخلصاً للمسحوق 
الفوّارء فقلت مسحوقاً فواراًء ونهضت, فتوسلت مسحوقاً فرّاراً؛ فودعتني 
على عجل»؛ وصارت تنتش قبعتهاء غير عارفة فيما إذا كان عليها الذهاب. 


انا 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


ثم أخذت تقلب بالمذياع الذي صرّء فطغيت عليه بصوتي: «المسحوق 
الفرّار يا مارياء أما تتذكرينه!» 

وقفت ماريا عند الباب» وبكت وهي تهرّ رأسهاء وتركني وحيداً مع 
المذياع الصغير الصافر حين أغلقت الباب بحذر كما لو أنها غادرت 
محتضرا. وماريا لم تعد تتذكر المسحوق الفوّار! أمَا بالنسبة لي» فإن 
المسحوق الفوّار لن ينقطع عن الفوران مادمت أتنفس وأطبل. وكان 
بصاقي في أواخر صيف العام الأربعين هو الذي أنعش الحميّض والتوت 
البرّيء وأيقظ الإحساس وهو الذي أوكل مهمة التفتيش إلى لحمي» 
ودربني على تجميع الفطر و«الغوشنة» وغيرها من الفطريات الصالحة 
للأكل والمجهولة بالنسبة لي؛ ثم جعلني أبأء نعم أبأء أبا فتيَء جامعاً 
ومنجباً؛ إذ لم يكن هناك شك بأن ماريا حملت في مطلع نوفمبرء 
وأصبحت في شهرها الثانى» وأناء أوسكار» كنت الأب. ومازلت إلى 
اليوم مؤمناً بذلك؛ لأن القضّة مع ماتسرات حدثت بعد ذلك بفترة طويلة. 
فعقب أسبوعين» كلاء عقب عشرة أيَام» بعدما حبّلت ماريا النائمة في 
فراش شقيقها هربرت المليء بالندب» بمناسبة البطاقات البريدية الميدانية 
لشقيقها الأصغر» رئيس العرفاء» في الغرفة المظلمة؛ وفيما بعد بين 
الجدران وورق التعتيم؛ ظفرت بمارياء ليس نائمة» إنما اضطجعت» 
منهمكة تمامأء تنهج مقطوعة الأنفاس على مصطبة بيتناء وفوقها اضطجع 
ماتسرات . 

ودخل أوسكار من الممرء قادماً من المكان الذي تحت السقف»ء 
حيث كان يتأمل؛ نعمء دخل بطبله إلى غرفة الجلوس. فلم يلحظا 
دخولي. كان رأساهما متجهين نحو المدنأة الحجرية. كما أنهما لم يخلعا 
ثيابهما على وجه صحيح. فعلق سروال ماتسرات الداخلي بباطن ركبته . 
وتكوّم سرواله فوق البساط. وقد تكوّر ثوب ماريا ولباسها الداخلي فوق 
مشدٌ ثدييها حتى وصل الإبطين. والتفت سراويلها الأنثوية حول قدمها 
اليمنى التي علقت مع الساقء ملويّة ببشاعة؛ أمام المصطبة القصيرة. 
وارتخت ساقها اليسرى منثنية على ظهر الأريكة؛ كأنها غير معنية بشيء. 


لسن 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


وماتسرات مندس بين الساقين. كان قد أدار بيمناه رأسها إلى الجانب 
برع مالي الأعرى مد اكسياة ٠‏ فأعانه ذلك على اقتفاء الأثر. وعبر 
أصابع ماتسرات المنفرجة بحلقت ماريا بالبساط من الجانب؛ بدأ كما لو 
أنها تتبعت نموذج الحياكة إلى حدٌ الطاولة. فأطبق بأسنانه على مخدّة كان 
كيسها من القطيفة» لكنه لم يتخل عن المخذةء إلا إذا ما تبادلا الكلام. إذ 
أنهما كان يتحدثان أحياناً دون أن يقطعا عملهما. فقط عندما دقّت الساعة 
الثالئة تعثّر كلاهما طالما كان ناقوس الساعة يؤدي واجبهء فقال» وهو 
يشتغل ضدها مثلما كان قبل قرع الجرس «أصبحت الآن إلا ربعاً»: ثم أراد 
أن يستفهم منها فيما كان جيّداً ما فعله بها. فردّت عدّة مرّات بالإيجاب. 
وتوسلت به أن يكون حدرا: فوعدها بألة سبكون خدرا بكل تأكيد : 

فأمرته» كلاء بل ناشدته بأن يحتاط تلك المرّة بصفة خاصة. ثم استعلم 
منها فيما إذا سيحين أوانها عمًا قريب. تقالك انمتن نال حينئل 
أصاب التشنج قدمها التي كانت عالقة أمام المصطبة» إذا أنها صارت ترفس 
بها هواء الغرفة» إلا أن سراويلها الأنئوية ظلّت ملتفةٌ حولها. فعض المخدّة 
من جديد» فزعقت به أن يبتعد؛ فأراد الابتعاد» لكنه لم يقدر؛ لأن أوسكار 
ركب فوقهما معاًء قبل أن يبتعد؛ ولأن أوسكار لطمه على ظهره بالطبل ثم 
قرع الصفيح بمضربيه؛ لأنني لم أعد أطيق سماع: ابتعد وأذهب عني» 
ولأن صوت طبلي كان أكثر ارتفاعاً من عبارتها «ابتعدك» لأنني لم أسمح له 
بالابتعاد مثلما كان يبتعد يان برونسكى دائماً عن أمّى؛ إذ أن أمّى كانت 
تقول لياق انما اعلا اع .ولماتسرات» اععد. تكانا بتتصلاة: 
ويتركان المخاط يتساقط في مكان ماء على منديل وضع خصيصاً لذلك 
الغرض» وإذا لم يكن المنديل في متناول اليد.» فعلى المصطبة وعلى 
البساط حسب الإمكان. إلا أنني كنت لا أستطيع رؤية ذلك. لم أنني في 
نهاية المطاف لم ابتعد أيضاً. فأصبحت أوّل من لم يبتعد؛ م 
بالذات فأنا الأب وليس ماتسرات الذي اعتقد وإلى الأبد بأنه أبي. بينما 

يان برونسكي هو الذي كان والدي. وهذا ما ورثته أنا عن يان» كانمي لم 
ابتعد قبل ماتسرات» إنما بقيت في الداخل» وقذفت في الداخل» وما 


سلا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


خرج من الداخل كان ابني» وليس ابنه. فهو ليس له أي ابن! حتى لو كان 
ترّوج بأمّي المسكينة عشر مرّات» وتزوّج بماريا كذلك؛ لأنها كانت 
ان : ركان يعتقة بأد النامى ل البداية رانضارج سيك رون لي ذلك 
بالتأكيد. بالطبع أنهم اعتقدوا بأن ماتسرات هو الذي سمّن مارياء فتزوجها 
حينئذ وهى فى السابعة عشرة والنصف وهو فى الخامسة والأربعين. بيد 
أنها كانت بارعة بالقياس إلى ستهاء أمَا بالنسبة لأوسكار فإن بإمكانه أن 
يفرح بالرابّة» لأن ماريا كانت للطفل المسكين ليس رابَّةٌ» بل مثل أمّ 
حقيقية» على الرغم من أن أوسكار لم يكن صافي الرأس» وأن مكانه في 
الواقع هو زلبرهامر أو مصحّة تابياو «غفارديسك». 

وقرر مانسرات عملاً بنصيحة غريتشن شفر الزواج من عشيقتي. وإذا 
ما كنت وصفته» أي أبي المفترض0» بأنه أبي» فيجب أن أشدد القول على 
أن أبي قد تزوّج زوجتي المستقبلية» وأخذ فيما بعد يسمي ابني كورت أبنه 
كررت» وطالبني بالاعتراف بحفيده باعتباره أخي غير الشقيق وبأن أسمح 
لعشيقتى ماريا الناضحة بعطر الفانيلا أن ترقد فى فراشه الذي فاحت منه 
ثكانة بيقن الأسماة يصلفها زاتكى: وإذاانا يرهدت لنفسي على أن 
ماتسرات لم يكن أباك المفترض؛ إنما شخص غريب؛ لم يكن لطيف 
المعشر ولم يستحق نفورك عنه؛ إنما كان يجيد الطبخ» ذلك الطاهي 
ببراعة الذي اعتنى بك على نحو صالح وطالح على السواءء لأنْ أمّك 
المسكينة تركتك في عهدته؛ هذا الذي اختطف منك أعرٌ النساء إلى نفسك 
من بين الناس كلّهم» ثم جعلك شاهداً على زواجه وعلى تعميد الطفل إثر 
ذلك بخمسة أشهرء أي جغلك ضيفاً لاحتفالين عائليين كدت أنت خرياً 
بإقامتهما؛ إذ أنك كنت جديراً بقيادة ماريا إلى مكتب الأحوال الشخصية» 
وأنت الذي كنت آهلاً لتحديد عرّاب التعميد. وإذا ما تأملت الشخصيات 
المحورية لهذه المأساة وتوجب علي أن ألاحظ بأن عرض المسرحية قد 
تأثرسلباً بفعل احتلال خاطيغ للأدوار الرسنية4 فتن أصاب باليامن من 
المسرح نفسه: إذ أنهم أسندوا إلى أوسكار الممثل الجوهري الحقيقي دوراً 
من أدوار الكومبارس» كان يمكن أن يلغى أصلا . 


ركونا 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


وقبل أن أطلق على ابني اسم كورت» وألقّبه بما لا يمكن أن يقب به 
قط - إذ أنني كنت سأسمي الصبي باسم جذه الحقيقي فنسنت برونسكي - 
٠‏ نعم قبل أن أرضى بكورت فأن أوسكار لا يودٌ أن يحجب كيف أنه قاوم 
الولادة المنتظرة إَان حمل ماريا. وفي مساء ذلك اليوم؛ حين باغتّهما على 
المصطبة»؛ وتربعت مطبلا على ظهر ماتسرات المتفصد عرقاء حائلا دون 
تحقيق الحذر الذي طالبت به مارياء بذلت محاولة يائسة لاستعادة 

لقد تمكن ماتسرات من إزاحتي عن ظهرهء بعدما بات الأمر متأخراء 
تائف فى فسارعت مازيا إلى حسارة ركان واشت تعاتب 
ماتسرات وتلومه لأنه لم يستطع أن يكون حذرا. فدافع ماتسرات عن نفسه 
كالرجل العجوزء بأن ماريا هي السبب؛ وصار يتعلل بالحجج بأن عليها 
الاكتفاء بمرّة واحدة» إلا أنها لم تستطع الاكتفاء. فبكت ماريا وقالت إنها 
لا تستطيع أن تفعل ذلك بسرعة؛» أدخل وأخرج ثم انتهى كل شيء؛ فعليه 
إذاً أن يبحث عن امرأة أخرىء ثم أنّها في الواقع غير خبيرة» لكن شقيقتها 
غوسته التي تعمل في فندق «عدن» كانت خبيرة بالأمرء فأبلغتها بأن القضية 
لا تتم بسرعة. وعلى ماريا أن تتخذ جانب الحذر؛ لأن هناك رجالاً لا هم 
لهم سوى أن يفرغرا مخاطهم» وماتسرات واحد من هؤلاء الرجال» لكنها 
سوف تمتنع منذ الآن عن ممارسة هذا الفعل» فلابد أن يدق ناقوسها مثلما 
حدث قبل قليل. ولهذا السبب بالذات كان عليه أن يحترسء» وهذا كل ما 
كان يدين لها بهء هذه المراعاة الصغيرة ليس إلاء ثم انخرطت في البكاء 
وهي لم تزل مسترخية على المصطبة. فزعق بها ماتسرات وهو في سرواله 
الداخلي» بأنه غير مستعد لسماع هذا العويل؛ لكنه ندم على ثورته 
العصبية» فمد يده إلى مارياء بمعنى أنه حاول أن يداعب ما تحت ثوبهاء 
أي ذلك الشيء الذي مازال عارياًء فأغضب تصرفه ماريا. 

لم يرها أوسكار من قبل في تلك الحالة قطء بحيث أن بقعاً حمراء 
انتشرت في وجهها وأخذت عيناها الرماديتان تزداد قتامة. وأطلقت على 
ماتسرات اسم القضيب المرتخي» فتناول سرواله إثر ذلك» فحشر نفسه فيه 


ان 
1_طماع1© :-1عا]آنلا 1 


وزرره. صرخت ماريا أن بإمكانه الفرار ببساطة إلى مسؤولي الخلايا 
الحزبية ؛ فهم أيضاً سريعيّ القذف. وكاو ماضيرات بعر نه ومن تن أكزة 
الباب وقال مؤكداً بأنه سيضرب منذ الآن على أوتار أخرى» وإنه شبع حتى 
التخمة من خزعبلات النسوان وترهاتهن؛ وإذا كانت متهيجة فعليها أن 
تصطاد أحد العمّال الأجانب» مثل ذاك الفرنسي الذي يجلب البيرة» فهو 
يجيد الععلية احسن عن يلا كيك» وإنه» أي ماتسرات؛ كان يتصور شيئاً 
أخر تحت مفهوم الحبٌ غير هذه القذارات» والآن فأنه سيلحق بلعية 
السكات؛ لأنه يعرف على الأقل ما ينتظره هناك . 

وآنذاك أصبحت بمفردي مع ماريا في غرفة الجلوس» وقد توقفت 
عن البكاء» وأخذت ترتدي سراويلها الداخلية بفكر مشغول وهي تصفر 
باقتصاد شديد. وأمضت وقتاً طويلاً تسوّي ثوبها الذي عاني كثيراً من وطأ 
المصطبة؛ ثم فتحت المذياع» وبذلت جهداً للاستماع له عندما أعلن 
منسوبات المياه في نهري فيستولا ونوغات» إلا أنها خلعت سراويلها فجأة 
حين بثّ المذياع أنغام الفالس بعدما ذكر مستوى المياه في نهر موتلاو 
السفلي؛ فوجدت لها آذانا صاغية» ثم مضت ماريا إلى المطبخ وجعلت 
الطست يقرقع والماء يسيل»؛ وسمعت أنا الغاز يف فتوصلت إلى احتمال 
بأن ماريا عقدت العزم على حمّام جلوسي. ولكي يصرف أوسكار ذهنه 
عن ذلك التصوّر المحرج فقد ركز انتباهه على أنغام الفالس. وإذا لم 
نخئني الذاكرة» فإنني قرعت بضعة إيقاعات من موسيقى شتراوس» 
فحظيت بإعجابي . إلا أن أنغام الفالس قُطعت من قبل دار الإذاعة ليبثٌ نبأ 
خاص. وخمّن أوسكار نبأ من المحيط الأطلسيء فلم يخب ظنّه. لقد 
تمكن عدد من الغرّاصات الحربية غرب ايرلندا من إغراق سبع أو ثمان 
سفن تبلغ الحمولة الإجمالية لكل واحدة منها كذا وكذا ألف من الأطنان. 
إضافة إلى أن عدداً أخر من الزوارق الغواصة قد نجح في إغراق عدد 
ممائل من السفن في قاع المحيط الأطلسي. وثمة غوّاصة تحت إمرة 
القبطان النقيب اشيبكه» - لعله كان النقيب البحري كريتشنر - أظهرت 
تفوقاً خاصاً.. وعلى أية حال» كان أحد هذين القبطانينء أو قبطا مشهور 


لضن 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أخرء استطاع أن يغرق مدمرةً إنجليزية من الطبقة الفلانية والعلانية»؛ على 
الرغم من أنه كان محملاً بالكثير من الأطنان» فأنجز مهمته على الرغم من 
ذلك كله. 

وبيئما أخذت أنوّع على أنشودة إنجلترا العين أعقبت النبأ الخاص» 
وأوشكت أن أحوّلها إلى لحن رقصة الفالس» دخلت ماريا إلى غرفة 
الجلوس بمنشفة على ذراعهاء وقالت بصوت خافت: لعل سعفيك نا 
خاصاً مرّة ثانية يا أوسكار الصغير! لو أنهم يواصلون على هذا 
المنوال. . .»6 

ودون أن تبلغ أوسكار ما الذي سيحدث بعد ذلك» جلست على 
كرسيّ» كان ماتسرات يعلّق عادةٌ سترته على مسنده» ثم لفّت المنشفة 
المبللة على شكل سجق, ثم أخذت تصفر أنشودة إنجلترا بمرافقة المذياع 
على نحو عال حدّ ما وصحيح أيضاًء مكررة المقطع الختامي بعدما توف 
به في المذياع» وقفلت صندوق الراديو الموضوع فوق الصوان حالما 
ارتفعت من جديد أنغام الفالس الخالدة. ألقت ماريا بلقة المنشفة التي تشبه 
السجق على الطاولة وجلست ثانية وأرخت يديها الطفوليتين على فخذيها. 
وحينها ساد الصمت التام في غرفة جلوسناء باستثناء الساعة القائمة التي 
كانت تتحدث بصوت مرتفع على الدوام» فبدت ماريا تفكر فيما إذا كان 
من الأفضل لو تفتح جهاز الراديو مرّة ثانية» بيد أنها اتخذت قراراً آخر. 
وضغطت رأسها بسجق المنشفة على سطع الطاولة ومررت ذراعيها عبر 
ركبتيها وتركتهما تتدليان فوق البساط وبدأت تبكي بصمت ورتابة. 

وتساءل أوسكار في نفسه فيما إذا كانت ماريا قد خحجلت؛ لأنني 
باغتها وهي في موقف محرج» فقررت أن أرفّه عنهاء وانسللت من غرفة 
الجلوس وعثرت على كيس علب مسحوق المحلبيّة وأوراق الحلوى 
الجلاتينية على كيس كشف عن نفسه في الممر نصف المعتم باعتباره كيس 
مسحوق فوّار بطعم الجويسئة . بدا أوسكار فرحاً بما أمسك؛ إذ أنني 
حسبت نفسيى قد أدركت لحظة بأن ماريا كانت تفضّل مذاق الحميّض على 
جميع الأصناف الأخري» 


اللا 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


وعندما دخلت الغرفة» كانت وجنة ماريا اليمنى ترتخى فوق المنشفة 
الملفوفة على شكل سجق» وترنح ذراعاها بحيرة بين فخذيها كما كانتا من 
قبل. واقترب منها أوسكار من ناحية اليسار» فشعر بخيبة أمل حين وجد 
عينيها مغمضتين» بلا دموع . فانتظر صابراً إلى أن ارتفعت الأهداب التي 
علق بها شيء ما فعرضت عليها الكيس» بيد أنها لم تلحظ المسحوق 
الحامض الطعم؛ بدت تتطلع عبر الكيس وأوسكار معاً. ولابد أن الدمع 
قد غشى بصرهاء هكذا عذرت ماريا وقررت بعد استشارة داخلية قصيرة 
قدمي ماريا المنحرفتين قليلاً إلى الداخل» وأمسكت بيدها اليسرى التي 
كادت أناملها تلامس البساط. وحرفتها حتى استطعت أن أبصر راحتهاء 
فمزقت الكيس بأسناني ونئرت نصف محتوى الورقة في الوعاء المستسلم 
لي بلا إرادة» وأردفته ببصاقي» ثم أخذت أراقب أوّل رغوة للمسحوق» 
فتلقيت من ماريا رفسة موجعة فعلاً على صدري» قذفت بأوسكار على 
البساط إلى منتصف طاولة غرفة الجلوس. 

وعلى الرغم من الألم وقفت على قدميّ حالا ثم انتصبت تحت 
الطاولة» ونهضت ماريا كذلك» فوقفنا قبالة بعضنا. تناولت ماريا المنشفة 
ومسحت يدها اليسرى» ثم قذفت بالممسحة أمام قدميّ وأطلقت عليّ اسم 
الخنزير القذر اللعين وقزم السم والجنّ القصير المخبول الذي يجب وضحه 
في مستشفى المجانين. ثم أمسكت بي وصفعت مؤخرة رأسي» وشتمت 
أمّي المسكينة التي جلبت إلى الدنيا وغداً مثلي» ثم حشرت المنشفة في 
ومعه زجاج العالم برمته» بحيث أنني عندما عضضت عليه بأسناني بدا لي 
كأنني عضضت على لحم بقر نيء. 

لكنها لم تحررني إلا بعد أن أصبح أوسكار محتقناً من الأحمر حتى 
الأزرق. كان بإمكاني فِي تلك اللحظة. وبغير عناء» أن أحطم الزجاج 
كله؛ أحطم زجاج النوافذ وغطاء ميناء الساعة الزجاجي للمرّة الثانية. 


كين 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


إلى اليوم» لدرجة أنني كنت أشعر بالمنشفة بين أسناني كلّما دخلت ناويا 
غرفتي. ومثلما كانت ماريا مزاجية الطبع فقد أخلت سبيلي؛ وصارت 
تضحك عن طيبة قلب» وفتحت لي المذياع من جديد بحركة واحدة؛ ثم 
تقدمت مني وهي تصفر لحن الفالس مع المذياع, لكي تداعب شعري» 
مثلما كنت أتمنى من كل قلبي؛ وقد فعلت ذلك بلطف متصالح. 

وتركها أوسكار تقترب منه تماماء ثم لطمها بقبضتيه من الأسفل إلى 
الأعلى» في ذلك الموضع بالذات الذي أتاحت لماتسرات اقتحامه. وحين 
صذت لكمتي الثانية قبضت بأسناني على ذلك الموضع اللعين» حتي 
انقلبت معها على المصطبة وأنا ممسك بمتاع مارياء وسمعت في الواقع نبأ 
علاجلاً أذاعوه في الراديوء بيد أن أوسكار لم يكن راغباً في الاستماع له؛ 
وهكذا فأنه سيخفي عليكم من» وماذاء وكم أغرق من السفن؛ إذ أن نوبة 
بكاء عارمة جعلت أسنانى ترتخى» فرقدت بلا حراك على ماريا التى بكت 
فق الألم»..بيتها بكتى أوسكار .من شةةالكره :والحت الذي استحال إلى 
عجز كبير» لكنه لم يستطع التوقف. 


ين 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حمل العجز إلى السيّدة غريف 


لم أكن أحببت غريف. وهوء غريف نفسه. لم يكنّ لي حباً قطء 
وبالرغم من أنّه صمم لي ماكينة التطبيل» لكنني لم أحبّه. واليوم أيضاًء 
وبعدما أوسكار عاجزاً إلى حد ما عن إبداء النفور المتواصل» فإنني لم 
أشعر بالوّد إزاء غريف» حتى بعد غيابه عن الوجود. 

كان غريف بائع خضرء ولا تنخدعوا بذلك». فهو لم يكن يؤمن 
بالبطاطس ولا بالكرنب» بل كان يتمتع بمعرفة شاملة في زراعة الخضرء 
عارضاً نفسه بسرور باعتباره بستانياً وصديقاً للطبيعة ونباتياً. وبالذات لأنَّ 
غريف لم يأكل اللحم؛ فإنه لم يكن بائع خضر حقيقياً؛ فمن المستحيل 
بالنسبة له التحدّث عن ثمار الحقل كمن يتحدث عن ثمار الحقل. كنت 
اسمعه دائماً يخاطب زبائئه بالقول: «تأمل حضرتك حبة البطاطس غير 
الاعتيادية هذه. وتأمل لحم الفاكهة المكتنزة الفائضة بالحيوية والمولدة 
للأشكال على الدوام» العذرية والعفيفة في الوقت ذاته. فأنا أحبٌ 
البطاطس» لأنها تتحدث لي شخصياً!» بالطبع إن بائع خضر حقيقياً يجب 
أن لا يتكلم على هذا النحو فيوقع الزبائن في حيرة واضطراب. فجدّتي آنا 
كولياجك التي شاخت بين حقول البطاطس لم تطلق من بين شفتيها حتى 
أثناء المواسم الجيدة للبطاطس أكثر من العبارة التالية: «نه؟ البطاطس هذه 
السنة أكبر من السنة الماضية!» على الرغم من أن آنا كولياجك وشقيقها 
فنسنت برونسكي كانا معتمدين على محصول البطاطس أكثر من بائع 
الخضر غريف الذي كان يعوّض موسم البطاطس السيئ بموسم الأجاص 
الجيّد. 


حون 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبدا كل شيء لدى غريف مبالغاً فيه. وهل كان من الضروري أن 
يرتدي مِتْرّراً أخضر في الدكان؟ وأي تبجّجح دفع به إلى تسمية مريلته 
الخضراء خضرة السبانخ وهو يبتسم أمام زبائنه متظاهرا بالحكمة: «مريلة 
الله العزيز البستانية الخضراء»؟ فضلاً عن أنه لم يتخل نهائياً عن كشّافته. 
فكان عليه في الواة قع أن يحل جمعيته خلال العام الثامن والثلاثين - حين 
ألبس الأولاد قمصاناً بنيّة وقيافات * شتوية سوداء لائقة المظهر - ومع ذلك 
كان الكشّافون السابقون يأتون بأعداد غفيرة وبانتظام في ثياب مدنية أو 
أزياء رسمية جديدة إلى رئيس كشّافتهم السابق» ليغنوًا مع غريف الذي 
كان ينتف بقيثارته أمام مريلته الخضراء التي استعارها من الله العزيز أغاني 
الصباح والمساء وأغاني الجوّالين والجنود المرتزقة؛ إضافة إلى أناشيد 
الحصاد والأغاني الشعبية» المحلية منها والأجنبية. وبما أنّ غريف أصبح 
في الوقت المناسب عضواً فى فرقة الحزب النازي الآلية فصار يلقب نفسه 
بعذا العاء الواحد والأربعين ليس فقط ببائع الخضر: إنما بمراقب الحماية 
من القصف الجوي. ثم م إِنّه كان يستطيع الاعتماد على اثنين من الكشّافة 
السابقين اللذين وصلا إبّان ذلك إلى موقعين متقدمين في #اتحاد الشبيبة» 
الألمانية؛ أحدهما أصبح آمر فوج والأخر قائد مجموعة؛ فإن أمسيات 
الأغاني التي كانت تقام في قبو غريف لخزن البطاطس يمكن أن يعتبرها 
المرء مشروعة من قبل القيادة الإقليمية لشباب هتلر. وكذلك دُعي غريف 
من قبل مدير التعليم الإقليمي الوبزاك» لإقامة أمسيات غنائية أثناء 
الدورات التعليمية التي كانت تعقد في حصن «ينكاو؛ للتعليم المحلي. 
وفي مطلع العام الأربعين كلف مع أحد معلميّ الابتدائية بمهمة وضع 
كتاب لأغاني الشباب خاص بإقليم الرايخ غدانسك- بروسيا الغربية تحت 
عنوان «غنّي معنا!» فأصبح الكتاب كتاباً جيداً جدّاًء وتلقى بائع الخضر 
رسالة من برلين بإمضاء قائد شبيبة الرايخ تضمنت دعوة للقاء رؤساء أقسام 
الغناء . 

لقد كان غريف رجلا بارعا تماماء ليس لأنه كان يعرف مقاطع 
الأغاني كلّهاء بل لأنه عرف نصب الخيم أيضاًء فكان يوقد نيران المخيّم 


4ن 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ويطفئهاء لكي لا تنشب الحرائق في الغابات» ويسير بعزم حسب 
البوصلة؛ ويسمي النجوم المرئية بأسمائها الأولىء ويؤلف حكايات 
طريفة» مليئة بالمغامرات» ويعرف أساطير بلاد فيستولاء ثم أنه كان يقيم 
ندوات مسائية تحت عنوان اغدانسك واتحاد المدن التجارية (هانزا)»» بل 
كانت له القدرة على تعداد رؤساء أوسمة الفروسية بالتواريخ» ولم يكتف 
بذلك» بل أنه كان يتحدث عن كل ما له علاقة بالإرسالية الألمانية في بلد 
التشير العائولكى + وكا تادرا ها بشن مساضراته قرلا ماثورا مشيزا عق 
أقوال الكقّافة. - 

وكان غريف يحبّ الشباب» ويحبّ الغلمان أكثر من الفتيات» بل أنه 
في الحقيقة لم يحبّ الفتيات أبداًء إنما كان يحب الغلمان فحسب. وغالباً 
ما كان يحبّ الغلمان أكثر مما كان يعبر عنه أداء الأغانى من خلال قراءة 
نسوضها: ومن المسحقيل آنا زمعته الميدلة ذاه الجواري الطويلة 
المثقوبة والتي كان مشدٌ ثدييها يتضخم على الدوام قد أجبرته على البحث 
عن المعيار الخالص للحب لدى الصبيان المفتوليَّ العضلات» اللامعين من 
فرط النظافة. وكان من الممكن أيضاً التنقيب عن جذر آخر للشجرة التى 
زعت القيات القاختية القدرة السكدة كرف على اغضائيا طوال: نصيول 
السنة. أعني بذلك: أن السيّدة غريف كانت "تفلّت»» لأن بائع الخضر 
ومراقب الحماية من القصف الجوّي لم يكن يمتلك النظرة السديدة إلى 
ثرائها المهمل» البليد قليلا. فأحبٌ غريف كل ما هو مدملج» مفتول 
العضلات» صلب العود. وإذا ما لفظ عبارة الطبيعة؛ فإنه كان يعنى بها 
الزهد. وإذا ما قال بالتقشف؛ فإنه كان يعنى فوغاً محلداً من الاعتناء 
بالجسسد» ]5 آنا غريف كان يتثهم جسيةة: فبات يعتق نه بطريقة معقدة» 
ويعرضه للسخونة: وللبرودة على تحو يمكن اعتباره ابعكاراً شديد 
الخصوصية. وبينما كان أوسكار يحطم الزجاج عن بعد أو قرب» ويذيب 
أحياناً زهور الثلج أمام الزجاج وضفائر الجليد فيجعلها تصلّ مقرورةً» فإن 
بائع الخضر كان رجلاً يقتحم الجليد بعدّة سهلة الاستعمال. 

فقد دأب غريف على حفر الثقوب في الجليد. وفي ديسمبر/ كانون 


7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الأول ويناير/ كانون الثاني وفبراير / شباط كان يحفر بالساطور ثقوباً في 
الجليد. وكان يخرج دراجته الهوائية من القبو في الفجرء قبل انبلاج 
الصباح» ويلف الساطور بجوال بصل فارغ» ويركب دراجته إلى بروزن 
عبر سازبه» متجهاً من بروزن إلى غلتكاو على رصيف البحر المغمور 
بالتلوج , ويترجل من الدراجة بين بروزن وغلتكاوء ليدفعهاء بعدما ينبلج 
الضياء شيئا فشيئاء ويدفع معها الساطور الملفوف بجوال البصل فوق 
الشاطئ الذي تراكمت عليه الثلوج» فيسير مائتين أو ثلاثمائة متر فوق بحر 
البلطيق المتجمّد». حيث كان ضباب السواحل يطبق على البحر»ء فلم 
بإمكان أحد رؤية غريف وهو يضع الدراجة جانباً» منتزعاً الساطور من 
جوال البصل» ليقف برهةً ساكناً منتبهًء ينصت إلى نفير أبواق الضباب 
المنطلق من سفن الشحن المغروزة في المياه المتجمدة» ثم يخلع سترته» 
ويؤدّي بعض التمارين الرياضية» ويبدأ أخيراً بتوجيه الضربات القوية ليحفر 
بالساطور نقرةً دائرية في بحر البلطيق. فكان غريف يحتاج إلى ثلاثة أرباع 
الساعة لكي ينجز نقرته. وأرجو أن لا تسألونني من أين علمت بذلك. 
فأوسكار كان يعلم آنذاك كلّ شيء تقريباًء فكنت أعلم أيضاً مقدار الوقت 
الذي كان غريف يحتاج إليه ليثقب نقرته في سقف الصقيع» حتى يتصبب 
جسمه عرقاًء فيقفز عرقه المالح من جبينه العالي المقوّس نحو الثلج. 
وكان يؤدي مهمته بشطارة» مشبعاً آثار الثقب بالضربء جاعلا إِيَاه 
مستديرأء فيعثر على بدايته ثانية» ثم يرفع» بلا ققّازء كتلة الجليد البالغ 
سمكها حوالي عشرين ستتمتراً» يرفعها من سطح الجليد الواسع الذي كان 
يصل حسب الاعتقاد إلى شبه جزيرة هيلا الغدانسكية» بل إلى السويد 
حتّى. فكانت النقرة تمتلئ بالمياه العتيقة الرمادية المختلطة بالخثارة 
المتجمدة»؛ وينبعث منها البخار. ومع ذلك» فإنها لم تكن عين ماء 
ساخنة. كانت النقرة تجذب الأسماك» وبات بإمكان غريف أن يصطاد 
بالشصٌ سمكة ضخمة أو قطاناً يبلغ حجمه عشرين رطلاً. لكنه لم يلق 
بشصّه» إنما يبدأ يخلع ثيابه» حتى يصبح عاريأء لأن غريف إذا نزع ثيابه 
فلا ينزعها إلا ليصبح عاريا تماما. 


هوض 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


وأوسكار لا يريد أن يروي عليكم حكايات شتاء» لكي تعتري رجفة 
الخوف أوصالكمء إنما لأقول باختصار: كان غريف يأخذ حمّامين في 
بحر البلطيق كل أسبوع أثناء شهور الشتاء. ففي الأريعاء كان يستحم 
بمفرده في الصباح الباكرء فينطلق في السادسة» ليصل في السادسة 
والنصف» فيحفر النقرة حتّى السابعة والربع» ثم يتحرر من ثيابه بحركات 
سريعة مبالغ فيهاء ويقفز في النقرة» بعد أن يكون قد فرك جسمه بالثلج 
قبل النزول إلى الماءء ويظلٌ يصرخ في النقرة» وكنت أسمعه يغتّي أحياناً: 
«البطّ البرّي يحفٌ عبر الليل»»؛ أو (إننا. .. نحبٌ العراصف...214 ثم 
يواصل استحمامه صارخاً مرتين» لمدة ثلاث دقائق على الأكثر؛ ثم 
ينكشف بوضوح مرعب على سطح الجليد بقفزة واحدة: لحماً أحمر 
حمرة السرطان ويبعتٌ بخاراء ثم يعدو لاهثا حول النقرة» ويواصل 
الصراخ؛ متهيجاً» ليعود أخيراً إلى ثيابه ودراجته. وقبل الثامنة بقليل يكون 
غريف قد عاد إلى لابسفيغ» ليفتح دكان خضرته في موعده المحدد. 

أمَا الحمّام الثاني فكان غريف يأخذه في الأحد بصحبة عدد من 
الغلمان. فكان أوسكار لا يحبّ أن يرى ذلك» ولم يره أيضاً إنما أخذت 
النائن تتصدك علنة فيما بعد.. وكان الموسيقى ماين يعرف قفصصاً عن 
فريقة أنافها فى لسن ورك عاتن هذه السك رفوك 1ن 
غريك كان قد أعيل ماما فى ؤتلكالكدل بسة غذة من القلمات» خلذل 
شهر من أشد الكنوون برداء. لحن ماين القنسه الى يلاغ بأن بائع الخضر أجبر 
الغلمان على القفز فى نقرة الجليد عراةً مثله. بل بدا راضياً إذا ما 
أصطحب الحلناة تعتف عراةة أو عراةً إلى حدّ ماء» وبعضلات مفتولة, 
ومكتنزي اللحم» ويفرك بعضهم بعضاً بالثلج. نعم» كان الغلمان يدخلون 
الفرح الغامر إلى قلب غريف وهم على الثلج» لدرجة أنه كان يتقلّب معهم 
أحياناً قبل الحمّام أو بعدهء ويعاون هذا أو ذاك على فرك الثلج؛ سامحاً 
للزمرة كلها بأن تفرك جسمه بالئلج» وهذا ما كان الموسيقي ماين يدعي 
رؤيته من كورنيش البحر في ناحية غلتكاو على الرغم من ضباب 
السواحل؛ وادعى أنه رأى غريف العاري حدّ الرعب» والمغتّي» والضاج 


وا 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


بالصراخ وهو يجذب إليه اثنين من ربائبه العراة» ويرفعهما محمولاً بهما 
عاريا بعاريين» طقما ثلاثيا صاخبا منفلت العقال يقفز ثائرا على سطح بحر 
البطليق المتجمد. 

وعلى المرء أن يضع في نظر الاعتبار بأن غريف لم يكن ابن صيّاد 
سمكء على الرغم من أن هناك العديد من صيّادي الأسماك في بروزن 
ونويفارفاسر الذين يحملون لقب غريف. لقد قدم بائع الخضر غريف من 
ناحية تيغهوف؛ إلا أن لينا غريف المولودة بلقب «بارتش» قد تعرفت على 
زوجها في «#براوست». كان يقوم آنذاك بمساعد معاون قسيس شاب ذي 
همة كبيرة في رعاية جمعية الصبيان الكاثوليك المهنيين» بينما كانت لينا 
تذعي كل زوه أجه إن الذافرة الكنسية سيت معاون القسيص لنفسه: 
وحسب إحدى الصور التي لا بد أن يكون آل غريف قد أهدوها لي؛ إذ 
أنها مازالت إلى يومنا هذا ملصقة في ألبوم صوري؛ فإن لينا ذات العشرين 
عاماً آنذاك كانت قوّية الجسدء ممتلئة» طريفة» طيبة القلب» طائشة» 
وغبية. كان أبوها يمتلك مشتلاً كبيراً في سانت آلبرشت. فتزوجت من 
غريف. بناءً على نصيحة معاون القسيس» وهي في سن الثانية والعشرين» 
مثلما كانت تؤكد على ذلك دائماًء أي أنها كانت عديمة الخبرة تمامء ثم 
افتتحت دكان الخضر في لانغفور بمال أبيها. ولأنها كانت تحصل على 
معظم بضاعتهاء أي الفواكه كلها تقريباء من مشتل أبيها بسعر زهيد؛ فإن 
أمور الدكان سارت على نحو جيّدء ومن ذاتها نوعاً ماء بحيث لم يتح 
لغريف إفساد الكثير. 

بلى» لو لم تكن لغريف تلك النزعة التقنية الطفولية» فلما كان صعباً 
عليه أن يحوّل الدكان الذي كان يقع في مكان مناسب» في ضاحية كثيرة 
الأطفال» بعيداً عن أي منافسة». إلى منجم ذهب. لكن عندما قدم موظف 
مديرة الأوزان للمرّة الثالثة أو الرابعة» وتفخخص قبّان الخضرهء وقام 
بمصادرة الأوزان وحجز القبّان» فارضاً على غريف غرامات نقدية صغيرة 
وكبيرة؛ ابتعد عنه جزء من الزبائن الدائمين وصار يشتري بضاعته من 
السوق الأسبوعي؛ فقيل: إن بضاعة غريف هي دائماً من الدرجة الأوّلى» 


7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


كما أنها لم تكن غالية أبداً» لكن الأمور لا تسير عنده بشكل يبعث على 
الثقة؛ فقد دخل عليه جماعة مديرة الأوزان مرّة ثانية . 

وبتّ متأكداً في هذا الصدد بأن غريف لم يكن ينوي ممارسة الغش» 
إنما حدث الأمر بالشكل التالي: كان قبّان البطاطس الكبير يوزن البضاعة 
ليس لصالح غريف بعد أن أجرى بائع الخضر بعض التعديلات عليه. 
فركب على القبّان عشية اندلاع الحرب لعبة أجراس تصدر لحن حسب 
حجم البطاطس الموزونة. فكان الزبون يستطيع في العشرين رطلاً من 
البطاطس الإصغاء إلى : «على شاطئ (زاله) المشرق» كزيادة كما يقال» 
وكانك الخسين :رطلاً البطاطين تظلق لحن > امون نفك غلى الأخلاضن 
دائماً والنزاهة»؛ وكان قنطار البطاطس الشتوية يستدرج من لعبة الأجراس 
ألحان أغنية «أنشن فون تاراو» الساذجة والمضللة. 

وحتى لو كنت أتفهم امتعاض مديرة الأوزان من تلك الدعابات 
الموسيقية» فإن أوسكار كان يتذوّق نزوات بائع الخضر» وبدت لينا غريف 
تتساهل أيضاً مع تصرفات بعلها الغريبة الأطوار. لأن» نعمء لأن الزواج 
«الغريفيَ» كان قائماً على أن يظهر كلّ من الزوجين تساهلاً مع تصرفات 
الآخر. وبهذا المعنى يمكن القول إِنّ الزيجة الغريفية كانت زيجة جيّدة. 
فبائ لع الخفر لم يكن يعتدي بالصرب على زوجة» أولم يخنها مطلقاً مع 
النساء الأخريات» وكذلك لم يكن سكيراً أو مبذّرآء بل كان شخصاً 
مرحاء حسن الهندام» ومحبوباً ليس من قبل الغلمان وحدهمء بل من قبل 
ذلك القطاع من الزبائن الذي كان يتقبل موسيقى البقّال مع البطاطس»ء 
بسبب طبيعته الأنيسة المستعدة لتقديم المساعدة. وهكذا كان غريف يراقب 
زوجته لينا بهدوء وتسامح وهي تتحول من عام إلى آخر إلى امرأة مهملة 
نتنة الرائحة. فكنت أراه يبتسم عندما يسمي الناس» وبنيّة حسنة» تلك 
المرأة المهملة بالاسم. وأسمعه أحياناً يخاطب ماتسرات الذي كان يعلن 
عن استيائه» بقوله وهو ينفخ في يديه الناعمتين ويفركهما: «بالطبع إنك 
محقٌّ تماماً يا ألفريد. إنها مهملة بعض الشيء» لينا الطيبة. لكن هل أنت 
وأنا بلا عيوب؟؛ ش 


ا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وإذا ما تمسك ماتسرات برأيه؛ فإن غريف ينهي الجدال بحزم وبلطف 

معاً: «يمكن أن يكون معك حقّ في هذه النقطة أو 7 ك» لكن ليئا تتمتع 
بقلب طيّب . فأنا أدرى منك بليناي!» 

ولعّله كان يعرفها جيّداً؛ لكنها لم تكن تعرفه إلا قليلاء فربما رأت» 
شأنها شأن الجيران والزبائن» في علاقات غريف بالغلمان والشبّان الذين 
كانوا يزورون البقّال بما فيه الكفاية» مجرد إعجاب فتيان صغار برجل هاو 
في الواقع لكنه مرب وصديق للشباب وشغوف بهم. 

غير أن غريف لم ينل إعجابي ولم يستطع تربيتي» كذلك لم يكن 
أوسكار على هوا ولو 2 عقدت العزم على النموء فريما أصبحت 
ع و إذ 9 ولدي كورت م ما الا كان 
لغريف تجسيداً حبّاً. حتى لو كان شديد الشبه بمارياء ا 
القليل» فضلاً عن أنه لم يأخذ شيئاً من ماتسرات قط . 

وحضر غريف وفرتس تروجنسكي الذي كان في إجازة من الجبهة 
عقد الزواج بين ماريا تروجنسكي وألفريد ماتسرات. ولأن ماريا كانت 
بروتستانتية المذهب مثل زوجهاء فتمٌ الاكتفاء بالذهاب إلى مكتب الأحوال 
الشخصيّة. وحدث ذلك في منتصف ديسمبر/ كانون الأوّل» فنطق 
ماتسرات بنعمه» وهو فى بذلة الحزب الرسمية» فى حين كانت ماريا 
حاملاً في شهرها الثالث. وكلّما أزدادت ماريا بدانةٌ» ازداد كره أوسكار 
لهاء مع أنه لم يكن لديه اعتراض على الحمل . بيد أن الثمرة التي أنبتها 
بنفسي » والتي ستحمل ذات يوم لقب ماتسرات» قد صادرت فرحتي كلها 
بالولد المنتظر الذي سيحفظ اسم الأسرة من الضياع. ولذلك قمت بأوّل 
ا 0 0" لت 
وشحم 00 ا وي 00 
الأنوف الكرويّة الشكل. فبدا السلّم المستقر عادةً بغبات على الرفوف 


ارا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مختلاً في متكئه على الطاولة» فوقفت ماريا أعلاه واضعة يديها بين ثعابين 
الورق» بينما وقف أوسكار عند قدمي السلّم. فدفعت السلّم إلى الأعلى 
مستخدماً مضربي بمثابة رافعتين» ومستعيناً بكتفي وبإصرار ثابت» ثم 
حرفته إلى الجانب: فصرخت ماريا برعب وصوت خفيض وسط أفاعي 
الورق وأقنعة المهرجين» فأخذ السلّم يترنح» فقفز أوسكار إلى الجانب» 
ومقطت هارزيا ممحاذاته ثماناً» معرعة معها الوزن الملؤة والبيدق 
والأقنعة . ش 

وتراءى ذلك أكثر سوءاً مما كان في حقيقة الحال» فلم يحدث لها 
سوى أن قدمها التوت» فتوجب عليها الاستلقاء لتتعافى. وما عدا الالتواء؛ 
فإنها لم تصب بضررء وباتت تزداد ترهلاً على الدوام» لكنها لم تقل شيئاً 
حتى لماتسرات عن الشخص الذي أعانها على فسخ قدمها. لكنني بعدما 
أقدمت على محاولة الإسقاط الثانية في مايو / آيار من العام اللاحق» وقبل 
حوالي ثلاثة أسابيع من موعد الوضعء عرفت بأنها تحدثت لزوجها 
ماتسرات عن الأمر دون أن تبلغه بالحقيقة كاملة. قالت له أثناء الطعام وفي 
حضوري: «أوسكار صار في الفترة الأخيرة عنيفاً جد أثناء اللعب» وصار 
يضربني بعض المرّات على بطني. يمكن نضعه عند أمّي إلى ما بعد 
الولادة قيتاك يود مكات. 4 2" ١‏ 

فكان هذا ما أصغى له ماتسرات وأقتنع به أيضأء فثمة نزعة قتل 
جامحة أعانتني على الاجتماع بماريا اجتماعاً من نوع مختلف تماماً. 
وكانت قد تمددت على المصطبة أثناء استراحة الظهيرة» وكان ماتسرات 
في الدكان» يرتّب البضائع في واجهات العرض» بعدما غسل أطباق طعام 
الغداء» فساد الهدوء فى غرفة الجلوس . ربما كان هناك طنين ذبابة أو 
صوت الساعة كالمعتاد وفي المذياع ثمة تقرير بصورت خفيض عن 
انتتصارات المظليين في كريت. إلا أنني لم أصغ للمذياع إلا بعد أن فُسح 
المجال للملاكم العظيم «ماكس شمينلغ» في التكلّم. وحسبما فهمت فإن 
قدمه العالمية البطولة قد التوت أثناء قفزه وهبوطه بالمظلة على أرض 
كريت الصخرية» فتوجب عليه أن يخلد إلى الراحة ويتعافى» مثل ماريا 


وذ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


التي لزمت الفراش يعد سقوطها من السلّم. كان شميلنغ يتحدث بهدوء 
وتواضع» ثم بدأ مظليون قليلو الشهرة يتحدثون من بعده؛ فتوقف أوسكار 
عن الإصغاء: ثمة سكون» ربما طنين بعوضة والساعة كالعادة والمذياع 
الخفيض الصوت. 

كنت أجلس على مقعدي الصغيرة أمام النافذة أراقب جسد ماريا على 
المصطبة . فرأيتها تتنفس بصعوبة وقد أغمضت عينيهاء فأخذت أقرع بتبرّم 
على طبلي بين الحين والآخرء لكنها لم تتحرك وأجبرتني على التنفس مع 
بطنها في غرفة واحدة. وبالطبع كانت هناك الساعة والذبابة بين زجاجة 
النافذة 'والمكارة والجلياع المتشغل بعنزيرة كربت الحدرية في الخلفية, غير 
أن ذلك كله غاب عن بعد فترة قصير يرة» ولم أعد أرى سوى البطن» ولم 
الدوبان غرة امح هذا اللاو شكييا. ولا لمن يعود» ولم أعد أعرف 
من ذا الذي : نفخ البطن بهذا الشكل» بل أحسست برغبة واحدة: وهي أن 
ل 
وتفعل شيئاً ماء فنهضت. عليك أن ترى ما الذي يمكن عمله. فمضيت 
إلى البطن والتقطت شيئاً ما في طريقي. يجب أن تقوم بقليل من التنفيس» 
فهذا انتفاخ خبيث. فرفعت ما التقطته» باحثاً على موضع بين يديّ ماريا 
الطفوليتين المتنفستين مع البطن. وعليك أن تتخذ قرارك الآن قبل أن تفتح 
ماريا عينيها. وحينئذ شعرت بنفسي مراقباًء إلا أنني بقيت 0 
ماريا اليسرى التي ارتجفت على نحو خفيف» ولاحظت في الواقع 
مح ب ل ود 0 4ه 
بالدهشة بشكل خاص عندما لوت ماريا بيمينها المقصّ من قبضة أوسكار. 
ربما مكثت لحظات مشرعاً قبضتي الفارغة» منصتاً للساعة والذبابة 
ولصوت المذيع الذي أعلن نهاية تقربر كريت» ثم رجعت أدراجي 
وغادرت غرفة الجلوس التى باتت ضيقة بالنسبة لي بفعل الجسد الذي ملأ 
المكان» قبل أن يبدأ البتٌ 5 جديد بالطرب من الجساعة الثانية إلى الثالثة . 

وبعد ذلك بيومين زودتني ماريا بطبل جديد وأخذتني إلى بيت الأمّ 
تروجنسكي في الطابق الثاني الذي كان يعبى برائحة القهوة البديلة 


74 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


والبطاطس المقلية. وفي البدء كنت أنام على الأريكة» بسبب أن أوسكار 
رفض النوم في سرير هربرت السابق» إذ من الممكن أنه مازال مشبعاً بعطر 
الفانيلا الذي تضمّخ به جسد ماريا. وبعد أسبوع جرجرت عجزز الإنقاذ 
سرير الأطفال الخشبي عبر السلّم. فسمحت لها بأن تنصبه إلى جانب 
المضجع الذي لم يحرّك ساكناً تحتي وتحت ماريا والمسحوق الفوّار. 
وأصبح أوسكار هادا أو لا مبالياً في عهدة الأمّ تروجنسكي, إذ أنني لم 
أعد أرى البطن؛ لأنّ ماريا كانت تخشى صعود السلّمء مفضلاً تجتّب 
مسكن الطابق الأرضي والمحل والشارع وحتى الباحة الخارجية للبناية 
المؤجرة التي باتت تستخدم لتربية الأرانب من جديدء لأنّ الوضع الغذائي 
بدأ يزداد صعوبة يوما بعد يوم. 

كان أوسكار غالباً ما يجلس أمام البطاقات البريدية التي بعث بها نائب 
الضابط فرتس تروجنسكى أو التى جلبها معه من هناك. كنت قد تخيلت 
هذا المعهد آو #اداتعك امو باريس» .ويدات أطبل عانق باريش يعدن 
أعطتني الأمّ تروجنسكي بطاقة بريدية فيها صورة برج أيفل» عازفاً موسيقى 
القربة الفرنسية» متجاوبا مع التركيب الحديدي الجريء للأثر المعماري, 
دون أن أكون قد سمعت موسيقى القربة قبل ذلك أبداً. وفي الثاني عشر 
من يونيو / حزيران ولد ابني كورت في برج الجوزاءء وليس في برج 
السرطان كما توقعت» قبل أربعة عشر يوم من تقديراتق الحسابية .. لقد ولد 
الأب في عام المشتري والابن في عام الزُهرة. كات الأني محكوما بمطارة 
في برج العذراء الذي يجعل المرء متشككاًء ثريّ الخواطرء وكذلك حظي 
الابن بالخواص ذاتها من عطاردء إلا أن برج الجوزاء زوّده بذهن بارد 
طموح. وإذا ما كان من شأن زهرة برج الميزان في بيت الطالع أن يخفف 
عنّى بعض الشيء فقد كان من شأن برج الحَمّل في الطالع نفسه العائد 
لابني أن يجعل الأحوال سيئة؛ فتوجب عليّ أن أشعر بتأثير مريّخه فيما 

لقد أبلغتني الأمّ تروجنسكي بالمستجدات بانفعال ومثلما تفعل 
الفآرة: «نه يا أوسكاريء إِنّ اللقلق جلب لك أخاً. أنا كنت أفكرء نه» يا 


7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ليت ما يكون بنية» تخلق مشاكل من بعد!؛وبالكاد كنت توقفت عن التطبيل 
أمام نموذج برج أيفل وأمام مشهد قوس النصر الذي وصل توَّاًء فبدا كأن 
الأمّ تروجنسكي. بصفتها الجدّة تروجنسكيء, لم تنتظر مني أي تهنئة. 
وعلى الرغم من أن اليوم لم يكن يوم أحدء إلا أنها قررت أن تخضضب 
وجهها بالحمرة» فهرعت إلى ورق الهندباء المحفوظ لديها دائماً وفركت 
به وجنتيها لتخضبهماء ثم غادرت الدار بلونها الطازج» لكي تقف إلى 
جانب الأب المفترض ماتسرات في مسكن الطابق الأرضي . 

وحدث ذلك كما قلت خلال شهر يونيو / حزيران المخاتل. فثمة 
انتصارات على جميع الجبهات - إذا صم تسمية انتصارات البلقان 
انتصارات حقَّاً - ونظير ذلك أصبح المرء يقف على أعتاب انتصارات 
كبرى في الشرق. كان هناك جيش جرار يزحف» وكانت سكك الحديد 
مشغولة» وحتى فرتس تروجنسكي الذي كان يمضي وقتاً ممتعاً في باريس 
توجب عليه أن يذهب في مأمورية نحو الشرق. عنّ لها أن لا تتوقف عند 
حدّء ولم يُستبدل بإجازة من الجبهة إلى الأهل. وقبع أوسكار أمام 
البطاقات البريدية اللامعة؛ مقيماً فى باريس المبكرة الصيف المعتدلة 
المناخ » مطبّلا ببساطة لحن "قعندو طن 2295 15015" دون أن يكون 
له ارتباط بجيش الاحتلال الألماني» كذلك لم يكن يخشى الأنصار الذين 
يمكن أن يلقوا به من فوق جسر السين. كلا؛ إنما تسلقت برج أيفل بثيابي 
المدنية» بصحبة طبلى» واستمعت بالمشهد البعيد من القمة كما ينبغى» 
شام ارح خني» خاي من اكير المر إر ال تي الاتجار على 
الرغم من إغراء العلو الشاهق. فلم أعي ميلاد ابني ألا بعد أن ترجلت 
لأقف عند قدم البرج بقامتي البالغة أربعة وتسعين ستتمتراً. ففكرت قائلاً: 
'0118 إنه ولد! وسيحصل على طبل من صفيح بعدما يبلغ الثالثة. ثم 
أننا نريد أن نرى من هو الأبء أهو السيّد ماتسرات أم أناء أوسكار 
برونسكي ! 

لقد عُمد ولدي في أغسطس القائظ - أظن أنهم أعلنوا للتو نبأ عن 
النهاية المظفرة لموقعة حصار في سمولنسك. لكن كيف دُعيت جدتي آنا 


8 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كولياجك وشقيقها فنسنت برونسكي لحضور التعميد؟ إنني إذا ما عزمت 
على التفكير في الرواية التي جعلت من يان برونسكي أبَاً لي ومن فنسنت 
الهادء]+ المستغرب دائماء جَدَاً لى من تاحية الآب4 فإن أسباباً كافية 
للدعوة ستنشأ حيتئذ. ثم إِنَّ الجدّين هما في نهاية المطاف والدا جدّيّ ابني 
كورت. بالطبع أن هذا البرهان لم يخطر أبداً في ذهن ماتسرات الذي وجّه 
الدعوة. فقد كان ينظر إلى نفسهء حتى في لحظات الشك العميق» بعد أن 
بيكس لعية ورق غسارة ماحقة عن سبيل المقال»: بأته هو المتهية بالمغتئ 
الثنائي : باعتباره أبَاً ومعيلاً. لكن أوسكار رأى جدّيه ثانية لأسباب أخرى 
تختلنة: نقد قم إدجال«المحوزيه في التبعية الالنادة» "طلم يعذا بوليديين 
وضارالا بتحلهات الأ باللهة الكاشوبية: كان يظلق على هولام لقب 
التابعين الألمان» أي الأقلية القومية رقم ثلاثة. إضافة إلى أن هدفغ 
روسكى + أرهلة يان كذ تروجت من احد الألمان البلطيقيين »ركان قائداً 
للتنظيم الفلآحي في رامكاو. وثمة طلبات رسمية جارية آنذاك؛ تقضي بأنّ 
يحمل شتيفان ومارغا برونسكي اسم إهلرزء زوج أمهماء في حالة الموافقة 
على العرائض الرسمية. وكان شتيفان ذو السبعة عشر عاماً قد تطوّع فالتحق 
بمعسكر تدريب «غروس-بوشبول» كمتدرب في سلاح المشاة» فأصبح 
أمله كبيراً بزيارة ميادين القتال فى أوربا كلّهاء بينما كان على أوسكار الذي 
سيبلغ قريباً سن التجنيد الانتظار وراء طبله إلى أن نتاح فرصة لاستخدام 
طبّال الصفيح ذي الأعوام الثلاثة في الجيش» أو في سلاح البحرية» أو 
ربما في القوّة الجوية. 

لقد قطع مسؤول التنظيم الفلآحي الخطوة ة الأولى» فاخترق شارع 
لابسفيغ بعربة يجرها حصانان قبل أربعة عشر يوماً من التعيين مغطكيا 
معه هدفغ على مقعد الحوذي. كانت ساقاه ارسي كما ا كن باس 
من مرض فى المعدة» بحيث لا يمكن فى كل الأحوال مقارنته بيان. فأخذ 
مكانه في غرفة الجلوس إلى جانب هدفغ البقرية العيئين فبدا أقصر منها 
بمقدار رأس» وقد فاجأ مظهره حتى ماتسرات نفسه. لم ينشأ وقتها أي 
حديث مهم إنما تحدثوا عن الطقس» مؤكدين على أن الدنيا في الشرق 


اي 
1_طماع1© :121 آنلا 1 


مقلوبة؛ وأن هناك تقدماً فعَالاً أسرع بكثير من العام الخامس عشرء حسبما 
تذكر ماتسرات الذي اشترك بأحداث العام الخامس عشر. وبذل الجميع 
جهداً فائقاً لتجنب ذكر يان برونسكي» إلى أن أحبطتٌ خطتهم الصامتة؛ 
فناديت باسم عم أوسكار مرّات عديدة وبصوت عال» مدوّراً فمي على 
نحو طفولي مضحك. فارتعد ماتسرات» وأطرى ذكر صاحبه السابق 
وغريمه بلطف وبشيء من التأمل . فأيدٌ إهلرز قوله على الفور» وبثراء 
لغوي» على الرغم من أنه لم ير سلفه. بل أن هدفغ ذرفت دموعاً سخية 
صادقة» عائرة على كلمة الختام لموضوع يان: «كان إنسانا طيّباء لا يؤذي 
حتى شعرة من شعر الذبابة. من كان يتصور أنه سينتهي هذه النهاية» كان 
يخاف من خياله» وضحّى بنفسه من أجل لا شيء.» 

وبعد تلك العبارات طلب ماتسرات من ماريا التي وقفت ورائه أن 
تجلب بضع زجاجات من البيرة» ثم سأل إهلرز فيما إذا كان يجيد لعب 
السكات. لكن إهلرز لم يكن يعرف لعبة ورق السكات. ومع ذلك بدا 
ماتسرات كريماً بما يكفي ليغفر لقائد التنظيم الفلآحي ذلك العيب البسيط . 
وريث غلى كنف مشددا» بحدما سكت البيرة فى الكووين» على أن لين 
نو لعن يجيد لعب السكات» و يكل للدزه أن يتن عدينا جيدا 
على الرغم من ذلك كله. 

وهكذا وجدت هدفغ إهلرز طريقها إلى بيتناء مصطحبة معهاء إضافة 
إلى مسؤول التنظيم الفلآحي؛ حماها السابق فنسنت برونسكي وشقيقته 
آثاه لحضور تعبية ولدى كووت. بدا فاكسرات غارفا بالأمر+ فعا 
العجوزين بصوت مدر وبحرارة أسفل نوافذ الجيران» ليقول بعد أن 
انتشلت جدّتي من تحت ثيابها الأربعة هدية التعميد التي كانت عبارة عن 
بّة ضخمة: «هذا شيء غير ضروري يا والدتي. وسأكون سعيداً بك حتى 
لو لم تجلبي معك شيئاً.؛ فلم يكن هذا الكلام يناسب جدّتي التي أرادت 
أن تعر ثبمة بطعها» فضشعت. الطير العمين براحة يدها وقالث محتة : 
«نهء نهء لا داعي لهذا الكلام يا ألفريدي. هذه البطة ليست كاشوبية» هذه 
بطة من التبعية الألمانية وطعمها مثل ما كان قبل الحرب!» فوضع بذلك 


47 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


حل للمشاكل الشعبية برمتهاء ولم تبق سوى بعض الصعوبات قبل البدء 
بالتعميد؛ إذ أن أوسكار امتنع عن الانضمام إلى الكنيسة البروتستانتية. 
حتى بعد أن جلبوا الطبل من سيارة الأجرة وحاولوا استمالتي بالصفيح» 
ألا أنني بقيت مصرًّاً على كاثوليكيتي الحالكة السوادء مع أنهم أكدوا لي 
كل مرة من جديد بأن المرء يستطيع أن يحمل طبله علانية في الكنائس 
البروتستانتية» مؤثراً الاعتراف بالذنوب؛ ذلك الاعتراف المختزل والقصير 
في أذن حضرة القسيس فيهنكه» على سماع موعظة تعميد بروتستانتية. 
فرضخ ماتسرات لما أردت. لعله خشي من صوتي وما يرتبط به من طلبات 
لتعويض الأضرار. فبقيت في سيارة الأجرة» بينما جرى التعميد في 
الكئيسة» أتآمل رأس السائق من الخلف» متفحصا وجه أوسكار فى 
المرآاقء تعذكرا تععيدى منذ سنوات بعيدة ومحاولات حضرة لي 
فيهنكه كلّها في طرد الشيطان من شخصيّ المعمّد. 

تم تناول الطعام بعد التعميد» فوضعت طاولتان لصق بعضهما 
وأخذوا يرتشفون حساء رأس العجل. مغرفة واحدة ثم يمتلأ الطبق حتى 
الحافة. فبدأ القرويون يرتشفون, وأفرد غريف إصبعه الصغيرة» وأخذت 
غريتشن شفلر تعض الحساء عضّاًء وابتسمت غوسته ابتسامة عريضة من 
وراء الملعقة»؛ وتحدث إهلرز عبر الملعقة» وصار فئسنت يبحث بيد 
مرتجفة عن شيء ما إلى جانب الملعقة» باستثناء العجوزين» الجذة آنا 
والأمّ تروجنسكي» اللتين اتهمكنا ثماماً مستسلتين للملعقة) في حين 
سقط أوسكار من الملعقة كما يقول في المثل» فانسل بينما كان الآخرون 
يغرفون بالملاعق» ليبحث في غرفة النوم عن مهد ولده؛ لأنه أراد أن ينعم 
الفكر في ابنه» في حين بدا الآخرون ينكمشون خلف ملاعقهم شاردين 
الذهن خالين الوفاض» مكنوسين كنساً بالملاعق» حتى لو أنهم كانوا 
يعبون الحساء عبًّا. ثمّة وشاح من الحرير الناعم الفاتح الزرقة فوق السلة 
ذات العجلات. ولأن حافة السلّة كانت مرتفعة» فقد تبينت أوّل الأمر شيئاً 
أحمر-أزرق متقلصا. فوضعت طبلي تحتي وتأملت ولدي الغافي الذي 
ارتعد بعصبية في نومه. آه. يا مفخرة الأب التي تفتش دائماً عن كلمات 


انثا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بليغة! وبما أنه لم تحضرني كلمات تتعلق بالرضيع سوى الجملة القصيرة: 
إذا بلغ الثالثة فإنه سيستلم طبلاً - وبما أن ابني لم يطلعني على عالمه 
الفكري؛ إضافة إلى أنه لم يعد بوسعي أكثر من التمني بأن يكون من 
الأطفال الرضع المرهفين السمع مثلي؟ فإنني وعدته من جديد بطبل صفيح 
في عيد ميلاده الثالث» ثم ترجلت من طبلي وحاولت مرّة أخرى أن أكون 
مع البالغين في غرفة الجلوس» حيث وضعوا حدّاً لشوربة رأس العجل. 
وجلبت ماريا علب البازلاء الخضراء الحلوة المخلوطة بالزبد. فجهز 
ماتسرات الذي كان مسؤولاً عن شواء لحم الخنزير صينية الطعام بيده 
مزيحا السترة عن كتفيه؛ فصار يقصّ اللحم بقميصه الطويل الردنين شريحة 
بعد أخرى؛ مظهراً وجهاً رقيقاً خالياً من الحرج فوق اللحم الطري اللين» 
لدرجة أنني تفاديت النظر إليه . 

وأحضر طعام خاص لبائع الخضر غريف» فقدمت له أصابع الهليون 
المعلبة» والبيض المسلوق جيّداً والقشدة مع الفُجل؛ لأن النباتيين لا 
يأكلون اللحم. إلا أنه تناول كالآخرين حفنة من البطاطس المهروسة» 
وغمسها ليس بمرق الخنزير» إنما بالزبد البئّي اللون الذي جلبته له ماريا 
المنتبهة من المطبخ مفرقعاً بمقلاة صغيرة. وبينما أخذ الآخرون يشربون 
البيرة؛؟ فإن كأس غريف كان ممتلثاً بنبيذ الفاكهة الحلو المذاق. ثم تحدثوا 
عن موقعة الحصار في كييف» وصاروا يحصون الأسرى بأصابعهم. وبدا 
إهلرز البلطيقي أكثرهم مهارة في الحساب» فكان يرفع إصبعاً من أصابعه 
إلى الأعلى عند كل مائة ألف. وبعدما شملت أصابع يديه المنفرجة مليون 
أسيرء ضار يفتى آعتاق أصابعه واتحداً تلى الآخر عتابعاً الإخصاف وبعدها 
استنفدوا موضوع الأسرى الروس الذي بات مملاً وبلا قيمة نتيجة الأعداد 
المتزايدة على الدوام» بدأ شفلر يتحدث عن الغواصات في غوتنهافن» ثم 
همس ماتسرات في أذن جدتي آنا بأن ثمة غواصتين تُدشن كل أسبوع في 
شيشاو. هنا شرح بائع الخصر غريف لضيوف التعميد لماذا تم إنزال 
الغواصات في البحر من الجانب أوَّل الأمرء وليس من المؤخرة. لقد أراد 
أن تصروو تصويرا تدا فكان يجد لكل شيء حركة يد مناسبة» وصار 


:8 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بعض الضيوف المسحورين ببناء الغراصات يقلّد حركاته بانتباه وعدم 
مهارة. فقلب فنسنت برونسكى كأس البيرة عندما حاول أن يقلد بيده 
اشرق غواسة ثائلة إلى قاع البحرء نارادت حتتي اناتقاعه سيت هذا 
التصرفء إلا أن ماريا هدأتها بقولها إن ذلك لا يهم قط؛ لأن شرشف 
الطاولة سيذهب إلى الغسيل غداً في كلّ الأحوال» ل ا 
تكون هناك بقع من الوسخ أثناء تناول طعام التعميد. حينئذ جاءت الام 

تروجنسكي حاملة خرقة. فمسحت البيرة» وفي يدها اليسرى إناء من 
اللور فلىء سحلية الشيك لانة المطعمة كسر اللون, 

أله يالك لاقت هناك سنامنة خرف أو لم تكن هناك أي صلصة 
تضاف إلى محلبية الشيكولاتة! لكن كانت هناك صلصة فانيلا» بل صلصة 
فانيلا كثيفة وصفراء. وبدت صلصة عادية مبتذلة» ومع ذلك كانت فريدة 
في نوعها. فلا يوجد في هذا العالم شيء مفرح أو محزن أكثر من صلصة 
الفانيلا. فكانت الفانيلا تبعث رائحة طيّبة» أحاطتني بماريا شيئا فشيئاء 
لدرجة أنني لم أعد أطيق رؤيتها وتحملها حين جلست إلى جانب 
ماتسرات» ممسكة بيده» مارياء خالقة الفانيلا كلّها. فانزلق أوسكار من 
كرسيه المخصص للأطفال» وأمسك بسترة السيّدة غريف التي كانت تغرف 
بملعقتها من فوق» وبقى ملقى عند قدميهاء مستمتعاً للمرة الأولى برائحة 
لينا غريف الخاصة التي كانت تشوش على أي فانيلا فتبتلعها وتقتلها. 

وبقدر ما تشبعت بالحموضة بقيت متمسكاً باتجاه الرائحة الجديدة إلى 
أن بدا لي وكأن جميع الذكريات المرتبطة بالفانيلا قد أصابها الخدر. وببطء 
وصمت وبدون تشنّج اجتاحتني نوبة غثيان منقذة. حينما انفلتت مني حساء 
رأس العجل ولحم الخنزير المشوي قطعة إثر أخرى» والبازلاء الخضراء 
ا سي دوي وكين امم وي 
المخلرطة بصلصة الفانيلاء أدركت غيبوبتي» وأصبحت صبحت أعوم فيهاء 
فانتشرت غيبوبة أوسكار حتى وصلت إلى تنص اناغ ريت - فقررت منذ 
ذلك الوقت أن أحمل غيبوبتي كل يوم إلى السيّدة غريف . 


ه84 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


خمسة وسبعون كيلوغراما 


أولاً مدينتا افياتسما» وابريانسك» ثمّ بعدهما بدأت مرحلة الوحل. 
وبدأ أوسكار أيضاً يخوض بكلّ قوته في الوحل منتصف أكتوبر من العام 
الواحد والأربعين. ولعل المرء سيسامحني إذا ما وضعت انتصاراتي على 
أراضى السيّدة غريف الوعرة المسالك» الموحلة على السواء؛ مقابل 
الأقصاراك الجوحلة لقراق الحيية الوسيناى . ونطلينا خرزية الترغات 
وعربات النقل على أعتاب موسكو؛ فإنني غرزت كذلك. وعلى الرغم من 
أن العجلات هناك كانت تدور وتقلب الطين؛ فإنني لم أستسلم - بل أنني 
استطعت أن أخرج الرغوة من وحل السيّدة غريف بالمعنى الحرفي 
للعبارة”*"-» إلا أنه لا يمكن الحديث عن إحراز تقدم على أعتاب موسكو 
أو في غرفة نوم الزوجين غريف. 

كن مازلت متسكا تلك المقارنة» عتلنا تلقن ابعراتيكين السققيل 
في ذلك الزمن دروساً من العمليات المطموسة بالوحل؛ فإنني تعلمت 
دروسيى من خلال صراعى ضد الظاهرة الطبيعية لآل غريف. فعلى المزء 
أن لآ يتلل هن أهمية السملاك الجارية عاق الجوة الناعلة لول اليعرت 
العالمية الأخيرة. كان أوسكار آنذاك في السابعة عشرة من عمره؛ لكنه 
وعلى الرغم من صغر سئه تحول إلى رجل في ساحة تدريب لينا غريف 
ذات المزالق الخطيرة. الآن أصبحت أقيس تقدم أوسكار بمصطلحات 
فنيّة» متخلياً عن المقارنات العسكرية» فأقول: إذا ما كانت ماريا قد نبهتني 


(*) أخرج زبداء أو صار يقذف الزبد؛ مثل ألماني يعني : ألقى خطبة عظيمة. 


اننا 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


من خلال ضباب الفانيلا الساذج الفتنة إلى الشكل الصغيرء وأحاطتني علماً 
بالغنائيات مثل المسحوق الفوار والبحث عن الفطر؛ فإنني توصلت إلى 
النفس الملحمى عبر دائرة البخار الشديدة التخمّر المفتولة عدّة مرّات التابعة 
لآل غريف» الفسين الذي أتاح لي اليوم أن أذكر انتصارات الجبهة 
وانتصارات الفراش بجملة واحدة. إنها الموسيقى! فمن هرمونيكا ماريا 
العذبة الصبيانية المغرقة فى العاطفة إلى منصة قيادة الفرقة الموسيقية؛ إذ أن 
لبنا غريف قدمث لي ججرقة موسيقية واسبعة» دقيقة الترتيب» مقل تللكه التي 
يجدها المرء على أية حال في «بايرويت» أو «سالسبورغ». فتعلمت التزمير 
والضرب على البيانو والنفخ والنقر والعزف على الكمانء وفيما إذا كان 
الأمر يتعلق بنغمة أصيلة تامة أو مفتتح مقطوعة خفيفة مرحة أو إيقاع 
الجملة الموسيقية الهادئة الحركة»؛ فإن عاطفتى بدت جافة صارمة وفياضة 
تشدئقة قن الوقت كاقه فالقلا ات أوسكار بار الأكيا مين الاخريك رمع 
ذلك بقي غير مرتاح» إن لم يكن غير راض» كما هو الأمر بالنسبة لفئّان 
حقيقي . 

وكنت أحتاج إلى عشرين خطوة قصيرة من محل بضائع المستعمرات 
العائد لنا إلى بقالية غريف. كان الدكان يقع قبالتها على نحو مائل» في 
موقع قريب جدَّاًء أقرب من بيت الخبّاز ألكسندر شفلر في كلاينهامرفيغ . 
ولعل الموقع المناسب كان سببا في أنني ارتقيت في دراستي للتشريح 
الأنئوي أكثر بكثير من دراستي للأستاذين غوته وراسبوتين. ربما يمكن 
تفسير الفارق التعليمي العميق القائم إلى اليوم من خلال الفرق بين 
معلمتيّ. بل ربما يمكن تبريره. فبينما كانت لينا غريف غير راغبة في 
تعليمي» مهتمة فقط في أن تضع أمثلتها وتجاربها المادية تحت تصرفي؛ 
فإن غريتشن شفلر التزمت بوظيفة التعليم بكل جديّة. كانت تريد أن ترى 
النجاح والتقدم» وأن تسمعني أقرأ بصوت عالء وتتطلع إلى فنّ الخط 
الذي يخرج من بين أصابعي القارعة الطبل وتجعلني أتآلف مع قواعد اللغة 
الجميلة لتستفيد هي نفسها من هذه الصداقة. لكن عندما امتنع أوسكار عن 
تقديم أي علامة مرئية للنجاح» فقدت غريتشن شفلر صبرهاء وعادت من 


لام 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


جديد إلى حياكتها عقب فترة قصيرة على وفاة أمّي المسكينة؛ وبعد سبع 
سنوات من التعليم؛ صارت تبهجني بين الحين والآخرء لاسيما في أيّام 
الأعياد الكبرى» بالبلوزات والجوارب والققازات التي كانت تحيكها 
بنفسهاء إذ أن زاوج الخبّازين بقي بلا ذُرَيّة. ولم نعد نتحدث فيما بيننا عن 
غوته وراسبوتين؛ فبات أوسكار يدين فقط إلى تلك الملخخصات المأخوذة 
من أعمال الأستاذين التي مازلت أحتفظ بها مرّة هنا ومرّة هناك» وفوق 
أرضية سقف البناية في أغلب الأحيان» والتي بدونها كان سيمحى جزء من 
تلك الدروس بالتمام والكمال؛ فأخذت أعلم نفسي بنفسي» متوصلاً إلى 
الحكم على الأشياء ذاتياً . 

كانت لينا غريف المعتلة الصحّة تلازم الفراش؛ فلذلك لم تستطع أن 
تتجنبي أو تغادرني. إذ أن مرضها كان في الواقع مزمناًء لكنه لم يكن جديا 
على نحو كاف بحيث أن الموت يمكن أن ينتشل مني معلمتي لينا بشكل 
مبكر. وبما أن ليس هناك ما هو دائم على هذا الكوكب» فإن أوسكار 
غادر تلك المرأة الطريحة الفراش؛ لأنه كان يمكن أن ينظر إلى دروسه 
باعتبارها قد ختمت. وربما ستقولون: في عالم محدود اضطر هذا الإنسان 
الشاب إلى التعلّم؛ فتوجب عليه أن يعد عدته للحياة المقبلة الحقّة بين 
محلّ بضائع مستعمرات وفرن خبز وبقالية. وإذا ما تأتى لي الاعتراف بأن 
أوسكار كان قد جمّع انطباعاته الضرورية الأولى في بيئة برجوازية صغيرة 
متعفئة حمّاً؛ كان هناك معلم ثالث أيضاً في آخر المطاف؛ معلم تُركت له 
مهمة فتح العالم أمام أوسكارء ليجعل منه شخصاًء مثلما هو اليوم؛ 
شخصاً سأطلق عليه نظراً لانعدام مصطلح أفضلء لقب الكوزموبوليتي. 

إنني أتحدث هناء كما لاحظ المنتبهون منكم» عن معلمي وأستاذي 
بيبراء المنحدر مباشرة من صلب الأمير أويغن» نعمء أتحدث عن سليل 
قبيلة لودفيغ الرابع عشرء عن «الليليبوتاني» والمهرّج الموسيقي بيبرا. 
وعندما أقول بيبرا فأننى أعنى أيضاً بطبيعة الحال السيّدة التى إلى جائبه» 
السرنمية العظيمة «روزفيتا راغوناء» الفاتئة السرمدية التي كنت أفكر فيها 
أثناء تلك الأعوام :المكقهرة عدم سان متي تاترات صاحتي مازيان كنم 


784 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


سيكون عمرها هذه السنيورة؟ هكذا كنت أسأل نفسي . فهل هي فتاة ذات 
عشرين عاماً تنبض بالحيوية إن لم تكن في التاسعة عشرة؟ أم أنها عجوز 
نحيفة البنية فى التاسعة والتسعين» تجسّدء وهى فى المائة من سنّهاء 
القطمّ الصغير من الشباب الخالد الذي لا ييلى؟ 2 

وإذا ما استطعت التذكّر جيّداً فأقول إِنّني قابلت هذين الشخصين 
القريبين جدَاً مني عقب فترة وجيزة على وفاة أمّي المسكيئة» واحتسينا معاً 
تهوتنا التركية في مقهى الفصول الأربعة» ثم افترقت بنا الدروب. فكانت 
هناك خلافات سياسية خفيفة في الواقع؛ لكنها لم تكن هينة» وكان بيبرا 
على صلة بوزارة الدعاية الألمانية» فيقدم عروضه.ء مثلما استشفيت بسهولة 
من تلميحاته» في الحجر الخاصة للسيّدين «غوبلز» ودغورنغ»» وحاول أن 
يشرح لي هذه الزلّة بمختلف السبل ليبررها. فتحدث عن المواقع المؤثرة 
لمهرجي البلاط في القرون الوسطى؛ وأطلعني على نسخ مقتبسة عن 
لوحات الرسامين الأسبان التى كانت تظهر شخصاً ماء «فيليب» أو 
اكازلوين)» مع حاقية الملك» وقن وحظ هذه المبخالى المسفية يدكن 
التعرف على بعض المهرّجين بملابس مجمّدة مدببة الأطراف ومهلهلة» 
أولئك الذين كانت لهم نسب وتفاصيل بيبراء ومن المحتمل تفاصيل 
جسدي أنا كذلك. وبالذات لأن تلك الصور أثارت إعجابي - ويمكن أن 
أحسب نفسي اليوم من المعجبين المتحمسين للرسام العبقري «دييغو 
فيلائكيث؛ - فإنني لم أسهل الأمر على بيبرا. فتخلى كذلك عن المقارنة 
بين الكائن القزميّ في بلاط فيليب الأسباني الرابع وموقعه هو بالقرب من 
الوصولي يوسف غوبلز القادم من الراين. ثم تحدث عن الأوقات 
العصيبة» وعن الضعفاء الذين يتنحون عن الطريق أحياناًء وعن المقاومة 
التي كانت تزدهر فى الخفاءء باختصارء كانت عبارة «الهجرة الداخلية؛ قد 
امتقديت اذاف لذلك افترقت دروب أوسكار عن دروب بيبرا. 

ليس لأنني حقدت على الأستاذ؛ إذ أنني بحثت طوال الأعوام 
اللاحقة عن اسم بيبرا في ملصقات مسارح المنوعات وألعاب السيرك» 
وعثرت مرتين على اسمه مكتوباً إلى جانب السنيورة راغوناء غير أنني لم 


418 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أفعل شيئاً من شأنه أن يمهد الالتقاء بصديقيّ. فتركت الأمر للصدفة. بيد 
أن تلك الصدفة لم تتحقق» فلو أن دروبنا أنا وبيبرا تقاطعت في خريف 
العام الثاني والأربعين؛ وليس في العام الذي لحق ذلك» لما أصبح 
أوسكار تلميذاً للينا غريف» بل غلاماً للأستاذ بيبرا. لكنني كنت أقطع 
لابسفيغ يومياً في الضحى المبكرء لأدخل إلى دكّان الخضرء فأمكث» 
مراعاةً للأدب» نصف سويعة قرب البقّال الذي كان يتحوّل على الدوام إلى 
مخترع هاو غريب الأطوار» وأراقب كيف كان يركب ماكيناته العجيبة 
المولولة والزاعقة وذات الرنين. فكنت ألكزه كلما دخل زبون إلى المحل؛ 
إذ أن غريف لم يعد يشعر آنذاك بما كان يحيط به. ما الذي حدث له؟ ما 
الذي أسكت هذا البستاني المنفتح المستعد دائماً للدعابة والمزاح؛ صديق 
الشباب» ما الذي جعله يصبح معزولاً غريب التصرفات وعجوزاً أهمل إلى 
حدٌ ما مظهره الخارجي؟ فالشبيبة لم تعد تأتي إليه» ومن وصل سنّ البلوغ 
آنذاك لم يكن عرفه. لقد شتت الحرب أتباعه من زمن الكشّافة على 
جبهات القتال جميعها. فكانت الرسائل تأتي من الميادين» ومن ثم لم تعد 
تأتي سوى بطاقات البريد. ذات يوم تلقّى غريف خبراً بشكل غير مباشر 
أفاد بأن محبوبه هورست دونات الذي كان كشّافاً أوَل الأمرء ثم أصبح 
قائد فوج في منظمة الشبيبة الألمانية؛ ليسقط قتيلا برتبة ملازم في ناحية 
دوئيتس . 

ومنذ ذلك اليوم أضحى غريف يشيخ ويهرم» حتى أنه لم يعد يعتني 
بعظهره» وانهمك تماماً فى هواية الاختراغات» بحيث أن العرء كان يرى 
في دكا الخضر ماكينات ذات أجراس قارعة وآلات مولولة أكثر من 
البطاطس على سبيل المثال أو رؤوس الكرنب. بلا شك أن الوضع 
الغذائي العام قد لعب دوراً ما؛ فكان الدكان نادراً ما يُزود بالبضاعة وعلى 
نحو غير منتظم» إذ أن غريف لم يكن يتمتع , بما تمتع به ماتسرات الذي 
كان يظهر نفسه في سوق الجملة باعتباره مشترياً جيّداً 0 

بدا الدكان كثيباًء وكان على المرء أن يبدو فرحا في الواقع 
غريف عبّأ المكان بأجهزة الضجيج العديمة 0 00 


الك 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


مضحكة» لكنها لطيفة فى الوقت ذاته. لقد أعجبتنى المنتجات التى كانت 
نيفق من دماغ ريق المخترع المبلبل الأنكار. وإذا منا رآيت اليوة 
توليفات معيني برونو المعقودة من الخيوط؛ فإنني أتذكر معرض غريف. 
ومثلما كان برونو يستمتع باهتمامي المتبسم والجدّي معاً بألعابه الفنيّة؛ فإن 
غريف كان يفرح وهو شارد الذهن إذا ما لاحظ بأن هذه الماكينة الموسيقية 
أو تلك قد أدخلت السرور إلى نفسى. وكان يبدو خائب الظن» هذا الرجل 
الذي لم يهتم بي طوال سنوات» إذا ما غادرت دكانه الذي تحوّل إلى 
ورشة» بعد نصف سويعة» لكي أذهب لزيارة زوجته لينا غريف . 

ما الذي يمكن أن أرويه لكم عن زياراتي للمرأة الطريحة الفراش» 
تلك الزيارات التى كانت تستغرق عادة من ساعتين إلى ساعتين ونصف. 
كان أوسكار ولخمل إليها فتلرّح له من فراشها «آه؛ هذا أنت يا أوسكاري. 
تعال؛ أقترب بعد أكثر؛ إذا تريد تندس في الفراش» طالما الغرفة باردة» 
وغريف لم يسخنها بشكل جيّد!» فكنت أندس إلى جانبها تحت لحاف 
الريش» وأضع المضربين اللذين كنت استخدمتهما للتو أمام السرير» 
سامحاً فقط بمضرب ثالث مستهلك مهلل النسيج إلى حدّ ماء للقيام معي 
بزيارة للينا. 

وذلك لا يعني أنني كنت أخلع ثيابي قبل أن أذهب إلى فراش لينا؛ 
إنما كنت أصعد بملابس الصوف والقطيفة والحذاء الجلدي» فأجد طريقي 
من قراس الريش المكرك المتايد ينيك فترة معيدة» على الرعو من العمل 
المجهد الساخن» خارجا في الثياب نفسها التي لم تتعرض للتجعّد نوعا 
ما. 

وبعدما كنت أقوم بزيارة بائع الخضر مرّات عديدة إثر مغادرة فراش 
ليناء وأنا لم أزل أعبق بأبخرة زوجته وتعرقاتهاء فإنّ تقليداً قد سُنْ آنذاك» 
فاستجبت له بكل سرور. وأثناء ما كنت أمكث لدى السيّدة «الغريفية» 
وأطبق آخر التمارين كان بائع الخضر يطأ غرفة النوم بطست مليء بالماء 
الساخن» فيضعه على كرسي بلا مسند» ويضع إلى جانبه منشفة وصابونة» 
ثم يغادر المكان دون أن ينبس بكلمة أو أن يثئقل على الفراش بنظرة 


لضو 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


واحدة» فينتزع نفسه على عنجل من العش الدافئ المقدم له ويجد طريقه 
إلى الطستء ليخضع نفسه ومضرب الطبل السابق الذي كان شديد الفعالية 
في الفراش لعملية تنظيف دقيقة؛ وأظهرت تفهماً لغريف الذي لم يطن 
رائحة زوجته حتى لو هيت عليه بواسطة شخص ثان. ولكن المخترع كان 
يستقبلني بترحاب حين أقبل عليه مغتسلا للتو» فيستعرض عليّ ماكيناته 
وأصواتها المختلفة؛ إلا أنني مازلت إلى اليوم أتعجب من أن أي صدافة لم 
تنشأ بين أوسكار وغريف على الرغم من تلك الثقة المتأخرة» بحيث أن 
غريف ظلّ غريباً بالنسبة لي» فلم يثر سوى اهتمامي» لكنه لم يحظ 

وفي سبتمبر/ أيلول من العام الثاني والأربعين ركب غريف ماكينة 
التطبيل - خلفت للتوٌ عيد ميلادي الثامن عشر ورائي بلا وداع. وكان 
الجيش السادس قد استولى آنذاك على ستالينغراد. لقد علق غريف على 
سقّالة خشبية كفتيّ قبان متوازنتين معبئتين بالبطاطس» ثم رفع من الكمّة 
البسرى حبّة بطاطس فمال القبّان: فانزاح مزلاج وحرر آلية التطبيل المركبة 
على السقّاة: فحدئت زوبعة وفرقعة وطقطقة ثم اصطدمت الصئّاجات 
ببعضها البعض» فدرّى الجرس» ثم وجدت الأشياء مجتمعة كلها تصل 
واضعةً خاتمة ذات لحن مأساويّ نشاز. 

لقد أعجبتني الماكينة» فصرت أترك غريف يعرضها لي كل مرّة من 
جديد» حتى أصبح أوسكار على قناعة بأن بائع الخضر المخترع قد أخترع 
الماكينة وركبها من أجله وحده. إلا أن هذا الاعتقاد الخاطئ انكشف لى 
ما قريب على تحر سافن ربما اشعلم فريك الإتحاءات مني» لكن 
الماكيئة كانت مصممة له وحده؛ إذ أن نهايتها أصبحت نهايته هو. وقد 
حدث ذلك ذات صباح صاف من صباحات أكتوبر التي لا توردها إلا الريح 
الشمالية الشرقية أمام البيت بلا مقابل. كنت غادرت بيت الأمّ تروجنسكي 
مبكرأء ودخلت الشارع في الوقت الذي سحب فيه ماتسرات الستارة القابلة 
للطي أمام باب المحل. فوقفت إلى جانبه حين رفع العوارض المصبوغة 
باللون الأخضرء فلفحتني سحابة من روائح بضائع المستعمرات التي 


لون 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ُزنت داخل المحل أثناء الليل» ثم استقبلت قبلة الصباح من قبل 
ماتسرات. وقطعت شارع لابسفيغ قبل أن تتيح لي ماريا الفرصة لرؤيتهاء 
وألقيت بظلي الطويل على حجارة في اتجاه الغرب» ثم إلى اليمين وإلى 
الشرق عبر ماكس-هالبه-بلاتس» حيث سحبت الشمس إلى الأعلى بقوتها 
الذاتية» مستخدمة الطريقة نفسها التي لابد أن يكون البارون «منشهاوزن» 
قد استخدمها حين رفع نفسه من الوحل مستعيناً بضفيرته . 

وكان كل من يعرف بائع الخضر غريف», مثلما عرفته أناء سيصاب 
بالدهشة مثلى حين يجد واجهات الدكان مسدلة وبابه مقفلا. إذ جعلت 
الأعوام الأخيرة غريف يبدو غريب الأطوار شيئاً فشيئاًء إلا أنه كان يلتزم 
حتى ذلك الوقت بموعد فتح الدكان وقفله التزاما دقيقا. ولعله بات 
مريضاًء هكذا فكر أوسكار ثم أبعد هذه الفكرة من رأسه على الفور. إذ 
كيف يمرض غريف الذي كان يحفر نقرا في جليد بحر البلطيق حتى الشتاء 
الأخير» وإن بشكل غير منتظم مثلما فعل في السنوات السابقة» لكي يأخذ 
حماما كاملاء وكيف يمرض إنسان الطبيعة هذا بين ليلة وضحاها على 
الرغم من بعض مظاهر الشيخوخة؟ فقد كانت زوجته تمارس أحقيّة الالتزام 
بالفراش بمثابرة؛ وعلمت كذلك بأن غريف كان يحتقر الوسائد الناعمة 
الوثيرة» مؤثراً النوم في الأسرة المتنقلة أو المضاجع الخشبية الصلبة. 
فليس هناك مرض من شأنه أن يقيّد بائع الخضر إلى السرير. 

وانتصبت قبالة دكان الخضرء ونظرت إلى الوراء حيث محلناء 
فلاحظت بأن ماتسرات كان موجوداً فى داخله؛ فقرعت طبلى بحذر فى 
الذي عافد أعلى على الكذن الحننابة لليكدة غويق» عصيرا بخ 
الإيقاعات؛ فلم أحتج إلى أكثر من بعض الصخب حتى مُتحت النافذة 
الثانية الواقعة على اليمين إلى جانب باب الدكّان. فأطلت السيّدة غريف 
عبر صندوق الزهور الخريفية بقميص النوم ورأسها مليء ببكرات لف 
الشعرء حاضنة المخذة: «نه؟ تعال أدخل يا أوسكاري. لماذا تنتظر فى 
الخارج تحت البرد؟؛ فقرعت بمضرب الطبل على صفيح الدكان أمام 
الواجهة مستفسراً. فهتفت «البرشت!» ثم « يا البرشت أين أنت؟ وماذا 


ركنا 
1_طماع1© :عا ]آنلا 1 


حدث ا النافذة وهي تنادي على بعلها. فأخذت أبواب 
الخرق 5 3 تصفع» وسمعت وقع خطواتها في الدكان ثم بدأت بعد بالصراخ . 
عر 0 إلا أنني لم أر لِمّ صرخت؛ إذ أن طاقة القبو التي 
كانت البطاطس تفرّغ عبرها في أيّامم توريد البضاعة التي باتت تشحٌ على 
الدوام في أعوام الحرب كانت مقفلة أيضا. وعندما ضغطت بعيني على 
0 الخشبية المطلية بالقطران أمام الطاقة رأيت المصباح الكهربائي 
في القبو. وتبينت كذلك شيئاً أبييض فوق الجزء العلوي من سلّم 
ا 
ولابد أنها فقدت المخدّة على السلّم؛ لأنها لم تعد موجودة في 
القبو» إنما صرخت في الدكان من جديد ومن ثمّة في غرفة النوم. ورفعت 
سمّاعة التلفون وصرخت عندما أدارت القرص» صرخت في التلفون» لكن 
أوسكار لم يفهم ما حدث»؛ ولم يلتقط سوى كلمة حادث» إضافة إلى 
عنوان لابسفيغ الذي كررته صارخةً مرّات عديدة» ثم وضعت السمّاعة» 
وملأت النافذة إثر ذلك بقميص نومهاء بلا مخدّة» لكن ببكرات لف الشعر 
وهي تصرخء منسابةٌ ورصيدها الضخم من اللحم المعروف تماماً بالنسبة 
لي في صندوق الزهور الخارجي» ثم صفعت النباتات الغليظة الشاحبة 
الحمراء؛ صارخة من الأعلى فضاقت الجادة لدرجة أن أوسكار أعتقد بأن 
السيّدة غريف ستبدأ أيضاً بتحطيم الزجاج في تلك اللحظة؛ لكن لم 
تتحطم أي زجاجة. ففتحت النوافذ بقوّة وخرج الجيران وأخذت النساء 
ينادين على النساء» ثم اندفع الرجال » الساعاتي لاوبشاد حاشراً ذراعيه 
بالسترة إلى النصف, والعجوز هايلاند والسيّد «رايسبيرغ» والحلاق 
اليبيشيفسكي» والسيّد أش عبر البواب القريبة» وكذلك برويست» لكن 
ليس المزيّن؛ الذي جاء مع ولده من دكّان الفحم. وقدم ماتسرات يتبختر 
بمريلة المحلٌ» بينما بقيت ماريا في باب محل بضائع المستعمرات حاملةً 
كورت الصغير على ذراعيها. 
كان من السهل بالنسية لى الاختفاء عن الأنظار وسط حشد البالغين 
المشعلين » والتملص من ماسراك الذئ كان يبحت عي كان ماتسترات 


30> 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


والساعاتى لاوبشاد أوّل من هبّ إلى مكان الحدث . فحاول المرء النفاذ 
إلئ:البيت من خلال النافذة. بيد أن السئدة القريقية لم تدخ أحداً يتسلق إلى 
الأعلى» ناهيك عن الدخول إلى البيت. وبينما أخذت تخدّش وتلطم 
وتعض؛ فإنها وجدت وقتا كافيا للصراخ بصوت عال, بدا بعضه صراخا 
يوم كفن البدء يجيه أن يات فريق الأنقاذي إذ انها اتعلت مل كرة 
طزيلة »ول نيع أجد يحاعة إلى الأتصال مزة أخري» تهى تمرف مأ اللا 
على المرء أن يفعله حين يقع حادث مثل هذا. فعليهم أن يهتموا 
بدكاكينهم» إذ أن الأمر هنا سيئ بما فيه الكفاية. فضولء بل لا شيء 
سوى الفضول؛؟ فهنا يرى المرء أين يبقى أصحابه إذا ما وقعت المصيبة. 
لابد أنها اكتشفتني أمام نافذتها أثناء عويلها من بين الحشد» فقد نادت 
علىّء مشرعة ذراعيها العاريتين بعد أن أبعدت عنها الرجال؛ فرفعني أحد 
ما - أوسكار يعتقد إلى اليوم بأنه كان الساعاتي لاوبشاد - وأراد أن 
يسلمني لها على الضدٌ من رغبة ماتسرات الذي كاد أن يمسك بي قبل 
صندوق زهور الخريف بمسافة قصيرة؛ غير أن لينا غريف قبضمت عليّ » 
وضمتني إلى قميصها الدافئ وانقطعت عن الصراخ» مكتفيةً بالنحيب 
المرتفع» ملتقطة أنفاسها وهي تنهنه. وبالقدر الذي حرّض فيه صراخ 
السيّدة غريف الجيران على القيام بإشارات وإيماءات انفعالية مفضوحة 
خالية من الحياء؛ فإن نحيبها الرفيع الحاد أحال الزحام أسفل صندوق 
الزهور إلى حشد أصمّ مضطرب يدبك على الأرض استنكاراًء لا يجرؤ 
على النظر مباشرة إلى البكاء؛ موقفاً آماله كلّها وفضوله واهتمامه على 
سيارة الإسعاف المنتظرة. وبدا أوسكار غير مرتاح أيضاً للنشيج الغريفي . 
فحاولت أن أتزحزح إلى العمق لكي لا أكون قريباً جدّاً من طنينها المؤلم 
الحزين. فاستطعت التخلّى عن متكأ عنقهاء جالساً بمقدار النصف على 
صندوق الزهور. فشغر أوسكار بنفسة مراقباً؛ إذ أن ماريا وقفت في باب 
المحل والولد على ذراعها. فتخلّيت عن وضع الجلوس هذاء مدركاً حالة 
الحرج التي وقعت بهاء ولم أفكر إلا في ماريا - لم أكن اكترئت بالجيران 
- فابتعدت عن شاطئ السيّدة غريف المرتجة تحتي فذكرتني بالفراش . 


الا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لم تلحظ لينا غريف هروبي» أو أنها لم تجد في نفسها القرّة الكافية 
لصِدّ الجسد الصغير الذي قدم لها البديل زمنا طويلا وبهمّة عالية. ربما 
شعرت لينا بآن ارسكار مضل متها إلى الأبدة وآن كمة ضرا تجاء إلى 
العالم بفعل صراخها الذي تحوّل إلى جدار وأصوات في خلفية المشهد 
بين طريحة الفراش والطبّال من ناحية» لكنه أسقط» من ناحية ثانية؛ 
الجدار القائم بيني وبين ماريا. فوقفت في غرفة نوم آل غريف وطبلي 
معلّق برقبتي على نحو مائل؛ متأرجح. لقد كان أوسكار يعرف الغرفة 
جيّداً وبات بإمكانه أن يعيد قراءة ورق كساء الجدران الأخضر الغامق عن 
ظهر قلب. كان طست الماء برغوة الصابون العكرة من يوم الأمس لم يزل 
مستقراً فوق الكرسي العديم المسند. كان كل شيء في مكانه ومع ذلك؛ 
فإن قطع الأثاث المستهلكة المحكوكة, البالية من كثرة الجلوس» بدت لي 
جديدة أو على الأقل مجددة» كفالو أن كل هن انعد صلب على 
الجداران فوق سيقانه أو أقدامه الأربع أصبح بأمسٌ الحاجة إلى عويل 
السيّدة غريف لكي يحظى ببريق جديد بارد حدّ الرعب . 

وكان الباب المؤدي إلى الدكان مفتوحاًء لكن أوسكار لم يرغب في 
الدخول» ومع ذلك ترك المكان العابق برائحة التربة الجافة والبصل يجذبه 
إليه؛ المكان الذي وزّعه ضوء النهار النافذ عبر فجوات نوافذ الدكان إلى 
رقائق مشبعة بالغبار. وهكذا فإن معظم ماكينات غريف المصدرة للصخب 
والموسيقى ظلت راقدة في الظلمة الوانية» لم يكشف الضوء سوى بعض 
التفاصيل» كالجرس أو دعائم الخشب أو الجزء الخلفي من ماكينة 
التطبيل» وكشف لى عن البطاطس المتعادلة الكفّة. وكان ذلك الباب 
الأرضي الذي يطبق غلى القبو خلف طاولة البيع مثل محلنا بالضيط 
مفتوحاً. فلم يكن هناك ما يسند غطاء الفتحة الخشبية الأرضية الذي فتحته 
السيّدة غريف في سرعتها الصارخة؛ لتسدٌ الفجوة بطاولة الدكان. وكان 
بوسع أوسكار أن يطبق الغطاء بدفعة خفيفة فيقفل القبو. لكنني وقفت بلا 
حراك واضعاً قدماً واحدة خلف اللّوح المتشرب برائحة الغبار والعفونة» 
وأحدّق في المربّع المضاء على نحو ساطع والذي أطر جزءاً من السلّم 


05 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وقسماً من أرضية القبو المبلطة بالإسمنت. وبرز من ناحية اليمين جزء من 
منصّة مدرجة على اليمين» لابد أنه كان من مستجدات غريف الأخيرة» إذ 
أنني لم أره من قبل ذلك خلال زياراتي للقبو بين الحين والآخر. لعل 
أوسكار لم يطل النظر إلى القبو مأخوذاً بمنصته» لو لم يبرز من زاوية 
الصورة اليمنى جوربان من الصوف ممتلئان في فردتي حذاء سوداوين 
متقلصتان بشكل عجيب. وحتى لو لم أر نعل الحذاء» إلا أنني عرفت 
على الفور حذاء غريف المخصص للتجوال. ففكرت في أنه لا يمكن أن 
يكون قط غريف نفسه الذي يتأهب الآن للتجوال في القبوء لأن فردتي 
الحذاء لم تكنا منتصبتين بثبات» بل متأرجحتين بحريّة فوق المنصة؛ اللّهمَ 
إلا إذا عنّ لمقدمة الحذاء المنحرفة إلى الأسفل بشكل حاد ملامسة الألواح 
الخشبية» على الرغم من أن ذلك يدا أمرا عسيرا. فتخيّلت للحظة غريف 
راقفاً غعلى:طرق حذائهة هذا التمريخ الغريت» الغاق أيضاء لا يتشغد أن 
يقوم به غريف» لاعب الجمباز والإنسان المتمسك بالطبيعة. ولكي أتأكد 
من صحّة ظئي» فأضحك أيضاً من بائع الخضر كما ينبغي؛ هبطت درجات 
السلّم الحادة الانحدار» متخذاً جانب الحذرء وبدأت أقرع الطبل مصدراً 
إيقاعاً يولّد الخوف ويطرهه معاً إذا ما استطعت التذكر حقّاً: «هل جاءت 
الطاهية السوداء؟ بلى بلى بلى !» 

وبعدما وقف أوسكار بثبات على الأرض الإسمئتية ترك بصره يسرح 
على نحو غير مباشر عبر حزمة أكياس بصل فارغة وصناديق فواكه فارغة 
أيضاً ومكدسة فوق بعضهاء إلى أن أقترب من ذلك الموضعء ماسحاً 
ببصره تركيبة الدعائم الخشبية التي لم يلمحها أوّل الأمرء أقترب من ذلك 
الموضع» حيث تأرجح حذاء غريف المخصص للتجوال أو وقف على 
طرفيه . 

وبالطبع علمت بأن غريف كان معلقاًء وقد عُلَقَ الحذاء ومعه 
الجوربان الخضراوان الغامقان الخشنا الحياكة. وثمة ركبة رجالية مكشوفة 
قوق تحافة التعورب والنكن يقير بس عنافة المزوالة فامفاتس فيه 
مدغدغة في أعضائي التناسلية» أعقبت مؤخرتي» فصعدت الظهر الذي دب 


اانا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فيه الخدر ثم تسلّقت العمود الفقري إلى الأعلى» وتابعت سيرها إلى القفاء 
فأصابني بالسخونة والبرودة ولطمني من هناك بين ساقيٌ» فجعلت كيس 
خصيتي الضئيل الحجم أصلاً يصاب بالضمورء ثم استقرت ثانية في قفاي 
قافزة عبر ظهري المعوجء فتقّلصت هناك - مازال هذا الشعور يلدغ 
أوسكار إلى اليوم ويخنقه إذا ما تحدث أحد في حضرته عن التعليق 
بالحبل» حتى لو تحدث عن نشر الغسيل -؟؛ لم يكن فقط حذاء غريف 
المخصص للتجوال وجواربه الصوف وركبته وسرواله القصير معلقا؛ إنما 
غريف كله كان مشنوقاً من رقبته» وقد بدا وجهه منهكاًء إلا أنه لم يكن 
خالياً من التمثيل المسرحي . 

وفجأة تراخت حدّة الجذب والوخز بسرعة؛ إذ أن منظر غريف 
جعلني أكون طبيعياً؛ فهيئة جسد الرجل المشنوق بدت مألوفة وطبيعية من 
حيث الأساس مثل منظر الرجل السائر على قدميهء أو الرجل الذي يقف 
على رأسه؛ الرجل الذي يبدو تعيس الهيئة فعلاً حين يعتلي جواداً بأربع 
قوائم. ليخبٌ به. ثمّ جاء الديكور إضافة إلى المشهد كلّهء فأدرك أوسكار 
الآن البذخ والإسراف اللذين تكبدهما غريف. كان الإطار؛ أي المحيط 
الذي شنّق فيه غريف من النوع الفريد إلى حدٌّ ما المنتقى بعناية. لقد بحث 
بائع الخضر عن شكل موت يليق بهء فعثر على موت رزين ومتوازن. فهذا 
الذي خاض صارعاً مريراً طوال حياته مع موظفي مديرية الأوزان وتبادل 
معهم الرسائل المحرجة» هذا الذي صادروا منه قبّانه ومكاييله وأوزانه 
مرّات عديدة» والذي فرضت عليه الغرامات المالية بسبب الغش فى وزن 
الخضر والفاكهة. وزن نفسه مع البطاطس إلى حد الغرام. ١‏ 

كان الحبل الخافت اللمعان المشحّم ربما بالصابون» الملفوف على 
بكرات؛ يمر عبر عارضتين خشبيتين سمّرهما فوق السقّالة خصيصاً ليومه 
الأخيرء تلك السقّالة التي لا هدف لها سوى أن تكون سقّالته الأخيرة. 
ومن خلال الإسراف في استخدام خشب البناء الممتاز أستطيع التكهن بأن 
بائع الكضبر ا بره أن يدخر شيئا. فلابد أن يكون توفير مواد الدعامات 
والعوارض في أعوام الحرب الشحيحة بمواد البناء أمراً عسيراً للغاية. 


14 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ولابد أن يكون غريف قد قام بعملية تبادل» فقايض الخشب بالفاكهة. 
وهكذا فإن السقّالة ظهرت خالية تماماً من كلّ ما هو زائد عن اللزوم أو لا 
يفيد سوى الزخرفة. كانت المنصة المدرجة ذات الأقسام الثالث - استطاع 
أوسكار أن يرى طرفاً منها عبر الدكان - ترفع المقعد الخشبي بجملته إلى 
علو شاهق متسام إلى حدذ ما. وكما هو الحال مع ماكينة التطبيل التي لابد 
أن يكون المخترع الهاوي قد استخدمها نموذجاً؛ فإن غريف وكفته المقابلة 
كانا معلقين ضمن إطار السقّالة. فعلى النقيض تماماً من العوارض الأربع 
المثبتة في الزوايا والمطلية بالبياض؛ فإن ثمة سلّماً صغيراً رفيعاً أخضر 
اللون انتصب بينه وبين ثمار الحقل المتأرجحة مثله. لقد ربط غريف سلال 
البطاطس بالحبل الرئيسي ربطاً فنيّاً محكماً بعقد من النوع الذي يجيده 
الكشّافون. ولأن باطن السقّالة أضيء بأربعة مصابيح بيضاء الطلاء؛ ساطعة 
النور على الرغم من الطلاء؛ فإن أوسكار تمكن من قراءة رقعة من الكرتون 
مربوطة فوق سلال البطاطس بسلك ومثبتة فى عقدة من عقد الكشّافة» دون 
أن آطا السماتة الاتحتفالية أو أضطر إلن تداليدنياء الئفسة رسيعرة 
كيلوغراماً (إلا مائة غرام).» 

عُثِر غريف مشنوقاً فى قيافة قائد الكشّافة بعد أن عاد فى أيّامه الأخيرة 
مرّة أخرى إلى قيافة الأعوام السابقة للحرب. فأصبحت ضيّقة عليه. لذلك 
لم يتسن له إغلاق الزرّين العلويين ليشدٌ حزامه؛ مما أكسب مظهره الحسن 
نوعا ما طابعا محرجاء وقد عقد سبابة يده اليسرى فوق إصبعه الوسطى 
على هيئة قسم حسب تقليد الكشّافة. وفي معصم يمناه ربط المشنوق قبل 
أن يشئق نفسه قبعته الكشفية» مستغنياً عن الشال. ولأنه لم يتمكن من غلق 
الأزرار العليا لسرواله القصير وياقة قميصه فقد برز شعر صدره الأسود 
المجعد ككيفاً من وزاء القماشن : :وكانت هتاك بقنعة وهر تفيتة تائرلتب 
على المنصّة» إضافة عيدان البقدونس التي لم تكن مناسبة للمشهد. لعلها 
سقطت منه أثناء نثر الورود» إذ أنه أنفق الزهور النجميّة وكذلك بعض 
الورود على تكليل الصور الأربع المعلقة على القوائم الأربع للسقّالة. كان 
صورة السير بادن-بويل» مؤسس الكشّافة» معلقة خلف الزجاج على 


2 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


العارضة الأمامية اليسرى. وفي الخلفء إلى اليمين» علّق رأس دافيد 
لمايكل أنجلو بلا زجاج. وقد ابتسم مزججاً ومؤطراً في العارضة الأمامية 
اليمق فتى: لغله كان فن السادسة عشرة من عمره» ذو طلعة بهية كثيفة 
التعبير . كانت تلك صورة قديمة لمعشوقه «هورست دونات» الذي قتل 
برتبة ملازم في دونتس . وربما سأذكر قصاصات الورق الأربع على مدرج 
المنصّة بين الزهور النجميّة والبقدونس الملقاة بطريقة يمكن أن يركبها 
المرء دون جهد. ففعل أوسكار ذلك» واستطاع أن يتبين فحوى استدعاء 
إلى المحكمة حُتم عليه بدمغة شرطة الآداب عدّة مرّات. والآن لم يعد 
أمامي سوى التطرّق إلى أن النداء الملحّ لسيارة الإسعاف قد أيقظني من 
تأملاتي لموت بائع الخضر. بعد ذلك بفترة قصيرة أخذوا يتعثرون هابطين 
السلّم. معتلين المنصّة. حيث وضعوا يدهم على غريف المشنوق. 
وحالما رفعوا البقّال انقلبت سلال البطاطس التى شكلت الكفة المتعادلة» 
فبدأت الآلية الحبّة بالعمل» ثماماً مثل ماكينة التطبيل» التى كساها غريف 
برقاق لعب مهار كيرة بريتما تناثرت سات البطاطس ابضلالة علة؛ 
تعالى الضرب على الصفيح والخشب والنحاس والزجاج من الأعلى؛ 
فصدحت جوقة تطبيل ألبرشت غريف تعزف خاتمته الكبرى. فترديد صدى 
الصخب المنظم لماكينة تطبيل غريف وصوت انهيار البطاطس - التي أثرى 
منها بعض رجال الإسعاف - على طبلي الصفيحي بات اليوم من المهمّات 
الشاقة بالكسية لأرسكان .ولآن طيلى قد ترك تاثيرا حاسما علن ضورة 
موت غريف» فإنني نجحت أحياناً في قرع المقطوعة المدرّرة المترجمة 
لموت غريف على طبل أوسكار» حتى أنني كنت أسميها اخمسة وسبعين 
كيلوغراماً» حين يسألني أصدقائي ومعيني برونو عن عنوانها. 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


مسرح بيبرا الميداني 


بلغ ابني كورت في منتصف يونيو من العام الثاني والأربعين عامه 
الأوّل. فتقبل أوسكار ذلك الأمر بصبر وهدوءء مفكراً: لقد بقي عامان! 
كان بائع الخضر غريف قد شنق نفسه في أكتوبر من العام الثاني والأربعين 
بمشنقة متكاملة الشكل» لدرجة أن أوسكار أصبح منذ ذلك اليوم يعد 
الانتحار من أسمى أنواع الموت. وأصبح المرء يتحدث كثيراً عن مدينة 
ستالينغراد في العام الثالث والأربعين. ولأن ماتسرات كان ينطق هذا الاسم 
نطقاً مشدداً مثلما كان يشدد لفظ «بيرل هاربر» و«توبروك» و«دونكرشن»» 
فإنني لم أعر أحداث تلك المدينة النائية أهميةً أكبر من المدن الأخرى التي 
باتت معروفة بالنسبة لي من خلال الأنباء الخاصة؛ إذ أن تقارير الجيش 
الألماني والأنباء الخاصة كانت تعني لأوسكار درونا في الجغرافية. وإلا 
فكيف لي أن أعلم أين تقع أنهار «كوبان» و«ميوس» والدون» ومن ذا الذي 
كان سيشرح لي الوضع الجغرافي لجزر «الألويتن آتو؛ واكيسكا» و«آداك» 
أفضل من تقارير الراديو المستفيضة حول الأحداث في الشرق الأقصى؟ 
وهكذا عرفت في يناير من العام الثالث والأربعين بأن ستالينغراد تقع على 
نهر الفولغاء إلا أنني شعرت بالقلق على الجيش السادس أقل من شعوري 
بالقلق على ماريا التي أصيبت بإنفلونزا خفيفة أثناء ذلك. 

وفي الوقت الذي بدأت فيه تبرأ من نزلة البرد كان المذياع يواصل 
إلقاء دروسه في الجغرافية: فأضحى أوسكار يتعرف اليوم فوراً وبلا تردد 
على موضعي «ارسيف»؛ و«دميناسك» في أي خريطة لروسيا السوفيتية. 
يحالم برات قاريا امنيب انين كرت بالمتعال الدبكي: وبينيا كفت 


1+١ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أحاول الاحتفاظ بالأسماء المعقدة لبعض الواحات التونسية التى دارت فيها 
بعار اه خالعنة وعد بال كوك الديكن نياكه ارهد مع تباي الفيلق 
الألماني في أفريقيا. 

آه يا بهجة شهر مايو/ آيار: فقد كان ماتسرات وماريا وغريشتن شفلر 
يعدون العدّة لميلاد كورت الثانى . وكذلك أوسكار علق أهمية كبيرة على 
بوم الحفل المقبل» فهو كان يحتاج فقط إلى عام واخف اغتباراً من البوم 
الثاني عشر من العام الثالث والأربعين. وكان بوسعيء, لو أنني كنت 
حاضراًء أن أهمس فى أذن ابنى كورت أثناء عيد ميلاده الثانى: «انتظر 
تليلذء ققريا سغطين أنث ايها بيه أن القدو ناد ان لذ يكرة أوتكار 
مقيماً فى غدانسك-لانغفور في الثاني عشر من يناير من العام الثالث 
والأربعين» إنما في المدينة الرومانية القديمة «ميتس». نعمء لقد طال 
غيابه» حتى أنه وجد صعوبة لكي يشارك في حفل عيد ميلاد كورت الثالث 
في الوقت المناسب» ويصل إلى مدينته الأليفة التي لم تتضرر بعد بالقنابل. 
فأي مشاغل ساقته إلى هناك؟ سأروي هنا القصّة بلا لفٌ أو دوران: لقد 
التقيت بأستاذي بيبرا أمام مدرسة بستالوتسي التي حولوها إلى ثكنة لسلاح 
الجوء بيد أن بيبرا لم يكن بوسعه إقناعي بالسفرء فقد كانت السنيورة 
روزفيتاء السرنمية العظيمة» متشبثة بذراع بيبرا. 

كان أوسكار يتهادى قادماً من كلاينهامرفيغ» بعد أن قام بزيارة إلى 
غريتشن شفلرء وطالع بعض الشيء في كتاب «الصراع حول روما». 
فاهتدى إلى أن الأمور كانت تجري على نحو شديد التقلب آنذاك في زمن 
ابيلزارة قائد جيوش القيصر الرومانى. حتى أن المرء آنذاك كان يحتفل 
بالانتصارات ويمنى بالهزائم عند معابر الأنهر والمدائن وعلى رقع جغرافية 
شاسعة . 

وكنت قطعت حدائق فروبل التي تم تحويلها في السنوات الأخيرة 
إلى معسكر احتياطي للقوات الشرقية» سارحاً بأفكاري عند «تاغيناه - 
حيث هزم اتارسينة اتوتيلا» في العام 075 - غير أن أفكاري لم تحط 
رحالها لدى الأرميني العظيم نارسس» إنما شخصية القائد الميداني هي 


وليه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


التي استهوتنى؛ إذ أن نارسس كان أحدب ذا عاهةء وصغيراً كان 
تأرسسن » فزما) شبغيل ضئيل الحجم ليليبوتانيًا. ربما كان نارسس أطول من 
أوسكار بمقدار رأس طفل» هكذا فكرت ووقفت أمام مدرسة بستالوتسي» 
فلمحت بضعة ضبّاط في سلاح الجر بدوا لي سريعي النمو مقارنة 
بالأوسمة والنياشين التي حملوهاء فقلت في نفسي إن نارسس لم يحمل 
يكن يحمل وساماً بالتأكيد؛ لأنه لم يكن بحاجة إليه؛ حينئذ رأيت قائد 
الميدان شخصيًا يتقف فى منتصف البوّابة الرئيسية للمدرسة» وثمة سيّدة 
مسسكة بتراعه - لع لآ يدق النارسيسن أن تعدية بلراعه بركذة؟ > افاقباذ 
نحوي بحجمهما الضئيل إلى جانب عمالقة السلاح الجوّي؛ ومع ذلك 
كانا مركز الاستقطاب» يحف بهما التاريخ من كل جانب» سحيقي القدم 
وسط أبطال الجرّ الحديثي التخرّج. فما قيمة هذه الثكنة المليئة بأمثال 
توتيلا والملك تيخياس» وبأمثال القوطيين الشرقيين الطوال القامة إزاء 
القزم الأرميني المدعو نارسس - فاقترب نارسس من أوسكار خطوة إثر 
خطوة» ولوّح بيده لأوسكارء ملوحاً السيّدة الممسكة بذراعه: لقد ألقى 
بيبرا والسنيورة روزفيتا راغونا التحية عليّ - فتنحت عنا القوة الجوية 
باحترام نام - فقربت فمي من أذن بيبرا وهمسث: «أستاذي العزيزء لقد 
حسبتك نارسس قائد الميدان العظيم» الذي أقذر أهميته أكثر بكثير من 
ذلك الفشّار بيلزار.» فأشار بيبرا نافياً ذلك التشبيه بكل تواضع. إلا أن 
السيّدة راغونا أعجبت بمقارنتى. فما أجملها وهى تحرّك فمها أثناء 
الكلام : «أرجرك يا بيبا ألم يكن ساحينا الشاب عدا ألم يسري في 
عروقك دم الأمير أويغن؟ ألم يكن هذا سلفك؟؟» فأخذ بيبرا بذراعي 
وقادني إلى الجانب؛ إذ أن سلاح الجر نظر إلينا بإعجاب غير منقطع 
النظيو؛ ختى أشعرنا بالضيق. أخبراء بعدما القى احد الملازمين التحية 
العسكرية على بيبرا ولحقه اثنان من نوّاب الضبّاط - كان الأستاذ يحمل 
على قيافته رتبة نقيب وعلى ذراعه شريطاً كتب عليه «سريّة الدعاية» - 
وبعدما ترججى بعض الفتيان المزينين بالنياشين من راغونا أن توقع لهم 
بإمضائهاء فتحقق لهم ما أرادواء أصدر بيبرا للسيارة الخاصة إشارة 


اردلة 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بالتحرّك نحوناء فركبناء» وتوجب علينا أن نتحمل أثناء الانطلاق التصفيق 
واخترقنا شارع بستالوتسي وشارع ماغدهبورغ وهيرسأنغر. كان بيبرا 
يجلس إلى جانب السائق. وأثناء ما كنا نسير في شارع ماغدهبورغ اتخذت 
راغونا طبلي ذريعة للحديث فهمست لي بصوتها القادم من البحر المتوسط 
والذي لم أسمعه منذ زمن طويل : #أماؤلت مخلضاً لطلك: أبها الفنديق 
العزيز؟» ثم أضافت : لاكيف الحال عموماً مع الإخلاص؟» لكن أوسكار لم 
يج هرانا؛ فأراحها من قصص نسائه المتعبة. وبدلاً من ذلك سمح 
للسرنمية العظيمة أن تتحسس طبله ومن ثم يديه اللتين حضنتا الصفيح 
بتشنّج إلى حدّ ماء ثم أخذت تهبط إلى الجنوب شيئاً فشيئا. وحينما 
0 اا 0 أعطيتها إجابة في 
0 0 النزول» 0 السائق كر 0 
الفطنتين الرماديتين الهرمتين اللتين راقبتا تدليكنا. إلا أن راغونا ظلّت 
ممسكة بيديٌء في حين أنني أردت سحب يديّ منهاء ا 
وأستاذي . فابتسم بيبرا ف فى المرآة» فعدا بصره» وبدأ يتحدث إلى السائق 
كما الضبعت روزفتا مو (اتسدهاء وهي تتحسس بيدها وتضغطهما م 
حديثاً من فمها القادم من المتوسط. حديثاً عذباً مباشراًء كان يعنيني أنا 
وحدي». فسرى في أذن أوسكارء ثم اتخذ منحى موضوعياء يطيح بعد 
ذلك من خلال عذوبته المتزايدة بترددي كله وبمحاولاتي للهرب. فواصلنا 
سيرنا في اتجاه مستشفى النساء ومستوظنة الرايخ الألماني» فأباحت راغونا 
لأوسكار بأنها كانت تفكر فيه طوال الأعوام الماضية» وأنها مازالت تحتفظ 
بالكأس الذي خط عليه أوسكار إهداءً بصوته في مقهى الفصول الأربعة» 
وأن بيبرا في الواقع صديق رائع وشريك ممتاز؛ لكنهما لم يفكرا في 
الزواج؛ أذ أفسيرا يعي أذ يتن سرود نه زات راغونا على سؤال 
اعتراضي طرحته عليها بالقول إنها تتيح له الحريّات كاملة» وكذلك هو 


6 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


نفسه أدرك مع مرور الوقت بأنه لا يستطيع تقييد راغوناء على الرغم من أنه 
شخص غيور بطبيعته» فضلا عن أن بيبرا الطيّب لا يجد متسعا من الوقت» 
باعتباره مديراً لمسرح الجبهة؛ للقيام بواجباته الزوجية المحتملة؛ وعلى 
العكس من ذلك فأن مسرح الجبهة يُعد من الدرجة الأرّلىء فكان بإمكان 
المرء أن يرى البرنامج في دور الأوبرا مثل «فنترغاردن» و«اسكالا»» وفيما 
إذا كان أوسكارء أناء لا يشعر برغبة ما على الرغم مما يمتلكه من موهبة 
إلهية معطلة» فيرافقهما عويماً واحداً للتجربة» وأنها ستتعهد بذلك» 
لكنني» أوسكارء لدي التزامات أخرى؛ وإلا؟ هذا شيء حسن بطبيعة 
الحال» سيسافرون اليوم» لأنهم قدموا آخر عرض لفترة العصر في قاطع 
الدفاع غدانسك-فستبرويسن» وسيمضون الآن إلى لوترنغن ومن هناك إلى 
فرنساء إذ يضعب التفكير فى الوقت الحاضر فى الجبهة الشرقية؛ لقد 
خلفها المرء وراءه للتو وبكلٌ سرورء وأناء أوسكارء يجب أن أكون 
سعيداً؛ لأن الشرق اننهى آمره» وسيرحلون الآن إلى باريس» بالتأكيد 
سيذهبون إلى باريس ١‏ وفيما إذا كان أوسكارء أناء قد قام يرحلة إلى 
باريس قبل ذلك. هيّا إذاً مهنصة ٠»‏ إذا لم تتمكن راغونا من إغواء قلبك» 
قلب الطبال القاسي» فدع باريس تغويه !322013700 وتوقفت السيّارة عند 
آخر كلمة لفظتها السرئمية العظيمة. كانت أشجار شارع هندنبورغ خضراء 
منتظمة المسافات» برويسية الطراز. فغادرنا السيارة» وترك بيبرا السائقٌ 
ينتظر» لكنني لم أظهر رغبة في الذهاب إلى مقهى الفصول الأربعة؛ إذ أن 
رأسي المضطرب كان ينزع إلى الهواء الطلق. لذلك قصدنا متنزه شتيفن: 
فأصبح بيبرا على يميني وروزفيتا على يساري. بدأ بيبرا يبشرح لي معنى 
سرية الدعاية وهدفها. وروت لي روزفيتا حكايات طريفة عن الحياة اليومية 
الحربيين وعن مسرحه الميداني . ثم جعلت روزفيتا تقذف من فمها 
المتوسطيّ أسماء مدن قصيّة؛ كنت قد سمعت بها من الراديو حين كان 
يضجٌ بالأنباء الخاصة؛ فكان بيبرا يقول كوبنهاغن» فتجيبه روزفيتا نافخة 
باليرمو. كان بيبرا يغتّى بلغرادء فتشكو روزفيتا كالمأساة أثينا. لكنهما هاما 


66 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


معاً حبَاً بباريس» متعهدين بأن باريس تعادل جميع المدن التي ذكرت للتوء 
ثم تقدم لي بيبرا بعرض يمكن أن أقول عنه بأنه كان عرضاً رسمياً حسب 
الأصول باعتباره مديراً لمسرح الجبهة ونقيباً: «التحق بنايا رجل» طبّل 
وحطم أقداح البيرة ومصابيح الكهرباء» وسوف تشكرك قوّات الاحتلال 
الألمانية في فرنسا الجميلة وفي باريس الخالدة الشباب» بل ستهتف 
باسك وتصكى الك قطلب عند أوسكار مهلة للتفكي من ناسيةا شتكلية 
تحبب: واحذت اخطو بين أدغال ماي البائعة الشضرة» بغيذا عرد راغونا 
وعن صديقي الأستاذ بيبراء ممعناً التفكيرء معذباء أفرك جبهتي» وصرت 
أصغي للمرّة الأولى في حياتي إلى الطيور في الغابة؛ وفعلت كما لو أنني 
كنت أنتظر معلومة أو استشارة من طائر (أبو الحنّاء؛؛ فقلت بعدما صرّ 
شيء ما وسط الخضرة ة على نحو مرتفع ملفتاً للانتباه: القد نصحتني 
الطبيعة الطيبة الحكيمة بأن أتقبل عرضكم يا أستاذي الموقر. يمكنكم أن 
تنظروا إليّ منذ هذه اللحظة بصفتي عضواً في مسرحكم الميداني!» 
ومضينا بعد ذلك إلى مقهى الفصول الأربعة» وشربنا قهوة تركية 
خفيفة الدمّ» وناقشنا تفاصيل هربي؛ والذي لم نسمه هرباً بل خروجاً. 
وأمام المقهى أعدنا مرّة أخرى تفاصيل المشروع المرسوم. ثم ودعت 
راغونا وبيبرا نقيب سريّة الدعاية الذي لم يفوت على نفسه الفرصة» فوضع 
سيارته الرسمية في خدمتي. عندما بدأ بيبرا وروزفيتا يتجولان في شاعر 
هندنبورغ متجهين إلى المدينة» أرجعني سائق النقيب الذي كان رجلاً 
عجوزاً برتبة رئيس عرفاء إلى لانغفورء ومن ثم إلى ماكس-هالبه-بلاتس؛ 
إذ أنني لم استطع, وكذلك لم أرغب في الدخول إلى لابسفيغ: فأوسكار 
الذي سيأتي مستقلاً سيارة خاصة بالجيش الألماني كان سيلفت إليه الأنظار 
بصورة كبيرة غير مناسبة. ولم يبق أمامي متسع من الوقت» ثمة زيارة 
وداعية لماتسرات وماريا. فمكثت فترة طويلة عند قفص ولدي كورت 
المزود بالعجلات» وعثئرت حينها على بعض الأفكار الأبوية إذا ما 
استطعت التذكر جيّداًء وحاولت أن أتحسس الطفل الأشقر» إلا أن كورت 
رفض ذلكء على العكس من ماريا التي تقبلت رقتّي غير المألوفة لها منذ 


5غ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أعوام» وبادلتني إِيّاها عن طيب خاطر. كان مما يعجب له هو أن وداعي 
لماتسرات قد عرّ عليّ كثيراً. كان الرجل يقف في المطبخ يطبخ الكلى 
بمعجون الخردل» وبدا ملتحماً تماما بملعقة الطهى» ربما كان سعيداء 
لذلك لم أجرؤ على إزعاجه. وبعدما بدأت يده تبحث لا على التعيين عن 
شيء ما فوق الطاولة» سارعت إلى التقاط لوحة الفرم الصغيرة بالبقدونس 
المفروم وناولتها له - إنني مازلت أعتقد إلى اليوم بأن ماتسرات أصيب 
بدهشة ووقع في حيرة لفترة طويلة حين أمسك بلوحة البقدونس المفروم» 
حتى بعد أن غادرت المطبخ؛ إذ أن أوسكار لم يناول ماتسرات في حياته 
شيئاً ولم يمسك له شيئاً أو يرفعه له. 

كنت تناولت طعامي لدي الأمّ تروجنسكي» وتركتها تغسلني» 
وتأخذنى إلى الفراش» فانتظرت إلى أن اندست تحت لحافها وبدأت تشخر 
دخيرا حنينا طاترا: قم فاعلى نعل براعةت تاي وعكرثت علن 
طريقي في الغرفة التي كانت تصفر فيها الفأرة ذات الشعر الأشيب» وتشخر 
وتهرم على الدوام. كنت صادفت بعض الصعوبات في الممر مع المفتاح» 
إلا أنني استطعت أخيراً إخراج المزلاج من العروة الكلآب» ثم هرولت 
حافياً في قميص النوم وصرّة ثيابي» وقفزت السلّم قفزاً حتى بلغت سطح 
البناية» فدخلت في مخبأي خلف أكوام الآجر ورزم الجرائد التي خزنت 
هناك على الضد من أوامر الحماية من القصف الجرّيء متعثراً برمل إطفاء 
الحرائق وجردل الحماية الجويّة» حتى عثرت على طبل جديد حقٌّ الجذة» 
كنت ادخرته دون علم مارياء ووجدت ما كان يطالعه أوسكار: راسبوتين 
وغوته في جزء واحد. فهل سآخذ معي كاتبيّ المفضلين؟ وأثناء ما كان 
أوسكار يدس نفسه في ثيابه وحذائه ويعلق طبله في رقبته ويحشر مضربيه 
في حمّالات السروال» بدأ يتفاوض مع إلهيه باخوس وأبولو معاً. وبينما 
كان إله النشوة المغيبة للشعور ينصحني بأن لا أحمل معي أي مادة 
للقراءة» وإن كان لابد من ذلك فعليّ أن آخذ معي فقط كومة من أوراق 
راسبوتين؟ فإن أبولو الشديد الرزانة والدهاء أراد أن يصرفني كليّاً عن 
التفكير في رحلة فرنساء بيد أنه أصرٌ بعدما لاحظ تمسّك أوسكار بالرحلة 


لا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


على أن أحمل معي أمتعة سفر غير منقوصة؛ فكان علي أن أصطحب ذلك 
التثاؤب المهذّب الذي نفثه غوته قبل مئات الأعوام» وأرفقت معه راسبوتين 
أيضاًء بسبب العناد ومعه عالم نسائه العاري. الأسود الجوارب؛ لأنني 
كنت أعرف بأن «فالفيرفاندشافتن» لا تستطيع حل جميع المشاكل ذات 
الطابع الجنسي . إذا كان أبولو يسعى إلى الانسجام وباخوس إلى النشوة 
والفوضى؛ فإن أوسكار كان نصف إله صغير ينظم الفوضى ويحيل التعقّل 
والرزانة إلى حالات من النشوة» متفوقاً على جميع الآلهة الكليّة المحددين 
منذ أزمان ما عدا قابليته على الفناء: كان أوسكار يستطيع القراءة» ويجد 
متعة في ذلك» بينما كانت الآلهة تمارس الرقابة على أنفسها. وكما يألف 
المرء بناية مؤجرة وروائح مطبخ لتسعة عشر طرفاً مؤجر؛ فإنني ودّعت كل 
درجة سلّم وكل طابق وكلّ باب مزوّد برقعة تحمل الاسم: آه يا أيها 
الموسيقي ماين الذي أرجعوه إلى داره باعتباره غير صالح للخدمة» فأصبح 
ينفخ في بوقه ثانية ويحتسي عرق العرعر من جديد» منتظراً أن يسوقوه مرّة 
أخرى - فساقوه فعلاً بعد ذلك؛ إلا أنهم لم يسمحوا له بأن يأخذ بوقه 
معه. آه أيتها السيّدة كاتر ذات الشكل غير المتناسق التى ابنتها زوزي لقَبت 
ننسها بمساغدة مخابرات: آوايا أكبل ميشكة) .يم اندلت سرطك؟ السيّد 
والسيّدة «فوفوت» اللذان يأكلان اللفت دائماً! السيّد هاينرت الذي كان 
يعاني من مرض في المعدة؛ لذلك بقي في شيشاو وليس لدى سلاح 
المشاة. وإلى جانبه والدا هاينئرت اللذان مازالا يحملان لقب هايموفسكى. 
آه أيتها الأمّ تروجنسكي»ء لقد عاقق الفازة ترقن يرثة خلف”باب البيت: 
وسمعتها أذني تصفر عبر الخشب. أما القصير الذي كان اسمه في الحقيقة 
ريتسل فقد وصل إلى رتبة ملازم» على الرغم من أنه كان يرتدي جوارب 
من الصوف فى طفولته. كان ابن شلاغر قد فارق الحياة» وابن آيكه مات 
زانن كؤلين نماث أبمنا .. الكو الساغاضن الأريغاة عاواك ناه بعك البفياة 
ف الساعات اليف : :والعهر د عانلاتك رصنل اليش وطارال طرق المسافير 
بعرم امريحاجيا بوبنات لدان تي السك متوعكة وكانة انيه 
اشفيرفنسكي» سليماً معافى؛ ومع ذلك فقد توفي قبلها. وعلى الطابق 


8 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الأرضي» في الجهة المقابلة» من ذا الذي يسكن هنا؟ لقد سكن هنا ألفريد 
وماريا مانسرات وطفل يكاد يبلغ عامه الثاني يسمونه كورت. ومن ذا الذي 
سيغادر البناية الضخمة المؤجرة المتنفسة بمشقة في وقت النوم الليلي؟ إنه 
أوسكار» والد كورت . ما الذي حمله معه إلى الخارج في الشارع 00 
حمل معه طبله وكتابه الضخم الذي ثقف نفسه به . لماذا بقي واقفاً من بين 

كل تلك البيوت المعتمة المؤمنة بإجراءات الحماية الجوية أمام بيت واد 
م ري عات الحماية ابا لآن ايل غريف سكنت هنا؛ 
البالغة الحساسية . ولماذا رفع اليه ا كت الأسود؟ لأنه أراد الي 
ذكر بائع الخضر غريف ذي الشعر المجعّد والأنف الصقريء» لكن ذا 
العينين البنيّتين» والذي وزن نفسه وشنقها فى آن» فبقى بعد شنقه أجعد 
الشعرء صقريّ الأنف» لكن بعينين بنيّتين كانتا قد رقدتا متأملتين في 
محجريهماء فتركهما تجحظان بمشقة. لماذا وضع أوسكار قلنسوة البحارة 
المفلولة الأشرطة على رأسه مرّة أخرى وانطلق معتمراً قلنسوته؟ لأنه أتفق 
على جر جل علد بحيلا الالاراك امنا قي 1 ختوي» لول مل إلى وكات 
اللقاء ذ في الوقت المحدد؟ نعم؛ لقد جاء. وذلك يعني أنه وصل في الدقيقة 
الأخير إلى جسر سكة الحديد بالقرب من نفق «برونسهوفرفيغ.» ليس لأنني 
توقفت عند عيادة الدكتور هولاتس القريبة من هناك» إنما ودّعت في الواقع 
الممرضة إنغا في أفكاري وبعثت تحياتي إلى بيت الخبّاز في كلاينهامرفيغ, 
بيد أنني فعلت ذلك كله أثناء المشي» ماعدا بوّابة كنيسة-قلب-يسوع التي 
اضطرتني إلى التوقف». فكادت تؤخرنى عن موعدي . كانت البوابة 
موصدة» وعلى الرغم من ذلك» تخيلت بدقّة متناهية الصبي يسوع الورديٌ 
العاري الجسد يستقر على فخذ مريم العذراء» فحضرت أمي المسكينة من 
جديد» والتي جشت على ركبتها في كرسي الاعتراف» ثم ملأت أذن 
حضرة القسيس فيهنكه بآثامها المستمدة من المتاجرة ببضائع المستعمرات» 
مثلما كانت تعبئ السكر في أكياس من وزن نصف الكيلو وربعه. إلا أن 
أوسكار قد جنا أمام المذبح الجانبي» وأراد أن يعلّم الصبي يسوع التطبيل» 


1 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بيد أن الطفل لم يطبل» ولم يظهر لي أي معجزة. لكن أوسكار أقسم آنذاك 
وأعاد القسم قبالة بوّابة الكنيسة المقفلة الآن: بأنني سأعلمه التطبيل لا 
محالة. وإذا لم أفعل ذلك اليوم» فغدا! ولأنني كنت مزمعاً على القيام 
برخلة طريلة ندل عداك ع3 لحني معد تحنم ادرت الهري» لير 
الطبّال: إلى بوّابة الكنيسة» وبتّ متأكداً من أن يسوع لن يفلت مني» ثم 
تلات جسر السكة الحديدية إلن جاتيه نفى الآرضفة تأضفك يعضا من 
غوته وراسبوتين» ومع ذلك فقد جلبت معي القسم الأعظم من زادي 
التعليمي إلى الجسر بين سكك القطارات» وصرت أتعثر مسافة مرمى حجر 
بالحصى والموانع» وهرعت نحو بيبرا المنتظر حتى كدت أرتطم به» كان 
الظلام يسود إلى هذه الدرجة . فهتف النقيب والمهرج الموسيقي : «هاهو 
صاحبنا عبقري الصفيح!» ثم صار أحدنا يأمر الآخر باتخاذ الحيطة 
والحذرء فأخذنا نتلمس طريقنا عبر الأرصفة والتقاطعات» ضائعين بين 
عربات البضائع المتحركة إلى الخلف, المتحوّلة من سكة إلى أخرىء 
حتى عثرنا أخيرا على قطار العائدين من الجبهة الذي خصص جناح منه 
لمسرح بيبرا الميداني. 

كان أوسكار قد خلّف وراءه قدراً من الرحلات بالترام» والآن عليه أن 
يستقل القطار أيضا. عندما دفعنى بيبرا إلى المقصورة» رفعت راغونا 
بصرها عن قطعة للخياطة وابتسمت» وقبلتني على خذي وهي باسمة» ثم 
قدمت لي بقية فرقة مسرح الجبهة دون أن تنقطع عن الابتسام أو توقتف 
أصابعها عن الخياطة : البهلوانان فيلكس وكيتي. لم تكن كيتي» الشقراء 
الشعرء الرمادية الجلد قليلاء خالية من الجاذبية؛ إنما تمتعت بقامة 
السنيورة تقريبا. كانت لهجتها السكسونية الخفيفة قد جعلتها تزداد فتئة. 
كان البهلوان فيلكس أطول أعضاء الفرقة قامةء بحيث بلغ طوله مائة 
وثمانية وثلاثين ستتمتراً كاملة بكل سرور. فكان المسكين يعاني من هذا 
القياس الملفت للنظر. وقد بلغت عقدته النفسية مداها الأقصى بعدما 
ظهرت أنا بسنتمتراتي الأربعة والتسعين. إضافة إلى أن هذا البهلوان كان 
يتمتع بمظهر جانبي يشبه مسقط حصان السباق المدجن أبَاّ عن جدّ؛ 


4٠ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


فلذلك كانت راغونا تناديه ب "03582110" أو "02982110 <ذاء1". وقد 
ارتدى بذلة ميدان رمادية مثل النقيب بيبراء إلا أنه كان يحمل في الواقع 
رتبة رئيس عرفاء. وكانت السيّدات قد تلفعن بفساتين ميدان رمادية معدة 
المسفر وخالية من الأناقة. ثم أتضح أن تلك المشغولة اليدوية التي رقدت 
تحت أصابع راغونا كانت عبارة عن قطعة قماش ميدانية رمادية اللون: 
فتحولت فيما إلى قيافة لي» تبرّع لي بها فيلكس وبيبراء وتناوبت كيتي 
وروزفيتا على خياطتهاء فكانتا تقصقصانها من هذا الطرف أو ذاك حتى نشأ 
منها سروال وسترة وطاقية حربية حسب قياساتي. إلا أنهم لم يعثروا على 
حذاء مناسب لي في أي مستودع من مستودعات ملابس الجيش الألماني» 
فتوجب علي الاكتفاء بحذائي المدني ذي الربّاط» ولم استلم حذاءً ميريا 

لقد قاموا بتزوير أوراقي الرسمية» فبدا البهلوان فيلكس بارعاً للغاية 
في هذا الميدان الحسّاس» بحيث أنني لم استطع الاحتجاج قط بسبب 
الأدب والمجاملة على الأقل» فجعلتني السرنمية العظيمة انتحل شخصية 
شقيقها؛ شقيقها الأكبر سئّاً بالمناسبة: أوسكارنيللو راغوناء المولود في 
الواحد والعشرين من أكتوبر من العام ألف وتسعمائة واثني عشر بنابولي. 
لقد حملت ومازلت أحمل إلى اليوم مختف الأسماء. فكان أوسكاريللو 
راغونا واحداً منهاء ولم يكن أسوأها وقعاً بالتأكيد. 

ثم انطلقنا كما يقال» مخترقين اشتولب» واشتيتين» وبرلين وهانوفر 
وكولونيا حتى وصلنا ميتس . فلم آر شيئا من برلين» حيث توقفنا خمس 
ساعات. بالطبع كان هناك إنذار بشن غارة جوّية . فتوجب علينا الذهاب 
إلى سرداب توماس . كان العائدون قد انحشروا تحت القباب مثل سمك 
السردين. وألقيت علينا تحية سريعة عندما حاول أحد رجال الجندرمة أن 
يمررنا إلى السرداب. كان بعض الجنود العائدين من الجبهة الشرقية 
يعرفون بيبرا وجماعته من خلال عروض مسرحية قدموها في الجبهة. 
فصاروا يصفقون ويصفرون وأخذت راغونا تقذف بالقبلات اليدوية. 


١١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


سرداب البيرة المقوس وعلى نحو ارتجالي خلال دقائق. فبدا من الصعب 
على بيبرا أن يرفضء, لاسيما أن رائداً في سلاح الجرّ ترجى منه بحرارة 
واحترام مبالغ فيهما أن يجود على هؤلاء الناس بأفضل ما عنده. فتورجب 
على أوسكار أن يساهم في عرض مسرحيّ حقيقي للمرّة الأولى في حياته. 
وعلى الرغم من التحضيرات التي قمت بها - لقد أجريت بعض البروفات 
على دوري مع بيبرا أثناء رحلة القطار -» إلا أن اضطراباً اعتراني قبل 
الظهور على المنصّة؛ حتى أن راغونا وجدت في ذلك فرصة لتهدأ 
خواطري من خلال لمسات يديها. 

حالما ثقلت أمهنا القئة خلفنا - كان الجئود متحصسين جِذاً - بدا 
فيلكس وكيتي بتقديم فقراتهما الاستعراضية. كان كلاهما بشراً من مطاطء 
فكانا يعقدان جسديهما ويجدان طريقهما عبر جسديهما أو يخرجان منهما 
أو يلتفان حولهما؛ ويقتطعان جزءاً ويضيفان إلى بعضهما شيئاً جديداً. ثم 
يتبادلان هذه الجزء أو ذاك» مولدين لدى الجنود المبحلقين المحتشدين 
آلاماً عضويةٌ شديدةٌ وتصلباً في العضلات سيدوم أيّاماً طويلة. وبينما كان 
فيلكس وكيتي يطويان جسديهما أو يقومانهماء اعتلى بيبرا المنصّة لاعباً 
دور المهرّج الموسيقي. فأخذ يعزف الأغاني الشائعة لتلك الأعوام على 
قنان فارغة وممتلئة؛ مثل «أريكا؛ و «يا أميمتى أهدي لي جواداً»» تاركاً 
أنغام «نجومك يا وطن» تصدح من أعناق الزجاجات وتتألق» ثم عمد إلى 
ترديد أفضل فقراته بعدما لا حظ بأن ما قدمه لم يلهب حماس الجمهورء 
فانطلق من الزجاجات لحن "11865 عطأ لإلتصنال" . فلم يعجب اللحن 
الجنود العائدين وحدهمء بل وجد طريقه إلى أذن أوسكار المدللة؛ بعدما 
قدم بيبرا بعض الألعاب السحريّة الصبيانية في الواقع» لكنها كانت أكيدة 
النجاح ٠‏ معلناً عن قدوم روزفيتا راغونا السرئيية العظيمه وأوسكارنيللو 
راغونا الطبّال قاتل الزجاج» فبدا الجمهور حاميا تمامأ: فلا يمكن لروزفيتا 
وأوسكار إلا أن يكللا بالنجاح . فافتتتحت عروضنا بزوبعة تطبيل خفيفة» 
ثم أحضرت الذروة بزوبعة مستفيضة» مستحثاً الجمهور بعد العروض من 
خلال ضربة فنيّة بارعة على التصفيق وتقديم إعجابه. كانت راغونا تنادي 


17 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


على جنديّ ما من الجمهور» حتى لو كان ضابطاء طالبةٌ من رؤساء العرفاء 
المسئين أو من طلآب الكلية العسكرية الوجلين أو الوقحين» باتخاذ مقعداً 
إلى جانبهاء ثم تبصر في قلبه - كانت تتقن ذلك - وتفشي إلى الحشد 
ببعض من خصوصيات الحياة الشخصية لرؤساء العرفاء أو طلآب الكليّة 
الحربية» فضلاً عن التواريخ والمعلومات العامة المستمدة من بطاقات 
الجنود الشخصية التي تكون صحيحة دائماً. كانت تفعل ذلك بمتعة» 
هانكة الأستار بخفَّة روح ودعابة» فتهدي لكل من عرّته مثلما يقرل 
الجمهور زجاجة بيرة ممتلئة» وتطلب من المنعم عليه بالهدية أن يرفع 
الزجاجة بوضوح إلى الأعلى لكي تكون مرئية من قبل الجميع» ثم تصدر 
لي» أي لأوسكاريللو» إشارة: فأطلقت زوبعة تطبيل بدت بمثابة لعبة 
أطثال بالنسية لغبرتى اللق اعفاد علن إتتجاز مهسات أخرى+ التجعات 
زجاجة البيرة تتفجر شظاياًء مصدرةً صوت فرقعة؛ فلم يبق سوى وجه 
رئيس العرفاء الظمآن المرشوش بالبيرة والمغسول بمياه الأرض كلها أو 
وجه طالب الكليّة الحربية اللبنيّ الأديم - ليتعالى التصفيق العاصف فترة 
طويلة» مختلطا بصخب القصف الجؤي العنيف الموجه إلى عاصمة الرايخ 
الألماني . 

لم يكن ما قدمناه من الطراز الرفيع» إلا أنه رقْه عن الناس فجعلهم 
ينسون الجبهة والإجازة وفك الأسر عن ضحكهم وقهقهتهم غير المتناهية, 
إذ بعدما بدأت الألغام الجويّة تتقاطر علينا وصارت ترج السرداب 
بمحتوياته وتطمره معهاء مصادرةً الضوء ومعه ضوء الطوارئ تعالت 
أصوات القهقهة في التابوت المظلم الخائق» فأحذت الناس يلهجون باسم 
ابيبرا!» و انريد نسمع بيبرا!» فجاء بيبرا الطيّب القلب الذي لا يبلى أبداء 
ولعب دور المهرج في العتمة» حاثاً الحشد المطمور على إطلاق دفعات 
من الضحكء ثم نفخ في البوق عندما صار البعض يطالب براغونا 
وأوسكاريللو» عازفاً لهم : «سنيورة راغونا متعبة تماااماًء يا أعزائي جنووود 
الرصاص . أيضاً أوسكاريللو-الصغير يجب أن يأخذ قيلووولة صغيرة من 
أجل الرايخ الألماني العظيييم ومن أجل النصر الحاسم!» 


ودح 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وقد رقدت روزفيتا إلى جانبي خائفة» لكن أوسكار لم يخف. ومع 
ذلك رقد إلى جانب راغونا. فجعل خوفها وشجاعتي أيدينا تلتقي ببعضهاء 
فصرت أبحث عن خوفها وهي بدورها بحثت عن شجاعي. أخيراً تسرب 
الخوف لي أناء لكنها ظفرت بالشجاعة. ولمّا أبعدت الخوف عنها في 
المرّة الأولى» ومنحتها الشجاعة؛ ارتفعت شجاعتى الرجولية للمرّة الثانية . 
نيتنا أخضك تحاط اربع عش هاما زائنة؟ نإنها انسليت لخوقيا 
الذي تدربت عليه فجعلي أشعر بالشجاعة: لكنني لا أعرف كم مرّة وقعت 
ضحية الخوف» ولم أعد أعرف في أي عام من أعوام الحياة كانت تقف. 
إذ أن جسدها الكامل والمفصل عليها باقتصادء لم تكن له أدني علاقة 
شأنه شأن وجههاء بآثار الزمن وتجاعيده. لقد استلمت لي روزفيتا بشجاعة 
سرمدية وخوف سرمدي. فليس هناك من .سيعلع بأن تلك القزمة التي 
نفضت عنها خوفها بفعل شجاعتي في سرداب توماس المطمور إثر قصف 
جوّي مركز على عاصمة الرايخ الألماني» إلى أن انتشلنا رجال الحماية 
الجوّية من الأنقاض» قد بلغت التاسعة عشرة أو التاسعة والتسعين من 
السنّ؛ إذ سيكون من السهل على أوسكار التكتم طالما كان هو نفسه غير 
غارف: فيما إذا كان ذلك العناق الأول حقاء المناسب ثماماً لقياسات 
جسدهء قد منحته إِيّاه عجوز شجاعة أم فتاة استلمت له بفعل الخوف. 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تففّد الخرسانة - 
أو الضجر الذي لا يحتمل 


قدمنا عروضاً مسرحية طوال ثلاثة أسابيع» مساءً بعد آخرء على 
خشبة المخبأ المضاد المقاوم للقصف في الحامية- والمدينة الرومانية 
ميتس. ثم عرضنا البرنامج نفسه في مدينة نانسي لمدة أسبوعين. وقد 
استضافتنا مدينة شالون-سور-مارن أسبوعا كاملا بكل لطف . كان بإمكان 
المرء أن يعجب بمرأى الأضرار التي خلفتها الحرب العالمية الأولى في 
مدينة ريم. فكان معرض الحيوانات المشيد بالحجر التابع للكاتدرائية 
الذائعة الشهرة في أرجاء العالم يبصق الماء بلا انقطاع على رصيف 
المشاة» مشمئزاً من بني آدم : ذلك يعني مطراً كلّ يوم في ريم» حتى أثناء 
الليل. بدلا من ذلك؛ حظينا بسبتمبر مشرق في باريس. كان قد سمح لي 
بالتجوال على الأرصفة؛ متأبطاً ذراع روزفيتاء محتفلاً بعيد ميلادي التاسع 
عشر. وعلى الرغم من أنني عرفت العاصمة من خلال البطاقات البريدية 
لنائب الضابط فرتس تروجنسكيء إلا أن باريس لم تخيب ظئي أبدا. 
فعندما وقفناء روزفيتا وأناء عند قدم برج أيفل - أنا بسنتمتراتي الأربعة 
والتسعين وهى بقامتها البالغة تسعة وتسعين سنتمتراً - أدركنا» ذراعاً 
بذراع» وللمرّة الأولى»: حجمنا الحقيقي وخصوصيتنا النادرة. فقبلنا بعضنا 
في عرض الشارع» غير أن ذلك لم يكن يعني شيئاً في باريس . 

آه يا صحبة الفنّ والتاريخ الرائعة! حين قمت بزيارة لكنيسة العجزة» 
وأنا لم أزل ممسكاً بذراع روزفيتاء أحييت في ذهني ذكرى القيصر غير 

6 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الستضوق القاية» القروب يا لهذا الست بالذاكخ تكليك متخدها 
عبارات نابليون نفسها. فمثلما قال نابليون على فبر فريدرش الثاني الذي 
لم يكن بدوره عملاقاً: «لو كان هذا يعيش الآن لما وصلنا إلى هنا!» 
فهمست برقة في أذن روزفيتا: «لو كان ررس يا إن اليوم فلما 
وقفنا هناء ولما قبلنا بعضنا تحت الجسور وعلى الأرصفةء» ع1 ناة 
ونمةط عل زهغ]120. أو وجه طالب الكلية الحربية الحليبوضمن إطار 
برنامج ضخم قدمنا عروضاً في 516261 88116 ومسرح ساره بيرنهارد. 
فتأقلم أوسكار بسرعة مع ظروف المنضّات في المدن الكبرى» مهذباً من 
ذخيرتي الفنيّة؛ مكيّفاً نفسي مع الذوق المترف لقوات الاحتلال الباريسية : 
فلم أعد أحطم زجاجات البيرة الألمانية العادية» كلا؛ إنما حظطمت بصوتي 
مزهريات أو آنية فاكهة جميلة الانسياب منفوخة بأقصى ما يمكن من رقة 
ومنتقاة من القصور الفرنسية. لقد أقمت برنامجي على أسس ثقافية 
تاريخية» فبدأت بأقداح زمن لويس الرابع عشرء محيلا الإنتاج الزجاجي 
عمو ارين التاس م . ا ا 0 
مستعيداً زمن الثورة» ثم شارك يعضا ين جاع اع قربي قلي ٠‏ وفي 
الأخير دخلت في معترك مع منتجات الفنطازيا الزجاجية لطراز العدار 
الفرنسي الحديث . وإذا ما عجز الحشد الرمادي على المقاعد الأرضية 
والشرفات من متابعة التسلسل التاريخي لعروضي» مصفقين للشظايا 
باعتبارها مجرد شظايا من زجاج؛ فإن هناك أحياناً ضباط أركان وصحفيين 
من الرايخ الألماني يعربون عن إعجابهم بإدراكي لما هو تاريخي. فقد نطق 
أحد المتعلمين من أصحاب القيافات العسكرية بعبارات مجاملة حول 
عروضي الفنيّة عندما قدمونا له بعد عرض أقيم على شرف القادة 
العسكريين. واعترف أوسكار بالجميل لمراسل إحدى الصحف البارزة فى 
دولة الرايخ الذي كان مقيماً في مدينة السين والذي برهن على أنه كان 
مختصاً فى الشؤون الفرنسية» فصوّب لى بسريّة تامة بضعة أخطاء طفيفة» 
هذا إذا لم يكن ينتبه إلى خروجي عن السياق في برنامجي الاستعراضي . 


5 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


لقد أمضينا الشتاء في باريس» حيث أقمنا في فندق من الدرجة 
الأول ولا أودٌ أن أكتم هنا بأن روزفيتا كانت تجرّب دائماً مزايا الفراش 
الفرنسي إلى جانبي طوال فترة الشتاء الطويل. هل كان أوسكار سعيداً في 
اروس 1 وهل نسي أحبائه في بلدته ماريا وماتسرات وغريتشن وألكسندر 
شفلر» وهل نسي أوسكار ابنه كورت وجدته آنا كولياجك؟ إلا أنني لم 
أفتقد أيَا من أفراد أهلي» حتى لو كنت لم أنسهم. لذلك لم أبعث إليهم 
ببطاقات بريد ولم أعطهم أي علامة على بقائي حيَاً يرزق» إنما منحتهم 
فرصة العيش عاماً كاملاً بدوني؛ إذ أنني كنت قد اتخذت قراراً بالعودة أثناء 
سفري» وكنت مهتماً في معرفة كيف أنهم كانوا يدبرون أمورهم في غيابي . 
فكنت أحياناً أبحث في وجوه الجنود عن الملامح المعروفة بالنسبة لي؛ 
فكنت أفعل ذلك في الشوارع أو أثناء العروض أيضا. فربما سحب فرتس 
تروجنسكي أو أكسل ميشكه من الجبهة الشرقية ونقلا إلى باريس؛ هكذا 
كان أوسكار يقلّب أفكاره» بل أنه ظن ذات مرّة أو مرتين بأنه لمح شقيق 
ماريا النشيط بين رهط من جنود المشاة؛ لكنه لم يكن موجوداً بينهم: 
فاللون الرمادي خذاع! 

كان برج أيفل وحده الذي جعلني أشعر بالحنين إلى أهلي. وليس 
بمعنى أنني صعدته فأغراني المشهد البعيد» موقظاً في نفسي نزعة الحنين 
إلى الوطن. لقد تسلق أوسكار البرج على البطاقات البريدية وفي أفكاره 
مرّات عديدة»؛ بحيث أن الصعود الحقيقي لم يعد يعني لي سوى الهبوط 
المخيّب للآمال. حينما كنت أجلسء أو أتربع بمفردي» عند قدم برج 
أيفل» دون صحبة روزفيتاء هناك في أسفل بداية التركيب المعدني 
الجريء؛ فإن القبة المقفلة من الأعلى التي تتيح الرؤية على الرغم من ذلك 
كانت تستحيل بنظري إلى قلنسوة جدتي آنا التي تغطي كل شيء: إذا ما 
جلست تحت برج أيفل؟ فإنني كنت اجلس في الوقت ذاته تحت أثوابها 
الأربعة» ويتحوّل ميدانٍ الاستعراضات العسكرية عند البرج بنظري إلى 
حقول بطاطس كاشوبية» فيسقط مطر أكتوبر/ تشرين الأرّل الباريسي مائلاً 
بلا كلل بين بيساو ورامكاوء فتكون لباريس برمتهاء بما فيها مترو الأنفاق» 


/ا١*‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


رائحة في أنفي خلال تلك الأيَام» تشبه رائحة الزبد الزنخ قليلاء فأصبح 
واجماً متأملاً» فتتحاشاني روزفيتا بحذرء مراعية ألمي؛ إذ أنها كانت من 
الصنف المرهف الإحساس . 

وفي ومع اي والأربعين - أعلن عن اختصارات 
ل كاي اي - توجب أن علينا أن 6 5م أمتعتنا الفنيّة 
الميدانى. بدأنا جولتنا مود و بدا لي بيبرا قليل الكلام» 
شارد الذهن»؛ فحتى لو أنه لم يكن يفشل في عروضه أبداًء جاعلاً 
الضاحكين إلى جانبه » كما كان عهده في السابق؛ فإن وجهه السحيق القدم 
الذي يشبه وجه نارسس كان يصاب بالتحجر حالما تسدل آخر ستارة . في 
البدء ظننته غيوراً» بل أسوأ من ذلك؟ فرأيته مستسلماً أمام عنفوان شبابي. 
وأوضحت لي روزفيتا الأمر همسآء على الرغم من أنها لم تكن مطلعة 
عليه بدقّة» فجاءت على ذكر الضبّاط الذي كانوا يجتمعون إلى بيبرا خلف 
الأبواب الموصدة بعد انتهاء العروض . فبدا كأن الأستاذ قد تخلى عن 
هجرته الداخلية. وبدأ يخطط لشىء مباشر كما لو أن دم سلفه الأمير أويغن 
استولى عليه وصار يتحكم به . لقد أبعدته خططه عناء ودفعت به إلى آفاق 
شاسعة» حتى أن علاقة أوسكار الوثيقة بصاحبته السابقة روزفيتا استدرجت 
من وجهه المتغضن ابتسامة متعبة. فعندما باغتنا حين كنا منهمكين بالعناق 
فوق بساط حجرة ملابسنا المشتركة - حدث ذلك في تروفيل» حيث أقمنا 
في فندق للاستجمام - غض النظر عنا حين حاولنا الانفصال عن بعضناء 
وقال مخاطبأ مرآة الزينة الخاصة به: «تعانقوا يا أبنائي» قبّلوا بعضكم 
بعضاًء فغداً سنتفقّد الخرسانة» وبعد غد ستصرٌ الخرسانة بين شفاهمء 
وستسلب منكم لذَّة القبل!» 
الأثناء قد طفنا حول ساتر الأطلسي من خليج بسكايا إلى هولنداء إلا أننا 
بقينا معظم الأحيان في ظهير البلاد» فلم نرى الكثير من المخابئ 
الأسطورية» وبدأنا بالتمثيل على الساحل مباشرةً في تروفيل أوّل الأمر. 


4 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فعُرض علينا أن نشاهد ساتر الأطلسي . فأبدا بيبرا موافقته. كان ذلك هو 
العرض الأخير في تروفيل. وفي الليل تُقلنا إلى قرية بافن الصغير الواقعة 
قبل كين بمسافة قصيرة» أربعة كيلومترات خلف رمال الشاطئ. وثمة مراع 
وأسوار من أحراش وأشجار تفّاح وكان الناس هناك يقطرون خمرة الفاكهة 
التي تدعى كالفادوس». فكنا نرتشف منها لننام بعمق. ثمَة هواء لاذع هب 
عبر النافذة» وبركة ضفادع نقّت حتى الصباح. فهناك ضفادع تجيد 
التطبيل. لقد سمعتها تنذرني وأنا غاف: يجب أن تذهب إلى البيت يا 
أوسكار» فقريباً سيبلغ ابنك كورت سنّ الثالثة» وعليك أن تزوده بالطبل 
الذي وعدته به! 

كان أوسكان عهيها بغز نين قوعة يمارا ساعة إقر داع تسطلعه نا 
معذباً يبدأ بتحسس ما في جانبه» ليتأكد من وجود روزفيتاء فيستنشق 
غيرها؟ كانت لراغونا رالحة القوفة والقرتفل المدقرق ودر الطبت؟ يل 
كانت رائحتها مثل رائحة توابل فطائر ما قبل عيد الميلاد» وتبقى متحفظة 
بها حتى في الصيف. وفي الصباح مرقت من أمام البيت الفلاحي عربة 
مصفحة» فسرت رجفة خوف في أوصالنا كلّنا عند بوّابة ذلك البيت. كان 
الوقت مبكراً باردً» وكّنا نئرئر في مواجهة الريح المنطلقة من البحر» ثم 
ركبنا: بيبرا وراغونا وفيلكس وكيتي وأوسكار وذلك الملازم الأوّل المدعو 
هيرتسوغ الذي اصطحبنا إلى سريته المتموضعة غرب كابورغ. وعندما 
أقرل إن منطقة النورماندي كانت خضراء؛ فإنني أخفي ذكر الأبقار المبقعة 
بالأبيض والأحمر المتنائرة على يمين الشارع القروي المستقيم وعلى 
شماله» منهمكة في ممارسة مهنة القضم وسط المراعي التي غشيها 
الضباب الخفيف والطلل» ملتقية بمركبتنا المصفحة برباطة جأش من شأنها 
أن تجعل درع المركبة الفولاذي يصطبغ بحمرة الخجل لو لم يكن مموهاً 
أصلا بالطلاء. مررنا بأشجار حور وسياجات شجريّة وأحراش زاحفة» 
وبأولى الفنادق الساحلية المتداعية الخاوية التي كانت مصاريع نوافذها 
ترتطم ببعضها البعض» ثم انعطفنا في المتنزه» وترجلناء وسرنا خلف 
الملازم الأوّل الذي كان يتصرف إزاء النقيب بيبرا باحترام عسكري بالغ 


8 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وإن كان لا يخلو في الواقع من العجرفة» عبر الكثبان في مواجهة الريح 
المليئة بالرمال وصخب الأمواج المتلاطمة. 

ولم يكن ذلك بحر البلطيق الهادئ الذي كان ينتظرني بلونه الأخضر 
خضرة الزجاج» منتحباً نحيب الفتيات. فالمحيط الأطلسي أخذ يجرّب هنا 
مناورته القديمة : فكان يفيض عند المدٌ ويتراجع عند الجزر. أخيرا ظفرنا 
بهاء أي الخرسانة. فسٌمح لنا بأن نتحسسها لنعلن عن إعجابنا بهاء لكنها 
لم تحرك ساكناًء فهتف أحد ما «حذار!؛ ثم قذف بنفسه من وراء المخبأ 
الذي كان له هيئة السلحفاة المستوية الظهر والمنتصب بين كثيبين» مخبأ 
اسمه «دورا سبعة؛ وكان مزوداً بكوّة للرماية وشقّ طولي للرؤية وأسلحة من 
العيار الخفيف. أمّا الرجل الذي قدم نفسه للملازم الأوّل هيرتسوغ ونقيبنا 


لانكس ييا دورا سبعة» رئيس عرفاء» أربعة جلود. لا أحداث 
مهمة! 

هيرتسوغ: شكراً! استرح يا رئيس العرفاء لانكس. - لقد سمعتم يا 
سيادة النقيب بأن لا أحداث مهمة. وهذا هو الوضع منذ أعوام. 

بيبرا: على الأقل هناك مذ وجزر! فهذه عروض الطبيعة! 

هيرتسوغ : هذا هو بالضبط ما يجعل جماعتنا يشعرون بالإرهاق» 
ولهذا السبب بالذات أقمنا مخبأ جنب آخر. فصارت تقع بالنسبة لنا في 
مجال الرماية المتبادلة بيننا أنفسنا. فقريبا سوف ينسفون بعض المخابئ» 
ليهيقوا مكاناً للخرساتة الحديدة: 

بيبرا يقرع الخرسانة بيده» فيقلده أعضاء مسرحه الميداني: وهل يؤمن 
السيّد الملازم الأوّل بالخرسانة؟ 

هي رتسوغ : ليست هذه بالعبارة المناسبة. إننا لم نعد نؤمن هنا بأي 
شيء. وإلاا يا لانكس؟ 

بيبرا: لكنكم تخلطون وتدوسون بأقدامكم. 


لام 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


هيرتسوغ: يقيناً. فنحن نجمع خبرات وتجارب أثناء ذلك. لم أكن 
في البدء أفقه شيئاً عن البناء؛ كنت درست قليلاً» ثم انفلتت الأمور. أتمنى 
الاستفادة من خبراتي في مجال تحضير الإسمنت بعد الحرب. فيجب أن 
يعاد بناء كل شيء» في الوطن. انظروا إلى الإسمنت عن قرب. بيبرا 
وعتتاعية تتريزن أنرنه من الخرسانة. ماذا رأيتم؟ أصدافاً؟ فكل شيء 
ملقى أمام الباب» ولا نحتاج أكثر من أن نجمعه ثم نخلطه. الحجر 
والأصداف والرمل والإسمنت. . . ما الذي يجب أن أقوله لكم يا حضرة 
النقيب؛ إنكم ستتفهمون الأمر بصفتكم فناناً وممثلاً. لانكس! احكي 
للسيّد النقيب عما هرسناه وخلطناه في المخبأ. 

لانكس: أجل يا سيّدي الملازم الأوّل. لقد خلطنا جراء الكلاب 
بالإسحية: تك كل أساس من أسسن المتتارع يرقد جزو مدفونا. 

جماعة بيبرا: كليب! 

لانكس: سيخلو القاطع كلّه من كين إلى أفره من جراء الكلاب. 

جماعة بيبرا: لم تعد هناك كُليبات! 

لانكس: نعم؟ كانت همتنا عالية. 

جماعة بيبرا: عالية بهذا الشكل! 

لانكس: سنضطر قريباً إلى استخدام فراخ القطط . 

جماعة برا مياو) 

لانكس: لكن القطط ليست بذات قيمة كاملة كصغار الكلاب. لذلك 
فنحن نأمل أن تنطلق قريبا. 

جماعة بيبرا: الحفلة التشريفية! يصفقون بحماس. 

لنقين: لقد تعرنا نما فيّة الكفاية: فإذاانا تتدك لديا جتراء 
الكلاب. . . 

جماعة بيبرا: آه! 

الى متدفانها لآ شع إنامة أويضا: لأن القطط لا تعني فألا 
حسنا . 


١ 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


جماعة بيبرا: مياو» مياو! 

لاتكس: إذا ما رغب السيّد النقيب فى أن أذكر له باختصار لماذا نحن 
بعاجة إن ضهان الكل ْ 

جماعة بييرا: الكليبات! 

لانكس: فلا يسعني إلا القول بأنني لا أومن بذلك! 

جماعة بيبرا: يا للعار! 

لانكس : غير أن الزملاء هنا معظمهم قادم من الريف. فهناك مازال 
الناس يفعلون الشىء ذاته إذا ما شيّدوا بيتاً أو مخزن غلال أو كنيسة قرويّة» 
ععديعب أن لدنو فنا يعاس ود 

هيرتسوغ: كفى! لا بأس بذلك. استرح! مثلما استنتج حضرة النقيب 
فإن الناس هنا عند ساتر الأطلسى منغمسين فى الخرافات. تماما كما هو 
الحال عندكم في المسرح؛ إذ لا يجور أن يصفر أحد قبل العرض 
الافنتاحي حين يقوم الممثلون بتشجيع بعضهم بعضاً فيبصقون 

جماعة بيبرا: بالتوفيق والنجاح. ثم يبصقون عبر أكتافهه”* . 

هيرتسوغ: دعوا المزاج جانبا. على المرء أن يترك الناس يستمتعون 
بلهوهم. فقد سمح لهم حسب الأوامر العليا بأن يوضعوا فسيفساء من 
الأصداف الصغيرة وزخارف الإسمنت في مخارج المخابئ. فالناس 
يريدون أن يشغلوا أنفسهم. لذلك فإنني أقول وأكرر القول لرئيسي الذي 
تزعجه منمقات الإسمنت بأن المنمقات في الإسمنت أفضل يا حضرة 
الرائد من المنمقات في الدماغ. فنحن الألمان هواة أصحاب هوايات. فما 
الذي يمكن أن نفعله إزاء ذلك! 

بيبرا: نحن أيضاً نساهم في الترفيه والتسرية عن الجيش المنتظر في 
ساتر الأطلسي. . . 
(*) عبارة تعني حرفيّاً البصاق عبر الأكتاف قبل القيام بعمل ماء لاسيما أعمال 

الفروسية. والبصاق عبر الكتف يعني في الأساطير الألمانية طرد الشيطان وجلب 

الحظ. 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


جماعة بيبرا: مسرح بيبرا الميداني يغني لكم ويمثل لكم ليعينكم على 
تحقيق النصر الأخير! 

هيرتسوغ: صحيح تماماً ما ترونه ويرونه أصحابكم. لكن المسرح لا 
يستطيع أن يؤدي تلك المهمة وحده. فغالباً ما نعتمد نحن على أنفسناء 
فيساعد أحدنا الآخر حسب استطاعته . وإلا يا لانكس؟ 

لانكس : أجل يا سيّدي الملازم الأوّل» حسب استطاعة المرء! 

هيرتسوغ : لقد سمعتم الكلام. - إذا ما كان السيّد النقيب يسمح لي؛ 
يجب أن أتفقّد دورا رقم أربعة ودورا رقم خمسة في الناحية المقابلة. 
انظروا بكل هدوء إلى الخرسانة» فإنها عالم قائم بذاته. لانكس سيطلعكم 
على كل شيء. . 

لانكس : سأطلعهم على كل شيء يا حضرة الملازم الأوّل! 

هيرتسوغ وبيبرا يتبادلان التحيّة العسكرية. وهيرتسوغ ينصرف من 
جهة اليمين. فيقفز أوسكار وراغونا وفيلكس وكيتي الذين مكثوا حتى ذلك 
الحين خلف بيبرا إلى الأمام. أوسكار يمسك بطبله» وراغونا تحمل سّلَة 
مُونّة» فيلكس وكيتي يتسلقان على السطح الإسمنتي للمخبأء ويبدأن هناك 
بتمارينهما البلهوانية. أوسكار وروزفيتا يلعبان بالجردل والمجرفة الصغيرين 
في الرمل» متظاهرين بأنهما واقعان في غرام بعضهماء يهتفان لفيلكس 
وكيتي ويمازحانهما. 

بيبرا مسترخياً بعدما عاين المخبأ من جميع الجهات: قل لي يا رئيس 
العرفاء لانكس ما هي مهنك بالأصل؟ 

لانكس: رسام يا حضرة النقيب. لكن هذا كان منذ زمن طويل. 

بيبرا: تقصد صباغ بيوت. 

لاتكس: بيوت أيضاء يا حضرة النقيب» لكن عدا ذلك فإننى منشغل 
أكثر بالفن . ١‏ 

بيبرا: اسمعواء اسمعوا؛ هذا يعني أنك تسير على منوال رمبرانت 
العظيم؛ وربما فيلائكويث ٍ 

لانكس: بين الاثنين تماما. 


7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بيبرا: يا إلهي! يا رجل!؟ فهل ترى نفسك مضطراً إلى خلط 
الخرسانة وسحقها وحراستها؟ إن مكانك بلا شك في سريّة الدعاية؛ فأنت 
رسّام حربي» ونحن بحاجة إليك! 

لانكس : كلا يا حضرة النقيب؛ هذه ليست وظيفتي. إنني أرسم 
بشكل منحرف بالنسبة لمصطلحات هذه الأيّام. لكن إذا كان السيّد النقيب 
يهب سيجارة لرئيس العرفاء؟ بيبرا يناوله سيجارة. 

بيبرا: هل يعنى الانحراف حداثة إلى حدّ ما؟ 

لانكس: ماذا تعني الحداثة؟ قبل أن يأتوا لي بخرسانتهم كان 
الانحراف حداثة لفترة طويلة. 

بيبرا: هكذا إذا؟ 

لانكس: آه! 

بيبرا: إنك ترسم بطريقة التلطيخ الكثيف. يحتمل أن تكون صقّال 
ع1 

لاتكس: نعم أيضا؛ إنني استخدم إبهامي بصورة آلية تماماء فألصق 
المسامير والأزرار في الخرسانة. قبل العام الثالث والثلاثين كنت أضع 
الأسلاك الشائكة في حمرة الزنجفر فترة طويلة. فحظيت بمديح الصحافة. 
وهذه الأعمال معلقة الآن فى منزل أحد جامعي الأعمال الفنية 
السويسريين» وهو صاحب مصنع للصابون. 

بيبرا: هذه الحرب» يالها من حرب سيئة! واليوم أراك تسحق الخرسانة! 
معيراً عبقريتك لأعمال التحصين! بلا شك أن ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو 
الحصون إذا لم يكلفا بوضع صور وتمائيل السيّدة العذراء. 

لانكس: إنك ترى هذه الحقيقة بنفسك! لابد أن تكون هناك ثغرة ما. 
فالفنان الحقيقى يجب أن يعبّر عن نفسه. هناك! إذا ما أراد السيّد النقيب 
رؤية الزخارف على مدخل المخبأء فهي من أعمالي. 
من قوة تعبيرية صارمة! 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لانكس: يمكن للمرء أن يطلق على هذا الأسلوب اسم تشكيلات 
بليوية . 

بيبرا: وهل يحمل نقشك البارز أو نحتك عنواناً؟ 

لانكس: لقد قلت للعو تشكيلات. لا مانع لي من أن نسميها 
تشكيالات منحرفة . 

بيبرا: ومع ذلك؛ يجب عليك» بصفتك مبدعاًء أن تجد عنوناً ثابتاً 
غير قابل للالتباس لعملك هذا... 

لانكس : عنواناً؟ ماذا يعني العنوان؟ إنه موجود فقط لأن هناك دليلاً 
لمعارض الفن. 

بيبرا: إنك تتظاهر بالتواضع. فأرجو أن ترى فيّ صديقاً فّاناً» وليس 
شخصية النقيب. سيجارة؟ لانكس يمد يده. إذا؟ 

لانكس: إذا ما تعاملني بهذا الشكل. - لقد فكر لانكس: إذا ما 
انتهى الأمر هنا. وسينتهي الأمر ذات يوم - بهذه الطريقة أو تلك - 
وستبقى المخابئ قائمة؛ لأن المخابئع يجب أن تكون قائمة دائمأء حتى لو 
تحطمت الأشياء الأخرى كلّها. ثم يحين الوقت المناسب! وستأتي 
القرون» حسب رأبي - يخفي السيجارة الأخيرة. هل لدى سيّدي النقيب 
سيجارة أخرى؟ شكراً وطاعة! - وستأتي القرون وتمرّ كما لو أنها لاشيء. 
لكن المخابئ ستبقى مثلما بقيت الأهرامات. وذات يوم جميل سيأتي ما 
يسمى بباحث العصور القديمة» فيفكر: أي عصر فقير فنيّاً ذاك الذي ساد 
آنذاك بين الحرب العالمية الأولى والسابعة: خرسانة بليدة رمادية؟ سبائك 
مبتدئين فقيرة التعبيرء مشغولة على الطراز المحلّي في مداخل المخابئ. - 
ثم يقع صدفة على دورا أربعة ودورا خمسة» وستة وسبعة» فيرى 
تشكيلاتي البنيوية المنحرفة» فيخاطب نفسه: انظر إلى هذا. طريف. 
ويكاد قزل إن صمل ابس متوعد. وذو مستوى عقليّ خارق. لقد جاد به 
عبقري» ربما كان العبقري الوحيد في القرن العشرين» وقد فعل ذلك 
بوضوح تام من أجل العصور القادمة كليا: - لكن فيما إذا كان هذا العمل 
يحمل عنواناً؟ وهل سيعبّر الإمضاء عن الفتّان نفسه؟ إذا ما أمعن السيّد 


ه85 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


النقيب النظرء ومال برأسه؛ فإنه سيرى ما بين التشكيلات المنحرفة . . . 

بيبرا: إليّ بنظارتي. ساعدني يا لانكس . 

لانكس: لقد كُتب هنا: هربرت لانكسء العام . 1444 العنوان: 
غامض» بربريّ» متضجر . 

بيبرا: إنك بذلك قد منحت قرننا اسمه. 

لانكس: نعم ؛ مثلما رأيتم! 

بيبرا: ربما سيعثر المرء بعد خمسمائة عام أو بعد ألف عام أيضاً على 
بعض عظام الكلاب أثناء أعمال الترميم . 

لانكس : وهذا من أن شأنه تأكيد عنواني. 

بيبرا منفعلاً: ماذا يعني الزمن» بل ما هي قيمتنا نحن» يا صديقي 
العزيز» لولا اغعدالنء ... لكن انظر : هاما كس ركشن البهلوانان. 
إنهما يمارسان ألعاب الجمباز على الإسمنت. : 

كيتي ثمة ورقة تتنقل بين روزفيتا وأوسكار وبين فيلكس وكيتي 
ويكتبون عليها. كيتي تتحدث بلهجة سكسونية مخففة: انظر فقط يا سيّد 
تدرانها الى يذكن أن ينتلة الم عاك الالسدت. عير على ينا 

فيلكس: لم يحدث أن قفز أحد (قفزة الموت) على الإسمنت. 
ينقلب في الهواء. 

كيتي : كان علينا في الواقع أن نمتلك منصّة كهذه. 

فيلكس : لكن الريح هنا شديدة إلى حدّ ما. 

كبتى: فى المقابل إن الجر هنا لين ساختا أو خائقا كنا فى دوز 
النبيننا العبقة.. يطوياة حسليهها. ْ 

فيلكس : ثمة قصيدة خطرت في ذهننا هنا في الأعالي . 

كيتي : ماذا تعني بقولك في ذهننا! لقد خطرت في ذهنيّ أوسكاريللو 
والسنيورة روزفيتا.ر 

فيلكس : طبعا كنا نساعدهما إذا لم تكن القافية متجانسة. 

كيتي: لا ينقص القصيدة سوى كلمة واحدة فتكون جاهزة. 


2 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فيلكس: أوسكاريللو يريد أن يعرف أسماء العيدان» هناك على 
الشاطئ . 

كيتي : لأنها يجب أن تدخل في القصيدة. 

فيلكس : وإلا سينقصها ما هو ضروري. 

كيتي : قل يا حضرة الجندي ما هي أسماء العيدان تلك؟ 

فيلكس : ربما أنه لا يستطيع؛ لأن العدو سيسمع أيضاً. 

كيتي : سوف لا ننقل الكلام إلى أيّ أحد. 

كين : لقد يذل أوسكاربللو نهدا كبيرا: 

ينكس [نديعرق ذلك أن وس كنارة جييلة بالشروف الألناية 
القديمة . 

كيتي : أريد أن أعرف أين تعلّم ذلك. 

فيلكس : لكنه فقط لا يعرف أسماء العيدان. 

لانكس: هل يسمح السيّد التقيب؟ 

بيبرا: إذا كان الأمر لا يتعلق بسرّ حربيّ خطير؟ 

فيلكس : مادام أوسكاريللو يصرّ على معرفتها. 

كيتى : وإلا ستختل القصيدة. 

روذفياة ظالما أميجنا كنا فضرلين إلى هذا البحد. 

بيبرا: حت لو امرك أمرا رسا 

لانكس: بلى؛ لقد أقمناها ضد الدبابات وزوارق الإنزال حسب 
الاحتمال. وأطلقنا عليها اسم هليون رومل» لأن شكلها بدا هكذا. 

فيلكس: رومل... 

كبتي : .. .هليون؟ هل هذه عبارة مناسبة يا أوسكاريللو؟ 

أوسكار: نعم؛ إنها مناسبة. يدوّن الكلمة على الورقة» ثم يناول 
القصيدة إلى كيتي الذي فوق المخبأ. يطوون أنفسهم أكثر نأكثر ثم ألقت 
كيتي الأبيات التالية كما لو أنها تلقي قصيدة مدرسية. 

كيتي : عند ساتر الأطلسى 

كاترا يحدثٌوة قي انلام ٠‏ بأسندان سطوهة؟ 


/ 7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ساحقين الإسمنت» أي هليون رومل» 
في الطريق إلى بلد النعل» 
حيث البطاطس المملحة. 
وفي الجمعة السمك والبيض المقلي: 
فها نحن اقتربنا من عصر البرجوازية! 


مازلنا نرقد فى شبكة شائكة الأسلاك» 

نغرس الألغام في مراحيض بدائية» 

حالمين بعرائش البساتين» 

وحمامات السجع وزملاء لعبة الكرات الخشبية» 
وبالثلآجات والنافورات الجميلة التكوين: 
فهانحن نقترب من عصر البرجوازية! 


إذا ما تل البعض» 

وإذا ما تقطعت قلوب الأمهات» 

وإذا ما ارتدى الموت حرير مظلآت الهبوط» 

مضيفاً إلى ثيابه كشكشة صغيرة» 

وإذا ما نتف ريش الطاووس ومالك الحزين» 

فهانحن نقترب من عصر البرجوازية! 

يصفقون جميعهم» بما فيهم لانكس . 

لانكس : جاء الجزر. 

روزفيتا: إذاً حان الوقت لكي نفطر! تلوّح بسلة المؤنة المزينة 
بالشرائط وزهور القماش. 

كيتى : أه؛ بلى» سنتناول إفطارنا فى الهواء الطلق! 

فيلكس : إنها الطبيعة التي تفتح شهيتنا! 

روزفيتا: آه يا طقس الطعام المقدّس الذي يوحًد الشعوب طالما هناك 
إفطار! 


158 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بيبرا: دعونا نتناول الطعام على الإسمنت» حيث تكون القاعدة 
جيّدة! الجميع يتسلق المخبأء باستثناء لانكس . روزفيتا تفرش مفرش سفرة 
لطيفة منقوشة بالزهور» ثم تخرج من السأة التي لا ينضب معينها وسائد 
منسولة الخيوط. ثمة خيمة ورديّة وخضراء فاتحة تُنصب» وجهاز 
غراموفون صغير بسمّاعة؛ إضافة إلى أطباق وملاعق وسكاكين وفناجين 
البيض المسلوق ووزعت مناديل السفرة. 

فيلكس : أتمنى أن أحظى بلحمة الكبد المعجونة! 

كيتي : هل لديكم شيئاً من الكافيار الذي أنقذناه معنا من ستالينغراد؟ 

أوسكار: يا روزفيتا لا تدهني الخبز بكلّ هذا القدر من الزيد 
الدتهاركى» 

بيبرا: لك الحقّ يا ولدي إذا ما أبديت قلقك على رشاقتها. 

روزفيتا: لكن إذا ما كنت أستسيغ طعمه وأستمرئه. آه! حين أفكر في 
الكعكة المتوجة بالقشدة التي قدمها لنا سلاح الجر في كوبنهاغن! 

بيبرا: الشيكولاتة الهولندية مازالت ساخنة في الترمس . 

كيتي : إنني» وبكل بساطة؛ مغرم تماماً بعلب البسكويت الأمريكية. 

روزفيتا: لكن فقط عندما يضع عليها المرء مربى الزنجبيل الأفريقي 
م 

: م ع يا روزفيتاء أرجوك! 

6 لكنك ستتناول أيضا شرائح لحم البقر الإنجليزي الكريهة, 
الغليظة غلظ الإصبع! 

بيبرا: وأنت يا حضرة الجندي؟ ألا تريد قطعة رقيقة من الخبز المطعّم 
بالزبيب مع مربى الخوخ؟ 

لاتكس: لو لم أكن في الواجب الرسمي يا سيادة النقيب. . 

روزفيتا: أصدر له أمراً رسمياً! 

كت : نعم ؛ أمراً رسمياً! 

بيبرا: إنني آمرك رسميّاً يا رئيس العرفاء لانكس بأن تأكل خبز الزبيب 
مع مربى الخوخ الفرنسي» إضافة بيضة دنماركية مسلوقة وكافيار سوفيتي 


ة,1 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وقطعة من الشيكولاتة الهولندية الأصلية! 

لانكس : سمعاً وطاعةً يا سيادة النقيب! سآكل . يأخذ مكاناً أيضاً على 
المخبأ. 

بيبرا: ألا توجد لدينا مخدّة زائدة للسيّد الجندي؟ 

أوسكار: يستطيع أن يأخذ مخدّتي. سأجلس على الطبل. 

روزفيتا: لكنك ستصاب بالبرد يا عزيزي! فالإسمنت غذار» وأنت 
لست معتاداً عليه. 

كيتي: يستطيع أن يأخذ مخدتّي كذلك؛ لأنني سأطوي نفسي فترة 
وجيزة» لكي ينزلق حيئئذ الخبز المخلوط بالعسل بشكل جيّد. 

فيلكس: لكن عليك ألا تغادري مفرش السفرة؛ لكي لا تلوثين 
الإسمنت بالعسل . فهذا يعتبر ترويجاً لروح الهزيمة! 

الجميع يكركر. ٍ 

بيبرا: اه كم كان هواء البحر منعشا لنا. 

روزفيتا: بلى؛ لقد أنعشنا. 

بيبرا: سيغير القلب: جلده العتيق.. 

روزفيتا: بلى؛ سيفعل القلب هذا. 

بيبرا: وستنجلي الروح. / 

روزفيتا: كم سيبدو المرء جميلا إذا ما نظر إلى البحر! 

بيبرا: لأن البصر سيكون حرَّاء يغادر عشّه. . . 

روزفيتا: أصبح يرفرف... 

بيبرا: يحلّق فوق البحرء البحر اللأمتناهي. قل لي يا رئيس العرفاء 
لانكس؛ إنني أرى خمسة أشياء سوداء على الشاطئ . 

كيتن: آنا أيها: مع خمس مظلات! 

كيتي: خمس! واحدة. اثنتان؛ ثلاث؛» أربع» خمس! 

لانكس : هؤلاء هنّ الراهبات القادمات من ليزيه. لقد أجلوهن» هنّ 
وروضتهنء من هناك إلى هنا. 


ره 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كيتي : لكن كيتي لا ترى أطفالاً بصحبتهن! فقط خمس مظلات. 
لانكس: إنهن يتركن الأطفال في القرية» في بافو؛ يأتين أحياناً أثناء 
الجزرء فيجمعن القواقع والسلطعون التي تعلق بهيلون رومل. 


كيتي : يا لهن من مسكينات! 
روزفيتا: ألا يمكن أن نقدم لهِنّ بعض شرائح اللحم المملح 
والبسكويت المعلب. 


أوسكار: أوسكار يقترح خبز الزبيب مع مربّى الخوخ؛ لأن اليوم هو 
يوم جمعة؛ لذلك فإن اللحم المملح محرّم على الراهبات. 

كيتي : لقد بدأن يركضن الآن! يبحرن فعلا بمظلاتهن! 

لانكس : إنهن يفعلن ذلك دائماً» بعدما يجمعن ما يكفيهن. ثم يبدأن 
باللعب. لاسيما المترهينة المبتدثة آغنيتاء تلك الفتاة الصغير السنّ حقًا التى 
لأتعرف اين التخلقه وانج الأتاءت لكتن إذا كان السكد النقبي يلك 
سيجارة لرئيس العرفاء؟ شكراً جزيلاً -؛ والمرأة الضخمة هناك التي لم 
تسطع اللحاق بهن فهي الراهبة المسؤولة شولاستيكا. فهي لا تريد أحداً 
يلعب على الشاطئ» لأن ذلك قد يتعارض مع أحكام طائفتهن الدينية. 

راهبات يحملن مظلات يهرولن في خلفية المشهد. روزفيتا تفتح 
الغراموفون؛ فيصدح لحن (نزهة التزحلق في بطرسبورغ). الراهبات 
يرقصن على الإيقاع ويهللن فرحاً. 

آغنيتا: هوهوووه! أيتها الأخت شولاستيكا! 

شولاستيكا: آغنيتاء يا أخت آغنيتا! 

أغنيتا: يا أخت شولاستيكا! 

شولاستيكا: ارجعي إلى مكانك يا بنيتي! يا أختي آغنيتا! 

آغنيتا: لا أستطيع الرجوع! فهذا ابسن بإرادقي» إنما ثمة شيء يركض 
من ذاته . 

00 : إذا صلّي من أجل الرجوع, يا أخت! 

من أجل رجوع مليء بالألم؟ 
8 بل مليء بالرحمة! 


١ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


آغنيتا: ومليء بالفرح؟ 

شولاستيكا: صلىء يا أخت آغنيتا! 

آغنيتا : لقد صليت صلاة (هرهوووه) باستمرار» لكنه لم يتوقف عن 
الركض . 

شولاستيكا بصوت خفيض: آغنيتاء يا أخت آغنيتا! 

الراهبات يختفين. ولا يظهرن في خلفية المشهد إلا بين آونة 
وأخرى. تنتهي الأسطوانة. إلى جانب مدخل المخبأ يرن جرس التلفون 
الميدانى. لانكس يقفز من سقف المخبأ فيلتقط السمّاعة؛ الآخرون 
يأكلون . 

روزفيتا: حتى هنا في وسط الطبيعة اللامتناهية يوجد تلفون! 

لانكس : هنا دورا سبعة . رئيس العرفاء لانكس. 

هيرتسوغ : يتقدم ببطء من جهة اليمين؛ حاملاً سمّاعة وسلكاًء يتوقف 
عدّة مرّات ويتكلم في تلفونه: هل كنت نائما يا رئيس عرفاء لانكس! هناك 

لانكس : هؤلاء راهبات يا حضرة الملازم الأول! 

هيرتسوغ : ماذا يعني راهبات! وإذا لم يكن راهبات؟ 

لانكس : لكنهن كذلك. يمكن تمييزهن بشكل واضح. 

هيرتسوغ: ألم تسمع اللمويةه نعم؟ الطابور الخامس» نعم؟ هذا ما 
يفعله الإنجليز منذ مئات الأعوام؛ يأتون حاملين الكتاب المقدّس ثم 
يطلقون النيران دفعة واحدة! 

لانكس : لكنهن يجمعن السرطان» يا حضرة الملازم الأوّل... 

هيرتسوغ: يجب إخلاء الشاطئ فوراًء هل فهمت؟ 
السرطان فقط. 

هيرتسوغ : يجب أن تتموضع خلف بندقيتك الرشاشة يا رئيس العرفاء! 

لانكس: وإذا كنّ لا يجمعن سوى السرطان بسبب الجزر ومن أجل 
روضة الأطفال. . . 


رةه 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


هيرتسوغ: إنني أوجه إليك أمراً رسميًا. . . 

لانكس: أجل يا حضرة الملازم الأوّل! لانكس يختفي في المخبأ. 
وينصرف هيرتسوغ مع التلفون من جهة اليمين. 

أوسكار: روزفيتاء صمّي أذنيك؛ ستُطلق النار الآن مثلما في نشرة 
الأخبار الأسبوعية . 

كيتي : أوه؛ شيء مرعب! سأطوي نفسي أكثر فأكثر . 

فيلكس: علينا أن نفتح الغراموفون من جديد؛ فهذا من شأنه أن 
يخفف قليلا! يفتح الغراموفون: فرقة 2/2]655 106 تغني أغنية 07684 1286 
6 ثم تطقطق البندقية الأوتوماتيكية» متكيفة مع الموسيقى 
المأساوية البطيئة المتثاقلة. فيلكس يقف على رأسه. فى الخلفية تحلّق 
خمس راهبات بمظلاتهن نحو السماء. الأسطوانة تتعثر وتكرر المقاطع 
ذاتهاء ثم يعم الهدوء. روزفيتا ترفع بقايا الإفطار من السفرة وتضعه في 
سلّة المتاع بسرعة ولهوجه. أوسكار وبيبرا يعاونانها. يغادرون سقف 
المخبأ. يظهر لانكس في مدخل المخبأ. 

لانتكس: إذا كان السيّد النقيب يملك سيجارة لرئيس العرفاء؟ 

بيبرا: تقف جماعته خلفه برعب : السيّد الجندي يدخن بشراهة! 

جماعة بيبرا: يدخن بشراهة! 

لانكس: يعود هذا الأمر إلى الإسمنت» يا حضرة النقيب. 
جماعة بيبرا: إذا نفد ذات يوم. 
لانكس: بل هو أبديٌ يا حضرة النقيب. فقط نحن وسجائرنا. . . 
بيبرا: أعرف ذلك؛ أعرف بأننا نتبخر ونتطاير مع الدخان. 
بيبرا: إن بإمكانهم مشاهدة الخرسانة بعد ألف عام . 
جماعة بيبرا: بعد ألف عام! 


2 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


جماعة بيبرا: براجم الكلاب وكعابها. 

بيبرا: ومعها تشكيلاتك المنحرفة في الإسمنت. 
جماعة بيبرا: غامض ١»‏ بربري ٠»‏ متضجر . 
يبقى لانكس المدحن وحده. 


وحتى لو كان أوسكار لم يتكلم أثناء الإفطار فوق الإسمنت إلا قليلاً» 
إلا أنه مع ذلك لم يستطع أن يغفل التعرض إلى الحديث الذي دار عند 
ساتر الأطلسي؛ لأن المرء استخدم الكلمات ذاتها عشية الاجتياح؛ كما أننا 
سنلتقي مرّة ثانية برئيس العرفاء وفئّان الإسمنت لانكس إذا ما تناولت بالثناء 
زمن ما بعد الحرب على صفحة أخرىء» أي عصرنا البرجوازي المزدهر 
اليوم . 

كانت العربة المصفحة مازالت تنتظرنا عند متئزه الشاطئع» فالتحق 
الملازم الأرّل هيرتسوغ بمن كان في عهدته» واثباً وثبات طويلة» معتذراً 
لبيبرا عن الحدث الصغير وهو يلهث مقطوع النفسء قائلاً إن «المنطقة 
المحرمة تبقى منطقة محرمة!» ثم أعان السيّدتين على الركوب في العربة» 
وأصدر بعض التوجيهات للسائق» فعدنا أدراجنا إلى بافو. كان علينا أن 
نسرع؛ لذلك لم نجد وقتاً كافياً لتناول الغداء؛ ففي الساعة الثانية ثمة 
عرض قد أعلن عنه؛ يجب أن نقدمه في صالة الفرسان التابعة للقصر 
النورماندي اللطيف الواقع خلف أشجار الحور في مخرج القرية. ولم يبق 
أمامنا سوى نصف ساعة لاختبار الإنارة» فأجبر أوسكار على رفع الستارة 
وهو يقرع الطبل. قدمنا العرض لضباط الصف والجنودء فانطلقت 
ضحكات فظة جافة وبشكل متواصل . كنا قد بالغنا في العرض. كنت 
حطمت بصوتي مبولة زجاجية توضع في غرفة النوم كان فيها سجق من 
النوع المعروف في فيينا والمنقوع في الخردل؛» فذرف بيبرا الكثيف الزينة 
دموعه التهريجية على الوعاء المحطم» وصار يلتقط السجق من بين الشظايا 
ويسكب عليها الخردل ثم يلتهمهاء مما جعل المتلفعين بالقيافات الرمادية 
يضبون في الضحك والمرح . كان فيلكس وكيتي يظهران على المنصّة منذ 


01 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فترة بسراويل جلدية تحدث طقطقة وقبعة تيرولية» مما كان يمنح أداءهما 
ميزة خاصة. وارتدت روزفيتا التى ظهرت بفستان فضي ضيقٌ ققّازاً أخضر 
فاحباً قائل للع وغنا مضا بالذحت: قن قانبيها الفتغيرتين» ركانت 
تغمض دائماً أجفانها الضاربة للزرقة» مدللة من خلال صوتها السرئمي 
القادم من المتوسط على قدراتها الشيطانية المعهودة. هل قلت بأن أوسكار 
ليحن بجاح إلى صر التكريدة لمن اددنيك بعتي التقريه العاريمة 
العزيزة التي طُرّزت عليها كتابة اناك :ز5 52815 زقيصضا أرق بكرا أها 
وفوقه سترة ذات أزرار مذهبّة لها شكل المرساة» ومن الأسفل أطل 
السروال القصير جليّاً وتحته جوربان طويلان حدّ الركبة وملفوفان من 
الأعلى ومثبتان من الأسفل بالحذاء المستهلك ذي الرباط» إضافة إلى 
الطبل الأبيض الأحمر الطلاء» ومثله خمس مرّات في جعبتي الفنيّة. 

وفي المساء أعدنا العرض أمام الضبّاط وفتيات شعبة المخابرات في 
كابورغ. فبدت روزفيتا متوترة الأعصاب في البدء؛ وعلى الرغم من أنها 
لم ترتكب خطأء لكنها وضعت على أنفهاء في منتصف فقرتهاء نظازة 
شمسية ذات إطار أزرق» ثم أخذت تغيّر من لهجتهاء وأصبحت شديدة 
المباشرة فيما يتعلق بتكهناتهاء فقالت على سبيل المثال لفتاة مخابرات 
شاحبة الوجه أصدرت تعليقات وقحة من فرط الارتباك» بأن لها علاقة 
غرامية بمسؤولها؛ إيحاء جعلني أشعر بالحرجء إلا أنه حظي بإعجاب 
الكثير من الضاحكين» إذ أن المسؤول جلس إلى جانب الفتاة مباشرة. 
وبعد العرض أقام ضبّاط الأركان المعسكرون في القصر حفلة» فبقي بيبرا 
وكيتي وفيلكس» في حين انسحب أوسكار وراغونا بشكل غير ملفت 
للانتباه ذاهبين إلى الفراش» فرقدا فوراً على أعتاب ذلك اليوم الشديد 
التنوّع» ولم يستيقظا إلا بعد أن بدء الاجتياح في الساعة الخامسة فجرا. 
فما الذي يمكن أن أرويه عليكم؟ في قاطعناء وبالقرب من مصبٌ نهر 
أورن» هبط الحلفاء. كنا قد كدسنا أمتعتناء فاضطررنا إلى التراجع مع 
أركان الكتيبة إلى الخلف. في باحة القصر انتصب مطبخ ميداني آلي» 
انبعث منه البخار. فترجت مني روزفيتا بأن أجلب لها قدحاً من القهوة؛ 


0ع 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لأنها لم تتناول إفطارها بعد. لكنني رفضت طلبها بعصبيّة» خشية أن 
تفوتني عربة النقل» بل كنت جافاً معها بعض الشيء. فقفزت هي نفسها 
من العربة» راكضة بقصعة الطعام الصغيرة وحذائها ذي الكعب العالي نحو 
المطبخ الميداني» فأدركت قهوة الصباح في الوقت ذاته الذي انفجرت فيه 
أوَّل قذيفة أطلقتها سفينة حربية فى ذلك المكان. 

آيا روزفيتاء إنني لا أعرف كم هو سئّكء إنما أعلم بأن قامتك 
بلغت تسغة وتسعين سحمعرا» وأن البخر المعورسط كان يعحدث عبر 
شفتيك» وأن لك رائحة القّرفة وجوز الطيب» وأنك كنت تخترقين بنظرتك 
قلوب الناس كلّهم؛ إلا أنك لم تنظري إلى قلبك؛ وإلا لبقيت الآن إلى 
جانبي» ولما جلبت لنفسك تلك القهوة الشديدة السخونة! وتمكن بيبرا في 
اليزيو؛ من الحصول على تصريح يتيح لنا التحرّك إلى برلين. عندما التحق 
بنا قادما من عقر القيادة العسكرية تحدث للمزة الأولى عقب رحيل 
روزفيتا: #يجب علينا نحن الأقزام والمهرجين أن لا نرقص على الخرسانة 
المسلحة التي لطت وتصلبت من أجل العمالقة وحدهم! يا ليتنا بقينا 
تحت المنصّات حيث لم يتوقع وجودنا أحد.» وفي برلين انفصلت عن 
بيبرا الذي ودعني بقوله «ما الذي ستفعله في ملاجئ الحماية من القصف 
الجوّي بدون صاحبتك روزفيتا!» ثم ابتسم ابتسامة رقيقة مثل نسيج 
العذكبوت» وقبّلني على جبهتي» وزو فيلكس وكيتي بالتصاريح الرسمية 
جعلهما يصطحباني حتى محطة القطارات الرئيسية فى غدانسك» واهدي 
ل الطبول الكنمنة المققية قن التجعية القية + فقدمت إلى العاصمة الوظية 
التي لم يئلها الشراب بعد حيث انبعث الصخب من كنائسها المشيدة منل 
القرون الوسطى ساعة إثر ساعة؛ من أجراس مختلفة الأحجام ومن أبراج 
متباينة الارتفاع؛ وصلتها في الحادي عشر من يونيو» أي قبل عيد الميلاد 
الثالث لابني بيوم واحدء مزوداً بالطبول وبكتابي الذي مازلت أحمله. 


كر 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


خلفاء المسيح 


نعم» العودة إلى الوطن! وفي تمام الساعة الثامنة مساء وصل قطار 
العائدين من الجبهة إلى محطة دانسغ الرئيسية. لقد أوصلاني فيلكس 
وكيتي إلى حد ماكس-هالبه-بلاتس» ثم وذعاني وذهبا إلى شعبة التوجيه 
الخاصة بهما فى (هوخشتيس؛. فأخذ أوسكار يجرجر نفسه وأمتعته عبر 
لابسفيغ قبل حلول الساعة التاسعة بقليل. فهي العودة إلى الوطن؛ وثمة 
عادة سيئة منتشرة هذه الأيام تجعل من كل شاب أقدم مرّة على تزوير 
كمبيالة الديون الشهرية؛ فانظم بسبب ذلك إلى فرقة المرتزقة» فتقدم به 
السنّ بعد بضع أعوام حين عاد إلى وطنه وصار يروي الحكايات عوليسا 
حديثاً. فهناك من كان يجلس في القطار الخاطئ بذهن شارد» فيذهب إلى 
أوترهاوؤة بذلا من قراتكفورت:» فبعيشن أخداثاً أثناء الطلريق - كين لا 
تتحقق له تلك المعايشة! - ثم يقذف حال وصوله بأسماء مثل الساحرة 
الإغريقية سرسه وعقيلة عوليس بينيلوبه وابنهما تيليماخوس. 

لكن أوسكار لم يصبح عوليساً لسبب واحدء وهو أنه عندما عاد إلى 
أهله وجد كلّ شيء على حاله مثلما تركه. فلم تكن عشيقته ماريا التي كان 
عليه أن يسميها بينيلوبه» لو كان هو نفسه عوليساً؛ مطوقة بالرجال 
المنتصبين» بل مازالت تحتفظ بماتسرات الذي وقع عليه اختيارها قبل 
رحلة أوسكار بزمن طويل. أتمنى أيضاً أن لا ينظر المثقفون منكم إلى 
روزفيتا المسكينة بسبب مهنتها السرنمية السابقة باعتبارها ساحرة الرجال 
سرسه. وفيما يتعلق أخيراً بابني كورت» فإنه لم يلق بالا لأبيه» فبدا مثل 
اتيليماخوس» حقَّاًء حتى لو أنه لم يستطع تذكّر أوسكار ثانية. 

فد 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وإذا كان لابد من المقارنة - إنني أرى العائد ملزماً دائماً بعقد 
المقارنات - فأحبٌ أن أكون بنظركم الابن الضال حسبما ورد في الكتاب 
المقدس؛ إذ أن ماتسرات هو الذي فتح الباب» فاستقبلني كما يستقبلني 
أب حقيقيّ و ليس أباً مفترضا. بلى؛ إنه فهم كيف يفرح بعودة أوسكار 
إلى أهله؛ بل ذرف دموعاً صادقة مذهولة» لدرجة أنني» اعتباراً من ذلك 
اليوم؛ لم أعد أطلق على نفسي اسم أوسكار برونسكي وحده؛ إنما 
أوسكار ماتسرات أيضاً. واستقبلتني ماريا بهدوء ورزانة» لكنها لم تكن 
خالية من اللطف. كانت تجلس إلى الطاولة وتلصق بطاقات التموين 
للمكتب الاقتصادي, وقد كرّمت على طاولة التدخين بعضاً من هدايا عيد 
ميلاد المغلفة. لقد فكرثٌ أوّل الأمر فى صحتي كما اقتضت طبيعتها 
العملية» ثم خلعت عنّي ثيابي وغسلتني مثلما كانت تفعل في الأزمان 
السابقة» متجاهلة حمرة خجلي» ثم أجلستني بمنامتي إلى الطاولة» حيث 
قدم لي ماتسرات طبقاً من البيض المقلي والبطاطس المحمّرة. فشربت 
إضافة إلى ذلك حليباً؛ وبينما كنت آكل وأشربء بدأت الاستفسارات 
والتساؤلات: «أين كنت؟ لقد بحثنا عنك في كل مكان؛ حتى الشرطة 
نفسها بحثت عنك بجنون؛ فكان علينا أن نؤدي اليمين» متعهدين أمام 
المحكمة بأننا لم نتخل عنك. والآن فأنت هنا أمامنا. لكنك فعلت الكثير 
من المتاعب وستفعلها في المستقبل؛ ويجب أن نقيدك في سجل الشرطة 
الرسمى مرّة أخرى. نتمنى أن لا يحشرونك فى المصحّة. نفأنت تستحقها. 
تهرب ولم تقل شيئاً!» ْ 

بيد أن ماريا أثبتت بأنها بعيدة النظرء فنشأت بعض المنغصّات. إذ 
جاء أحد موظفي وزارة الصححةء وتحدث مع ماتسرات على انفراد وبسرّية 
تامة» لكن ماتسرات صرخ بصوت عال يمكن سماعه بكل وضوح: «هذا 
مستحيل؛ لقد تعهدت بذلك لزوجتي وهي على فراش الموت؛ فأنا الأب 
وليس شرطة الصححّة!» وهكذا فإنني لم أدخل المصحّة. لكن منذ ذلك 
اليوم صارت تأتي رسالة رسمية كل أسبوعين» تطالب ماتسرات بإمضاء 
صغيرهء إلا أن ماتسرات كان يرفض الإمضاءء وفي مقابل ذلك أصبح 


8 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


وجهه عرضة للهمٌ والقلق. فتدخل أوسكارء إذ يجب أن تنبسط أسارير 
ماتسرات ذات مرّة. وفي مساء عودتي صار وجهه يشم متألقاء ولم يعد 
يشغل فكره في الأمر مثل مارياء بل أصبح نادراً ما يطرح أسئلة» مكتفياً 
بعودتى الميمونة» وأخذ يتصرف مثل أب حقيقى» فقال عندما أخذونى 
لكي أنام :عد الام اتروجتسكي المتدهحشة فلبلا ورالها عن ريد كه 
لكورت الصغير حين يعلم بأن أخاه عاد من جديد. وفوق ذلك كله 
سنحتفل غدا بعيد ميلاد كورت الثالث. »4 وعثر ابني كورت» في طاولة عيد 
ميلاده؛ على بلوزة حمراء غامقة حاكتها يد غريتشن شفلرء غير أنه لم 
يعرها اهتماماًء إضافة إلى الكعكة ذات الشمعات الثلاث. وثمة كرة من 
المطاط صفراء» فاقعة الصفرة» قد جلس عليهاء ثم صار يخبٌ بها ليطعنها 
أخيراً بسكين المطبخ؛ ثم مصّ من الجرح المطاطي ذلك السائل الحلو 
المذاق» المثير للغئيان الذي يترسب عادةً في الكرات المنفوخة كلها. 
حالما فرغ من بعج الكرة؛ بحيث أصبحت مسطحّة» بدأ كورت بتفكيك 
السفينة الشراعية حتى حولها إلى حطام. لكنه لم يمس السوط ولعبة 
الدوارة الصافرة» فبقيا جاهزين للاستعمال على نحو مخيف. 

كان أوسكار الذي فكر في عيد ميلاد ابنه كورت منذ زمن طويل» 
وعبجل قادماً نحو الشرق» منطلقاً من عمق الحدث الآني المغرق في 
وحشيته وعنفوانه؛ لكي لا يتخلف عن حضور عيد الميلاد الثالث لوليّ 
عهده: قد وقف إلى الجانب» يراقب أعمال التخريب» معجباً بالولد القويّ 
العزيمة» مقارناً بين مقاساته الجسدية ومقاسات ابنه؛ فاعترفت لنفسى 
متأملا يعن الشىء: بأن كورت باث أكثر طولاً منك أثناء غيابك4؛ فقد 
تتخاوز الستتمدراك الأربعة والتسعين التى اسنتطعت الاحتفاظ بها مثل عيذ 
ميلؤاذك الثالت الذى يعوة إلن مبعة عدراعاناً عفيت #4 تجاودها سقداز 
سنتمترين أو ثلاثة. لقد آن الأوان لتجعل منه طبالا وأن تهتف أمام هذا 
النمو المتعجل بمفردة اكفى!» 

وأخرجت طبل صفيح جديداً لامعا من جعبتي الفنيّة التي أودعتها مع 
كتابي التعليمي الضخم فوق سطح تجفيف الغسيل» خلف الآجرء وأردت 


الخو 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أن أمنح ابني الفرصة ذاتها - لأن البالغين لم يفعلوا ذلك - تلك الفرصة 
التي منحتني إِيّاها أمّي المسكينة؛ وفاءً بوعدها خلال عيد ميلادي الثالث. 
أصبح بإمكاني الاعتقاد» ولأسباب وجيهة» بأن ماتسرات الذي عينني زماناً 
لأستلم محل بضائع المستعمرات» صار يرى في كورت تاجر بضائع 
المستعمرات المستقبلي بعدما خيّبت ظنّه. وإذا ما قلت اليوم: بأن هذا 
العمل يجب أن يتقّى» فأرجو منكم لا تنظروا إلى أوسكار باعتباره عدوًاً 
صريحاً للتجارة بالمفرق. فحتى لو كنت أنا نفسيء أو ابني» موعوداً 
برئاسة مجموعة من المصانع» أو بوراثة مملكة مع مستعمراتهاء لتصرفت 
على النحو ذاته. إن أوسكار لا يريد أن يستلم أمراً عبر يد أخرى ثانية؛ 
فرغب لهذا السبب بالذات في أن يحمل ابنه على القيام بتصرف مماثل» 
لكي أجعل منه - وهنا بالتحديد يقع خطأي الفكري -«طال على الصفيع 
بأعوام ثلاثة ثة ثابتة» كما لو أن استلام طبل صفيح سوف لا يكون أمراً بشعاً 
بنظر إنسان فتيّ متفائل بمقدار البشاعة التي ينطوي عليها استلام محل 
لبضائع المستعمرات. 

وعلى هذا المنوال أصبح أوسكار يفكر اليوم. بيد أن رغبة وحيدة قد 
انتولك عليه آنذاك: كان القصد هو أن يصن ولداً طثالاً إلن جائب أت 
طبّال؛ بل كان القصد هو النظر إلى البالغين مرتين من الأسفل بالتطبيل» 
إضافة إلى تأسيس سلالة طبّالين قادرة على الإنجاب؛ إذ أن عملى يجب 
أذ يعفل عتقيسجه المظان بالأنيض «والأخير من جيل إلى جيل :. .فأى نحياة 
تلك التى مازالت قافية أمابنا! كان بمقدورنا أن نطبّل بجوار بعضناء لكن 
في غرف مختلفة» أو يقف أحدنا إلى جانب الآخرء لكن يمكن أن يكون 
هو في لابسفيغ وأكون أنا في لويزن شتراسه؛ أو هو في القبو وأنا على 
السطح. كورت في المطبخ وأوسكار في المرحاض . كان بمقدور الأب 
والابن أن يقرعا أحياناً طبل الصفيح معاً في هذا المكان أو ذاك» وأن 
تكون لدينا فرصة مناسبة لنددس تحت ثياب جدتي وأمّ جدّته آنا كولياجك» 
فنسكن هناك ونستنشق رائحة الزبد الزنخ قليلا. وسيكون بإمكاني مخاطبة 
كورت وأنا مقرفص أمام بوابتها بالقول: «انظر إلى الداخل يا ولدي؟ فإننا 


م 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كنا قد خرجنا عنه. وإذا ها أضبحت مؤدياً فإمكاتنا العودة إلبه سويعة أو 
أكثر» لنزور الجماعة المنتظرة هناك.؛ وسينحنى كورت أسفل الأثواب» 
زيرمقة ينظرة قم يسأل آبامة آناء يادت طالب منه تفسسيرأة قيهمسن اوسكار 
«تلك السيّدة الجميلة ذات الوجه البيضوي الناعم لدرجة أن المرء يود أن 
يبكي من نعومته» الجالسة في الوسط» وتعبث بيديها الرقيقتين» هي أمَي 
المسكينة؛ أي جدّتك الطيّبة التي عاجلتها المنية إثر وجبة من حساء 
الحنكليس» وبفعل قلبها البالغ الحلاوة.» 

وحينئذ سيلح عليّ كورت «تابع» يا باباء تابع! فمن هو هذا الرجل 
صاحب الشوارب؟» فسأخفض صوتي ساعتها على نحو مليء بالغموض: 
«هذا هو أبو جدّك؛ يوسف كولياجك. انتبه إلى عيئيه المتوهجتين 
المشعلتيّ الحرائق؛ انتبه إلى المغالاة البولنئدية الإلهية وإلى المكر 
الفاشوين العملن السكتر فرق عرق الأنك.. لاط درسات» الأفقية 
اللهعية بين اضابع قدميه. كان قد انزلق تحت ناقلة خشبية أثناء تدشين 
«كولومبس»»؛ فاضطر إلى العوم فترة طويلة حتى وصل إلى أمريكاء فأصبح 
مليونيرا. إلا أنه كان ينزل أحياناً إلى البحرء فيعود سباحة» ثم يختفي عن 
الأنظار هناء حيث كان يجد ملاذاً باعتباره مشعل حرائق» فيتبرع بحصة من 
ماله لأمّي . ؛ 

«غير أن هذا السيّد الجميل الذي اختفى آنذاك تحت ثياب السيّدة التي 
هي جدّتي؛ ثم جلس الآن إلى جانبها وأخذ يتحسس يديهاء عيناه زرقاوان 
مثلك يا بابا!» وسأضطر في تلك الحالة إلى لمّ أطراف شجاعتي لكي 
أستطيع الإجابة على سؤال ولدي المهذّب» بصفتي ابنأ خسيساً خائناً: 
«هاتان هما العينان الساحرتان لبرونسكي اللتان تنظران إليك يا ولدي 
كورت. بيد أن نظرك رماديّ في الواقع؛ لأنك ورثته عن أمَك. ومع ذلك 
فأنت رماديٌّ النظرة مثل يان الذي كان يقبّل يد أمَى المسكينة الذي هو 
كاشوبيّ رائع وواقعي مثل أبيه فنسنت. وذات 5 ستنعود إلى هناك» 
لنقتفي أثر المنبع الذي يشيع رائحة الزبد الزنخ قليلاً؛ فأبتهج فرحا!» 

ووفقاً لنظرياتي فإنّ السابقة الحياة العائلية الحقيقية ستتأسس في 


4١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


أعماق جدّتي كولياجك قبل كل شيء؛ أو في شكوة الزبد التابعة للجدّة 
كما أسميها مزحاً. وبما أنني مازلت إلى يومنا هذا قادراً على الوصول إلى 
الأب» بل إلى ماهو أهمّ من ذلك» أي الوضوك إلى الابن المحلي 
والروح القدس بشكل شخصيّ» وبطفرة واحدة من إبهامي؛ متجاوزاً ذلك 
أيضاًء وبما أنني ألزمت نفسي بخلافة المسيح دون رغبة كما هو الحال مع 
وظائفي الأخرى كلّها؛ فإنني أتخيّل الدخول إلى جدّني الذي لم يكن هناك 
ما هو أصعب منه؛ خالقاً أجمل المشاهد العائلية في حلقة أسلافي. 

وهكذا أصبحت,ء ولاسيما في الأيّامِ الماطرة» أتخيّل: جدتي وهي 
تبعث الدعوات» فنجتمع كلّنا في بيتهاء فيأتي يان برونسكيء شاكاً في 
جروح صدره البولندي المدافع عن البريد» زهوراً» زهور قرنفل على سبيل 
المثال. ثم تقترب ماريا التي تلقت دعوة بناءً على توصية مني؟ تقترب من 
أمّي بوجلء فتظهر لها سجل المحل الذي بدأته أمّي وواصلته ماريا بشكل 
لا غبار عليه؛ لعلها تحظى بودّهاء فتطلق أمّي ضحكتها الكاشوبية 
المقتضبة» وتجذب حبيبتي إليهاء ثم تقبّل خذهاء وتغمز لها بعينها: «لكن 
يا بنيتي ؟ لاتؤنبى نفسك. أنا وأنث كنا مترزوجتين من ماتسرات وكنا نغيل 
يان!» وكان على أن أمتنع عن متابعة تصوراتي» كأن أتخيّل مثلاً ابنأ أنجبه 
يان وحملت به أمّي في أعماق الجدّة كولياجك» ثم ولد أخيراً على شكوة 
الزبد. إذ أن حالة كهذه ستجرّ معها بلا شك حالة أخرى. فمن المحتمل 
أن يقع أخي غير الشقيق شتيفان برونسكي الذي ينتمي في نهاية المطاف 
إلى هذه الحلقة على الفكرة البرونسكية ذاتهاء فيقذف فى البدء ماريا 
بنظرة» ثم يقذفها عما قريب بشيء آخر. لذلك حيّذت مخيلتي أن تفتصر 
على لقاء عائلي بريء؛ يتيح لي التخلّي عن الطبّال الثالث والرابع» مكتفياً 
بأوسكار وكورت» فأروي بطبلي الصفيح على الحاضرين شيئاً عن برج 
أيفل الذي عوضني عن الجدّة في البلاد الغريبة» شاعراً بالفرح إذا ما وجد 
الضيوف» بمن فيهم آنا كولياجك؛» متعة في عزفنا على الطبل» فيقرع 
بعضهم ركبة الآخرء ملتزمين بالإيقاع . 

وهكذا توجب على أوسكار أن يتمسك من جديد- لأنه كان مجرد 


>5 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أب مفترض مثل ماتسرات - بوقائع الثاني عشر من يونيو / حزيران من 
العام الرابع والأربعين» أي بعيد الميلاد الثالث لكورت» مهما كانت أعماق 
الجدة مغرية من أجل إجلاء العالم وشؤونه. فأكون متعدد الاهتمامات على 
مستوى محذدد. 

وأعيد القول هنا مرّة أخرى: بأنَ الصبي حصل على بلوزة وكرة 
وسفينة شراعية وسوط ولعبة الدوارة الصافرة؛ وكان من المنتظر إضافة إلى 
ذلك أن يحصل مني على طبل صفيح أبيض-أحمر الطلاء. حالما فرغ من 
نفكيك السفينة الشراعية» اقترب منه أوسكارء مخفيأ هدية الصفيح خلف 
ظهره» وقد جعل طبله المستعمل يتدلى على بطنه. فوقفنا قبالة بعضنا على 
مسافة خخطوة واحدة: أوسكار القزم وكورت القزم الآخر الذي كان أطول 
من أوسكار بسنتمترين. بدا وجهه متجهما وشريرا - لقد انشغل بتحطيم 
السفينة حتى تلك اللحظة - وفي اللحظة التي رفعت فيها الطبل إلى الأعلى 
انهار آخر شراع من السفينة الكثيرة الأشرعة التي حملت اسم «بامير». فترك 
كورت الهيكل يتداعى؛ وتناول الطبل» وظل ممسكا بهء ثم أخذ يقلبه؛ 
فلاح شيء من الهدوء على ملامحه التي لم تزل متوترة. فبات الوقت 
مناسباً لكي أرفع أمامه مضربي الطبل؛ إلا أنه» للأسف الشديد» أساء فهم 
هذه الحركة المزدوجة» فشعر بنفسه مهدداًء فأسقط المضربين الخشبيين 
من يديّ بحافة الطبل» ثم مد يده خلفه حين انحنيت لألتقط المضربين» 
فصفعني بهديّة عيد ميلاده بعدما قدمت إليه خشبتيّ التطبيل مرّة أخرى: 
لقد أصابني أناء وليس اللعبة الدوّارة» أصاب أوسكارء وليس الدوارة 
المخددة لهذا الغاية» بل أراد أن يعلّم أباه الأزيز والدوران» فجلدني 
بالسوط ؛ انتظر يا أخيّاه! هكذا جلد قابيل هابيل إلى أن استدار هابيل وأخذ 
يغنى أغنية الدوارة» » بصوت خفيض فى البدءى. مكركيها : ثم صار يزداد 
خفّة وسرعة ودقّة؛ فاستحالت الغمغمة الفبّة إلى غناء راق. استدرجنى 
قابيل بسوطه إلى الارتقاء عالياً» حتى أصبح صوتي وفيا فصدح المغني 
القرّي الصوت منشداً صلاته الصباحية» بلا شك أن الملائكة التى قدت من 
الفضة تغنى على هذا المنوال» أو جوقة الفتيان المنشدين فى فييناء 


27 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الخصيان المهذبين تهذيباً صارماً - فلابد أن يكون هابيل قد غتّى على هذا 
النحو قبل أن يرتد على عقبيه» مثلما سقطت منهاراً تحت سياط الصبي 
كورت. 

وحين رآني منهاراًء مولولاً على نحو بائس» أخذ يجلد هواء الغرفة» 
كما لو أن ذراعه لم تكتف بما فعلته بي. كان قد وضعني أثناء المعاينة 
المستفيضة للطبل نصب عينه بتوجّس تام. في البدء صفق الطبل المطلي 
بالأبيض والأحمر بقائمة كرسيّ» ثم سقطت الهديّة على الأرضية الخشبية» 
فأخذ كورت يبحث عنها حتى عثر على الهيكل المتين للسفينة الشراعية 
سابقاًء فضرب الطبل بكتلة الخشب تلك. لم يكن قد طبّلء بل حظم 
الطبل. فلم تحاول يده تجريب أي إيقاع مهما كان بسيطا. بدأ يصفع 
الصفيح برتابة وبوجه عابس متوتر بحيث أن الصفيح لم يضع في حسابه 
طبالا كهذاء ذلك الصفيح الذي كان بمقدوره أن يحدث زوبعة لعوبة لو 
عرّف عليه بمضارب خفيفة؛ غير أنه لم يكن يتحمل صدمات هيكل 
مدكوك. فانثنى الطبل؛ وحاول أن يتجنب الضربات عبر تحرره من 
الإطار. وأراد أن يبدو غير مرئىّ حين تخلى عن الطلاء الأبيض الأحمرء 
دافعاً بالصفيح الرمادي إلى التوسل بالرحمة. لكن الابن لم يظهر أي شفقة 
إزاء هديّة الوالد الخاصة بعيّد الميلاد. عندما حاول الأب التوسّط مرّة 
أخرى» فتقدم من الابن زاحفاً على الأرضية على الرغم من الآلام الكثيرة 
المتزامنة» فوقع من جديد تحت رحمة السوط: كانت اللعبّة الدؤارة تعرف 
هذا السيّد السوطء فنفض يده عن الدوران والدمدمة» وتخلّى الطبل بدوره 
نهائياً عن الطبّال الشديد الحساسيّة المثير لزوابع التطبيل الذي كان يخلط 
المعزوفات خلطأ عنيفاً لكنه لم يكن فظا. عندما دخلت ماريا أصبح الطبل 
فى عداد النفاية» فحملتنى على ذراعها وقبلت عينيّ المتورمتين وأذنى 
الجربيحة: ولعقت دمي يدي المليئة بالخدوش . 1 1 

فيا ليت ماريا لم تقبّل فقط الطفل المنكل به الشاذ والمتخلّف والسيئ 
الحظ! ويا ليتها تعرفت على الأب المضروب وتعرفت على الحبيب عبر 
كل جرح! فكم سيكون ذلك عزاءً كبيراًء وكم سأكون لها بعلا حقيقياً سرياً 


ع 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أثناء تلك الشهور القادمة المظلمة. ووقع المصاب أوَّلاً على أخي غير 
الشقيق - دون أن يعني ذلك بالضرورة شيئاً ما لماريا -؟ شتيفان برونسكي 
الذي رُقي آنذاك إلى رتبة ملازم ثان» الذي حمل حتى ذلك الوقت لقب 
زوج أمّه إهلرزء وقع له ذلك بالصدفة المحض وهو على جبهة المحيط 
المتجمدء مما وضع تنقله في سلم الترقية العسكرية موضع الشك 
والتساؤل إلى الأبد. ففي الوقت الذي حمل فيه يان» أبو شتيفان» ورقة 
لعن (السكات) تحت قيضة عددها صنى عسدياً فق مقيرة سازبه؟ لأنه 
دافع عن البريد البولندي؛ فإن 0 العلبي الحديدئ مع البليقة الفايية 
وشعار سلاح المشاة-الهجومي أو ما سمّي بشارة اللحم المتجمد كانت 
تزين سترة الملازم . 

وفي أواخر يونيو / حزيران تعرضت الأمّ تروجنسكي إلى جلطة 
دماغية شحفيفة؛ لأن البريد حمل لها خبرا سينا كان ناتب الضابط فرتسن 
تروجنسكي قد سقط شهيداً من أجل ثلاثة أشياء مجتمعة في آن واحدء أي 
إند عت بكتان :من اجل القاندبويق أجل اشع وده اجن الوط 
حدث ذلك في جبهة القاطع الأوسطء فبعث أحد الضبّاط» وكان نقيباً 
يدعى كاناورء بمحفظة فرتس مع صور فتيات جميلات» ضاحكات على 
الأغلب» قادمات من هايدلبيرغ وبريست وباريس وباد كرويتسناخ 
وسالونيكي؛ إضافة إلى صلبان حديدية من الطبقتين الأولى والثانية» لا 
أعرف أي وسام منها كان مخصصاً للجرحىء وميدالية القتال بالسلاح 
الأبيض» ووشاحين مفصولين عن القيافة خاصين بسلاح مقاومة الدبابات؛ 
بعث بها مباشرة من الجبهة الوسطى إلى لابسفيغ في لانغفور. وقدم 
ماتسرات مساعدته بما استطاع» فتحسنت حالة الأمّ تروجنسكي قليلاًء هذا 
إذا لم تكن قد أصبحت جيّدة. كانت تتشبث ل 
النافذة» وتريد أن تعرف منّى ومن ماتسرات الذي كان يصعد إليها مرتين 
ثلاثاً في اليوم؛ جَالا نه بعض الحاجيات» أين تقع هذه 0 
الرسطى؟؟ وهل هي بعيدة أو هل يمكن الوصول إليها بالقطار من يوم 
السبت إلى الأحد. وعلى الرغم من نواياه الحسنة» إلا أن ماتسرات لم 


16 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يستطع تزويدها بأي معلومات. وهكذا لم يبق أمامي أنا الذي تتلمذت 
جغرافياً على الأنباء الخاصة وتقارير الجيش الألماني إلا أن أقرع على 
طبلي أثناء ساعات العصر الطويلة أمام الأمّ تروجنسكي الراسخة في 
مكانهاء المترنحة الرأس» بعض التصورات والروايات عن الجبهة الوسطى 
المتنقلة باستمرار. 

لكنّ ماريا التي كانت متعلقة جدّاً بفرتس المرح اللطيف أصبحت 
متديئة» فحاولت فى البدء تطبيق ما تعمله من دينهاء وصارت تذهب كل 
أخد إلى القميس ععيت في كتيبنة المسيع» ركان ماتسيرات يرائقها اعياناً 
على الرغم من أنها كانت تود الذهاب بمفردهاء بيد أن القدّاس 
البروتستانتي لم يشبع رغبة ماريا. وفي منتصف الأسبوع - هل حدث ذلك 
يوم الخميس أو الجمعة؟ - أخذتني ماريا معها قبل موعد إقفال المحلآت 
وقبل أن يغادر ماتسرات الدكان» اصطحبتني معهاء أنا الكاثوليكي» 
ومضينا في اتجاه نوير ماركت» ثم انحرفنا في أليزين شتراسه ومن بعدها 
في مارين شتراسه» مروراً بالقصّاب فولغيموت» إلى أن بلغنا متنزه 
كلاينهامر - ففكر أوسكار في أننا سنذهب إلى محطة لانغفور» لنقوم 
برحلة قصيرة» ربما إلى بيساوء موطن الكاشوبيين - وذلك حين انعطفنا 
إلى اليسارء قبل نفق القطارات» حيث وقفنا ننتظر مرور أحد قطارات 
الشحنء إيماناً ما بدفع البلاء» ثم قطعنا النفق الذي كان الماء يقطر منه 
بشكل مقززء لكننا لم نواصل سيرنا إلى الأمام؛ حيث قصر السينماء إنما 
مشينا يسارا بمخحاناة سدة القطار. خحينغد اعذت اتن : إنا آنها 
ستجرجرني إلى برونسهوفرفيغ» حيث عيادة الدكتور هولاتسء أو أنها 
ستعتئق الكاثوليكية وتريد الذهاب إلى كنيسة-قلب-يسوع . 

كانت بوّابة الكنيسة تطلّ على سدّة القطار. بقينا واقفين بين السدّة 
والبوّابة المشرعة. حدث ذلك ذات أصيل متأخر في أغسطس كان هواؤه 
مشبعاً بالطنين. ثمة عاملات شرقيات عقدن رؤوسهن بمناديل بيضاء كنّ 
يحفرن ويجرفن خلفنا في الحصى بين أرصفة القطارات. فوقفنا وأخذنا 
نتطلع إلى باطن الكنيسة الكثيف الظلال المنعش البرودة. وفي المؤخرة 


5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تماماً ثمة عين ملتهبة بحدّة» تمارس الإغراء ببراعة - إنها الضياء الأبدي! 
ومن ورائنا توقفت العاملات الأوكرانيات عن النكش والجرف فوق سذة 
السكك الحديدية. إذ كان هناك نفير بوق» فثمة قطار اقترب» بل قدم 
هاهناء ليتوقف ولم يتابع طريقه؛ لكنه تحرّك من جديد وانطلقت الصفارة» 
فعادت الأوكرانيات إلى الجرف والنكش. بدت ماريا مترددة» لا تعرف أي 
قدم ستقدمها على الأخرىء ملقيةً المسؤولية عليّ أنا الذي كنت قريباً من 
الكنيسة المنقّذة منذ ولادتي وتعميدي؛ فتركت ماريا أمر القيادة لأوسكار 
للمرّة الأوّلى منذ أعوام» أي منذ الأسبوعين المليئين بالحبّ والمسحوق 
الفوّار. 

وهكذا ودّعنا سدّة القطار وأصواتها وشهر أغسطس وطنئينه فى 
الخارج» فتذكرت بلوعة القدّاسات الكنسية ومكاتب الأساقفة يعثرات 
المساء والاعتراف بالخطايا أيَام الآحاد التي كنت أشهدها برفقة أمّي 
المسكينة» وأنا أ تقر الطيل بأاملي على شحو متراخ تحت جابابي الأبيض» 
زاركا 00 وللوعة أن يتخذا الصفة التي يشاءان؛ بل تذكرت أمّي 
المسكينة التي أصبحت متدنية |* ثر علاقتها المشبوبة بيان برونسكي» فصارت 
تذهب كل أحد إلى الكئيسة لتعترف بخطاياهاء وتشد من عزيمتها بتناول 
أقراص القربان المقدسء, لكي تلتقى خلال الخميس المقبل بيان فى جادة 
النجارين وقد خففت عن نفسها وصارت تنضح بالعافية. ماذا كان اسم 
حضرته آنذاك؟ كان حضرته يدعى فيهنكه» ومازال إلى اليوم راعيا لكنيسة- 
قلب-يسوع؛ يلقي مواعظه بصوت خفيض عذب وغير مفهوم ثم يرل 
شهادة الرسل على نحو رقيق باك» بحيث أن قدراً من الأيمان أوشك آنذاك 
أن يتسلل إلى قلبي أنا بالذات لو لم يكن المذبح الجانبي الواقع على 
الشمال موجوداً ومعه السيّدة العذراء والصبي يسوع والفتى يوحنًا 
المعمدان. ومع ذلك؛ فإن هذا المذبح هو الذي حملني على سحب ماريا 

أشعة الشمس إلى البوّابة ومن ثمة إلى قلب الكنيسة عبر البلاط . 

كان أوسكار متمهلاًء فجلس على مقعد خشب البلُوط إلى جانب 
ماريا بهدوء وبأعصاب أخذت تبرد على الدوام. لقد مرّت أعوام طويلة» 


/ا 5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لكن بدا لي وكأن الناس أنفسهم مازالوا ينتظرون أذن حضرة القسيس 
ويقلبون في صفائح التساؤلات المتعلقة بالذنوب وفق المنهج المنتظم. 
جلسنا على انفراد إلى حدّ ماء قرب الجناح الأوسط للكنيسة. أرادت أن 
أترك الخيار لماريا نفسها فأخفف عليها الأمر. إذ أنهاء من ناحية» لم 
تكن قريبة من كرسي الاعتراف بشكل يثير الاضطراب» فكان بإمكانها أن 
تصبح كاثوليكية على نحو هادئ وبصفة غير رسمية» لكنها رأت؛ من 
ناحية أخرى»؛ عملية التحضير للاعتراف» فكان باستطاعتها أثناء المراقبة أن 
تتخذ قراراً كأن تجد طريقها إلى أذن حضرة القسيس وهي جالسة في 
صندوق الاعتراف» أو أن تناقش معه تفاصيل انتسابها إلى الكنيسة 
المنقذة. لقد شعرت بالشفقة والرثاء على حالها حين جثت على ركبتها 
أمام الرائحة والغبار وزخارف الجبس وأسفل الملائكة الملتويين والضوء 
المنكسر والقديسين المتشنجين وأمام المذهب الكائوليكي العذب المليء 
بالآلام وتحته وما بينه لتضرب علامة الصليب بشكل مقلوب. فأخذ 
أوسكار ينقر لماريا بخفّة» وأطلعها على الطريقة الصحيحة؛ مظهراً لماريا 
التوّاقة إلى التعلّم كيف أن الأب والابن والروح القدس يسكئون خلف 
جبيئها أو عميقاً تحت صدرها أو عند مفاصل متكبيها بالضبطء وكذلك 
كيف يطبق المرء راحتيه» ليختم صلاته. فانصاعت لي ماريا ثم جعلت 
يديها ترتخي عند مرحلة الختام لتبدأ بالصلاة بعد الآمين. وحاول أوسكار 
في البدء أن يأتي على ذكر بعض الموتى ليصلي من أجلهم؛ لكنه أغرق 
نفسه في التفاصيل عندما توسل بربه ليترحم على روزفيتا فيدخلها فسيح 
جئاته ويمنّ عليها بالراحة الأبدية؛ أغرقها في تفاصيل دنيوية بحيث أن 
الراحة الأبدية والسعادة السماوية استقرتا أغيرا ني فندق باريسي. فأنقذت 
نفسي بصلاة القربان»ء حيث تجري الأمور على نحو غير إلزاميّ إلى حدٌ 
ماء فقلت من الأبدية إلى الأبدية» 72لا ةنال أع تدعت ,2002 تاناوكناى 
فهذا عمل كريم وعمل حقٌّ. مكتفياً بذلك القدرء وصرت أراقب ماريا من 
الجانب . 

كانت الصلاة الكائوليكية تليق بهاء فبدت فاتنةٌ جديرة بأن تُرسم أثناء 


214 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تعبّدها. فقد أطالت الصلاة من رموشهاء وزججت حاجبيهاء وسختت 
وجنتيهاء وأثقلت جبينها ثم جعلت الجيد لينناً وحرّكت طرفي أنفها. كاد 
وجه ماريا المترع بالحزن أن يغويني بالاقتراب منهاء لكن على المرء أن لا 
يعكر صفو المصلين» وأن لا يغويهم أو يقع تحت إغرائهم» حتى لو بدا 
ممتعاً بنظر المصلّي ومفيداً لصلاته حين يكون جديراً بتأمل المتأمل. ولقد 
انزلقت من خشب الكنيسة الأملس» واضعاً يديّ بأدبٌ على الطبل الذي 
قبب جلبابي. لقد هرب أوسكار من مارياء ووجد نفسه يخطو فوق 
الأرضية المبلطة؛ متسللاً مع الطبل حيث محطات طريق المسيح إلى 
الصلب في جناح الكنيسة اليسارء لكنني لم أتوقف عند القديس أنطونيوس 
- تقبّل الله دعاؤه -؟ إذ أننا لم نفقد محفظة نقودنا ولا مفتاح بيتناء وتركنا 
كذلك القدّيس أدالبيرت فون براغ الذي قتله البروزنيون البلطيقيون القدماء؛ 
تركناه ملقى إلى اليسارء بيد أننا لم نرتح لذلك» فصرنا نقفز من بلاطة إلى 
أخرى - كان يمكن استخدام الأرضية بمثابة رقعة شطرنج - إلى أن ظهرت 
السجادة المفروشة على مدرج المذبح في الجناح اليسار. 

ولعلّكم ستصدقونني إذا ما قلت بأن كنيسة-قلب-يسوع المقامة 
بالآجر على الطراز القوطيّ الحديث بقيت على حالها ومعها مذبح الجناح 
اليسار. فمازال الصبي عيسى الوردي اللون العاري يتربع على الفخذ 
اليسرى للسيّدة العذراء والتي لا أريد أن أسميها عذراء؛ لكي لا يتم الخلط 
بين السيّدة العذراء وماريا صاحبتى التى نوت الدخول إلى المذهب 
الكاثوليكي. وكان الصبي المعمدان» المتلفع بجلد الماعز الناعم البنيّ 
الذي لا يكاد يستر عورته. يقحم نفسه بإلحاح نحو الفخذ اليمنى للسيّدة 
العذراء» أمّا السيّدة نفسها فقد أشارت بسبابتها اليمنى إلى يسوع متطلعة في 
الوقت ذاته إلى يوحنًا. غير أن أوسكار لم يهتم بكبرياء الأمومة الذي 
أظهرته السيّدة العذراء حتى بعد أعوام طويلة من الغياب بقدر اهتمامه ببنية 
الصبيين. فعيسى كان تقريباً بحجم ولدي كورت في عيد ميلاده الثالث؛ 
أي أكير من اوسكار سشتعرين ‏ أنا يوحَتًا الذي كان اكبرستا أثناء 
الناصريٌ حسب الشواهد التاريخية فقد كان بحجمي. ألا أن كلاهما حمل 


ةا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ملامح النبوغ ذاتها المعروفة بالنسبة لأوسكار ذي الأعوام الثلاثة الثابتة. لم 
يتغيّر فيهما شيء أبداً؛ إذ أن علامات الذكاء الخارق مازالت تشع منهما كما 
في السابق عندما كنت أزور كنيسة-قلب-يسوع برفقة أمّي المسكينة قبل كذا 
وكذا من الأعوام. فتسلقت الدرجات عبر السسّجادة دون صلاة القدّاس 
الافتتاحية . فتفحصت الغضون والطيّات كلهاء وتحسست الجبس المصبوعٌ 
للفتيين العاريين بمضرب الطبل الذي كان أشدٌ رهافة من أصابعي جميعهاء 
مررت المضرب ببطءء دون أن استثني جزءاً: على الفخذ والبطن 
والذراع» وأحصيت طيّات الشحم ومواضع الخسوف - فهذه هي بنية 
أوسكار بالتمام والكمال» هذا هو لحمي المعافى وركبتي القوّية المكتئزة 
الشحمء وذراعاي المطبلتان القصيرتان» المفتولتا العضلات. فكان الصبي 
يشرع ذراعيه كما كنت أشرعهماء جالسا على فخذ العذراء رافعا ذراعيه 
وقبضتيه كما لو أنه موشك على قرع الصفيح» وكما لو أن يسوع نفسه كان 
الطبّال وليس أوسكارء وكما لو أنه لم يكن ينتظر سوى طبلي الصفيح» أو 
أنه عقد النيّة وبصورة جديّة لكي يعزف للعذراء ويوحّنا ولي أنا أيضاً بعض 
الأبقاعات المقيرة علي الطبل» - ْ 

وفعلت ما كنت أفعله قبل أعوام» أي أنني انتزعت الطبل المتدليّ 
على بطني وأعطيته ليسوع لامتحنه. فقمت بزحزحة صفيح أوسكار الأبيض 
الأحمر بتروّء لأثبته على الفخذ الورديٌّ؛ متخذاً الحذر لثلا أصيب الجبس 
المصبوغ بضرر. قمت بذلك ترضية لنفسي» وليس طمعاً بمعجزة كما 
يفعل الأحمق» بل أردت رؤية العجز مجسّداً أمامى؛ إذا أنه حتى لو جلس 
بالطريقة الصحيحة مشرعاً يديه» أو حتى لو تمتع بحجمي وبنيتي المتيئة» 
ممثلاً ببساطة؛ وهو فى الجبسء ذلك الفتى الثابت على أعوامه الثلاثة 
الذى احتفظت جه انا بيشةة وحرماة كبيزين: لكنه لم يستطع التطبيل» 
وسيفعل كما لو أنه يعرف قرع الطبل» فيفكر حينئذ يا ليتني كنت أعرف 
التطبيل» فأقول إنك لا تملك القدرة ولا الاستطاعة» ثم أثبّت المضربين 
في قبضتيه» » أحشرهما بين أصابعه الغليظة» عشرتهاء وأكوّر نفسي من 
فرط العيحكة ظثل يا بسوعة يا العلل القاس» طكل يا أيها الحبسن 


6 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المصبوغ» فتراجع أوسكارء نازلاً الدرجات الثلاث» مغادراً السجادة 
وصار يخطو على الأرضية المبلطة» طبّل يا يسوع الفتى» ثم تراجع 
أوسكار خخطوة إلى الوراء» مبتعداً مسافة؛ فضحك؛ لأن يسوع جلس 
هناك عاجزاً عن التطبيل» وربما رغب في التطبيل. -بدأ الضجر ينهشني 
مثلما ينهش المرء شحمة الخنزير- هنالك وأخذ يقرعء هنالك وصار 
يطبل! 

وفي الوقت الذي بقي فيه كلّ شيء ساكناً: بدأ يسوع يضرب يمنياً 
وشمالاً» ثم قرع الصفيح على نحو متقاطع بالمضربين معأء ولم يكن قرعه 
سيئاً في الواقع؛ بل قد فعل ذلك بجديّة وهمّة عاليتين» فكان يحبّ 
التنويع» جيّداً في الإيقاع البسيط» مثلما أجاد العزف المعقّد؛ متخليًاً عن 
الخزعبلات كلّهاء غير ملتزم إلا بالصفيح نفسه, فبدا لي كأن لا علاقة له 
بالتديّن» وكأنه ليس مرتزقاً متحمّساً إنما موسيقي خالص» لم يستدكف 
من أيّ أغنية شائعة؛ فأتى بلحن كان على ألسنة الناس جميعهم آنذاك «كل 
شيء سيمرٌ بسلام»» وبالطبع أغنية «ليلي مارلين» الشهيرة» فأدار رأسه 
وخخصلاته والعينين الزرقاوين اللتين تشبهان عيون آل برونسكيء بل ربما 
أدار رأسه دفعة إثر أخرىء ثم ابتسم بشيء من الترفع والغطرسة؛ محيلاً 
مقطوعة أوسكار المفضلة إلى لحن مختلط» فبدأ على النحو التالي: 
«زجاج» زجاج»؛ زجيّج». ثم مر بطريقه على اجدول الدروس»؛ كان 
الف قن ارس الوشعة بين شو وو اندوقت تبان سانا قولف ولق 
معي البرج ذا الطوابق» زاحفاً معي تحت المنصّةء وأصطاد سمك 
الحنكليس في سدّة المرفأء ثم خطا إلى جانبي وراء تابوت أمّي المسكيئة 
الضيّق عند القدمين» وكان يجد طريقه إلى أسفل ثياب جدّتي آنا كولياجك 
كل مرّة من جديد» .مما جعلني أشعر بالذهول أكثر فأكثر. وحيطد اقترب 
أوسكارء فثمة شيء جليه: ناراد انيلا القباط» إذ لم يعد راغباً في 
الوقوف على الأرضية المبلطة. فسلمته درجة مذبح إلى أخرى. وهكذا 
صعدت إلى الأعلى, متمنياً أن يترجل . فاستجمعت بقايا صوتى وهتفت 
به: «يا يسوع أننا لم نعقد رهاننا بهذا الشكل . وح اسه ل طن 


6١ 
1 1_طماع1© :ع1 آنلا‎ 


حالاًء ففي حوزتك الصليب» ولابد أن تكتفي به!» فأنهى التطبيل دون أن 
يقطعه على حين غرّة» ثم عقد المضربين فوق الطبل بعناية مبالغ فيهاء 
وناولني» وبلا اعتراض» طبل الصفيح الذي أعرته إيّاه على نحو طائش. 
وأوشكت أن أهبط على عجل» بسرعة عشرة شياطين» دون كلمة شكرء 
وأخرج من الكاثوليكية برمتهاء إلا أن صوتاً لطيفاً؛ حتى لو كان آمراًء قد 
لامس كتفي : «ألا تحبني يا أوسكار؟؛ فأجبت دون أن ألتفت: ١لا‏ أعلم 
ذلك.» فأردف بالصوت نفسه دون أن يرفعه قيد شعرة: «ألا تحبني يا 
أوسكار؟؛ فرددت عليه بجفاء: «آسف تماماء ليس هناك أي أثر للحب!» 
فأضجرني للمرّة الثالثة : «ألا تحبني يا أوسكار؟» حينئذ جعلت يسوع يرى 
وجهى: «إننى أكرهك يا صبىء أنت وأقاويلك ودعاواك الفارغة جملة 
وتقسيلاا» وكاة معنا يسعب لعن أن ادعاني قد أعائه على تتمقيق النطتاز 
صوتيّ» فرفع سبابته مثل معلّمة مدرسة شعبية وكلفني بمهمة: «إنك 
أوسكار الصخرة؛ وعلى هذه الصخرة أريد أن أقيم كنيستي؛ فاتبعني!» 

اليو اده و عد ١‏ مما لقد جعلني 
الغضب أقشعر مثل جلد دجاجة الحساء» فكسرت أ حد أصابع قدمه 
المجصصة, لكنه لم يحرّك ساكنا. فقال أوسكار بصوت مشبع بالفحيح: 

ل فتقدم وقتئذ 
ذلك الرجل العجوز الذي كان يأتى كل مرّة» العجوز الذي كان يجوب 
الكنائس كلّهاء وألقى التحية على الملييع الجانبي اليسار؛ لكنه يلحظ 
وجودي» فأخذ يجرجر أسلابه حتى بلغ «آدالبيرت فون براغ؟, فتعثرت 
بالمدرج حين هبطت من السجادة إلى البلاط؛ وعثرت على طريقي إلى 
ماريا عبر رقعة الشطرنج دون التفات إلى الوراء؛ فوجدت ماريا تضرب 
للتو علامة الصليب الكاثوليكية بشكل صحيح حسب تعليماتي. فأمسكت 
بيدهاء وقدتها إلى حوض الماء المقدذسء» ثم تركتها تضرب علامة الصليب 
ثانية في منتصف الكنيسة في اتجاه المذبح بالقرب تماماً من البوّابة 
الخارجية » لكنني لم أشاركها بما فعلت» إنما سحبتها نحو الشمس عندما 
أوشكت أن تجثو على ركبتها. 


1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


وبات الوقت مساءً وكانت العاملات الشرقيات قد غادرن سذة 
القطارات» فحلّ في مكانهن قطار شحن تمٌ تحويل سكته قبل محطة 
ضاحية لانغفور بمسافة قصيرة. بدا البعرض معلقاً في الهواء كالعناقيد» 
والأجراس تقرع من الأعلى؛ لكن أصوات التحويل ابتلعت رنين 
الأجراس» وبقى اللعوفن تعلق #العقاقيل: حينئذ ران البكاء على وجه 
مارياء بيئما ود نكاد أن يصرخ: : ما الذي سأفعله بيسوع؟ كان عليّ أن 
أشحن صوتي! لكن ما علاقتي أنا بصليبه؟ فقد كنت أعلم تماماً بأن صوتي 
سوف لا يرقى إلى مصاف نوافذ كنيسته. عليه أن يواصل تشييد معبده على 
أكتاف أناس يدعون بطرس أو ابيتري) أو ابيتريكايت»؛ حسب اللهجة 
البرويسية الشرقية. فهمس الشيطان في أعماقي «كن حذراً يا أوسكار واترك 
نوافذ الكنيسة بسلام؛ إذ أن سرع اتيتنيق عليك صرقك :© ريراك على للك 
قذفت فقط بنظرة واحدة إلى الأعلى» وأخذت قياسات النافذة المصممة 
على الطراز القوطيّ الحديث؛ ثم انتزعت نفسي منه» دون أن أطلق صوتي 
عليه» أو أتعقبه» بل سرت على مهل إلى جانب ماريا حتى نفق شارع 
المحطة. حيث عبرنا النفق الذي كان يقطر ماءًء طالعين نحو 
كلاينهامربارك؛ ثم انحرفنا يميئاً في مارين شتراسه؛ مروراً بالقصّاب 
فولغيموت» ومن ثمة دخلنا يسارا في «إلزين شتراسه»؛ ومن هناك إلى 
نويرماركت عبر شتريسباح؛ حيث كانوا يقيمون بركة مياه لإطفاء حرائق 
القصف الجوّي. كانت جادة لابسفيغ طويلة» ومع ذلك وصلنا: فانفصل 
أوسكار عن ماريا وطلع الدرجات التسع عشرة إلى سطح المبنى» 
نُشرت الملاءات» وخلف الملاءات تكرّم رمل مكافحة الحرائق 
الرمل والجرادل وأكوام الجرائد وأحجار القرميد رقد كتابي واحتياطي 
طبولي المتبقي منذ زمن المسرح الميداني. كانت هناك بضعة مصابيح لها 
شكل الكمّثرى لم تزل موضوعة في إحدى علب الأحذية. فتناول أوسكار 
وَل واحد منهاء فحطمه بصوتهء ثم تناول الثاني فأحاله إلى تراب 
زجاجيّ» كما أنه فصل عن المصباح الثالث الجزء السميك» وحطم 
حروف يسوع المكتوبة على المصباح الرابع بقوّة صوتهء محؤّلاً الزجاج 


“م6 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


والكتابة معاً إلى مجرد مسحوق» وأراد أن يكرر ذلك» إلا أن المصابيح 
نفدت. فتهالكت على رمل الحماية مرهقاً: إن أوسكار مازال يحتفظ 
النافضون حواربي . 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الناقضون 


وحتى لو لم يكن أوسكار صالحاً لخلافة المسيح بسبب صعوبات 
جمع الحواريين التي لا يمكن تذليلهاء فإن التكليف السابق استأثر بسمعي 
عبر هذه الطرق الملتوية أو تلك؛ وجعلني أصبح خليفة» على الرغم من 
أنني لم أكن آمنت بسلفي. وطبقاً للقاعدة التي تقول بأن: كلّ من يشكٌ 
سيؤمن فيما بعد وكل من لا يؤمن سيكون إيمانه أطول زمناً من إيمان 
الآخرين؛ فإنني لم أتمكن من دفن المعجزة الصغيرة التي قدمت لي بشكل 
شخصي في كنيسة-قلب-يسوع في غياهب الشكُ؛ بل حاولت استمالة 
بسوع لعله يعيد تقديم عروض تطبيله. وكان أوسكار قد زار كنيسة الآجر 
الآنفة الذكر مرّات عديدة بدون ماريا. فكنت غالبا ما أفلت من قبضة من 
الأمّ تروجنسكي التي كانت تجلس متصلبة في الكرسي بحيث أنها لم 
تستطع اعتراض طريقي . فما الذي يمكن أن يقدمه لي يسوع؟ ولماذا كنت 
أقضي أنصاف الليالي في جناح اليسار من الكنيسة؛ تاركاً الشمّاس يقفل 
الباب عليّ؟ وَلِمَ صم أوسكار أذنيه أمام المذبح الجانبي فجعلهما تصبحان 
كالزجاج الصلب؛ بل جعل كل عضو يصاب بالتشنج؟ لأنني لم أحظ 
بطبلي ولا بسماع صوت يسوع على الرغم من خشوعي الضروس 
وتجديفي الضروس أيضا. 

إنه المزمور الخمسون! وأنا لم أسمع نفسي» وطوال حياتي» أطقطق 
هكذا بأسناني مثلما فعلت آنذاك على بلاط كنيسة-قلب-يسوع عند 
منتصف الليل. فأي مهرّج سيجد ضارب صئاجات أفضل من أوسكار؟ لقد 
استطعت محاكاة قاطع جبهة حربية مليء بالبنادق الآلية المسرفة في إطلاق 


5*6 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الرصاص» ثم وضعت بين كفي إدارة مؤسسة تأمين كاملة بفتيات مكاتبها 
وآلاتها الطابعة. فثمة شىء كان يدورّي هنا وهناك مولدا صدى واستحسانا. 
حيتئذ أصيبت الأركان والدعائم برعشات البرد والقباب بالقشعريرة» فصار 
سعالي يحجل على ساق واحدة فوق رقعة شطرنج البلاط؛ راجعاً عبر 
درب الصلب» مخترقاً الجناح الأوسط إلى الأعلى» حتى وصل إلى جوقة 
الإنشاد» فسعلت ستين مرّة - جوقة إنشاد الموسيقار باخ لكنها لم تنشد 
شيكاء إنما كانت تتمرن على السعال - وحين ساورنى الأمل بأن سغال 
أوسكار زحف إلى قضبان الأرغن» معلناً عن نفسه أُوَّلاً أثناء تراتيل الأحد 
- فتعالى السعال وسط غرفة المقدسات وملابس الكهنة ثم اعتلى المنبر» 
ليحتضر أخيراً وهو يسعل خلف المذبح الرئيسي» في ظهر لاعب الجمباز 
على الصليب - ثم سعل روحه على عجل. لقد تحقق الأمر؛ فسهلت 
سعالي» ألا أنه لم يتحقق شيء خلال ذلك الوقت. فبقي الصبي يسوع 
ممسكاً بمضربيّ بوقاحة وتشئّج. واضعاً طبلي على الجبس الوردي دون أن 
يطبل» وكذلك لم يؤيد قضيّة خلافتي. فقد كان أوسكار يودٌ لو أنه حصل 
على مبايعته بالخلافة الموصى بها له بصورة خطيّة. ومنذ ذلك الوقت 
أصبح إطلاق السعال المتواصل أثناء زيارة الكنائس» بما فيها الكاتدرائيات 
الشهيرة عادة حسنة أو سيئة بالنسبة لى؛ فكنت أطلق السعال حالما أطأ 
الأرضيات المبلطة؛ فيتجلّى حسب الطراز المعماري والارتفاع والعرض» 
فيكون إِمَا قوطي أو رومانتيكبّاً أو حتى باروكيّاً؛ وأتيح لي بعد أعوام أن 
أقلّد صدى سعالي على طبل أوسكار في كنيسة أولم العملاقة أو الكئيسة 
الأسقفية الشباير». ولأنني أخضعت نفسي آنذاك لتأثير المذهب الكاثوليكي 
البارد برودة القبر فى منتصف شهر أغسطس فبدا من الصعب التفكير فى 
السياحة وزيارة الكثائس فى البلدان البعيدة» إلا إذا كان المرء منتسباً إلى 
القرّات المسلحة ومشاركاً في الوقت ذاته بالانسحاب المنظم» ليدوّن ريما 
في دفتر مذكراته العبارة التالية: «نقد أخلينا اليوم بلدة «أورفيتو؛» وكانت 
فيها واجهة كنيسة مدهشة» وسأزورها بعد الحرب برفقة مونيكاء لأتفرّج 
عليها عن كثب.» وكان من السهل عليّ أن أصبح من زوّار الكنائس 


05 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الدائمين» إذ لم يكن هناك ما يسليني في البيت. فكانت هناك مارياء لكن 
لماريا ماتسرات» وكان هناك ابني كورت» لكن هذا الوغد أصبح لا يطاق 
على الدوام» فصار يذر الرمل في عينيّ»ء ويخدشني لدرجة أن أظفاره تظل 
نابتة في لحمي الأبويّ. كان لابني قبضتان ضاربتان لهما براجم بيضاء 
يكفي منظرها وحده ليجعل الدمّ ينهمر من أنفي. ومن الغريب حقّاً هو أن 
ماتسرات بدأ يعتنى بى بحرارة صادقة» وإن خلا اعتناؤه من المهارة. وكان 
بجا يعو إلى الدهقة عو أن أوسكار قل ,أن ياغذة ماتسرانف» الذي كان 
أوسكار ينظر إليه بعدم اكتراث» في أحضانه ويضمّه إليه ويمعن النظر فيه» 
بل أنه كان يقبّله أحياناً حتى تترقق مقلتاه بالدموع» فكان يخاطب نفسه أكثر 
مما يخاطب ماريا: «كلا؛ إن هذا لا يجوز. فمن المستحيل أن يفعل المرء 
بابنه هذا الشيء. حتى لو كرر الأطباء كلّهم التشخيص ذاته عشرات 
المرّات. إنهم يكتبون التقارير هكذا بكل ببساطة. فهم ليس لديهم 
أطفال . » 

أمَا ماريا التي جلست إلى الطاولة لتلصق بطاقات التموين على 
صفحات الجرائد» مثلما كانت تفعل كلّ مساء فقد رفعت بصرها إلى 
الأعلى وقالت: «هذأ نفسك يا ألفريد! فأنت تتصرف وكأن الأمر لا 
يعنيني. لكن عندما يقولون إن الناس صارت تفعل هذا الشيء فإنني وقعت 
الآن في حيرة وما عدت أعرف الصحيح من الغلط.» فأشار مائسرات 
بسبابته إلى البيانو الذي لم تصدح منه الموسيقى منذ وفاة أمّي المسكينة : 
ابالتأكيد أن آغنس لن تفعل ذلك ولن تسمح به!؟ فرمقت ماريا البيانو 
بنظرة» ثم رفعت منكبيها وأنزلتهما حين تكلمت: «هذا شيء مفهوم» لأنها 
أمّهء وكانت تأمل دائماً أن تتحسن حالته. لكنك ترى بعينك اليوم كيف 
صار وضعه. فى كلّ مكان يقذفونه من واحد إلى واحد حتى صار ما يقدر 
على الحياة ولا على الممات!) فاستمد ماتسرات الْقَوّة من صورة بيتهوفن 
التي مازالت معلقة فوق إلبيانو تتفحص بتجهم هتلر المتجهم أصلاًء 
فصرخ: «كلا ثم كلاء أبداً!»؛ وضرب طوابع التموين الرطبة الملصوقة على 
الجرائد فوق الطاولة وطلب من ماريا أن تأتي له برسالة إدارة المصحة» 


/ضهمء 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فقرأها ثم قرأها ثانية فمزقها ورمى بها قصاصاتٍ ممزقة بين طوابع الخبز 
والسمن والطعام والسفر والأعمال الثقيلة والأعمال الشاقة وبين بطاقات 
المرضعات أو اللواتي سيصبحن أمهات . وإذا كان أوسكار لم يسقط بين 
أيدي أولئك الأطبّاء بفضل ماتسرات» فإنه رأى نفسه» ومازال يراها إلى 
اليوم؛ في المستوصف الساحر الواقع تحت أنقى هواء جبليٌ؛ حيث كان 
يرى غرفة عمليات حديثة لطيفة ساطعة النورء ويرى كيف أن ماريا 
الخجولة المبتسمة بثقة تسلمني أمام بوّابة غرفة العمليات المبطنة باللدائن 
إلى أطبّاء الدرجة الأولى الذين يبتسمون على نحو يوحي بالثقة؛ قابضين 
خلف مآزرهم البيضاء المعقمة على حقن من الدرجة الأولى توحي بالثقة 
وذات تأثير فوري. لقد تخلّى العالم عنّى برمته» ما عدا ظل أمّي المسكينة 
الذي كان يسقط على إصبع ماتسرات فيشله حين يوشك على توقيع كتاب 
رسمي قادم من وزارة صحّة الرايخ الألماني» مما أحال مرّات عديدة دون 
أن أغادر» أنا المقطوع المهجورء هذا العالم. 

لكن أوسكار لا يود أن يكون ناكراً للجميل؛ فإننى مازلت أحتفظ 
طبلي» وبضوتي الذي اليس من شأنه أن يقل لكم شيعا جديداً أنكم الذيق 
شهدتم نجاحاتي كلها في مواجهة الزجاج» ولعلّ من يحب التنوع بينكم 
سيشعر بالملل - بيد أن صوت أوسكار فوق الطبل كان بالنسبة لي دليلا 
نضراً أبداً على وجودي» إذ أنني طالما بقيت أحطم الزجاج» فأنا إذاً 
موجودء وطالما بقي نفسي الهادف يقطع أنفس الزجاج» فإن جذوة الحياة 
مازالت متقدةٌ في أعماقي. وكان أوسكار يغني كثيراً آنذاك» وكثيراً ما كان 
يغني بيأس . علباها أغادر قبت فلب -سوع في ساعة متأخرة كنت 
أحطم بصوتي شيئاً ما. فكنت أذهب إلى البيت» مستهدفاً حجرة سيئة 
التعتيم تحت السطح أو مصباح شارع بلون أزرق يتوهج بمقتضى إجراءات 
الحماية من القصف الجوّي. فكنت اختار كلّ مرّة طريقاً جديداً إلى البيت 
بعد زيارة الكنيسة. فذات مرّة قدم أوسكار إلى مارين شتراسه عبر أنتون- 
مولر-فيغ؛ ومرّة أخرى جرجر خطاه طالعاً «أوبهاغنفيغ»»؛ ملتفاً حول 
مدرسة كونرادينوم التي أطاح بزجاج بوّابتها أرضاًء قادماً نحو ماكس- 


4 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


هالبه-بلاتس عبر مستوطنة الرايخ الألماني. وعندما أتيت إلى الكنيسة 
متأخرأ ذات مرّة في نهاية شهر أغسطس ووجدت مدخلها مقفلاء عزمت 
ساعتها على اتخاذ طريق كثير التعرّج والالتواء» لعلّه يخفف من حدّة 
غضبي. فطلعتٌ شارع محطة القطارات صعوداًء محطماً كل ثالث مصباح 
فيه» ثم انعطفت خلف قصر السيئما في شارع أدولف هتلرء حيث أحلت 
الواجهة الزجاجية لثكنة سلاح المشاة إلى ركام ملقى على شمالهاء ثم 
خففت من سخونة جرأتي بترام كان خالياً تقريباً من الركاب قدم في 
اتجاهي من ناحية أوليفاء فانتزعت من طرفه اليسار جميع الزجاجات 
ا لمطلية بدهان التعتيم. 

لم يعبأ أوسكار بنجاحه» فترك الترام يزعق ثم توقفٌء ليترك الناس 
ينزلون؛ وصار أوسكار يبحث عن تحلية لغضبه؛ أي عن أكلة شهيّة في 
ذلك الزمن الفقير بالمأكولات الشهيّة؛ فبقي منتصباً فى حذائه ذي الرباط 
حين وصل إلى الطرف الأقصى من ضاحية لانغفور إلى جانب نجارة 
بيرنت الواقعة في ظلّ معسكر المطار الاحتياطي الشاسع» حيث أبصرت 
المبنى الرئيسي لمصنع شيكولاتة البلطيق يرقد تحت أشعة القمر. ولكن 
وحسب الطريقة المجربة . فأعطيت لنفسي وقتاء وصرت أحصى زجاجات 
النوافذ التى كان القمر قد أحصاها قبلى إحصاءاً أوليُّء فتوصلت التى 
النتيجة ذاتها التي توصل إليها القمرء وبات بمقدوري أن أبدأ بتقديم 
العرض. إلا أنني أردت أن أعرف فى البدء ما الذي نوى عليه المراهقون 
أولئك الذين كانوا يتعقبونني من هوخشتريس إلى هنا؛ ربما كانوا يسيرون 
تحت أشجار الكستناء المحاذية لشارع المحطة. كان ستة أو سبعة منهم 
يقفون أمام مظلة الانتظار أو في داخلهاء إلى جانب محطة الترام في شارع 
١هوهنفريدبيرغر».‏ وثمة خمسة آخرون اجتمعوا خلف الأشجار الأولى في 
الطريق العام المؤدي إلى تسوبوت. 

كنت أوشكت على تأجيل زيارة مصنع الشيكولاتة» متحاشياً المرور 
بالصبيان» أي أن أتخذ طريقاً ملتوياً» فأتسلل عبر جسر سكة القطار 


+1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بمحاذاة المطار» مروراً بالحدائق الصغيرة؛ لكي أصل إلى شركة البيرة 
التعاونية في كلاينهامرفيغ ؛ عندما سمع أوسكار صفيرهم المتعاقب» المتفق 
عليه والذي كان له طابع الإنذار؛ سمعته يأتي من ناحية الجسر. حينئذ لم 
يبق أدنى شك : كنت أنا المقصود بالاستعداد للزحف. فالمرء يبدأ عادةٌ 
في حالات كهذهء لاسيما خلال الفترة القصيرة التي يشخص فيها 
المتعقبون» قبل بدء المطاردة» بإحصاء آخر إمكانيات الإنقاذ بإسهاب 
وتلذذ: فأصبح بمقدور أوسكار أن يصرخ ملع قنه ميقا يماما وبابا. بل 
كان بإمكاني أن استحضر بطبلي كل شيء» أن آني بشرطي على سبيل 
الافتراض. إنني سأحظى بلا شك بدعم الكبار البالغين نظراً لهيثته» إلا أنه 
رفض معونة عابري السبيل البالغين ووساطة رجل الشرطة» رفضاً قاطعاً 
مثلما كان أوسكار يفعل أحياناً. فجازفت» مبتلياً بالفضول والثقة بالنفس» 
ففعلت أغبى ما كان يمكن أن أفعله: أخذت أبحث عن ثغرة في سياج 
معمل الشيكولاتة المطلي بالقطران» لكنني لم أعثر على ثغرة» فرأيت 
المراهقين يغادرون محطة الانتظار في موقف الترام وظلال أشجار طريق 
تسوبوت العام؛ متعقبين آثار أوسكار على امتداد السياج» وقدموا أيضاً من 
ناحية الجسرء ومع ذلك؛ فإن السياج الخشبي بقي خاليا من أي ثقب» 
لكنهم لم يتقدموا على عجلء بل جاءوا يسيرون الهوينى» متفرقين» بحيث 
أن أوسكار تمكن من مراصلة البحثء» لقد منحوني وقتا كافياً للعثور على 
فجوة في السياج» بيد أني أخيراً» عندما لمحت في السياج لوعة ناقصة» 
وعصرت نفسي بهذه الطريقة أو تلك عبر الشقٌّء ممزقا قطعة من ثيابي على 
شكل مثلث» وجدت نفسي أقف في مواجهة أربعة صبيان في الناحية 
الأخرى من السياج» مرتدين ستراً مشمعة؛ واضعين برائنهم في جيوب 
سراويلهم الضيقة التي دست أطرافها في الأحذية ويهزونها. ولأنني أدركت 
فوراً مصيري المحتوم» صرت أبحث في ثيابي عن المثلث الذي مزقته 
بفجوة السياج» فوجده في الخلف على الجهة اليمنى من السروال» فقسته 
بإصبعين منفرجين» فوجه كبيراً بما يدعو إلى الاستياء» وعلى الرغم من 
ذلك وقفت بلا مبالاة» منتظراً ببصر مرفوع لا رجعة حتى تسلّق الصبيان 


5 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


القادمون من محطة الترام ومن الشارع العام ومن الجسر السياج؛ إذ أن 
الفجوة لم تكن تناسب أحجامهم . 

حدث ذلك في أواخر أيَام أغسطس /آب» وكان القمر يمسك بسحابة 
من حين إلى آخر. فأحصيت عشرين صبيّاء أصغرهم في الرابعة عشرة 
وأكبرهم في السادسة عشرة. لقد شهدنا صيفا حارا وجافا في العام الرابع 
والأربعين. وكان أربعة من الأولاد الكبار يرتدون قيافات مساعدين في 
سلاح الجوّ. إنني مازلت أتذكر بأن موسم الكرز في العام الرابع والأربعين 
كان جيّدا. لقد أحاطوا بأوسكار على شكل مجموعات صغيرة» ويتحدثون 
فيما بينهم بأصوات خافتة» مستخدمين لغة مصطلح عليها بينهم» فلم أتعب 
نفسي أصلاً في فهمها. كذلك كانوا ينادون على بعضهم بأسماء عجيبة» 
استطعت ملاحظة البعض منها. فكان أحد الصبيان البالغ خمسة عشر 
عاماًء والذي بدت عيناه مثل عينيّ الأيل مغمضتين قليلاً يدعى «ريتشهازه؛ 
واجانا فريشهانة انعا انا الذي وقفه بجؤاره فكالوا يسموله اابوئهه, 
والقصير الذي لم يكن بالتأكيد أصغرهم سئاًء الذي كان ذا لثغة وشفة عليا 
بارزة» فقد كانوا ينادونه «بكولنكلاو». وثمة مساعد في سلاح الجو كانوا 
يخاطبونه بلقب مستر وآخر أطلقوا عليه بكلّ حقّ اسم ديك الحساء؛ 
وكانت هناك أسماء تاريخية أيضاً: قلب الأسد والشارب الأزرق الذي 
أطلق على صبي له وجه الطفل» منها أسماء معروفة بالنسبة لي مثل توتيلا 
وتيا وأخرى جيورة بما يكفي عرفت عق يينها ببلزار ونارسس ؟؛ فتفحصت 
شتورتبكر الذي ارتدى معطفا مطريًا وقبعة من القطيفة الخالص منبعجة على 
شكل بركة بطء تفحصته باهتمام بالغ: إذ أنه كان قائد المجموعة على 
الرغم من أنه كان في السادسة عشرة. وقد تجاهلوا أوسكار تماماًء 
منتظرين أن تخور عزيمته فيصبح طيّعاً» لذلك جلست على طبلي خائر 
القدمين» ساخراً من تفسى وغاضباً عليها معاء لأننى أقحمتها فى هذه 
الرومانسية الضبيائية البنافرة» متمعناً في رؤية القمر الذي كاد يكسل» 
محاولاً إرسال بعضاً من أفكاري إلى كنيسة-قلب-يسوع . 

ولعلّه كان سيطبل اليوم» أو ينطق بحرف؛ بينما كنت أنا أجلس في 


5١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


باحة معمل شيكولانة البلطيق» راضخاً لألعاب الفروسية واللصوصية. ربما 
كان ينتظرني» عاقداً النيّة على فتح فمه مرّة أخرى» بعد فاصل تطبيل 
قصيرء ليشرح خلافة يسوعء بيد أن أمله خاب؛ لأنني لم آت» فرفع 
بالتأكيد حاجبيه بغطرسة. فماذا سيكون رأي يسوع بهؤلاء الصبيان؟ وما 
الذي سيفعله أوسكارء خليفته ووكيله الذي كان على شاكلته؛ مع هذه 
الشلة؟ فهل يمكنه مخاطبة المراهقين بعبارات يسوع نفسه: «دعوا الطفل 
يقبل إليّ!»؛ أولئك الذي يطلقون على أنفسهم أسماء بوته ودرشهازه 
والشارب الأزرق وكولنكلاو وشتورتبكر؟ 

فتقدم شتورتبكر. وكولنكلاوء ويده اليمنى إلى جانبه. شتورتبكر: 
«انهض!) 

فلم ينهض أوسكار الذي مازالت عيناه عالقتين بالقمر وأفكاره عالقة 
بالمذبح الجانبي من الناحية البسرى لكنيسة-قلب-يسوع؛ وبناءً على إشارة 
من شتورتبكر ركل كولنكلاو الطبل فأبعده عن مؤخرتي. 

وحين نهضت التقطت الطبل وخبأته تحت جلبابي لأحفظه من 
الأضرار الأخرى المتوقعة. ثم فكر أوسكار: يا له من غلام جميل؛ 
شتورتبكر هذا. كان عيناه غائرتين قليلا ومتلاصقتين» لكن معالم فمه 
كانت سريعة البديهية ومتحركة . 

من أين أنت؟ 

لقد بدأ الاستجواب» فتمسكت من جديد بقرص القمر؛ لأن هذه 
التحيّة لم تعجبني» فتخيلت القمر - الذي كانا فى كل كيت لطبلا 
ثم ابتسمت ساخراً من جنون عظمتي الذي لم د يخضع إلى رابط أو التزام . 

(إنه يبتسم بشماتة يا شتورتبكر.) 

وأخذ كولنكلاو يراقبني واقترح على رئيسه القيام بعمل ماء سمَّاه 
«النفض:. فأيّده الآخرون الذين اصطفوا في الخلف؛ قلب الأسد ذو 
الوجه المليء بالبثور والمستر ودرشهازه وبوته أيدوا عملية النفض. 
فتهجيّت مفردة النفض وأنا أتطلع إلى القمر. يا لها من مفردة طريفة» إلا 
أنها بالتأكيد ليست ممتعة. 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فحسم شتورتبكر لغط عصابته بالقول: «أنا الذي يقرر هنا متى يتم 
النفض !4 

ثم وجه كلامه لي : «كانوا يرونك دائماً في شارع المحطة. فما الذي 
كنت تفعله هناك؟ ومن أين أنت؟» 

طرح سؤالين في آن واحدء ولابد أن يجيب أوسكار على واحد منهما 
على الأقل» إذا ما أراد أن يبقى سيّد الموقف. فسحبت وجهي من القمرء 
وقذفت شتورتبكر بنظرة من عينيّ الزرقاوين النافذتين ثم قلت بهدوء: 
١أنني‏ قادم من الكنيسة.») 

فتعالى اللغط وراء المعطف المطري. لقد أكملوا إجابتى. واهتدي 
كولنكلاو إلى أنني كنت أعني كنيسة-قلب-يسوع . ١‏ 

«ما اسمك؟4 

وكان لا بد أن يأتى هذا السؤال؛ وذلك كان يعود إلى طبيعة اللقاء. 
تضيقة السوال ده تحتل حاقماً فرتعا جرهريا قن محاديات الناس. فهناك 
مسرحيات قصيرة أو طويلة وكذلك أوبرات تعيش من خلال الإجابة على 
هذا السؤال - انظر أوبرا لوهنغرين! 

وفي تلك اللحظة انتظرت أشعة القمر تطل من بين غيمتين» تاركاً 
اللمعان الكامن في زرقة عينيّ يؤثر على شتورتبكر بمقدار ثلاث ملاعق 
طعام؛ ثم قلت. مسميّاً نفسي» وحاسداً قوّة التأثير التي سيخلفها وقع 
الكلمة - إذ أنني لو سميتٌ نفسي أوسكاراً لقابلوا الاسم بالقهقهة -؛ فقال 
أوسكار: «اسمي يسوع»؛ فخلّف اعترافه هذا صم_تاً طويلاً إلى أن تجشأ 
كولنكلاو: «إذاً لابد من أن ننفضهء يا رئيس.» 

لم يكن كولنكلاو وحده إلى جانب النفض» إنما أصدر شتورتبكر 
أمراً بالنفض من خلال طقطقة أصابعه» فقبض عليّ كولنكلاو وضغط 
بكوعه على عضدي اليمين؛ ثم بدأ يحركه بجقاف وسرعة ؛. بسكوية 
وبألم» إلى أن طقطق شتورتبكر بأصابعه مرّات عديدة» طالباً منه التوقف - 
هكذا كان النفض إذاً! فتظاهر الرئيس ذو القبعة المخملية بالسأم: «والآن 
قل ما هو اسمك؟ ثم قام بحركة استعداد للملاكمة انزاح على أثرها كمًا 


او 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


معطفه الطويلان» وكشف عن ساعته في معصمه تحت شعاع القمرء 
وهمس عبر أذني: «نعطيه مهلة دقيقة واحدة» ثم يأمر شتورتبكر بإنهاء 
العمل . ؛ 

وعلى أيّ حال؛ فقد بات بإمكان أوسكار أن يتأمل القمر طوال دقيقةً 
كاملة بلا عقاب» باحثاً في فوهاته عن مخارج؛ واضعاً قرار خلافة يسوع 
الذي اتخذه على حين غرّة موضع التساؤل. ولأن عبارة إنهاء العمل لم 
تحظ بإعجابي» ولأنني لم أكن أقبل في كل الأحوال بأن يخضعني الصبيان 
إل التقثذ يأوقات الساعة فقد ال أوسكاز يعد خوان غنيسا وثلاثين ثالية : 
«إنني يسوع .؟ وما عدت نكن ذلك كأن ذا آثرا قثالا حا دون أن يكون 
من تدبيري. وحالما ألقيت بشهادتي للمرّة الثانية بأنني خليفة يسوع» وقبل 
أن يطقطق شتورتبكر بأصابعه ليقوم كولنكلاو بالنفض - انطلقت صمّارات 
من الغارة الجويّة. فندب أوسكار «يا يسوع»؛ مستعيداً أنفاسه من جديدء 
فأكدت ندائي صفارات الإنذار التابعة للمطار القريب ومعها على التوالي 
صفَارات المبنى الرئيسي لثكنة سلاح المشاة في هوخشتريس والصفّارات 
المنصوبة على سطح ثانوية-هورست-فسل الواقعة قبل غابة لانغفور 
بمسافة قصيرة والصفارات المنصوبة على السوق التجاري شتير نفيلد 
وصفّارات كليّة الهندسة البعيدة تماماً والقادمة من شارع هندنبورغ. لقد 
استغرق الأمر وقتأ طويلاً حتى استلمت صفَارات الضاحية» الطويلة النفس 
حد الملل؛ والملحة مثل رؤساء الملائكة؛ البشرى السارة التي بعثت بهاء 
التي جعلت الليل يفيض تارةً ثم ينحسر والأحلام تتألق ثم تجتثها وزحفت 
نحو آذان النائمين؛ فمنحت القمر الذي كان من الصعب التأثير عليه تلك 
الأهمية الرهيبة التي يتمتع كل كوكب وضاء لا يمكن التعتيم عليه. وبينما 
عرف أوسكار بأن الإنذار كان يقف إلى جانبه؛ فإن الصمارات أصابت 
شتورتبكر بالاضطراب:. كان الإنذار قد خاطب بعضاً مخ أفراد العضابة 
مخاطبة مباشرة ورسمية. فأرسل شتورتبكر أربعة من مساعديٌ سلاح الجوّ 
إلى بطارياتهم وراء السياج» ليتخذوا مواقعهم خلف مدافع منصوبة بين 
مخازن الترام والمطار. وكان ثلاثة من أصحابه» من بينهم بيلزار» مكلفون 


255 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بحماية مدرسة كونرادينوم من القصف الجرّي» فسارعوا على الفور إلى 
هناك آنا البقية التى ضمت تقرياً خمة عشر ضيبا فقد حشدها شتورد 
خلفه. وبدأ بالاستجواب مرة أخرى» طالما لم يحدث شيء في السماء: 
«إذا ما فهمناك بصورة صحيحة فأنت يسوع. - لكن دعنا من هذا. هناك 
سؤال آخر: ما الذي كنت تفعله بالمصابيح وزجاج النوافذ؟ لا تحاول أن 
تتهرب» لأننا نعلم كل شيء!) 

بيد أن هؤلاء الفتيان لم يعلموا شيئاً في الواقع . إنهم قد راقبوا بلا 
شك نجاح صوتي في هذه القضية أو تلك» فأمر أوسكار نفسه بإظهار 
بعض التساهل مع أولئك المراهقين الذي يمكن أن يطلق عليهم المرء في 
أيَامنا هذه لقب أنصاف الرجال بكل صراحة واختصار. فحاولت تبرير 
اندفاعهم المباشر الخالي من المهارة نوعاً ما في تحقيق أهدافهم. فأظهرت 
نفسي أمامهم موضوعياً بلطف وتسامح. هؤلاء إذاً هم النافضون ذوو 
السمعة السيئة الذين كانوا حديث المدينة كلّها منذ أسابيع؛ عصابة 
المراهقين هذه التى تلاحقها الشرطة الجنائية ودوريات الشبيبة الهتلرية . 
ومثلما اتضح الأمر فيما بعد فقد كان هؤلاء: طلآب ثانوية كونرادينوم 
ومتوسطة-بيتري ومتوسطة-هورست-فسل . كانت هناك مجموعة نافضين 
ثانية فى نويفارفاسرء تقاد أيضاً من قبل طلآب الثانوية؛ إلا أن ثلثى 
أعضائها تقريباً كانوا من المتدربين في مصنع بناء سفن شيشاو ومصنع 
القطارات. لم تكن المجموعتان تعملان بشكل مشترك إلا نادراً» أي عندما 
تنطلقان من جادة شيشاو» لتقوما بتمشيط متنزه شتيفن وشارع هندتبورغ 
أثناء الليل بحثاً عن مسؤولات اتحاد الفتيات الألمانيات اللواتى كن يرجعن 
إلى بيوتهم بعد انتهاء التدريب المسائي في بيت الشبيبة الواقع عند 
مناطق عملهما بدقة» وكان شتورتبكر يرى في قائد مجموعة نويفاسر 
صديقاً أكثر من منافس له. كانت عصابة النافضين تخوض صراعاً ضد كل 
شيء» فقامت باكتساح مكتب شبيبة هتلرء وقد وضعوا أوسمة العائدين من 
الجبهة ورتبهم العسكرية نصب أعينهم؛ أولئك الذين كانوا يمارسون الحبٌ 


6" 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


مع الفتيات في زاويا المتنزه» وكان أفراد العصابة يسرقون السلاح والذخيرة 
والوقود بمعونة مساعدي سلاح الجو المتدذربين على المدافع المضادة 
للطائرات» وقد خططوا منذ البداية لشنّ هجوم شامل على مصلحة 
التموين. ومن دون أن يعلم شيئاً عن تنظيم النافضين وخططه؛ فإن شعوراً 
بالطمأنينة قد خامر أوسكار الذي بدا آنذاك معزولاً» وفي حالة تدعو إلى 
الرثاء» حين وقف في منتصف دائرة المراهقين. فخالطت في السرّ الفتيان» 
ضارباً باعتراض فارق السنّ عرض الحائط - كنت موشكاً على الدخول في 
عامي العشرين - معاتباً نفسي بالقول: لماذا لا تقدم للفتيان عيّنةً من فنّك؟ 
فالشبّان الصغار شغوفون بالمعرفة دائماً؛ فإنك كنت ذات مرّة في الخامسة 
عشرة أو السادسة عشرة من السنّ. قدّم لهم نموذجاًء أظهر لهم شيثاً مما 
تعرف» فهم سيعجبون بك» ومن المحتمل أنهم سيطيعونك ويأتمرون 
بأمرك منذ تلك اللحظة. فبإمكانك أن تمارس تأثيرك الماكر من كثرة 
التجارب؛ فاستجب الآن إلى اختيارك وحشّد حولك حواريك من حولك 
لتخلف يسوع في ولاية العهد. 

اشتووتبكر أدرك أن استغراقى فى التفكير حمل أسباباً وجيهة؛ 
فرك لى وفتاً كافياً» فشكرت له ذلك. أواخر أغسطس/ آب. كانت ليلة 
مقمرة وممتتهوية بحب كقفيقة م بوإلذان بخارة جنوثة, :ريما كانت طائرة 
استطلاع. كوانت باريس قد أخليت في تلك الأيّام. وأمامي انتصب المبنى 
الرئيسي لمعمل شيكولاتة البلطيق الكثير النوافذ. وبعد مسيرة طويلة توقفت 
أفواج الجيش في وسط الفايكسل. لم يكن معمل البلطيق في الواقع ينتج 
الشيكولاتة لمحلات التجارة بالمفرق» إنما أوقف الإنتاج على أفراد القرّة 
الجويّة. كان على أوسكار أن يعود نفسه أيضاً على تخيّل جنود الجنرال 
باتن وهم يتبخترون بقيافاتهم الأمريكية تحت برج أيفل. وبدا هذا التصوّر 
مؤلماً بالنسبة لي؛ فرفع أوسكار مضرب طبله. آه لتلك الساعات الكثيرة 
المشتركة مع روزفيتا. فلاحظ شتورتبكر حركضي» وتعقب بيصره 
المضرب. ثم انزلق به نحو معمل الشيكولاتة. وفي الوقت الذي طهّرت 
فيه إحدى الجزر الصغيرة في المحيط الهادئ من اليابانيين في رابعة النهار 


5 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


سقط ضوء القمر هنا على نوافذ المعمل كلها بالتساوي. فخاطب أوسكار 
جميع من أراد الإصغاء له قائلا: «الآن سيقوم يسوع بتحطيم الزجاج.» 

وقبل أن أجهر على الألواح الثلاثة الأولى انتبهت إلى طنين ذبابة 
حلّقت عالياً فوق رأسي. وبعدما استلمت لوحتان من الزجاج إضافة إلى 
الثلاثة الأولى أمام شعاع القمر فككرت في : أنها ذبابة محتضرة» لذلك 
العلوي للمعمل باللون الأسودء متيقنا من فقر الدم الذي أصيبت به عدّة 
كشّافات ضوئية قبل انتزاعي لانعكاسات الضوءء التى لا بد أن يكون 
موضعها في معسكر نارفيك النرويجي إلى جانب بطاريات المدفعية» من 
عدد كبير من نوافذ المعمل في الطابقين الأوسط والسفلي. في البدء 
أطلقت مدفعية السواحل قذائفهاء ثم أجهزت أنا على بقية الألواح في 
الطابق الأوسط. وسمح فيما بعد لبطاريات أحياء اسكتلندا القديمة 
وبيلونكن وشيلمول بإطلاق النيران. كانت هناك ثلاث نوافذ في الطابق 
الأرضي - وثلاث مقاتلات ليلية انطلقت من المطارء حلّقت على نحو 
منخفض كاد يلامس المعمل. وقبل انتهائي من الطابق الأرضي توقف 
مدفع مقاومة الطائرات عن إطلاق النيران» تاركاً المجال للمقاتلات 
لإسقاط طائرة حربية بأربعة محركات» كانت قد احتفت بها ثلاثئة كشّافات 
ضوئية معاً فوق أوليفا. وفي البدء انتابت أوسكار مخاوف من أن يوزرّع 
توافق عروضي مع الجهود المثيرة لمدفعية مقاومة الطائرات اهتمام الشبّان» 
أو يحرفه من المعمل فيغريه بالتوجه نحو سماء الليل. 

إلا أن ما أثار دهشتي هو أن العصابة كلها لم تحرف بصرها قط عن 
معمل الشيكولاتة الخالي من زجاج النوافذ بعدما أنجزت عملي. وحتى 
بعد أن تعالت أصوات التصفيق والإعجاب مثلما يحدث في المسرح؛ لأن 
طائ ة مقاتلة قد أصيبت بالقرب من شارع هوهنفريدبيرغر» ولأن كل ما 
يشتعل يكون جديراً بشاهدة المتفرجين؛ فإن عدداً قليلاً من أفراد العصابة» 
من ضمئهم بوته قد أبعد يصره عن المعمل المنزوع الزجاج حين نزلت 
المقاتلة فى غابة يشكنتال» ساقطة أكثر منها هابطة. بيد أن شتورتبكر 


ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وكولنكلاو اللذين كان الأمر يتعلق بهما في الواقع لم يعرا انتباها لإسقاط 
الطائرة. وبعد ذلك لم يبق في السماء سوى القمر وصغائر الكواكب كما 
كان الحال من قبل. كانت المقاتلات الليلية قد هبطت. ومن بعيد تناهمت 
إلى أسماعنا صفّارات فرقة المطافع. حينئذ التفت شتورتبكرء بارزاً فمه 
الذي مازال يرتجف باحتقار» وقام بحركة الملاكمة ذاتهاء حاسراً كمي 
معطفه المطريّ الطويلين؛ وخلع الساعة من يده. ثم ناولني إيّاها بلا 
كلام» لكن بأنفاس ثقيلة» وأراد أن يقول شيئاًء لكنه انتظر حتى تفرغ 
الصفمارات التي انشغلت برفع حالة 0 ليعترف وسط التصفيق 
المتحمس لأتباعه: «حسناً يا يسوع. إذا شئت فعلى الرحب والسعةء 
تستطيع أن تعمل معنا. نحن النافضونء إذا كانت هذه التسمية تعني لك 
شيئا!؛ فوزن أوسكار الساعة اليدوية في راحته»ء ثم أهدى كولنكلاو هذه 
الحاجة المغرية فعلاً ذات الأر قام المضيئة التي أشارت إلى الساعة الثانية 
عشرة وثلاث وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل. فنظر إلى رئيسه متسائلا . 
فهرّ شتورتبكر رأسه موافقة. وبعدما وضع الطبل بطريقة مريحة بغية العودة 
إلى البيت قال: (إن يسوع سيتقدمكم؟ فاتبعوني!» 


7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تمثيلية الميلاد 


كان الناس يتحدثون آنذاك كثيراً عن السلاح المعجزة وعن النصر 
النهائي. أمَا نحن» النافضون, فلم نتحدث عن هذه القضية أو تلك» لكننا 
كنا نمتلك السلاح السحري. فلمًا استلم أوسكار قيادة العصابة المؤلفة من 
ثلاثين إلى أربعين عضواًء تركت شتورتبكر يعرفني على قائد جماعة 
نويفاسر. كان «موركينه؛ الأعرج البالغ من العمر سبعة عشر عاماً» وابن 
الموظف الكبير في دائرة الملاحة البحرية» قد حرم من دخول سلك 
مساعدي القوّة الجويّة وحرم كذلك من الالتحاق بالجيش بسبب عاهة 
جسدية - كانت ساقه اليمنى أقصر من اليسرى بسنتمترين. وعلى الرغم 
من أن موركينه كان يعرض عرجه بصراحة وبثقة تامة» فإنه كان يدول 
يتكلم بصوت خفيض . كان هذا الفتى المبتسم دائماً بمكر يعتبر من أفضل 
طلآب السنة الأخيرة في ثانوية كونرادينوم» وكان من المتوقع تماماً أن 
يجتاز امتحان الدارسة الثانوية بصورة نموذجية, إذا لم تكن هناك 
اعتراضات من قبل الجيش الروسي - كان موركينه يرغب في دراسة 
الفلسفة . 

وكما استقبلني شتورتبكر بهيبة واحترام دون قيد أو شرط؛ فإن 
الأعرج قد رأى فيّ شخص يسوع السائر أمام النافضين. ومنذ البداية 
تركهما أوسكار يطلعانه على المخزن والخزينة» إذ أن المجموعتين كانتا 
تجمعان غنائم غزواتهما في القبو ذاته. كان القبو الواسع والجاف يعود إلى 
فيلا فخمة في شارع يشكنتال عند لانغفور. كان والدا بوته اللذان يحملان 
لقب النبلاء «فون بوتكامر؛ يقطنان تلك الفيلا المحاطة بالنباتات المتسلقة» 


186 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


والبعيدة عن الشارع بفضل مرج مترفع بهدوء - ذلك يعني أن السيّد فون 
يوتكامر كان موجوداً آنذاك فى فرنسا الجميلة» يقود فرقة كاملة» وكان 
خامل لنوط الشساعة ذى الأصل البومرع-البوقدي البرويسى؟ أما المنثدة 
اليزابييث فون بوتكامر فقد كانت على العكس منه امرأة معتلة الصحة» تقيم 
في مقاطعة بفاريا منذ عدّة شهور لغرض الشفاء. فكان فولفغانغ فون 
بوتكامر الذي أطلق عليه النافضون اسم بوته يسيطر على الفيلا؛ إذ أن تلك 
الخادمة العجوز التي كانت تقوم برعاية السيّد الشاب في الغرف العليا لم 
ترها قط ؛ لأننا كنا ندخل القبو عبر حجرة الغسيل. 

كانت المعلبات والتبوغ والعديد من لمات المظلآت الحريرية مكدسة 
في المخزن» إضافة إلى دزيئتين من الساعات الخاصة بالجيش الألماني 
المعلقة فوق أحد الرفوف والتي كان بوته يعتني على الدوام بتشغيلها 
وضبط أوقاتها بالاقتران مع بعضها البعض بناءً على أمر شتورتبكر؛ وكان 
عليه أن يقوم أيضاً بتنظيف الرشاشتين والبندقية الآلية والمسدسات. لقد 
عرضوا على مدفعاً مضاداً للمدرعات يحمل على الأكتاف وذخيرة بنادق 
وخمساً وعشرين قنبلة يدوية. وكان هذا كلّهء مضافاً إليه طابور وافر من 
صفائح البنزين» معدا لاقتحام مصلحة التموين. فجاء أول أمر أصدره 
أوسكار بصفته يسوع على النحو التالي: «ادفنوا السلاح والبنزين في 
الحديقة. وسلْموا إبر إطلاق النار إلى يسوع. فأسلحتنا من طراز آخر!» 

وعندما عرض عليّ الشبّان صندوق سيجار مليئا بالأوسمة والنياشين 
سمحت لهم؛ مبتسماء بامتلاك أوسمة الزينة تلك. لكن يا ليتني انتزعت 
منهم سكاكين المظليين» فهم قد استخدموا فيما بعد نصالها الراقدة في 
قبضاتها والمهيأة للاستعمال. ثم جلبوا لي الخزينة» فتركهم أوسكار 
يحصون محتواهاء ثم أعاد الحساب بنفسه» وجعلهم يقيدون الرصيد الذي 
بلغ ألفين وأربعمائة وعشرين ماركا ألمانيا. كان ذلك في مطلع سبتمبر من 
العام الرابع والأربعين. وعندما تمكن كونييف وشوكوف من اختراق 
الفايكسل في منتصف يناير من العام الخامس والأربعين» وجدنا أنفسنا 
مضطرين إلى الإبلاغ عن الخزينة المحفوظة في القبو. كان بوته هو الذي 


اع 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


اعترف بوجودهاء فتكومت على طاولة المحكمة العليا ستة وثلاثون ألف 
مارك ألماني صرراً ورزما. 

وكما هي طبيعتي» فإنني بقيت وراء الكواليس أبّان تلك العمليات. 
فكنت أبحث في النهار عن هدف مجز لمشروع ليليّء بمفردي على 
الأغلب» وإن كان لا بد من رفيق فبصحبة شتورتبكرء تاركاً أمر المنظمة 
إلى شتورتبكر أو موركينه» لأحطم بسلاحي السحري - هاأنني قد ذكرته 
الآن - البعيد التأثير أكثر مما مضى زجاج نوافذ الطابق الأرضي لمكاتب 
الحزب ونافذة مطبعة أطلّت على الفناء الخارجي كانت تطبع فيها بطاقات 
التموين وحطمت كذلك زجاج نافذة مطبخ مدرّس بالثانوية في سكنه 
الخاص» على مضض في الواقع» وبناء على رغبة الشبّان الذين أرادوا أن 
ينتقموا منه» وقد فعلت ذلك كله عبر نافذة غرفة النوم في ساعة متأخرة 
من الليل» ودون أن أغادر بيت الأمّ تروجنسكي. حدث ذلك في شهر 
نوفمبر/ تشرين الثاني حين انطلقت صواريخ فاو ١‏ وفاو ١‏ نحو إنجلترا 
وحين كنت أنا منشغلا بالتهشيم عن بعد عبر لانغفور؛ متعقباً صفٌ 
الأشجار المغروسة في شارع هندنبورغ فمحطة القطارات الرئيسية» 
متجاوزا المدينة القديمة وطرفها اليمين», باحثا عن جادة القصابين 
والمتحف حيث أدخلت الفتيان وجعلتهم يفتشون عن تمثال نيوبا الخشبي ؛ 
إلا أنهم لم يعثروا عليه. 

كانت الأمّ تروجنسكي تجلس إلى الجانب ثابتة في كرسيها وتهرٌ 
رأسهاء مشتركة معي في بعض الشؤون» فعندما يرسل أوسكار صوته 
بعيداً» تبدأ الأمّ تروجنسكي بالتفكير بعيداً أيضاًء باحثة في السماء عن 
ولدها هربرت وفي جبهة القاطع الأوسط عن ولدها فرتس. كذلك كانت 
تضطر إلى البحث عن ابنتها غوسته التي تزوجت مطلع العام الرابع 
والأربعين في منطقة الراين» فتفتش عنها مدينة دوسلدورف القصيّة» حيث 
مسكن رئيس الندل كوستر المقيم في مصحّة» لكن غوسته لم تستطع 
الاحتفاظ به والتعرف عليه من جديد أكثر من أربعة عشر يوم في العام. 
وبدت تلك أمسيات آمنة. فكان أوسكار يجلس عند قدميّ الأمّ 


الا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


تروجنسكي » ويقرع على طبلة بتفنن وخيال» وذات مرّة التقط تفّاحة مشوية 
على قضبان المدفأة الحجرية»؛ ثم اختفى في غرفة النوم المظلمة بتلك 
الثمرة المجعدة التى يستطيبها الأطفال الصغار والعجائز» فسحب ستارة 
التعتيم الورقية إلى الأملن» وفتح النافذة بمقذار شن فترك شيعا من البرد 
والليل يتوغل إلى الداخل؛ ثم أرسل غناؤه الموججهء البعيد الأثر؛ إلى 
الخارج؛ بيد أنه لم يستهدف النجوم الصغيرة المرتعشة» ولم يكن لديه ما 
يبحث عنه في درب التبّانة» إنما قصد ساحة فنترفيلد؛ لكن ليس دار 
الإذاعة التي فيه بل المبنى المربع الذي كان يقابلها والذي وضعت فيه 
القيادة المحليّة لشبيبة هتلر مكاتبها بابا إلى جانب باب. 

لم تستغرق مهمتي دقيقة واحدة عندما يكون الطقس صاحيا. في تلك 
الأثناء بردت قليلاً التفاحة التى وضعتها عند النافذة المفتوحة. فعدت إلى 
الأمّ تروجنسكي وإلى طبلي وأنا ألوك» ثم سرعان ما ذهبت إلى فراشي؛ 
متيقناً من أن النافضين سينهبون باسم يسوع خزيئة الحزب وبطاقات التموين 
عندما يكون أوسكار نائماًء بل أنهم؛ وهذا هو الأهم؛ سيسرقون الأختام 
الرسمية والاستمارات المطبوعة إضافة إلى القائمة التي تضم أعضاء 
دوريات الشبيبة الهتلرية . 

لقد تساهلت مع شتورتبكر وموركينه وتركتهما يعبثئان ما شاءا ببطاقفات 
الهوية المزورة؛ إذ أن الدوريات كانت تمثّل آنذاك العدو الرئيس للعصابة. 
إذاً عليهم أن يلقوا القبض على خصومهم حسب الرغبة والمزاج 
وينفضونهم نفضاء ولا مانع لدي من أن يجلدوا خصاهم على حدّ تعبير 
كولنكلاو الذي نفذ ذلك الإجراء في حمّهم . 

كنت» على أية حال» بعيداً عن مسرح تلك الفعاليات التي كانت 
مجرد تمارين أوٌلِية لم تفش أسرار خططي الحقيقية» ولذلك فإنني لا 
أستطيع أن أشهد فيما إذا كان النافضون هم الذين القوا القبض على قائدين 
كبيرين من قادة الدوريات وقيدوهماء ثم ألقوا بهما ليغرقا في نهر موتلاو 
على مقربة من كوبروكه. 

لابد أن أنفي هنا ما قيل عن وجود ارتباطات بين عصابة النافضين 


ع 
1_طماع1© :ع1 آنلا 1 


وقراصنة «الوردة الجبلية» في كولونيا على الراين» وأن أنفي بأن الأنصار 
البولنديين في منطقة توخلرهايده كانوا يؤثرون في نشاطاتناء أو يوجهونهاء 
وذلك بصفتي المزدوجة كأوسكار ويسوع الذي يترأس العصابة» وأن أحيل 
تلك الإشاعات إلى عالم الأساطير. 

وكذلك اتهمنا خلال المحاكمة بأننا كنا نقيم علاقات مع المتآمرين 
ومن قاموا بتدبير اعتداء العشرين من يوليو / حزيران على هتلر؛ لأن أبا 
بوته» أوغست فون بوتكامر» كان مقرباً جدّأ من الجنرال رومل» والذي 
انتحر . أمّا بوته الذي كان قد رأى أباه ربما أربع أو خمس مرّات على نحو 
عابر خلال الحرب فكان أبوه يحمل كل مرّة رتبة عسكرية مختلفة؛ فإنه 
علم أثناء محاكمتنا بقضيّة الضبّاط التي تعاملنا معها بلا مبالاة» فأخذ يبكي 
بصورة يرثى لها وبلا خجل» لدرجة أن جاره كولنكلاو اضطر إلى نفضه 
أمام القضاة. وإبّان عملنا كلّه لم يتصل بنا أحد من الكبار البالغين إلا مرّة 
واحدة. لقد حاول عمّال مصنع السفن - ذوي الأصول الشيوعية مثلما 
استنتجت على الفور - ممارسة بعض التأثير علينا بواسطة أصحابئا 
المتدربين في مصنع السفن وتحويلنا إلى منظمة سريّة حمراء. فلم يبد 
المتدربون اعتراضاًء بيد أن طلأب الثانوية رفضوا أي ميل أو اتجاه 
سياسي. وقد عبّر مساعد سلاح الجوّ الملقب بمستر والذي كان لاذع 
السخرية ومنظر عصابة النافضين بالصيغة التالية خلال اجتماع للعصابة: 
انحن ليس لنا أدنى علاقة بالأحزاب» إنما نناضل ضد آبائنا وبقية البالغين 
الكبار؛ بغض عن النظر عما إذا كانوا مع هذا الحزب أو ضده.» 

وعلى الرغم من صياغاته المبالغ في حدتهاء فإن مستر كان يحظى 
بتأييد طلآب الثانوية جميعهم؛ فحدث انشقاق في صفوف عصابة 
النافضين. وقام متدربو شيشاو بتأسيس جمعية خاصة بهم - فشعرت 
بالأسف لأن أولئك الفتيان كانوا مهرة حاذقين - لكنهم اعتبروا أنفسهم 
عصابة النافضين» متجاهلين اعتراض شتورتبكر موركينه. وأثناء المحاكمة 
- كان دكانهم انكشف مع انكشاف دكاننا في وقت واحد - ألقيت عليهم 
مسؤولية حرق سفيئة إمداد الغرّاصات الراسية في منشأة السفن والذي أدى 


لاع 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


إلى مصرع أكثر من مائة ملاح وضابط صف بحريّ كانوا متأهبين للإيحار» 
وقتلوا على نحو شديد البشاعة. لقد نشب الحريق على سطح السفينة» 
فمنع طاقم الغوّاصات النائمين تحت السطح من مغادرة قمراتهم» وعندما 
حاول ضبّاط الصف الذين لم يبلغوا بعد الثامنة عشرة النفاذ من عيون 
السفينة الجانبية للوصول إلى مياه الميناء المنقذة بقيت أحواضهم محشورة 
فى العيون» فأدركتهم النيران المتأججة من الخلف» ثم أطلقت عليهم 
الزوارق البخارية النيران من الأمام؛ لأنهم كانوا يزعقون بلا انقطاع. ولم 
نكن نحن من أضرم النارء ولعل متدربيّ منشأة السفن هم الذين أضرموهاء 
وربما فعلها جماعة اتحاد فسترلاند. إذ أن النافضين لم يكنوا مشعليّ 
حرائق» على الرغم من أنني» بصفتي زعيمهم الروحيّ؛ يمكن أن أكون 
مضرم نيران بالفطرة بسبب انحداري من صلب الجدّ كولياجك . 

ومازلت أتذكر جيّداً العامل الميكانيكي الذي تُقل آنذاك من مصنع 
الماكينات الألمانية في كيل إلى منشأة سفن شيشاوء والذي قام بزيارتنا قبل 
الانشقاق بفترة قصيرة. كان أيرش وهورست بيتسغر» ولدا عامل شحن من 
منطقة «فوكسفال»» قد جلباه إلينا في قبو الفيلا العائدة إليبوتكامر. فتفقد 
مخزننا باهتمام بالغ» إلا أنه أفتقد وجود الأسلحة الفعّالة الصالحة 
رئيس العصابة فأحاله شتورتبكر إلى على الفور وفعل موركينه مثله لكن 
بتردد» بحيث أن الموقف بات لا يتطلب إلا القليل لكي يُسِلّم الميكانيكي 
إلى النافضين لينفضونه بناءً على رغبة أوسكار. 

فقال لموركينه وهو يشير إلي بإبهامه عبر منكبه: «أي نوع من الأقزام 
هذا؟) 

وقبل أن يجيبه موركينه الذي ابتسم بارتباك بعض الشيء» بادر 
شتورتبكر إلى الردّ عليه بهدوء مشبع بالخوف: «هذا هو يسوعنا.» 

فلم يتحمل الميكانيكي الذي كان يدعى فالتر تلك العبارة» وأباح 
لنفسه بأن يكون صاخباً وساخطأ في مقرنا: «قولوا لي هل أنتم في وضع 


ا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


سياسي صحيح.ء أم أنكم سدنة قساوسة يتمرون على تمثيليات عيد 
الميلاد؟؛ 

ففتح شتورتبكر بابا القبو» وأصدر إشارة إلى كولنكلاو» ثم جعل 
نصل سكيّنة المظليين تقفز من كُمّ سترته وخاطب أفراد العصابة أكثر مما 
هو مخاطب الميكانيكى: #نحن سدنة قساوسة ونتمرن على تمثيليات عيد 
الميلاد . ) 1 

بيد أن شيئاً مؤلماً لم يحدث للسيّد الميكانيكي» إنما عصّبوا عينيه 
وأخرجوه من الفيلا. وبعد فترة قليلة بقينا وحدنا؛ لأن متدربيّ مصنع سفن 
شيشاو قد انسحبوا وأسسوا جمعية خاصة بهم تحت زعامة الميكانيكي, 
وأنا الآن بت على يقين من أنهم هم الذين أضرموا النار في سفينة إمداد 
الغرّاصات. وأعطى شتورتبكر الإجابة الصحيحة بالمعنى ذاته الذي حملته 
في ذهني. كنّا غير معنيين بشؤون السياسة» وبعد أن أصيبت دوريات شبيبة 
هتلر بالذعر ولم تعد تقوى على مغادرة مكاتبها. أو أصبحت تكتفي على 
الأكثر بتفتيش البطاقات الشخصية للفتيات الصغيرات الطائشات فى محطة 
القطارات الرئيسية؛ بدأنا بنقل ميدان عملنا إلى الكنائس لكي نتمرن على 
تمثيليات عيد الميلاد على حدّ تعبير الميكانيكي اليساري المتطرف . 

كان علينا في البدء أن نجد تعويضاً لمتدربيَّ شيشاو المهرة حقَاً 
والذين خضعوا للتأثر فانتسبوا إلى منظمة أخرى. في نهاية أكتوبر جعل 
شتورتبكر الشقيقين فيلكس وباول رنفاند يؤديان اليمين أمامي بصفتهما 
مساعديٌ قساوسة في كنيسة-قلب-يسوع. وقد اهتدى إليهما شتورتبكر 
بواسطة شقيقتهما لوتسي التي لم تبلغ السابعة عشرة بعد؛ لكنها حضرت 
أداء اليمين على الرغم من احتجاجي. كان على الشقيقين أن يضعا يدهما 
اليسرى على طبلي الذي كان الشبّان ينظرون إليه بصفته رمزاًء مهما كانوا 
غريبَ الأطوار» مرددين صيغة اليمين الخاص بالنافضين الذي كان عبارة 
عن نص أخرق مليء بالشعوذة حتى أنني لم أستطع تجميعه ثانية. وأخذ 
أوسكار يراقب لوتسي أثناء أداء اليمين حين رفعت منكبيهاء حاملة في 
يسراها قطعة خبز وسجق ارتعشت على نحو خفيف» وتلوك بشفتها 


ة/عاء 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


السفلى. كان وجهها مثلثاً جامداً يمائل وجه النعلب» وكانت ترمق ظهر 
شتورتبكر بنظرات حارقة» فشعرت بالقلق على مستقبل النافضين. وبدأنا 
بإعادة ترتيب حجر القبوء فأشرفت بنفسيء متعاوناً مع مساعديٌ 
القساوسة؛ على توفير الأمتعة اللازمة؛ وقمت بذلك وأنا في بيت الأمّ 
تروجنسكي . فجلبنا من كئيسة #اسانت-كاترينن» تمثالا ليوسف». حقيقيا 
ينلا اتقيم كزما يعدم متريط الارفاع تعدو من القن السلا عشرء 
وبعض الثُريَات الكنسية وعدداً من الأدوات التي تستعمل في القدّاس» 
إضافة إلى راية عيد الجسد. وقد أتحفتنا إحدى الزيارات الليلية لكنيسة 
الثالوث بملاك خشبي يعزف على مزمارء خالياً من الإثارة من وجهة فنيّة» 
وسجادة ملؤنة» تحتوي على صور» وتصلح لتزيين الحائط. وثمة صورة 
مستنسخة عن أصول قديمة تظهر سيّدة ذات مظهر متكلّف ومعها حيوان 
خرافي مطيع؛ اسمه وحيد القرن. وحتى لو أكد شتورتبكر بصواب على 
أن ابتسامة الفتاة المنسوجة في السجادة تشبه الابتسامة اللعوبة بشكل مرعب 
التي علت وجه لوتسي الممائل لوجه الثعلب؛ فإنني» مع ذلك» كنت 
أتمنى أن لا يكون قائد مجموعتي مستعداً للخضوع مثل وحيد القرن 
الخرافي. وبعدما علقنا السيجادة على الحائط الأمامي حيث رسوم «الكفٌ 
السوداء؛ و«الجمجمة'» السخيفة» حين هيمن موضوع وحيد القرن على 
مشاوراتناء سألت نفسى: لماذا يا أوسكارء فقل لماذا تحتفظ بلوتسى هذه 
المنسوجة في السججادة والتي ستحيل قادة أتباعك إلى وعديدك ترق 
لونسي التي وضعتك نصب عينيها أصلاء ولماذا آويتها وهناك لونسي 
أخرى تروج وتجيء مكركرة خلفك كركرة صبيانية؛ »إذ أنك» أنت بنفسك 
يا أوسكارء المخلوق الخرافى بلحمه ودمه؛ أنت بنفسك الحيوان المنعزل 
الوسيد اذو القرن: السجدى ل بميالقة فكان جمياة أن غيد البشارة قد أتى 
بحيث استطعت أن أغطى السمجادة تغطية تامة وعلى عجل بأشكال 
القديسين الخشبية ذات الخجم الطبيعي التي أجليناها من الكنائس القريبة» 
فلم يعد الحيوان الخرافي في وضع يتيح له أن يعرض نفسه للتمثيل في 
المقدمة. وفي منتصف ديسمبر / كانون الأوّل شن الجنرال «روندشتيت» 


كلع 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


هجومه غرب منطقة الراين» فأنهينا نحن فى الوقت ذاته الاستعدادات 
للضرية الحاسمة. 1 

وبعدما قمت بزيارة قدّاس الساعة العاشرة بضعة آحاد متعاقبة برفقة 
ماريا التي أوقفت حياتها برمتها على الكاثوليكية» مما جلب الهم والغمّ 
لماتسرات» وبعدما أوصيت أفراد العصابة جميعهم بزيارة الكنيسة أيضاًء 
اقتحمنا كنيسة-قلب-يسوع في الليلة الواقعة بين الثامن عشر والتاسع عشر 
من ديسمبر» دون أن يضطر أوسكار إلى كسر الزجاج بصوته» إنما بمعونة 
مساعديٌ القساوسة فيلكس وباول رنفاند» مستغلين معرفتنا الدقيقة 
للمكان. فقد هطل الثلج» دون أن يبقى في موضعه. فوضعنا العربات 
اليدوية الثلاث خلف غرفة «الموهف». كان مفتاح المدخل الرئيسي في 
حوزة رنفائد الصغير. فدخل أوسكار قبلهم» قائدا الشبّان خلفه إلى حوض 
المياه المقدسة» وأمرهم بأن يجثوا على ركبهم في منتصف الكئيسة عند 
المذبح الرئيسي. ثم أصدت أمرا عاجلا بلف تمثال-قلب-يسوع ببطانية 
عادية» لكي لا تضايقنا النظرة الزرقاء أثناء العمل. وقام «درشهازه» 
و«مستر» بنقل عذة العمل إلى الجناح الكنيسة اليسار؛ حيث المذبح 
الجانبي. كان علينا أن نبعد الحظيرة المليئة بتمائيل القديسين وخضرة شجر 
التنوّب إلى قلب الكنيسة. فزودتنا الحظيرة بما يكفي من الرعاة والملائكة 
والنعاج والحمير والأبقار. كان قبونا مليء بالكومبارس» ولم يكن هناك 
نقص إلا في الممثلين الرئيسيين. ورفع بيلزار الزهور عن طاولة المذبح 
وطوى «توتيلا» واتيّاه البساط» وأخرج كولنكلاو عدّة العمل؛ بينما جثا 
أوسكار خلف طاولة الركوع؛ يشرف على عملية التفكيك. وفي البدء تمّ 
قطع الصبي المعمدان المتلفع بجبة من جلد الماعز بنيّة اللون. كم كنا 
محظوظين لأننا جلبنا معنا منشار لقطع الحديد. ففي داخل الجبس ثمة 
قضبان معدنية بعرض الإصبع كانت تربط المعمدان بالسحابة. لقد تولى 
كرلنكلاو أمر القطع بالمنشارء ففعل ذلك مثل أي طالب في الثانوية؛ 
فشعرنا من جديد بحاجتنا إلى متدربيّ سفن شيشاو. ثم حل شتورتبكر 
محل كولنكلاو» فطرأ على العمل تحسّن قليل؛ وبعد نصف ساعة من 


اا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الجعجعة والضوضاء تمكنًا من جندلة الصبي المعمدان ثم لففناه ببطانية من 
الصوف, وتركنا سكون الكنيسة بعد منتصف الليل يُحدث أثره فينا 

أمَا قطع الصبي يسوع. الذي كانت فردة مؤخرته تلامس بأكملها فخذ 
العذراء» فقد كان عملا شاقا ومضيعاً للوقت. فاحتاج درشهازه ورنفاند 
الكبير وقلب الأسد أربعين دقيقة بالتمام والكمال لإنجاز تلك المهمة. لكن 
لماذا تأخر موركينه عن الحضور؟ كان أراد أن يأنتي مع جماعته من 
نويفارفاسر مباشرة ليلتحق بنا في الكنيسة» لكي لا تلفت المسيرة الأنظار. 
وبدا مزاج شتورتبكر سيئأء بل تراءى لي متوتر الأعصاب» فسأل الأخوين 
رنفاند عن موركينه عذة مرّات. أخيرا عندما ذكر اسم لوتسي» توقف 
شتورتبكر عن طرح الأسئلة» فانتزع المنشار من يديّ قلب الأسد غير 
الماهرتين» وأجهز على ما تح عن الصبى يسفو ترجه عابي الماديج ‏ 
متجهّم. وحين طرحنا التمثال أرضا انكسرت الهالة القدسية» فاعتذر لي 
شتورتبكر. وبجهد بالغ كتمت توتر الأعصاب الذي أوشك أن يتمكن مني 
وطلبت منهم أن يلمّوا أجزاء الطبق الذهبي المصنوع من الجصّ ويحفظونها 
في برنيطتين. كان كولنكلاو يعتقد أنه من الممكن إصلاح الضرر بالمواد 
اللاصقة. لكننا حشونا تمثال يسوع المقطوع بالوسائد» ثم لففناه ببطانيتين 
من الصوف. 

كانت الخطة تقتضي أن نقطع العذراء بالمنشار من الخصرء وأن نعمل 
قطعاً آخر بين أخمص القدمين والسحابة. لقد أردنا أيضاً أن نترك السحابة 
في الكنيسة وأن نحمل معنا إلى قبو الفيلا شطريّ العذراء وحدهماء 
ويسوع في كل الأحوال» وربما الصبي المعمدان. وعلى العكس من 
المتوقع» حسبنا قطع الجبس أثقل مما كنت عليه في الواقع. كانت 
مجموعة التماثيل مصبوبة بالجبس» بحيث أنها كانت مجوّفة من الداخل» 
فأصبح سمك حافتها الخارجية يعادل إصبعين على أبعد تقديرء فكمنت 
الصعوبات في قضبان الهيكل الداخلي. وبدا الشبّان متعبين» لاسيما 
كولنكلاو وقلب الأسد. فكان لا ند إن تحط فترة استراحة؛ إذ أن 
الآخرين» والأخوين رنفاند أيضاًء لا يعرفون استخدام المنشار. فجلس 


4ع 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أفراد العصابة متفرقين على مصاطب الكنيسة» يرتجفون من البرد. فانتصب 
شتورتبكر وطوي حافة قبعته القطيفة التي خلعها في باطن الكنيسة. وشاع 
جرّ عام لم يعجبني؛ فكان لابد من القيام بعمل ما. كان الفتيان يعانون 
تحت وطأة المعبد الليلى الموحش. فضلاً عن أن توتراً ساد بسبب غياب 
موركينه. وبدا الأخوان رنفاند كأنهما كانا يخشيان شتورتبكرء فوقفا إلى 
الجانب وأخذا يتهامسان» ثم لاذا بالصمت بناءً على أمر من شتورتبكر. 
فنهضت من مقعد الركوع الصغيرء أظنْ أنني قذفت بحسرة ساعتهاء 
وخطوت مباشرة نحو العذراء المتبقية. فبات بصرها الذي وجهته من قبل 
إلى يوحنًا مسلطاً الآن إلى المذبح الرئيسي المليء بنثار الجصّ. وكانت 
سبابتها اليمنى التي أشارت من قبل إلى يسوع توجهت الآن إلى الفراغ أو 
إلى الجناح اليسار المعتم من الكنيسة. قطعت درجات المذبح واحدة إثر 
أخرى» ثم ألتفت إلى الوراء. باحدا عن عيتخ شعورتبكر الغائرتين؛ 
فوجدهما زائغتين» فلكزه كولنكلاو» لكي يستجيب إلى طلبي. فنظر إليّ 
باضطراب وعلى نحو لم أره من قبل» إلا أنه لم يذرك ما عديت وأخيراً 
فهم ما أردت» أو فهمه جزئيّاًء فتقدم ببطء» أشدّ بطئاً من المعتاد» فقطع 
درجات المذبح في خطوة واحدة» ثم رفعني وأجلسني في مكان القطع 
الأبيض الحاد الحواف» المنشور بطريقة سيئة» على الفخذ اليسرى للعذراء 
الذي بانت عليه آثار عجيزة الصبي يسوع بارزة إلى حدّ ما. وعاد شتورتبكر 
فوراً إلى مكانه؛ وأصبح فوق الأرضية المبلطة في خطوة واحدة» وأوشكٌ 
أن يسرح في خياله مرّة أخرى. لكنه أدار رأسه إلى الوراء» ثم ضيق عينيه 
المتقاربتين وأحالهما إلى مصباحيّ رقابة متوهجين» وبانت عليه علامات 
الدهشة والإعجاب أمام بقية أفراد العصابة المنتشرين على المصاطب عندما 
رآني أحتل موقع يسوع بكل بداهة وبشكل جدير بالتقديس والعبادة. 

حينئذ لم يحتج شتورتبكر إلى وقت طويل» إنما فهم خطتي بسرعة» 
بل تجاوزها في فهمه. فسلط عليّ المصباحين اليدويين الميدانيين اللذين 
استفاد منهما نارسس والشارب الأزرق أثناء التفكيك؛ سلطهما على وعلى 
العوام مناشترقه "لم أمر بإشعالة القت الالغفرة» لآث وسص المصباحين قد 


2 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بهرني» وأشار للأخوين رنفاند بأن يتقدما منه» وتهامس معهماء لكنهما لم 
يؤيدا ما نوى عليه» فاقترب كولتكلاو من الجماعة دون أن يعطيه شتورتبكر 
إشارة» وأبرز أمامها براجمه المتأهبة للنفض» فاستسلم الأخوان» واختفيا 
حالاً في حجرة الموهف» يحرسهما كولنكلاو ومساعد سلاح الجوّ مستر. 
فبقي أوسكار يننظر بهدوء» متأهباً» ولم يصب بالدهشة عندما عاد الأخوان 
رنفاند بثوبين لونها أبيض وأحمر من ثياب سدنة القساوسة» ومعهما مستر 
الطويل يرفل برداء الكهنة» وجاء كولنكلاو مرتدياً لباس معاون القسيس» 
حاملاً معه كلّ ما يستلزمه القدّاس» ثم رفع عد الأدوات من السحابة 
وانصرف . وأمسك رنفاند الكبير بمرجل البخور والصغير بالأجراس. فأخذ 
مستر يقلّد حضرة القسيس فيهنكه تقليداً لم يكن سيئاًء على الرغم من 
الرداء الفضفاض؛ وقد فعل ذلك في البدء بتهكم حريٌ بتلميذ» بيد أنه 
سرعان ما انجرف نحو النصّ والحدث المقدّس» فلم يقدم لناء لاسيما أنا 
شخصياً. محاكاةً ساخرةً» بل قدّاساًء أصطلح على تسميته أمام المحكمة 
فيما بعد بالقدّاس الشيطاني. 

بدأ الثلاثة بأداء الصلاة التراتبية: فثنت العصابة ركبها فوق الأرضية 
المبلطة ورسمت علامة الصليب» ورفع مستر عقيرته» متقناً أداء النصّ إلى 
حد ماء يسنده مساعدا القساوسة المتمرسان» ليقيم القدّاس . وأثناء الصلاة 
الافتتاحية صرت أمرر مضربيّ على الطبل بحذر. ثم رفعتٌ وتيرة الإيقاع 
عندما بدءوا يرتلون «يا ربّ ارحمنا»ءء» وأخذت أمتدح سبحانه في السماء 
على طبل الصفيح؛ ودعوت إلى التراتيل القدسية؛ وعزفت مقطوعة طويلة 
على رقعة التطبيل بدلاً من الرسالة الإنجيلية التي تذاع في القدّاس 
النهاريّ. وقد تمكنت من عزف ترنيمة الشكر هللّويا بصورة رائعة. أثناء 
أداء الشهادة لاحظت كيف كان الشبّان مؤمنين بي» وفي صلاة جمع 
الصدقات سحبت الكأس قليلاً إلى الوراء» وأمرت مستر بأن يجلب الخبز 
ويخلط الماء بالنبيذ» ثم تركتهم يضمخونني والكأس بالبخور» وراقبت 
تصرفات مستر وهو يشطف يديه. وعزفت صلاة ربنا الذي في السماء 
مطالباً أخوة العقيدة تحت الضوء الأحمر للمصابيح اليدوية بالانتقال إلى 


م 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


طقس التجسّد. فدعا مستر إلى أداء الصلاة» متعظاً بالأمر القدسى - لقد 
قدم لي الشبان الجالسين على المصاطب فراءتين مختلفتين من صلوات ربئا 
الذي في السماء» بيد أن مستر عرف كيف يوحّد بين البروتستانتيين 
والكاثوليكيين أثناء تناول القربان المقدس . بينما كانوا يستمتعون بالمضغ 
عزفت لهم صلاة الاعتراف بالخطايا. كانت السيّدة العذراء تشير بإصبعها 
ويهبط: كم جميلاً كان أداؤه للدعاء: البراءة والصفح والمغفرة؛ وعندما 
وصل إلى كلمات الختام 654 221558 ,116 انصرفوا فأنتم طلقاء» عندما أطلق 
هذه العبارات فى فضاء الكنيسة حدث فعلاً انصراف روحيئّ» حتى بات 
الاعتقال الدنيوي لا يشمل أفراد عصابة النافضين الذين قويّ إيمانهم وتعزز 
باسم أوسكار ويسوع . 

كنت قد سمعت صوت السيّارات أثناء القدّاس» وحتى شتورتبكر كان 
أدار رأسه كذلك» فكناء كلاناء لم نصب بالدهشة عندما ارتفعت الأصوات 
من المدخل الرئيسى ومن المَؤهِف والبوّابة الجانبية اليمنى فى آن واحدء 
وأخذت كعاب الأحذية الطويلة تدرّي فوق أرضية الكنيسة. وأراد 
شتورتبكر أن يرفعني عن فخذ العذراء. لكنني رفضت بحركة من يدي. 
ففهم أوسكارء وهرّ رأسه له وأجبر بر أفراد العصابة على البقاء راكعين» 
وأن ينتظروا الشرطة الجنائية وهم في حالة ركوعء؛ فبقي الشبّان في 
الأسفل» يرتعدون من الخوف في الواقع» وقد ركم بعضهم على ركبتيه 
قلب الكنيسة من جهة اليسار وعبر الموهف, لتطوّق المذيح الجانبي 
اليسار. 

كانت الأشعة كثيفة» لأن المصابيح اليدوية لم تحوّل إلى الأشعة 
الحمراء. فنهض شتورتبكر» ورسم علامة الصليب» وعرض نفسه 
للمصابيح اليدوية. ثم سِلّم قبعته القطيفة إلى كولنكلاو الذي لم يزل 
1خ وسقي حيطي له حاير تسر ال جزمن اب مسح 
يدوي. في اتجاه حضرة القسيس في فيهنكهء وسحب من خلف الظلٌ شيئاً ما 


44١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


نحيفاً أخذ يرفس مدافعاً عن نفسه. فجلبه إلى الضوء؛ سحب لوتسي 
رنفائذء وصار يوجه لكماته إلى وه الفتاة المتقلضء المديب كاليقلك 
الذي ارتدى برنيطة إقليم الباسك؛ وظل يضربها حتى لاحته لكمة شرطي 
وألقت به بين المصاطب. فسمعت شرطياً يهتف بصاحبه من أسفل السيّدة 
العذراء: «ماذا فعلت يا يشكه! هذا هو ابن الرئيس!4؟ فشعر أوسكار بسرور 
باطني لأنه عثر في شخص ابن رئيس الشرطة على مساعد له في القيادة 
يتمتع بالكفاءة» ثم تركهم يضعونه تحت الحماية بلا مقاومة» بعدما مكّل 
دور الطفل ذي الأعوام الثلاثة» النائح الذي غرر به المراهقون: فحملني 
حضرة القسيس فيهنكه على ذراعيه. 

فلم يصرخ سوى رجال الشرطة الجنائية الذي اقتادوا الشبّان. غير أن 
حضرة القسيس اضطر إلى وضعي على بلاط الكنيسة؛ إذ أن وهنا اعتراه؛ 
اجبره على أن يلزم مصطبة الكنيسة. ووقفت إلى جانب عدّة العمل» 
فاكتشفت خلف المطارق والأزاميل سلة مؤنة مليئة بالخبز والسجق كان قد 
جهّزها درشهازه قبل بدء العملية. فأخذت السلّة وخطوت نحو لوتسي 
الهزيلة المقشعرة برداً تحت معطفها الخفيف وقدمت لها الشطائر. فرفعتني 
وجعاتني إلى يمينهاء ثم دسّت بين أصابع يدها اليسرى قطعة خبز محشوة 
بالسجق. وحشرها على عجل بين أسنانها. أخذت أراقب وجهها المهان 
المتألم المزدحم بمعالمه: العينان القلقتان خلف الشقّين الأسودين والجلّد 
الذي كأنه معدّل بالمطرقة والمثلث الذي يلوك والدمية والطاهية السوداء 
التي تلتهم السجق بغلافه» فتزداد هزالاً أثناء الالتهام» بل تزداد جوعاً 
وتدببا وشبها بالدمية - ذلك المشهد الذي وسمني بطابعه. فمن ذا الذي 
حرم الحلك عن جيني 1 وإلى متي يال يلوك الصجل في واخلن وغلانه 
ويلوك الناس» مبتسماً مثلما يبتسم المثلث وحدهء ويلوك السيّدات اللواتي 
يروضن وحيد القرن على السجاجيد؟ وعندما اقتيد شتورتبكر من قبل 
شرطيين» مظهراً وجهه الملطخ بالدم لأوسكار ولوتسي» تجاهلت رئيته» 
وبقيت معرضاً عتة» حتى أخرجنى خمسة أو ستة من رجال الشرطة خلف 
عصابة النافضين السابقة» محمولاً على ذراع لوتسي التي كانت تمضغ . 


8 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فما الذي بقي خلفنا؟ بقى حضرة القسيس فيهنكه مع مصباحيّ 
الميدان اليدويين اللذين حوّلنا أشعتهما إلى اللون الحمراء» بقي بمفرده مع 
ثياب مساعديٌ القساوسة ورداء الكهنة المرمية على عجل فوق مدرج 
المذبح. وبقي يوحنًا ويسوع المقطوعان بالمنشار قرب العذراء التي كان 
عليها أن تجسّد في قبونا القوّة المضادة للسججادة مع السيّدة ووحيد القرن. 
إلا أن أوسكار نقل إلى المحاكمة التي أطلقتٌ عليها ومازلت أطلق عليها 
اسم محاكمة يسوع الثانية التي انتهت بتبرئتي وتبرئة يسوع في الوقت ذاته. 


رك 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


طريق النمل 


أرجو أن تتصورا حوض سباحة مبلّط بالحجر اللازوردي» حيث 
يستحم أناس ملوحون بالشمس» وذوو إحباين رياضي. وحيث يقبع 
حول حافة الحوض وفي قمرات الاستحمام رجال ونساءٌ يحملون ويحملن 
احماسا ريافيا مشانة لإاحساس أرلتك الآاناس .. وفق الفدكن أن تعكيلوا 
أيها الموسش وق تيف مو سكاعة ميدتفة الصوت» رخاوا الجر 
الشن والإثارة الجبية الضفيفة غير الملزمة المقدوةة يتور أن سبزافيل 
السباحة . فالحجر ناعم لكنه لا يؤدي بالمرء إلى الانزلاق. لم يكن هناك 
سوى بضعة لافتات تشير إلى الممنوعات» لكن حتى هذه نفسها يمكن 
الاستغناء عنهاء إذ أن المستحمين يأتون هاهنا لمدّة ساعتين» فيفعلون كل 
ما هو محظور خارج المسبح. وبين الحين والآخر كان أحدهم يقفز من 
منصّة القفز التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتارء إلا أنه لم يستطع مع ذلك أن 
يسترعى انتباه السابحين.أو يحرف أبصار ضيوف المسبح المضطجعين في 
أوضاع مختلفة عن الجرائد والمجلآت المصورة. فجأة هبّت نسمة هواء؛ 
كلا لم تكن نسمة هواءء, إنما رجل شاب يتنقل على مهل وبتصميم من 
درجة سلّم إلى أخرى ليعتلي منصة القفز ذات الأمتار العشرة. فتهبط 
المجلات مع تقاريرها القادمة من أوربا وما وراء البحار» وترتفع العيون مع 
صعود الرجل»؛ وتستطيل الأجساد المستلقية» وتظلل امرأة شابة جبينها 
بكفهاء وينسى أحد الحاضرين ما كان يفكر فيه» فتبقى كلمة ما غير 
منطوقة» وتنهى محاولة غزل بدأت للتو فى منتصف العبارة - إذ أنه 
التسب: الآن على التئصة بيده المندن الملىء بالفنخولة» يحجل ينها 


لك 


1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


على قضبان المنصّة الملتوية بهدوء وطواعية»؛ متطلعاً إلى الأسفل بضجرء 
محرراً حوضه برشاقة من السقّالة؛ ثم يجرؤ على اقتحام منصّة القفز 
الشاهقة الارتفاع؛ المتأرجحة إثر كلل خطوة؛ مركزاً بصره على الحوض 
اللازوردي المتصاغر من فرط الهلع؛ وحيث تختلط طاقيات السبّاحات 
حمراء وصفراء وخضراء وبيضاء أو حمراء وصفراء وخضراء أو بيضاء 
وحمراء وصفراء كل مرة من جديد. ولابد أن تكون النساء اللواتى يعرفنه 
يجلسن هناك : ادوريس! ولآريكا شرلرة وكذلك هيوتا يلين ف 
صديقها الذي لا يناسبها قط. فتلوّح له النساء وكذلك يوتا. فأعاد عليهن 
التلويح خشية من فقدان توازنه» فيهتفن به. فما الذي كنّ يطلبنه منه؟ لقد 
هتفن به أن يفعلها ونادته يوتا بأن يقفز. لكنه لم يضع ذلك في الحسبان» 
بل أراد فقط أن يشاهد مرّة واحدة كيف هو الأمر هنا في الأعلى» ثم يهبط 
السَلم درجةً بعد أخرى ببطء شديد. الآن أخذن يهتفن بصوت مرتفع 
بسمعه الجميع : اقفز! هيّا افعلها! اقفز! 

إنكم بلا شك ستعترفون بأن المرء سيكون في وضع شيطاني مهما 
اقترب من السماء فوق منصّة قفز. وعلى نحو مشابه كان وضعي ووضع 
عصابة النافضين في يناير من العام الخامس والأربعين» حتى لو يكن 
الموسم موسم استحمام. فقد تجرأنا كلّنا على الصعودء وصرنا نتدافع 
فوق منصّة القفزء وفي الأسفل جلس القضاة والمستشارون والشهود 
وحجاب المحكمة؛ مشكلين حدوة حصان فخمة حول حوض خال من 
المياه . 

آنذاك وطأ شتورتبكر المنصّة المتأرجحة القائمة بلا هيكل» فهتفت به 
جوقة القضاة «اقفز!» لكن شتورتبكر لم يقفز. فنهض شبح فتاة نحيف 
يرتدي سترة بفاريّة وتنورة رمادية ذات ثنيات» نهض من الأسفل حيث 
مقاعد الشهود. ارتفع وجه شاحب البياض» لكنه لم يكن مطموس المعالم 
- مازلت أدعي إلى يومنا هذا بأنه كان يشكل مثلثاً - ارتفع مثل علامة 
هدف لامعة؛ لكن لوتسي لم تهتف. بل همست: «اقفز يا شتورتبكر» 
اقفز!» فقفز شتورتبكر وجلست لوتسي من جديد على طاولة الشهود 


ه: 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الخشبية» ساحبةً كمّي سترتها البافاريّة الحياكة إلى الأسفل لتخطي بهما 
قبضتيها. وأخذ موركينه يحجل على المنصّة» فطالبه القضاة بالقفز. لكن 
موركينه لم يرغب في القفزء إنما ابتسم ناظراً إلى أظفار أصابعه بارتباك 
وحيرة» وانتظر إلى أن رفعت لوتسي الكمّين لتجعل قبضتيها تنزلقان من 
سترة الصوف., مظهرةً له المثلث الأسود الإطار ذا العينين الضيقتين. فوثب 
حيتئذ على المثلث؛ شغوفاً بتحقيق غايته كمن أصابه مسّ» ومع ذلك؛ فإنه 
لم ينلها. أما كولنكلاو وبوته اللذان لم يكن أحدهما يستسيغ الآخر أثناء 
الصعود فقد اشتبكا ببعضهما على منصّة القفز. فتم نفض بوته» ولم يكف 
عنه كولنكلاو حتى أثناء الوئب. وقبل القفز أغمض درشهازه عينيه 
الحزينتين بلا قرار اللتين تشبهان عيني الأيل برموشهما الحريرية الطويلة. 
واضطر مساعدو سلاح الجوّ إلى خلع قيافاتهم النظامية قبل الوثئب. ولم 
يستطع الأخوان رنفاند الصعود إلى السماء بصفتهما مساعديّ القساوسة عبر 
منصّة القفز؛ إذ أن هذا الأمر سوف لا تسمح به شقيقتهما لوتسي التي 
جلست على مقعد الشهود؛ مرتدية الصوف الحربيّ المهلهل؛ تشبّع 
رياضة القفز. 

وعلى العكس من الوقائع التاريخية؛ فإن بيلزار ونارسس قفزا قبل 
توتيلا وتيّا. ثم قفز الشارب الأزرق وقلب الأسد ولحق بهما المشاة من 
أفراد العصابة: الأنف» بوشمانء ميناء النفط» الصمّارء كولنزئف» 
ياتاغان» فاسبندر. وعندما قفز شتوخل الأحول المرتبك الذي كان تلميذاً 
في المتوسطة؛ فانظم إلى عصابة النافضين عن طريق الصدفة وبشكل 
ناقص في حقيقة الحال؛ بقي يسوع وحده على منصّة القفز فرفض يسوع 
أن يقفز تلبية لطلب جوقة القضاة التى اعتبرته أوسكار ماتسرات. بعدما 
نهضت لرتمي الصارمة ذا الضفيرة الرفيعة المعائلة لفليرة موتسارت 
المتدلية على عظام كتفهاء ناشرة ذراعيها المغطيتين بالصوف» لتهمس دون 
أن تحرّك شفتيها المتقلصتين: «اقفز يا يسوع الجميل اقفرّ؛: أدركت الطبيعة 
المغرية لمنصّة القفز ذات الأمتار العشرة» فأخذت قطط صغيرة رمادية 
تتقلب حينئذ على باطن ركبتيّ وبدأت قنافذ تجامع بعضها تحت أخمص 


كمع 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


قدميّ وباتت السنونوات قادرة حينئذ على مغادرة العش تحت إبطيّ» 
باتع العالم في متناول قدميّ» وليس أوربا وحدها. حينئذ صار 
اليابانيون والأمريكان يرقصون رقصة المشاعل على جزيرة لوزون. حينئذ 
فقد أصحاب العيون الضيقة المتدانية الجفون وأصحاب العيون المدورة 
أزراراً من قيافاتهم. في الوقت ذاته كان ثمة ترزي في ستوكهلم يخيط 
الأزرار لبذلة سهرة مقلّمة بخطوط هادئة الانسياب. حينئذ كان الأميرال 
«مونتباتن» يعلف فيلة بورما بقذائف من جميع الأعيرة. وثمّة أرملة ما في 
مدينة ليما تعلّم ببغاءها أن يردد عبارة «كارامبا». حينئذ أبحرت حاملتا 
طائرات عملاقتان مزخرفتان كأنهما كاتدرائيتين من الطراز القوطيّ في 
عرض المحيط الهادي في اتجاه بعضهماء ثم أطلقتا طائراتهما لكي تغرق 
أحدهما الأخرى» فبقيت الطائرات عاجزة» معلقة في الهواء على نحو 
مجازيّ خالص كالملائكة ؛ لأنها لم تعد قادرة على الهبوط» واستهلكت 
وقودها في الهدير إلا أن ذلك كلّه لم يقلق قاطع التذاكر في الترام الذي 
انتهى عمله في مدينة هاباراندا السويدية» ثم بدأ يقلي البيض في المقلاة» 
بيضتين له وبيضتين لخطيبته التي كان ينتظر قدومها مبتسماء واضعا في 
ذهنه الحسابات كلّها. بالطبع كان يمكن للمرء أن يتكهن بأن جيوش 
المارشال كونييف والمارشال شوكوف ستواصل زحفها مرّة أخرى» وبينما 
كان المطر يهطل في أيرلندا فإن تلك الجيوش اخترقت جبهة فيستولا 
واستولت على وارسو مؤخراً بعد أن سيطرت على كونغسبيرغ بشكل 
مبكر» ومع ذلك فإن تلك الجيوش لم تحل دون احتراق الحليب على 
موقد الغازء حيث نصبته امرأة ما في بنما لها خمسة أطفال وزوج واحد. 
وهكذا أصبح من الصعب تجاوز حقيقة أن خيط الحدث المعاصر الذي 
مازال نهماً من الأمام؛ ملتفاً كما الأحابيل. صانعاً الوقائعء في حين أنه 
كان يحاك من الخلف؛ ليصبح تاريخاً مدوّنا. وخطر في ذهني أيضاً بأن 
فعَاليّات مثل : لوي الإبهام» تقطيب الجبين» تنكيس الرأس» هر اليدين» 
إنجاب الأطفال» سك النقود المزوّرة» إطفاء الضوء» تنظيف الأسنان» 
القتل بالرصاص» التجفيف» كانت تمارس في كل مكان» وإن بمهارة 


عام 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ليست متساوية. فجعلتنى هذه الأفعال المقصودة الأهداف أشعر 
بالاضطراب. لذلك صرفتٌ اناهي :هن جابيد إلى المحاكمة التي أقيمت 
على شرفي أسفل برج القفز. ثم همست الشاهدة المبكرة النضج لوتسي 
رنفاند: «اقفز يا يسوع. اقفز!» كانت لوتسي تجلس في حضن الشيطان 
مما جعل بكارتها تزداد حضورا وقوة. كان الشيطان يغرقها بالسعادة من 
خلال تزويده لها بالخبز والسجق. فكانت تقضم السندوتش» لكنها تبقى 
عذراء مع ذلك» وتهمس أثناء المضغ: «اقفز يا يسوع الجميل!» ثم تقدم 
لي مثلها السليم . 

إنني لم أقفز ولن أقفز من أبراج القفز. وتلك لم تكن آخر محاكمة 
لأرسكارء فثمّة من حاول إغرائى مرّات عديدة» لاسيما فى الفترة 
الأخيرة؛ لكى أقفز. وكلما كأن البحان إيَان محاكمة النافضين ؛ نكن خلس 
ما يكفي من الشهود على حافة الحوض الخالي من المياه ليحضر قضية 
البِْر التي أفضّل تسميتها بمحاكمة يسوع الثالثة. لقد جلسوا على مقاعد 
الشهود» راغبين في مواصلة الحياة خلال محاكمتي وبعدها. لكنني انقلبت 
على عقبيّ. فخنقت السئونوات القادرة على مغادرة عشَّها تحت إبطيّ» 
وسحقتٌ القنافذ المحتفلة بعرسها تحت أخمص قدميّ» وجوّعت القطط 
الرمادية في باطن ركبتيَ - ثم مضيت متشنجاً نحو هيكل المنصّة» مزدريا 
نشوة الشعور بالقفزء فتأرجحت في السلّمء ثم هبطت السلّم. حيث أككدت 
لي كل درجة منه بأن المرء لا يرتقي أبراج القفز فحسب. إنما يغادرها أيضاً 
بلا قفز. 

كان ماتسرات وماريا ينتظرانني في الأسفل . فباركني حضرة القسيس 
فيهنكه دون أن يسأله أحد. وكانت غريتشن شفلر قد جلبت لي معها معطفاً 
شتويّاً وكعكاً كذلك. وبان النمو على كورت الذي لم يتعرف علىّ بصفتي 
أباه ولا بصفتي أخاه غير الشقيق. وكانت جدّتي آنا كولياجك تمسك بذراع 
شقيقها فنسنت الذي كان يعرف العالم خير معرفة ويتحدث بكلام مضطربا 
لا رابط له. وبعدما غادرنا مبنى المحكمة» أقبل نحو ماتسرات موظف في 
ثياب مدنية» وسلمه مكتوباًء ثم قال: «يجب أن تفكر حقّاً في الأمر مرّة 


84 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أخرى يا سيّد ماتسرات. لابد من إبعاد الطفل عن الشارع. لقد رأيت 
يتنه أى عناصر تلك التي أساءت التعامل مع هذا المخلوق البائس 
المسكين.» فبكت ماريا وعلقت في رقبتي الطبل الذي أمسك به حضرة 
القسيس فيهنكه أثناء المحاكمة. ذهبنا إلى موقف الترام في محطة القطارات 
الرئيسية. كان ماتسرات قد حملنى بقيةً المسافة. فنظرت إلى الخلف عبر 
منكبيه» باحثاً عن الوجه للق بين جموع الناس» وأردت أن أعرف فيما 
إذا كان عليها أن تتسلق أيضاً برج القفزء أم أنها قفزت خلف شتورتبكر 
وموركينه» أم آثرت مثلي الالتزام بالإمكانية الثانية التي قدمها السلّمء أي 
إمكانية الهبوط . 

وإلى يومنا هذا فإنني لم أقلع عن التفتيش في الشوارع والساحات عن 
تلك المراهقة التي لم تكن قبيحة ولا جميلة» لكنها مازالت تقتل الرجال 
بلا كلل. وصرت أشعر بالرعب» حتى وأنا على سرير مصحّة الأمراض 
العقلية» إذا ما أبلغني برونو بقدوم شخص مجهول الهوية لزيارتي. كان 
رعبي يكمن في أن لوتسي رنفاند هي التي ستأتي الآنء وستطالبك للمرّة 
الأخيرة بالقفزء بصفتها بعبع الأطفال والطاهية السوداء! وبقي ماتسرات 
يقلّب أفكاره عشرة أيَامِ كاملة فيما إذا عليه أن يوقّع الرسالة ويبعث بها إلى 
وزارة الصححة. وعندما وقعّها وأرسلها في اليوم الحادي عشرء كانت 
المدينة نفسها وقعت تحت قصف المدفعية» فبات من المشكوك فيه بأن 
البريد سيجد فرصة مناسبة لإيصال الرسالة . كانت طلائع دبابات الجيش قد 
زحفت تحت إمرة المارشال روكوسوفسكي حتى وصلت إلى ألبنغ. أمّا 
الجيش الثانى» بقيادة «فايس»» فقد اتخذ مواقعه على التلال المحيطة 
بغدانسك» فبدأت حينئذ حياة الأقبية. وكما نعلم كلّنا فإن قبونا كان تحت 
المحل» حيث يمكن الوصول إليه من مدخل القبو نفسه في ممر البيت» 
قبالة المرحاض» على مسافة ثمانيَّ عشرة درجة إلى الأسفل» خلف قبويٌ 
هايلاند وكاتر وقبل قبو شلاغر. كان العجوز هايلاند مازال موجوداً في 
البناية . أما السيّدة كاتر والساعاتي لاوبشاد وآل آيكه وشلاغر فقد رحلوا مع 
بعض الصرر والأمتعة. فيما بعد قيل عنهم وعن غريتشن وألكسندر شفلر 


نظ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بأنهم استقلوا في اللحظة الأخيرة سطح سفينة «القوؤة عبر المرح» شَابقاً: ثم 
ترجلوا عنها ومضوا في اتجاه شتيتين أو لوبك» أو ربما سحقوا على لغم 
فطاروا في الهواء؛ على كل حال» كان نصف المساكن والأقبية فارغا. 
كان قبونا يتمتع بميزة أنه يمكن الوصول إليه عبر مدخل ثان كان 
عبارة» مثلما نعلم كلّناء عن باب أرضيّ في المحل نفسه خلف طاولة 
البيع. ولذلك فإن أحداً لم يستطع رؤية ما يجلبه ماتسرات إلى القبو وما 
يأخذه منه. فلم يكن هناك من لا يحمل علينا ضغينة بسبب ما كدسه 
ماتسرات من خزين خلال أعوام الحرب. كانت القاعة الجافة الدافئة مليئة 
بالمواد الغذائية : من بقول ونشويات وسكر وعسل اصطناعي ودقيق القمح 
والسمن. فكانت صناديق الخبز المجفف تلقي بثقلها على صناديق السمن 
بو مارك بالمينء كذلك كدست علب الخفر إلى جاني غلب البرقوق 
وصّفْت البازلاء والأجاص على الرفوف التي سمّرها على الجداران 
ماتسرات العملي بنفسه. وثمة دعائم خشبية ثُبتت بين السقف والأرضية» 
بناءة على طلب غريف» كان من شأنها أن تمنح مخزن المواد الغذائية طابع 
المكان الأمين المخصص للحماية من القصف الجوّي حسب التعليمات 
الرسمية. كان ماتسرات قد همّ عدّة مرات بتحطيم تلك الألواح العازلة؛ 
لأن دانسغ لم تشهد قصفاً مركّزاً ما عدا بعض الهجمات الذي كان تهدف 
إلى التشويش . لكن عندما توقف غريف عن تقديم إنذاراته» توسلت ماريا 
بماتسرات» ا الحماية؛ إذ أنها طالبت بتوفير الأمن 
لكورت» وأحياناً لي أيضاً . وخلال القصف الجوّي الأول في نهاية يناي ر/ 
كانون الأزل تحمل العجوز هايلاند وماتسرات» بما تيسر لهما من فوة 
بدنية» حملا كرسي الأمّ تروجنسكي ووضعاه في قبونا. إلا أن الام 
تروجنسكي تُركت فيما بعد في الدار» أمام النافذة» نزولاً عند رغبتها 
ربماء أو من المرجح أيضاً بسبب الجهود الشاقة التي يتطلبها حملها. 
عقب الهجوم الكبير الذي استهدف مركز المدينة عثر ماتسرات وماريا على 
المرأة العجوز وقد تدلّى فكها السفلي» وزاغ بصرها كما لو أن ذبابة صغيرة 
دبقة التصقت في عينيها. وهكذا رفع باب غرفة النوم عن مفاصله» وأتى 


4 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


العجوز هايلائد بعدّة العمل من كشكه ومعها بضعة ألواح من بقايا 
الصناديق» وبدأ يتخذ القياسات» مدخناً سجائر-دربى التى أعطاها له 
ماتسرات» وقد سارع أوسكار لمعاونته في عمله؛ بينما اختفى الآخرون في 
القبو؛ إذ أن القصف المدفعي من التلال قد بدأ. 

كان عليه أن يسرع في عمله وأن يسمّر صندوقاً بسيطأًء ليس 
بالضرورة ضيقاً من ناحية القدمين. بيد أن أوسكار كان إلى جانب الشكل 
التقليدي للتابوت» وظلّ متمسكاً برأيه» واضعاً ألواح الخشب تحت منشار 
هايلاند إلى أن وافق أخيراً على تضييق التابوت من ناحية القدمين» حسبما 
تستحق أي جنّة بشرية. وفي النهاية بدا التابوت لطيفاًء مهذبا. وقامت 
السيّدة غريتشن بتغسيل الأم تروجنسكي» وتناولت من خزانة الثياب قميص 
نوم مغسول توّاً ثم قلّمت أظافرهاء ورتبت لفّات شعرهاء ومنحتها الثبات 
اللازم بثلاث إبر للحياكة» باختصار: لقد بذلت غريتشن كل ما في وسعها 
لكي تتخذ الأمّ تروجنسكي» حتى بعد موتهاء شكل الفأرة التي كانت 
تحتسي في سني حياتها قهوة الشعير بكل سرور وتلتهم البطاطس المفرومة 
المقلية. وبما أن الفأرة كانت تشنجت في كرسيّها أثناء القصف المدفعي» 
فقد أرادت أن تضطجع في التابوت بركبتين مرفوعتين إلى الأعلى» مما 
اضطر العجوز هايلاند إلى كسر ساقيهاء لكي يتمكن من تثبيت غطاء 
التابوت بالمسامير» مستغلاً فرصة خروج ماريا من الغرفة لبضع دقائق» 
حاملة كورت على ذراعها. 

غير أننا لم نكن تمتلك للاسف العنديد إلا ضبغا أصفرء ولي 
أسود. فحمل نعش الأمٌ تروجنسكي من الدار بلا طلاء» لكن بألواح ضيّقة 
من ناحية القدمين» وأنزل من السَّلم. فحمل أوسكار طبله خلف النعش» 
وصار يتأمل غطاء التابوت قارثاً: سمن فيتللو - سمن فيتللو - سمن فيتللو 
-؛ تكررت هذه العبارة ثلاث مرّات فوق بعضها وعلى مسافات متساوية» 
مؤكدة ذوق الأمّ تروجنسكي, ولو على نحو متأخر. لقد كانت تؤثر سمن 
فيتللو المستخلص من النباتات على أفضل أنواع الزبد؛ لأن السمن النباتي 
صحيّ ومغذّي ويجعل المرء نضراً وسعيداً. وأخذ العجوز هايلاند يجرٌ 


0١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


العربة الخشبية التابعة لبقالة غريف وعلى ظهرها التابوت عبر شارع لويزا 
وشارع ماريا وجادة أنتون-مولرء حيث نشبت النيران بمنزلين في اتجاه 
مستشفى النساء. لقد أودع كورت لدى الأرملة غريف في قبوناء وكان 
ماتسرات وماريا يدفعان من الخلفء وكان أوسكار يجلس في العربة» 
متمنياً لو أنه اعتلى التابوت» لكن لم يُسمح له بذلك. كانت الشوارع 
غاصة باللاجئين الفارين من شرق بروسيا ومنطقة «فيردر»ة. فبات اختراق 
قبو القطارات بغية الوصول إلى قاعة الألعاب الرياضية مستحيلاً؛ لذا اقترح 
ماتسرات أن تُحفر حفرة في حديقة مدرسة كونرادينوم» لكن ماريا 
اعترضت. وهر العجوز هايلاند الذي كان في عمر الأمّ تروجنسكي رأسه 
بالنفى. كنت أنا أيضاً ضد الحفرة فى حديقة المدرسة. فتوجب علينا أن 
نتخلى في الواقع عن مقابر البلدية» لأن الطريق الموصل بين قاعة الألعاب 
الرياضية وشارع هندنبورغ المشجّر كان مفتوحا فقط أمام المركبات 
العسكرية. لذلك فإننا لم نستطع دفن الفأرة إلى جانب ولدها هربرت» 
واخترنا لها بدلاً من ذلك موضعاً صغيراً خلف مروج مايو في متنزه شتيفن 
الواقع قبالة المدافن البلدية. وأضحت الأرض متجمدةً من شدّة البرد» 
وبيئما كان ماتسرات والعجوز هايلاند يتناوبان على المعول وماريا تحاول 
اجتثاث عروق اللّبلاب في جانب المصاطب الحجرية؛ استقل أوسكار 
بنفسه» فصار يتهادى بعد فترة قصيرة بين جذوع شارع هندنبورغ المشجر. 
أيّ حركة سير كانت هناك! كانت الدبابات والمصفحات المسحوبة من 
المرتفعات ومن ناحية فيردر تجرٌ بعضها بعضا. وفي الأشجار - كانت 
أشجار وترفون حسييما اتذكر - لق آفراد المقاومة الشعبية والكرد: كانت 
لافتات الكرتون أمام أزيائهم العسكرية يمكن قراءتها إلى حدّ ماء حيث جاء 
فيها أن المعلقين في الأشجار وفي أغصان الزيزقون هم من الخونة. 
فتطلعت في الوجوه المتقلصة لعدد كبير من المشنوقين؛ عاقداً المقارنات 
العامة والخاصة بينهم وبين البقّال المشنوق غريف. أبصرت كذلك لفيفاً 
من الفتيان معلقين في زيّ موحد فضفاضء فظننت مرّات عديدة بأنني 
رأيت شتورتبكر - إن الشبّان المشنوقين يبدون متشابهين كلهم - ومع ذلك 


47 
1_طماع !© :-1ع1]آنلا 1 


كنت أردد في نفسي: هاهم قد شنقوا شتورتبكر للتو - فيا ترى هل أنهم 
علقوا لوتسي رنفاند في شجرة؟ 

هذه الفكرة جعلت أوسكار يسرح بخياله بعيدا. فقام يفتش في يمين 
الأشجار وفي شمالها عن الفتاة الهزيلة المشنوقة» وتجرا على اختراق رهط 
الدبابات ليقطع الشارع المشجّرء لكنه لم يجد هناك سوى الجنود ورجال 
المقاومة الشعبية والفتيان الذين يشبهون شتورتبكر. فجرجرت خطاي بخيبة 
أمل؛ طالعاً الشارع حتى وصلت إلى مقهى الفصول الأربعة نصف المهدم» 
ثم عدت أدراجي على مضض فوقفت على قبر الأمّ تروجنسكي» نائراً مع 
ماريا الأوراق واللّبلاب على التلَّ الصغيرء حيث مازلت أحمل في ذهني 
تصوّراً ثابتأ وتفصيلاً عن لوتسي المشنوقة. ولم تُرجع في الواقع عربة 
الأرملة غريف إلى دكان الخضر. فقام ماتسرات والعجوز هايلاند بتفكيكها 
ووضعوا بعض أجزائها أمام طاولة الدكان» فقال تاجر بضائع المستعمرات 
للرجل العجوز الذي دس في جيوبه ثلاث علب من سجائر دربي: «ربما 
نحتاج إلى العربة مرّة ثانية. فهي هنا تقريباً في مكان أمين.2 فلم يقل 
هايلاند شيئاً» إنما تلقّف من الرفوف التي بدت خخالية بضعة لفائف من 
المعكرونة وكيسين من السكر. ثم جرجر قدميه من المحل بنعله المصنوع 
من اللبّاد الذي ارتداه أثناء تشييعه للجنازة ورجوعه منهاء وخلّف وراءه 
ماتسرات الذي لم بقايا البضاعة من الرفوف ونقلها إلى القبو. 

والآن بتنا لا نغادر هذه النقرة إلا نادرا؛ إذ قيل إن الروس وصلوا 
«تسيغانكنبيرغ» وابيتسغندورف»» وأصبحوا على قاب قوسين من 
«شيدلتس». وكانوا في كلّ الأحوال يتربعون على التلال؛ لأنهم أخذوا 
يطلقون نيرانهم على المدينة بشكل مباشر. فكانت المدينة الواقعة على 
اليمين والمدينة القديمة ومدينة الفلفل وناحية الضاحية والمديئة القديمة- 
الجديدة والمديئة الجديدة والمدينة المنخفضةء هذه الأحياء كلها التى 
أقيمت خلال سبعمائة عام قد احترقت في ثلاثة أيَام. ولم يكن هذا الحريق 
الأوّل الذي شهدته غدانسكء إذ أن «البومريين» و«البراندبورغيين» وفرسان 
التبشير والبولنديين والسويديين؛ فالسويديين مرّة أخرى والفرنسيين 


و 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


والبرويسيين والروس والسكسونيين كانوا يجدون» إبان صنعهم للتاريخ» 
بأن هذه المدينة جديرة بالحرق كل بضعة عقود - واليوم فإن الروس 
والبولنديين والألمان والإنجليز قاموا مجتمعين بشي الآجر المعمول على 
طراز الفنّ القوطيّ للمرّة المائة؛ دون أن يستخلصوا من شوائهم بقسماطاً. 
فاحترقت جادة النساجين والجادة الطويلة والجادة العريضة وجادتا حائكى 
الصوف الصغيرة والكبيرة» واحترقت جادة «توبيّاس»؛ وجادة الكلاب 
واحترق خندق المدينة القديمة وخنادق الضاحية والأسوار والجسر الكبير. 
وكانت بوّابة كران مصنوعة من الخشب لذلك اشتعلت على نحو أخاذ. 
وفي الجادة الصغيرة لخياطيّ السراويل بدأ الناس يتخذون القياسات 
لسراويل ساطعة الألوان بشكل ملفت للانتباه. واحترقت كنيسة مريم من 
الداخل نحو الخارج» كاشفة عن ضوء احتفالي عبر نوافذها المدببة 
الأقواس. بينما ذابت النواقيس المتبقية في كنائس القدّيسة كاترين والقديس 
يوحنًا والقدّديسات «بريجيتا» و«باربرا» و«اليزابيث» والقديسين بطرس 
وبولص ونواقيس كنيستي الثالوث والجئمان المقدّس» منصهرة في أبراجها 
الكبرى؛ وانتشرت في جادة القصابين رائحة شرائح اللحم المحترقة. وفي 
المسرح البلدي عرضت للمرّة الأولى مسرحية أحلام مشعل الحرائق ذات 
الفصل الواحد الملتبس المعنى. وتم في دار بلدية المدينة اليمنى رفع 
رواتب رجال الإطفاء بأثر رجعيّ اعتباراً من نشوب الحرائق. واحترقت 
جادة الروح المقدّسة باسم الروح القدس. واحترق دير الفرانسسكيين باسم 
القديس «فرانسيسكوس» الذي كان يحب النار وينشد لها الأناشيد. 
واحترقت جادة السيّدات من أجل الأب والابن فى وقت واحد. ومن 
التبن. ولم تعد أرغفة الخبز تخرج من أفران جادة الخبّازين. وأخذ 
الحليب يفور فائضا في جادة صحائف الحليب. و تبق سليمة إلا بناية 
التأمين ضد الحرائق في غرب بروسياء وذلك لأسباب رمزية بحتة. 

كان أوسكار لايهت كثيرا بالحرائق» ولو أنني لم أخرّن» وبتهور» 


غ3 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أم متعتي القليلة السريعة الاشتعال على سطح التجفيف» لبقيت في القبو 
عندما قفز ماتسرات درجات السلّم طالعاً إلى الأعلى؛ » لكي يشاهد من 
سطح تجفيف الملابس مدينة دانسغ المحترقة. كان اهتمامي كله منصبّا 
على إنقاذ طبلي الأخير المتبقي من خزين مسرح الجبهة وغوته وراسبوتين 

كنك قل وضعت ايغا بن مفحية فروحة رذوثة خفيفة: مرسوعة برقة 
متناهية» كانت روزفيتاء الراغونية» تجيد تحريكها ببراعة أيَامم حياتها. 
وبقيت ماريا في القبو» لكن كورت أراد أن يصعد معنا إلى السطح ليرى 
النيران. فشعرتء من ناحية» بالامتعاض من قابلية ولدي المنفلتة على 
التحمّس والانفعال» ومن ناحية أخرى كنت أقول لنفسى: إنه قد ورثها عن 
جذه الأكبر» أفعن سدق كرلاجق قعل السرادى- لظت مازيا 
بكورت في الأسفل» وسّمح لي بمرافقة ماتسرات إلى الأعلى» فأخذت 
حاجياتي» وألقيت بنظرة من نافذة سطح التجفيف فتعجبت من تلك القوّة 
الفعّالة النابضة بالحيوية التي كان على المديئة المُهابة الموقرة أن تشدٌ 
عزيمتها لملاقاتها. ولمّا طفقت القذائف تنفجر على مقربة منّا تركنا سطح 
التجفيف. وأراد ماتسرات أن يصعد إلى الأعلى مرّة ثانية» لكنه ماريا 
منعته؛ فانصاع لأمرهاء وأخذ يبكي عندما وصف للأرملة غريف» التي 
بقيت في الأسفل» الحريقٌ وصفاً مسهبا. ثم دخل إلى الدار من جديد 
وفتح المذياع: لكن لم يخرج منه شيء؛ ولم تعد نُسمع حتى طقطقة 
النيران في مبنى الإذاعة المشتعل ناهيك عن سماع الأنباء الخاصة. 
وانتصب ماتسرات فى منتصف القبوء متردداً إلى حدّ ما مثل طفل لا يعرف 
فيما إذا عليه أن يبقى مؤمنا بابا نويل؛ تقباد دنس الانت زر اله 
وعبّر للمرّة الأولى عن شكه بتحقيق النصر النهائي» فخلع شارة الحزب من 
ياقة سترته» عملاً بنصيحة الأرملة غريف» لكنه لم يعلم ما الذي سيفعله 
بها؛ إذ أن أرضية القبو كانت من الإسمنت» والأرملة غريف لم ترغب في 
أن تحملها عنه» فأدلت ماريا برأي يقول إن بإمكانه إخفاء الشارة بين 
بطاطس الشتاء» لكن البطاطس لم تبد مضمونة بما يكفي بنظر ماتسرات» 
ثم أنه لم يعد يجرؤ على الصعود إلى الدار؛ إذ أنهم سيقدمون حالاًء إن 


هع 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لم يكنوا قد وصلوا أصلاًء أو في الطريق إلى هناء فهم كانوا يقاتلون عند 
برنتاو وأوليفا عندما كان على سطح التجفيف» فشعر بالندم لأنه لم يلق 
بتلك العلامة فى رمل الحماية من القصف الجوّي؛ فما الذي سيحصل لو 
عر علية هنا فى لقب ولي ينه الغنا وكاب تسعد تومي يها عان التفرسانة 
وأراد أن يسحقها بقدمه وأن يلعب دور الرجل الثائر الهائج» غير أنني 
وكورت سارعنا إليها معاء فالتقطتها قبله» وبقيت ممسكاً بها حتى بعد أن 
أخذ كورت يوجه لى لكماته» مثلما يفعل عادة عندما يريد الحصول على 
شيء) غير أنني لم أعط ابني شارة الحزب؛ لأنني لا أريد أن أعرّضه 
للمخاطر؛ فعلى المرء أن لا يمزح مع الروس. كان أوسكار يعلم بذلك 
من خلال قراءة راسبوتين» ففكرت أثناء ما كان كورت يوجه الضربات لي 
وماريا تحاول فصلناء في أن الروس البيض أو الروس العظام أو القوزاق 
أو الجيورجيين أو المغول الكالموكيين أو «الروتنيين» أو الأوكرانيين وربما 
القرغيزيين أيضاً سيعثرون على شارة ماتسرات الحزبية لدى كورت إذا ما 
استسلم أوسكار لضربات ابنه. 

وبعدما فصلنا ماريا بمعونة الأرملة غريف» كنت أحمل الشارة فى 
قبضي اليسرى منتصراً. وشعر ماتسرات بالارتياح» لأنه قد تخلّص من 
وسامه. وانشغلت ماريا بكورت المولول. لكن الشارة بدأت توخز راحة 
يدي بإبرتها المفتوحة. وكنت ومازلت لا استسيغ أبداً تلك الحاجة؛ 
وحالما هممت بشك العلامة في سترة ماتسرات من الخلف - نما علانتي 
أنا بحزبه -؛ أصبحوا فوقنا في المحل دفعة واحدة» ومن المحتمل جداً 
أنهم دخلوا أقبية الجيران أيضاًء حيث كان صراخ النساء دليلاً على ذلك . 
وحين رفع الباب الأرضي وخزت الشارة راحتي كما من قبل فلم يبق لي 
سوى أتربع عند ركبة ماريا المرتجفة لأراقب النمل الذي كان شارع فلوله 
داخل القبو أوصل بين بطاطس الشتاء وكيس السكر بخطٌ منحرف. 
فخمنت وجود ستة من الروس العاديين تماماء» المخلوطين خلطا خفيفا 
يتدافعرن فوق سلَّم القبو ويترصدون بأعينهم من فوق بنادقهم الرشاشة. 
وعلى الرغم من الصراخ فإن النمل لم ينشغل قط بدخول الجيش الروسي» 


35 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مما أضفى على الجوّ شيثاً من الهدوء. فلم يكن في ذهن النمل سوى 
البطاطس والسكر» بينما كان أولئك ذوي البنادق الرشاشة يطمحون إلى 
تحقيق نمط آخر من الفتوحات. رأيت من الطبيعي جداً أن يرفع الكبار 
أيديهم إلى الأعلى؛ فالمرء يعرف ذلك من خلال أخبار الأسبوع 
المصوّرة؛ هكذا كان الأمر أثناء الدفع عن البريد البولندي» حيث تم 
الاستسلام بامتثال وطواعية. لكن لماذا قلّد كورت الكبار كما يفعل القرد؛ 
فذلك أمر لم أستطع إجلاء غوامضه. فقد كان عليه أن يحتذي بي» أي 
بأبيه» وإن لم يقتد بي فبالنمل على الأقل. وبما أن ثلاثة من أصحاب 
القيافات المربعة أظهروا شغفهم بالأرملة غريف فقد دبّت بعض الحركة في 
الجمع المتشنج. وفي البدء صرخت السيّدة غريف من شدّة المفاجأة؛ 
لأنها لم تتوقع كل ذلك الاندفاع السلس بعد زمن طويل من الترمّل ومن 
الصيام الذي سبقهاء بيد أنها سرعان ما رأت نفسها تعود إلى حالتها 
المنسية إلى حدّ ما. وقد عرفت أثناء قراءتي لراسبوتين بأن الروس يحبون 
الأطفال» فأتيح لي أن أشهد ذلك في قبونا. كانت ماريا ترتجف بلا 
سبب» فلم تستطع فهم لماذا سمح أولئك الأربعة الذين لم تكن لهم علاقة 
بالسيّدة غريف؛ لماذا سمحوا لها بأن تأخذ كورت في أحضانهاء بدلا مق 
أن يتخذواء هم أنفسهمء وبالتناوب» مكانهم هناك» وقاموا يداعبون 
كورت الصغير ويقولون له كلاماً من قبيل «دادادا»» ويقرصون خحدّي ماريا 
بخفّة ورقة؟ وثمة أحد ما حملني أنا وطبلي من الإسمنت» فحرمني من 
مراقبة النمل على سبيل المقارنة» لكي أقيس اجتهاده ومثابرته بالحدث 
الآني. وكان طبلي يتدلى على بطني» فقام شاب ضخم الجنّة واسع المسام 
بالنقر على الطبل بأصابعه الغليظة نقراً لا يخلو من مهارة بالنسبة لشاب بالغ 
مثله ؛ نقر بعض الإيقاعات التي يمكن للمرء أن يرقص عليها. فود أوسكار 
أن يثأر لنفسه؛ فيقرع على الصفيح بعض المقطوعات الفنيّة» بيد أنه لم 
يستطع ذلك؛ إذ أن علامة ماتسرات مازالت توخز باطن يده. فأصبح الجوّ 
لطيفاً ومؤنساً إلى حدّ ما في قبوناء حيث تمددت أرملة غريف التي كانت 
تزداة عدوء على الذوام تحت ثلاثة دياه تناويوا عليه واحداً تلو الآخر. 


/ع: 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبعدما شعر أحدهم بالاكتفاء» قام ذلك الطبّال الموهوب حقَّاً بتسليم 
أوسكار إلى ذلك الشخص الناضح بالعرق» والذي كان في عينه ضيق 
خفيف؛, حملني على الاعتقاد بأنه مغولي الأصل . وبينما أمسك بي بيده 
اليسار فقد زرّر سرواله بيمناه ولم يشعر بالاستياء عندما فعل سلفه» 
الطبّال» العكس تماما. غير أن ماتسرات لم يحظ بنصيبه من الترفيه؛ إذ 
بقي واقفاً أمام الرفٌ المليء بعلب الخضر المطبوخة البيضاء الصفيح» 
رافعاً يديه إلى الأعلى» كاشفاً عن الخطوط في راحتيه؛ لكن لم يكن هناك 
من يرغب فى قراءة كمّه. وعلى الضدّ من ذلك برهنت الفطنة التى تحلت 
بها العساء على أنها قطن مدمعة ::قنة ‏ سنيت ماري أز0 القرذات باللنة 
الروسية» وتوقفت ركبتاها عن الارتجاف» بل أخذت تضحكء وكان 
بمقدورها أن تعزف على هرمونيكا الفمٌّ» لو كانت طبلة الفمٌّ تلك في 
متناول يدها. 

لكنّ أوسكار الذي لم يكن سريع التكيّف» فقد انتقل إلى مراقبة 
الحيوانات المسطحة البنيّة الضاربة إلى اللون الرمادي» والتى زحفت على 
حافة ياقة صاحبي ذي الأصل المغولي؛ باحثاً عن تعويض للنمل . يا ليتني 
الاعطعت. القيقن على نقيلة منها لأقسسنها؟ ]3 أن:ذكر القحل قد تكزن فى 
قراءاتي» لاسيما عند راسبوتين» وأقل منه عند غوته. ولأنئي كنت عاجزاً 
عن القبض على القمل بيد واحدة فقد سعيت إلى التخلص من شارة 
الحزب. ولكي أبرر تصرفي قلت في نفسي: طالما كان المغولي يحمل 
على صدره أوسمة كثيرة؛ فإنني سأناول الشارة التي كانت توخز يديّ 
وتعيقني عن القبض على القمل» سأناولها إليكف مضمومة:؛ أي إلى 
ماتسرات الواقف إلى جانبي. ويمكن القول الآن بأنني ما كان علىّ أن 
أفعل ذلك» لكن المرء يمكن أن يقول أيضاً بأن ماتسرات لم يكن في 
حاجة لمدّ يده؛ غير أنه مدّهاء فتحررت من العلامة. وشيئاً فشيئاً شعر 
ماتسرات بالرعب بعدما تحسس شارة الحزب فى يده. ويما أننى أصبحت 
طليق اليدين؛ نإني لم أكن بحابعة لأصييم شناعداً علن ما افعله ماتشرات 
بالعلامة. كان أوسكار مشتت الذهن لدرجة أنه لم يعد قادراً على متابعة 


4 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


شؤون القمل» فأراد التركيز على النمل» بيد أنه انتبه إلى حركة يد سريعة 
قام بها ماتسرات؛ ولأنه لم يتذكر ما فكر فيه آنذاك؛ فإنه يقول اليوم: كان 
من الحكمة والتعقّل لو أنه بقي قابضاً على ذلك الشيء بيد مضمومة. غير 
أنه نوى على التخلص منه؛ فلم يجد له مخبئاً آخر سوى جوفه؛ على 
الرغم من خياله المجرّب دوما بصفته طاهيا ومزيّنا لديكور محل بضائع 
المستعمرات . 

وكم يمكن أن تكون حركة اليد القصيرة حاسمة على هذا النحو! 
فحركة قصيرة من اليد إلى الفم كانت كافية لإدخال الرعب في قلبيّ إيفان 
وإيفان الآخر اللذين جلسا بهدوء تام على يسار ماريا ويمينها واستنفرتهما 
من فراش الحماية من القصف الجوّي. فانتصبا أمام بطن ماتسرات 
مشرعين رشاشتيهماء وبات واضحاً للجميع بأن ماتسرات حاول أن يبتلع 
شيئاً ما. فلو أنه أغلق على الأقل إبرة الشارة الحزبية بثلاثة أصابع حتى! 
والآن فإنه غصٌ بقطعة الحلوى الضخمة المدببة» فأصيب بالاحتقان 
واتسعت عيناه وصار يسعل» ثم بكى وضحكء لكنه لم يتمكن من إبقاء 
يديه مرفوعتين إِبَان تلك الحركات العاطفية المتزامنة. إلا أن إيفان وإيفان 
الآخر لم يسمحا بذلك. فزعقا بهء راغبين في رؤية راحتي يديه 
مبسوطتين. لكن ماتسرات أوقف قواه بالكامل على جهازه التنفسي» فلم 
يعد قادراً على السعال بشكل صحيحء فأخذ يتراقص مطرّحاً بيديه» فكنس 
بهما علب الخضر المطبوخة على طريقة لايبزغ المصفوفة على الرف» 
فتسبب في أن يقوم المغولي؛ الذي كان يتطلع حتى ذلك الوقت بهدوء 
وبعينين ضيقتي الأجفان على نحو خفيف, بإنزالي من حضنه على مهل» 
ويمدٌ يده خلفه ليلتقط شيئاً ما ويضعه بشكل أفقي» ثم أطلق الرصاص من 
منطقة الخصرء فأفرغ مخزناً كاملا وصار يطلق ويطلق النار قبل أن يموت 
ماتسرات اختناقا . 

والمرء يفعل كل شيء عندما يتخذ القدر مجراه المحتم! فحالما ابتلع 
أبي المفترض شعار الحزب برمته ومات؛ فركت بأصابعي قملة دون علم 
بها أو دون رغبة» وكنت قد قبضت عليها في ياقة المغولي قبل برهة 


0ط 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وجيزة. لقد سقط ماتسرات في طريق النمل على نحو أفقي. ثم غادر إيفان 
والإيفانيون الآخرون القبو طالعين إلى المحل عبر السلم» وتناولوا بضعة 
علب من العسل الاصطناعي. وكان صاحبي المغولي آخر من خرج؛ لكنه 
لم يتلقف أي علبة من علب العسلء لأنه انشغل بتعبئة مخزن جديد في 
بندقيته الرشاشة. كانت الأرملة غريف معلقة بشكل مكشوف ومقلوب بين 
صناديق السمن النباتي. وكانت ماريا تضم كورت إلى صدرها. فخطرت 
في ذهني جملة قرأتها عند غوته» ووجد النمل نفسه أمام موقف متغيّرء إلا 
أنه لم يتهيّب من السير في طريق ملتوء فأقام طريق جيشه حول ماتسرات 
المنحني الجذعء إذ أن السكر الذي تسرّب من الكيس المفتوق لم يفقد 
شيئاً من حلاوته أبّانَ اختلال مديئة غدانسك من قبل قوّات المارشال 


روكرسوفسكي : 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


هل أفعلها أم لا أفعلها 


في البدء جاء «الروغيون» ثم أعقبهم القوطيون «فالغيبيديون»؛ ولحق 
بهم «الكاشوبيون» الذين انحدر أوسكار من صلبهم مباشرة. بعد ذلك بفترة 
قصيرة بعث البولنديون بآدالبيرت فون براغ» فجاء حاملا الصليب» فشحٌ 
الكاشوبيون أو «البروتسيون» رأسه بالفأس. حدث ذلك فى قرية صيّادِين 
اسمها غيدانج» ثم تحوّلت غيدانج إلى دانجك ودانجك إلى دانتسغ التي 
صار المرء يكتبها فيما بعد دانسغ واليوم صار اسم دانسغ غدانسك. وقبل 
أن ينتهي المرء إلى هذه الطريقة في كتابة الاسم قدم النبلاء البومريليون 
إلى غدانسك عقب الكاشوبيين. كانت لهم أسماء مثل: #سوبيسلاوس» 
واسامبور» و«امستفين» و«سفانتوبولك»6. فأصبحت القرية مدينة. وجاء 
البروتسيون المتوحشون فدمّروا المدينة كلها تقريبا. ثم لحق بهم 
#البرانةبورغيوة الذين قدموا من مكان يعي وقاموا أيضاً سعضن أعبال 
التدمير.. وكذلك بولسلاف البولندي الذي آراد آن يمارس قليلاً من 
التخريب» وأظهر فرسان بعثة التبشير اهتماماً بالغاً لكي تكون الأضرار التي 
أزيلت واضحة من جديد. ١‏ 

لقد مورست لعبة التدمير وإعادة البناء بضع مئات من الأعوام بالتناوب 
من قبل نبلاء بومريلين وقادة بعثة الفرسان الألمانية وملوك بولندا والملوك 
المناوئين لهم ومن قبل أشراف براندنبورغ وأساقفة «فلوكلافيك». كان 
البناة والمخربون يدعون: «أتو فون فالدهمار» و#ابوغوسا» و«هاينرش 
فون يبلوتسكه» و«ديتيرش فون آلتنبيرغ» الذي شيّد الحصن في 
'هافيلوسبلاتس؟» حيث تمٌّ الدفاع عن البريد البولندي في القرن العشرين. 

اءه 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ثم جاء «الهوسيتيون»» فانشيوا النيران هنا وهناك» بيد أن فرسان البعثة 
طردوا من المدينة فهُدم الحصنء لأن أحداً في المدينة لم ير ضرورة في 
الاحتفاظ به. فأصبح الناس بولنديين وسارت أمورهم على نحو لم يكن 
سيئا. كان الملك الذي حقق ذلك يدعى كاتسميرتس» الملقّب بالعظيم 
وكان ابن فلاديسلاف الأوّل. ثم جاء لودفيغ وبعد لودفيغ جاءت هدفيغ 
التي تزوجت من «ياغيللو فون ليتاون»» فبدأ آنذاك عهد الياغيلليون. 
رحلك فلاديسلاف الثاني فلاديسلاف الثالث» ثم جاء «كاتسميرتس» آخر 
لم يكن ذا مزاج حربيّ» لكنه مع ذلك بدّد أموال تجار دانسغ في الحرب 
ضد فرسان البعثة طوال ثلائة عشر عاما. وعلى العكس من ذلك انشغل 
اليوهان ألبرشت» مع الأتراك. وخلّف الإسكندر زيغسموند الكبير الملقّب 
«ابزيغمونت شتاري». ثم أعقب فصل كتاب التاريخ المتعلق زيغسموند 
أوغست الفصل الذي تحدث عن شتيفان باتوري» ووجد البولنديون متعة 
في تسمية بواخرهم العابرة للمحيطات باسمه. وقد طوّق المدينة وقام 
بقصفها زمناً طويلا - مثلما يمكن قراءة ذلك - لكنه لم يستطع احتلالها. 
ثم جاء السويديون فتصرفوا على النحو ذاته» فوجدوا متعة كبير في ضرب 
طوق الحصار حول المدينة؛ لدرجة أنهم كرروه مرّات عديدة. كذلك 
أغرى خليج غدانسك الهولنديين والدنماركيين والإنجليز في ذلك الوقت» 
فأتيح للعديد من قباطنة السفن الأجانب المبحرين نحو ميناء دانسغ أن 
يتحوّلوا إلى أبطال بحريين. 

ثم حل سلام أوليفاء فكم هو جميل ولطيف وقع هذه العبارة! 
فأدركت القوى العظمى آنذاك وللمرّة الأوّلى بأن بلد البولنديين يصلح 
للتقسيم بشكل رائع. و السويديون مرّة أخرى فالسويديون ومن ثم 
السويديون مرّة ثالثة - والمتراس السويدي والشراب السويدي المسكر 
فالقفز السويدي. وبعد ذلك جاء الروس فالسكسونيون» لأن الملك 
البولندي المسكين ستانيسلاف ليججنسكي قد اختبأ في المدينة. وبسبب 


ملك واحد تم تدمير ألفاً وثمانمائة منزل. عندما فرّ ليججنسكي المسكين 
إلى فرنسا حيث أقام لودفيغ زوج ابنته» أجبر مواطنو غدانسك على دفع 
١ه‏ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مليون من التقود. وإثر ذلك سمت بولددا ثلاث مرّات+ فجاء البرويسيون 
بلا دعوة ورسموا فوق صورة النسر الملكي البولندي صورة طيرهم على 
جميع بوّابات المدينة. ولحق بهم الفرنسيون في الوقت الذي انتهى فيه 
المدرّس يوحنًا فالك للتو من نظم قصيدة عيد الميلاد «أنت يا عيداً 
مجيدا. . .»4 كان الجنرال الذي بعثه نابليون يدعى راب» فتوجب على 
أهالي دانسغ أن يسددوا له عشرين مليون فرنك بعد حصار مريّر. ليس 
هناك أي ضرورة للشكٌ في أن زمن الفرنسيين كان زمناً مرعباً للغاية. ثم 
جاء الروس والبرويسيون وسلّطوا نيرانهم على جزيرة العنابر فأحرقوها ٍ 
بذلك انتهت الدولة الحرّة التى اختلقها نابليون. فوجد البرويسيون فرصاً 
حديكة الرسم طيرهع على بزانات السدينة تأقعروا ذلك بهشة عالنة 
ووضعوا في المدينة على الطريقة البرويسية فوج رماة القنابل اليدوية الرابع 
ولواء المدفعية الأوّل والشعبة الهندسية الأوّلى وفوج خيّالة الحرس الأميري 
الأوّل. وعسكر في دانسغ بشكل مؤقت فوج المشاة الثلاثون وفوج المشاة 
الثامن عشر فوج رماة القنابل اليدوية الثالث وفوج المشاة الرابع والأربعين 
وفوج رماة البنادق رقم *7. أمّا فوج المشاة رقم ١14‏ الشهير فقد انسحب 
في عام .147١‏ ولكي لا يُغفل شيء فقد ورد بأن لواء المدفعية الأول تمّ 
توسيعه إِبّان الزمن البرويسي ليشتمل على شعبة التحصينات الأولى وشعبة 
القرّة المترجلة العائدة لفوج المدفعية البرويسي الشرقي رقم واحد. إضافة 
إلى فوج مدفعية المشاة البومري رقم ؟ الذي استبدل فيما بعد بفوج مدفعية 
المشاة البرويسي الشرقي رقم .١7‏ وخلّف فوج فرسان الحرس الأميري 
الأرّك فوج فرسان الحرس الأميري الثاني. أمّا فوج الفرسان المسلحين 
بالرماح فقد عسكر عند أسوار المدينة لفترة قصيرة. وبدلا من ذلك اتخذت 
كتيبة التموين والإمدادات البرويسية الغربية رقم ١1‏ مواضعها خارج أسوار 
المدينة؛ أي في ضاحية لانغفور. وفي زمن مندوب عصبة الأمم المتحدة 
بوركهارد ورئيس برلمان دانسغ راوشننغ وغرايزر الذي خلفه في هذا 
المنصب لم تكن في الدولة الحرّة سوى الشرطة ذات الملابس الخضراء. 
بيد أن الأمر تغيّر خلال العام التاسع والثلائين في ظل فورسترء إذ امتلات 


وم 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


جميع الثكنات المبنية بالآجر بالرجال الفرحين الضاحكين المتلفعين 
بالقيافات العسكرية والمتمرسين على اللعب بجميع أنواع الأسلحة. والآن 
بات بإمكان المرء أن يحصى أسماء الوحدات التي تموضعت في غدانسك 
وما حولها وتلك التي أبحرت إلى جبهة البحر المتجمّد من العام التاسع 
والثلاثين إلى العام الخامس 0# إلا أن أوسكار سيتجاهل الأمر 
ويقول ببساطة: بعد ذلك جاء المارشال روكوسوفسكيء كما علمناء 
والذي تذكر أسلافه الأمميين العظام حين أبصر المدينة التي لم ينلها 
الخراب بعد فقام دفعة واحدة بحرق كلّ شيء بنيرانه» لكي ينهمك أولئك 
الذين يأتون بعده في إعادة البناء. ومما يعجب له حقّاً هو أن الروس لم 
يعقبهم تلك المرّة البرويسيون أو السويديون أو السكسوئيون أو الفرنسيون» 
بل جاء بعدهم البولنديون. 

وجاء البولنديون بصررهم وأمتعتهم من افيلنا» و«بياليستوك؛ واليبيرغ» 
يكرد لهم عن مساك وجاء | إلينا سيّد قدذم نفسه باسم «فاينغولد». وكان 
أعزب وحيداء لكن أوحى بتصرفاته دائما كما لو أنه محاط بعائلة كثيرة 
الأفراد» يصدر إليها الأوامر والإرشادات. وعلى الفور استلم السيّد 
فاينغولد متجر بضائع المستعمرات؛ فعرض على زوجته فيرا التي لم تزل 
غير مرئية ولم تحر أي جواب أيضاًء عرض عليها قبّان الأوزان العشرية 
وخرّان النفط وقضيب تعليق السجى المصنوع من النحاس الأصفر 
وصندوق النقود الفارغ» وعرض عليهاء بفرح غامرء خزين الأطعمة في 
القبو. أمّا ماريا التي عيّنها فاينغولد بائعة في المتجر على الفور وقدمها 
لزوجته الوهمية لوبا بإسهاب» فقد عرضت على فاينغولد مانسرات 
الملفوف بالمشمّع منذ ثلاثة أيّام والذي لم نتمكن من دفنه بسبب خوفنا من 
الروس الكثيرين الذين كانوا يجربون الدرّاجات الهوائية وماكينات الخياطة 
ويجربون النساء. وعندما رأى السيّد فاينغولد الجنّة التي كنا قلبناها على 
ظهرهاء شبك راحتيه على رأسه بالطريقة المعبرة ذاتها التي كان أوسكار قد 
راقبها لدي صاحبه بائع لعب الأطفال زيغسموند ماركوس قبل أعوام. 
فنادى في القبو على عائلته كلهاء وليس فقط على زوجته لوباء فرآهم 


.0.0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بالتأكيد يأتون جميعهم؛ إذ أنه خاطبهم بالأسماء» فنادى على لوبا وليف 
وياكوب وبيريك وليون ومينديل وتسونياء موضحاً لمن نادى عليهم 
شخصية ذلك الملقى ميتاء ثم شرح لنا بأن جميع من نادى عليهم للتو 
اضطجعوا موتى على هذا النحو قبل أن تلتهمهم أفران تربلتكا»» ومعهم 
أخت زوجته وزوج أختها الأخرى الذي كان له خمسة أطفال؛ ماعداه هو 
لأنه كان ينئر مسحوق الكلور للتعقيم. وساعدنا فاينغولد على حمل 
ماتسرات إلى المحلٌء بعد أن اصطحب عائلته معه. وناشد لوبا لعلها 
تساعد ماريا في تغسيل الجِتّة . لكنها لم تقم بالمساعدة. فلم يلحظ السيّد 
فاينغولد ذلك؛ لأنه كان منشغلاً بنقل خزين المواد الغذائية من القبو إلى 
المحلّ. كذلك فلتت الأرملة غريف من أيدينا هذه المرّة» والتي كانت قد 
غسلت جثمان الأمّ تروجنسكيء إذ أن بيتها كان مليئاً بالروس» حتى أننا 
سمعناها تغئّى من فرط الطرب. 

لقد امتنع العجوز هايلاند الذي عثر على عمل مصلّح أحذية منذ 
الأيام الأولى للاحتلال وصار يرقع أحذية الروس العسكرية التي بليت من 
فرط الزحف والتقدم؛ امتنع في البدء عن نجر التابوت. لكن بعدما أبرم 
معه السيّد فاينغولد صفقة» يمنحه على ضوئها سجائر دربي من محلنا 
مقابل محرّك كهربائي يأخذه من كشك العجرز هايلاند» ألقى بالجزمة 
العسكرية جانباً وتناول عدّة أخرى وألواح صناديقه الأخيرة. وكنًا نسكن 
آنذاك في بيت الأمّ تروجنسكي الذي أفرغ محتواه الجيران والبولنديون 
القادمونء وذلك قبل أن تُطرد منهء لنقيم في قبو السيّد فاينغولد الذي تركه 
لنا. قام العجوز هايلاند برفع باب المطبخ المؤدي إلى غرفة الجلوس؛ لأن 
باب غرفة الجلوس المؤدي إلى غرفة النوم قد أستخدم لتابوت الأمّ 
تروجنسكي. فأخذ يدخن سجائر دربي في باحة البناية» ويسمّر ألواح 
الصناديق. وبقينا نحن في الأعلى فاستوليت على الكرسي الوحيد الذي 
ثُرك لنا من أثاث البيت». وصرت أرتطم بالنافذة المحطمة الزجاج» شاعراً 
بالضيق من العجوز الذي كان يصنع الصندوق بلا عناية وكذلك بدون 
تضييق ناحية القدمين حسبما تقتضي التعليمات. 


0.6 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لم يستطع أوسكار رؤية ماتسرات» فبعد أن وضع الصندوق على 
العربة اليدوية العائدة إلى أرملة غريف كان غطاء علب السمن النباتي فيتللو 
قد سٌمر عليه» على الرغم من أن ماتسرات لم يمتنع فقط عن تناول السمن 
النباتي في حياته» بل إِنّْه كان يمقت استخدامه لأغراض الطهي. وتوسّلت 
ماريا بالسيّد فاينغولد لكي يرافقهاء لأنها كانت تخشى الجنود الروس 
الممشزين في الشوارع: فأبذا قايتشرله الى جلين ملفا مناقيه على 
بعضهماء ويغرف بالملعقة العسلّ من قدح من الورق المقرّى» تردده. 
خشية من أن تظنّ به زوجته لوبا الظنونء إلا أنه تلقى من عقيلته موافقة 
بالذهاب» فتزحزح من طاولة البيع وناولني قدح العسل الاصطناعي الذي 
ناولته بدوري إلى كورت الذي أجهز عليه تماماء بينما ترك السيّد فاينغولد 
ماريا تمن عليه بمعطف أسود طويل مبطن بفراء الأرانب. وقبل أن يقفل 
المحلّ ترجّى من زوجة أن لا تفتحه لأي أحد» وانتصب معتمراً القبعة 
الأسطوانية الضيقة عليه والتي كان ماتسرات يرتديها سابقاً في مختلف 
المآتم والأعراس. وكان العجوز هايلاند قد رفض جر العربة حتى المقابر 
البلدية» فهناك أحذية يجب أن يرقع نعلهاء كما قال» وعليه أن يختصر 
المهمة. فانعطف في «بروزنرفيغ» عند ماكس-هالبه-بلاتس الذي مازال 
الدخان يتصاعد من أنقاضه؛ فأدركت بأنه مضى في اتجاه سازبه. كان 
الروس يجلسون أمام المنازل تحت شمس فبراير الخفيفة ويفرزون 
الساعات اليدوية وساعات الجيب» ويلمعون الملاعق الفضيّة بالرمل» 
ويضعون على آذانهم مشدّات النهود للتدفئة» ويتمرون على التفنن في 
ركوب الدراجات الهوائية» فأقاموا موانع من اللوحات الزيتية والساعات 
القائمة على الأرض وأحواض الاستحمام وأجهزة الراديو وقضبان مشاجب 
الملابس» وصاروا يسيرون باستخفاف على شكل دائريٌ أو حلزونيّ أو 
لولبيّ» متحاشين أشياءً مثل عربات الأطفال والمصابيح التي تعلق في 
السقوف والتي رُميت من النوافذ؛ كانوا يتفادون الارتطام بها بألمعية» 
متلقفين التصفيق والاستحسان على مهارتهم. وحيثئما مررنا كان اللعب 
يتوقف بضع ثوان. ويقوم بعض أصحاب الزيّ العسكري الذين ارتدوا 


ك5ثم 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ملابس داخلية نسائية فوق ملابسهم بمساعدتنا في الدفع. لقد همّوا أيضاً 
بمدّ أيديهم إلى مارياء لكن فاينغولد الذي كان يتكلم الروسية ويحمل هوية 
شخصية نهرهم بشدّة. وأهدى لنا جنديّ اعتمر قبعة نسائية قفصاً فيه ببغاء 
حيّ من النوع الصغير يقف على عود من الخشب. فسارع كورت الذي 
كان يحجل إلى جانب العربة إلى الإمساك بالريش ونتفه. فرقعت مازياء 
التي لم تجرؤ على إعادة الهدية» القفصٌ عن متناول يد كورت وجعلته 
جانبي فوق العربة اليدوية. لكن أوسكار الذي بدا له الببغاء ملوناً اكثر من 
اللازم وضع القفص والطير معاً على صندوق السمنة المتضخمء 
المخسصن لماسرات: كنت أجلن فى تهاية العرية كماما ة مذلا تافر غ 
متطلحاً إلى روجة النكد كايتعرلك الملنء بالتتجاعيد فولد اتطباعاً بآن معالعة 
كانف قراوج بين الاستتراق في الشكير والدمء ٠‏ كما لو أنه كان يراجع وراء 
جبيته حساباً معقداً دون أن يجد له.خلاً مناسباً: فقرعت قلبلاً على 
الصفيح ١‏ مشيعاً جوًاً من المرح» لكي أطرد الأفكار السوداوية من ذهن 
السيّد فاينغولد . لكنه بقي محتفظاً بتجاعيده. مرسلاً بصرة إلى مكان لا 
أعرف أين يقع؛ ربما في ناحية غاليتسين» فلم يلمح طبلي. فتخلى 
أوسكار عن التطبيل» تاركاً وقع عجلات العربة اليدوية ونحيب ماريا 
يرتفعان وحدهما. 

فأي شتاء معتدل كان هذا الذي شهدناه! كنت فكرت على هذا النحو 
بعدما خلفنا آخر البيورت في ناحية لانغفور ورائناء ثم انشغلت بعض الشيء 
بمراقبة الببغاء الصغير الذي أخذ ينفش ريشه احتفاءً بشمس الظهيرة التى 
اشرقت على المطان: وكان المطار مرضوعاً تعث الحراسة وان الطريق 
إلى بروزن مقطوعاًء فتحدث أحد الضبّاط إلى السيّد فاينغولد الذي أمسك 
قبعته بأصابع معقوفة مفلطحة؛ كاشفاً عن شعره الخفيف الأحمر الشقرة 
المتمايل بفعل الريح. بعد أن قرع الضابط صندوق ماتسرات برهة قصيرة 
كما لو أنه كان يتفحصه وداعب الببغاء بإصبعه. سمح لنا بالمرور؛ بيد أنه 
وضع غلامين لا يتجاوزان السادسة عشرة على أبعد تقديرء اعتمرا طاقتين 
عسكريتين صغيرتين وتنكبا بندقيتين آليتين كبيرتين لحراستنا أو لمرافقتنا. 


/اهه 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


كان العجوز هايلاند يسحب النعش دون أن يلتفت إلى الوراء مرّة 
واحدة؛ عارفاً كيف يشعل السيجارة بيد واحدة دون أن يوقف العربة» وثمّة 
طائرات معلقة في الهواء؛ بحيث أن هديرها كان يُسمع بوضوح؛ لأننا كنا 
لاذت بالشمس فاصطبغت بالألوان شيئاً فشيئا. وكانت قاذفات القنابل 
تحلّق في اتجاه هيلا أو تعود من شبه جزيرة هيلاء إذ أن هناك فلولاً من 
الجيش الثاني مازالت تواصل القتال. 
شد جر وجلا للشيق أككر هن سياد مارس الخالية من الغيوم» المليئة 
بالطائرات الهادرة بصخب تارةً وبهدوء طورا. إضافة إلى أن الفتيين 
الروسيين كانا يبذلان قصارى جهدهما بغية توحيد خطواتهماء لكن بلا 
جدوى. فربما تفككت أثناء السير بعض ألواح الصندوق المسمّر على 
عجل .2 بفعل حجارة الطريق ومطبات الإسفلت فيما بعد. وكذلك بفعل 
سيرنا في مواجهة الريحء إذ انبعثت؛ على كل حالء رائحة الميّت 
ماتسرات» فشعر أوسكار بالارتياح بعدما وصلنا إلى مقبرة سازبه. ولم 
نستطع الارتفاع بالعربة إلى مستوى المدخل ذي القضبان الحديدية؛ إذ أن 
دبابة محطمة من طراز ت 1" قطعت الطريق قبل المقبرة بمسافة قصيرة. 
وثمة دبّابات أخرى توجب عليها اتخاذ طريق ملتو أثناء التقدم في اتجاه 
نويفاسرفيغ» فخلفت اثارها في الرمل على يسار الطريق وهدمت جزءا من 
سور المقبرة. ترجّى السيّد فاينغولد من العجوز هايلاند أن يسير في 
الخلف. فحملا النعش الذي تقوّس قليلاً من المنتتصفء. متعقبين آثار 
الدبابات» ثم زحزحاه بمشقة بالغة عبر حجارة سور المقبرة» دافعين به 
بكل ما بقى لديهما من قوّة بين الشواهد المقلوبة الآيلة إلى السقوط. وأخذ 
العجوز هايلاند يمصّ بسيجارته كما يمصٌّ المدمن» ثم بدأ ينفخ الدخان 
على المكفن بالتابوت. وحملت أنا قفص طائر الحبٌ المنتصب على 
القضيب . وكانت ماريا تجرٌ وراءها مجرفتين. وحمل كورت معولاء أي 
أنه كان يطوح ذات اليمين وذات الشمال» فأصاب حجر الصوان الرمادي 


ممه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فى المقبرة» معرضاً نفسه ذلك إلى الخطرء حتى انتزعت ماريا المعول من 
يده» لتعاون الرجلين في الحفر كعادتها. ولحسن الحظ إن الأرض هنا 
كانت رملية رخوة» لم تتجمد»ء حسبما تيقنت» فأخذت أبحث عن موضع 
يان برونسكي في الناحية الشمالية من الجدار. لابد أن يكون هنا أو هناك» 
إذ أن من الصعب تعيين المكان بدقّة» قد وأحالت تقلبّات الفصول بقعة 
الجصّ السابقة المفضية بالسرّ والتى طليت حديثاً آنذاك» أحالتها إلى مجرد 
لون رمادي كالح شأنها شأن سوّر المقبرة برمته. 

وعثرت على طرق العودة عبر البوّابة الخلفية المسلحة بالقضبان» 
وأرسلت بصري إلى أشجار الصنوبر المشوّهة العجفاء» وفكرت في أنهم 
سيدفنون ماتسرات أيضاً؛ فكرّت في ذلك لكي لا أضطر إلى التفكير في 
أمور لا قيمة لها. وحين تعمقت في البحث وجدت معنى ما جزئياً للظرف 
الذي جمع بين لاعبي الورق الحميمين برونسكي وماتسرات على الأرض 
الرملية ذاتهاء حتى لو لم تضطجع أمّي المسكيئة بينهما. 

إِنَّ الجنائز دائماً ما تذكّر بالجنائز الأخرى! 

فكان لابد من التغلب على الأرض الرملية» وذلك أمر يتطلب حفَاريّ 
بصعوبة» ثم أجهشت في البكاء من جديد حين رأت كورت يرمي الببغاء 
وهو داخل القفص بحجر من مسافة بعيدة. لكنه لم يصبه» فكان حجارته 
تذهب بعيداً» لكن ماريا كانت تنتحب بحرارة وصدق؛ إذ أنها رأت في 
ماتسرات شيئاً ماء لم يتمتع به فعلاً حسب رأيي» وعلى الرغم من ذلك 
فإنها بقيت متمسكة بكلّ وضوح بذلك الشيء العزيز عليها. فاستغل السيّد 
فاينغولد المواساة فرصة للقيام باستراحة» لأنْ الحفر أضناه. وبدا العجوز 
هايلاند وكأنه ينقّبِ عن الذهب حين حفر بالمجرفة بانتظام» ملقياً بالترب 
خلفه» وثاففاً دخان السجائر على دفعات محسوبة. بيثما جلس الشابان 
الروسيان على مسافة فوقٍ سور المقبرة» يثرثران بعكس اتجاه الريح» فضلاً 
عن الطائرات المحلقة والشمس التي كانت تزداد نضوجا. 

لعلّهم حفروا متراً حين وقف أوسكار مكتوف اليدين حائراً بين حجر 


6089 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الصوان القديم؛ أي بين أرملة ماتسرات وكورت الذي كان يرمي الببغاء 
الصغير بالحجر. فهل أفعلها أم لا؟ إنك قد بلغت الواحد والعشرين من 
السنّ يا أوسكارء فهل ستفعلها أم لا تفعلها؟ إنك لست أكثر من يتيم» وما 
عليك إلا أن تفعلها أخيراً. فقد أصبحت نصف يتيم منذ رحيل أنَك 
المسكينة. وعليك أن تحسم أمرك منذ ذلك الوقت. ثم مهدوا أباك 
المفترض يان برونسكي تحت قشرة الأرض» فأصبحت يتيماً كامل اليتم 
حين وقفت هنا على هذا الرمل الذي يدعى سازيه؛ ممسكا بخرطوشة 
فارغة متأكسدة بعض الشيء. وقد هطل المطر يومها وكانت ثمة طائرة يو 
1 تتأهب للهبوط . ألم يصبح هذا التساؤل اهل أفعلهاء أم لاه واضحاً 
آنذاك في ظلّ هطول المطرء وإن لم يكن» فعلى الأقل في ظل هدير طائرة 
الشحن الهابطة؟ كنت قلت في نفسك إنه مطر وتلك أصوات محرّك؛ 
فهكذا رتابة يمكن أن ينسبها المرء إلى أي نصّ. لقد أردت أن تظفر بها 
بوضوح ساطع» وليس على نحو مفترض فحسب. فهل أفعلهاء أم لا؟و ها 
هم قد حفروا نقرةً لماتسرات» أبيك الثاني المفترض . فلم يبق هناك» 
حسب علمكء آباء مفترضون. فلم أنك مازلت تلعب بزجاجتين خضراوين 
لعب البهلوان: فهل أفعلها أم لا؟ فمن ذا الذي تريد أن تسأله؟ أتسال 
الصنوبرات العجفاء التي هي نفسها موضع الشكُ والتساؤل؟ وحينئذ عثرت 
على صليب حديديّ هزيل» منمّق بنعومة» خط عليه بحروف بارزة اسم : 
«ماتيلده كونكل»» أو «رونكل». فوجد لحظتها - هل أفعلهاء أم لا - وهل 
أفعلها في الرمل بين الحسك وهرطمان الساحل - ثلاثة أو أربعة - أم لا 
أفعلها - أكاليل معدنية صدئة متهاوية بحجم الماعون التي كانت - فهل 
أفعلها - تمثّل فيما سلف أوراق شجر البلوط ربماء أو أوراق الغار - فهل 
علي أن لا أفعلها - فوزنتها في يدي - أم عليّ أن أفعلها - فسددت صوت 
الهدف - أ أفعلها - فنهاية الصليب الرائعة - أم لا - وقد بلغ قطرها - فهل 
أفعلها - أربعة سنتمترات ربما - أفعلها - فأمرت نفسي باتخاذ مسافة مترين 
- نعم هل أفعلها - هل أفعلها - فرميته - كلا - إلى الجانب - أ أفعلها مرّة 
أخرى - كان الصليب الحديديٌ ينتصب باعوجاج - فهل أفعلها - أهي 


اه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ماتيلده كونكل» أم كان اسمها رونكل - فعل أفعل كونكل - أم أفعل 
رونكل - كانت تلك الرمية السادسة» وكنت سمحت لنفسي بسبع رميات» 
فلم أفعلها ست مرّات فرميت سبعاً - فهل أفعلهاء ثم علقته عليه - أعليّ 
أن أفعلها - يا ماتيلده المكللة بالغار - أ أفعلها - غار للآنسة كونكل - فهل 
أفعلها؟ سألث الشابة رونكل المتوفاة مبكراً جذاء فى سر السابعة 
والعشرين» التي ولدت في العام القامن والستين. لكنني كنت بلغت سن 
الواحد والعشرين عندما نجحت فى محاولة الرمى السابعة» مختصرا مقولة 
«هل أفعلهاء أم لا» إلى سجر كلب اأقبلياا» السيظة المتوجة بالغار» تلك 
الكلمة المبرهن عليهاء المكتسبة والمستهدفة. 

وحالما تقدم أوسكار من حافريّ القبور وعلى لسانه قرار «أفعلها؛ 
الجديد وفي قلبه أيضاء أخرج طائر الحبّ صوتاً كالنعيب» لأنْ كورت 
أصابه فنفض ريشه الأزرق الضارب إلى الصفرة. فسألت نفسي: أي 
تساؤل ذاك الذي دفع بولدي كورت إلى رمي ببغاء صغير بحجارة طوال 
الوقت إلى أن ردّت عليه الإصابة الأخيرة؟! 

وقاموا بزحزحة التابوت إلى جانب الحفر التي بلغ عمقها متراً 
وعشرين سنتمترا. كان العجوز هايلاند على عجلة من أمره» بيد أنه اضطر 
إلى الانتظار؛ لأن ماريا أت صلاتها على الطريقة الكاثوليكية ولأن السيّد 
فاينغولد أمسك بقبعته الأسطوانية قرب صدره» سارحاً ببصره إلى ولاية 
غاليسين: ذلك ازداد كورت اقترابا: لعله انخد قراراً بعذ تمكنه مين 
الإصابة» فاقترب من القبر لهذه الأسباب أو تلك؛ تماماً مثلما فعل 
أوسكار. لقد عذبني هذا التردد» لكنه ولدي الذي قرر أن يكون مع ذلك 
الشىء أو ضده. فهل قرر في نهاية المطاف أن يعترف بى أباً له» وحيداً 
ويختا: فيحبني؟ أم أنه عزم الآن على الاحتفاظ بطبل العقيت طالما 
أصبح الوقت متأخرا؟ أم أن قراره كان عبارة عن شعار: الموت لأبي 
المفترضء أوسكارء الذي قتل أبى المفترض ماتسرات بشارة الحزب؛ 
لأنه ضاق ذرعاً بالآباء؟ فهل أنه لا يستطيع التعبير عن مشاعره الطفولية 
المنشود تحققها بين الآباء والأبناء إلا بالقتل المتعمد؟ 


١١ه6‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وحالما أنزل العجوز هايلاند الصندوق الذي ضمٌ ماتسرات وشارة 
الحزب النابتة في قصبته الهوائية ومعها ذخيرة رشاشة روسيّة رقدت في 
بطن ماتسرات» ا أسقطه فى القبر أكثر مما أنزله» أعترف أوسكار في 
دزويالة كل فاتسيراكا عند فم سيق الاسرار لأن ماتسرات لم يكن» في 
كل الاحتمالات» أباه المفترض فحسبء إنما أبوه الحقيقي بالذات؛ ولأنه 
أيضاً شبع من أن يجرجر معه أباً طوال حياته أينما حل. وكذلك لم يكن 
صحيحاً القول بأن دبّوس شارة الحزب كان مفتوحاً عندما تلقفت الشارة 
من أرضية الإسمنت» بل أنه انفتح أزّل الأمر في قبضتي المضمومة. 
فناولت تلك الحلوى اللزجة إلى ماتسرات مفرودةًٌ واخزةٌ» لكي يعثروا 
على الوسام معهء ولكي يضع الحزب نفسه على لسانه ليختنق به - لكي 
يختنق بالحزب وبي» أي بولده؛ إذ لابد أن يصل الأمر إلى نهاية ما! 

وطفق العجوز هايلاند يهيل التراب على التابوت» فأخذ كورت يعاونه 
بهمّة عالية وبلا مهارة. إنني لم أكن أحببت ماتسرات قط لكنني كنت أوده 
أحيانا. فكان يعتنى بى باعتباره طاهياً أكثر منه أبا. لقد كان طاهياً ممتازاًء 
وإذا ما افتقدت اليوم ماتسرات فإنني أفتقد فيه الكفتة الكونغسبيرغية التي 
كان يحضرها على طريقته وافتقد كلية الخنزير المنقوعة بالخل وسمكك 
الشبّوط مع الفجل والقشدة؛ إضافة وجبات الطعام على غرار حساء 
الحتكليس مع الخضر وأضلاع الخنزير بالكرنب المخلل ومشوياته التي لا 
تُنسى أيّام الآحاد التي مازال طعمها على لساني» بل بين أسناني. لقد نسوا 
أن يضعوا ملعقة طهي على نعش الرجل الذي كان يحوّل الأحاسيس إلى 
حساء. ونسوا أن يضعوا على تابوته شدّة من ورق اللعب؛ على الرغم من 
انه كان يجيد الطهي أكثر من لعب الورق. ومع ذلك فقد كان يلعب أفضل 
من يان برونسكي» وإلى حدّ ما بمستوى لعب أمّي المسكينة . فكانت تلك 
هي قدرته ومأساته معاً. إنني لا أستطيع أن أغفر له مارياء على الرغم من 
أن معاملته لها كانت معاملة جيدة» بحيث أنه لم يضربها قطء بل كثيراً ما 
كان يتنازل لها إذا ما بدأت باختلاق شجار. إضافة إلى أنه لم يسلمني إلى 
وزارة الصحّة الألمانية» ولم يوقع رسالة الدعوة إلا بعد أن توقف البريد 


؟ 6١‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


عن توزيع الرسائل. وكان قد عهد لي بإدارة المحلّ لحظة ولادتي تحت 
المصابيح الكهربائية . ولكي لا يقف أوسكار وراء طاولة البيع في المحل؛ 
فإنه وقف طوال سبعة عشر عاما خلف طبول من صفيح بيضاء حمراء. 
والآن رقد ماتسرات فلم يعد قادراً على النهوض أبدا. كان العجوز هايلاند 
يطمره بالتراب ويدخن في الوقت ذاته سجائر «دربي» التي كانت تخصص 
ماتسرات. فكان عَلَى أوسكار أن:يبتل التحل في تلك النحالة. يبيد أن 
السيّد فاينغولد صاحب العائلة الكثيرة الأفراد» غير المرئية» قد سبقه في 
استلام المحل. وألقيت البقية على عاتقي : ماريا وكورت والمسؤولية 
إزاءهما. 

كانت ماريا لم تزل تبكي وتصلّي بصدق على الطريقة الكاثوليكية» 
بينما مكث فاينغولد في غاليتسين» أو صار يحل مسائل حسابية مستعصية. 
وشعر كورت بالتعب» لكنه واصل الدفن بشكل لا يعرف الكلل. وعلى 
سور المقبرة جلس الشابان الروسيّان المثرئران. كان العجوز يهيل رمل 
مقبرة سازبه على ألواح صناديق السمن النباتي» وقد فعل ذلك بانتظام 
وتذمّر. فتمكن أوسكار من قراءة ثلائة حروف من كلمة فيتللو» ثم انتزع 
الصفيح من رقبته» ولم أقل «هل أعملهاء أم لا؟». بل «لابد أن أفعلها!». 
ثم رميت الطبل هناك» حيث غطى الرمل النعش بما فيه الكفاية» لكي لا 
يحدث جلبة. ورميت بالمضربين أيضاًء فبقيا مغروزين في الرمل. كان 
هذا هو طبلي الذي يعود إلى زمن النافضين؛ المنحدر من أيَامم مسرح 
الجبهة؛ والذي أهداه لي بيبرا. فما الذي سيقوله أستاذي على هذا 
التصرف؟ لقد نقر عليه يسوع وروسيّ مربوع القامة كالصندوق وواسع 
المسام. وما عدا ذلك فإن الطبل لم يشهد الكثير من الأحداث. لكن 
عندما مسّت رشقة رمل سطحه رنّ. وفي الرشقة الثانية خفت رنينه» وفي 
الثالتة صمتء ولم يظهر سوى شيء من طلائه الأبيض» حتى صار الرمل 
يفعل ما فعله مع الرمل الآخر مع الكثير من الرمل؛ فتراكم الرمل على 
طبلي» وارتفع»؛ ثم نمى - فبدأت أنمو أنا أيضا وقد تكشّف ذلك عبر 


الرعاف الشديد. فكان كورت أوّل من لاحظ الدم فصرخ: «أنه ينزف» 


اه 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ينزف]» فاستعاد بصراخه السيد فاينغولد من غيبته فى ولاية غاليتسين» 
وصرف ماريا عن صلاتهاء بل أجبر الشابين الروسيين الصغيرين اللذين كانا 
يجلسان على سور المقبرة ويثرثران في اتجاه بروزن إلى إلقاء نظرة قصيرة 
مشوبة بالرعب . 

وركز العجوز هايلائد المجرفة في الرمل» وتناول المعول. ثم وضع 
الحديد الأزرق السواد على قفاي. فتركت البرودة أثرها على عجل» 
فخفّت حذّة النزيف. وعاد العجوز إلى المجرفة ثانية» وحين قل الرمل 
المكوّمٍ إلى جانب القبرء انحسر النزيف تماماء بيد أن النمو ازداد» 
مفصحا عن نفسه من خلال الصرير والطقطقة الداخلية. وحين انتهى 
العجوز هايلاند من القبر سحب من قبر آخر صليب خشب هشّاًء خالياً من 
الكتابة» وغرزه في الربوة الجديدة بين رأس ماتسرات وطبلي المدفون 
تقريباء ثم قال «انتهينا!؛ وحمل على ذراعه أوسكار الذي لم يعد قادراً 
على المشي» وسحب الآخرين معه من المقبرة» إضافة إلى الروسيين 
الشابين المسلحين بالغدّارتين الآليتين» عبر الجدار المهدّم. مقتفياً آثار 
الدئابات» ليصل إلى العربة اليدوية فوق سكة الترام» حيث أنتصبت الديابة 
على نحو عرضي . فأخذت أتطلع ببصري إلى مقبرة سازبه من وراء كتفي . 
كانت ماريا تحمل قفص الببغاء وحمل السيّد فاينغولد العدّة» بينما خلا 
كورت من أي حمل» وحمل الروسيان طاقيتين صغيرتين وبندقيتين كبيرتين 
جداً؛ الحنت صنوبرات الشاطئ العجفاء. 

فسرنا من الرمل إلى شارع الإسفلت». حيث جلس شوغر ليو على 
هيكل الدبّابة المحطمة. فى السماء ثمة طائرة قادمة من هيلاء محلقة فى 
اتجاه هيلا. كان شوغر ليو يبدي حذره لكي لا يلامس قفازه سخام دبابة 
ت 5” المحترقة. كانت الشمس تشرق بسحبها المترعة بالمياه على جبل 
تورم عند تسوبوت. وانزلق شوغر ليو من الدبابة وانتصب باستقامة . فشعر 
العجوز هايلاند بالارتياح لرؤية شوغر ليو: «نعم . هل رأى أحد هذا 
الشيء من قبل! لقد قامت القيامة» لكنهم لا يستطيعون قهر شوغر ليو.) 
ثم ربت بيده الطليقة على سترة ليو السوداء؛ وقال موضحاً الأمر للسيّد 


:١ه‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فاينغولد: #هذا هو صاحبنا شوغر ليو. إنه يريد أن يقدم لنا تعازيه ويشدٌ 
على أيدينا.» فتحقق ما قاله العجوز هايلاند. صار ليو يرفرف بقَفَاز 
مقدماً للحاضرين تعازيه بفم سال من اللعاب» ثم سأل: «هل رأيتم الرب؟ 
هل رأيتم الرب؟» بيد أن أحداً لم يكن رأى الرب» فأهدت له ماريا القتفص 
مع الببغاء» لا أعرف لأي سبب. 

وحين أقبل شوغر ليو نحو أوسكار الذي وضعه العجوز هايلاند في 
العربة» تغيرت معالم وجهه» ونفخت الريح ملابسه» وغمرته نوبة رقص» 
فأخذ يطوّح بالقفص ويصيح: «الربّ الربّ» انظروا الآن إلى الربّء 
انظروا إليه كيف أنه أخذ ينموء انظروا الآن» كيف ينمو!» ودفعة واحدة 
حلّق في ابره مع القفصء ثم سارء وطارء وصار يرقص» مترنحاًء 
نناقطاء عيعاما مع الطير الزاعق» غبدولة 0 
أخيراء 0 وعرضاً في اتجاه أحواض تكرير المياه. ثم سمعنا 
يصرخ بين أصوات البندقيتين الآليتين: «أنه ينمو؛ أنه ينمو!؛ ا 
صراخه حتى بعد أن اضطر الشابان الروسيّان إلى حشو بندقيتيهما مرّة 
ثانية: (إنه ينمو!» وحتى بعد أن ارتفعت أصوات البندقيتين من جديد بعدما 
وقع أوسكار في حالة إغماء متفاقمة على الدوام» مستوعبة كل شيء» 
ساقطاً من سلّم خال من الدرجات» كنت أسمع الطير والصوت والغراب - 
ليو يعلنون: «أنه ينموء أنه ينمو» ينمو. . .0 


هاه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مطهْرات 


زارتني أحلام نزقة في الليلة الماضية» أحلام تشبه ما كان يحدث أيّام 
الزيارات حين يأتي الأصدقاء. فكانت الأحلام تناول الباب لبعضها 
البعض» ثم تنصرف بعدما تكون قصّت علي ما تجده الأحلام جديرا 
بالقتص: حكايات متهافتة مليئة بالتكرار» حوارات داخلية» لايمكن 
تجاهلها للأسف. ؛ لأنها تُعرض بإلحاح شديد عبر إيماءات ممثلين 
سيئين ٠‏ عندما حاولت أن أروي القتصص على برونو أثناء الإفطار» عجرت 
للحلم. وحالما رفع برونو الإفطار سألته بشكل عابر: «يا برونو العزيز؛ 
كم بلغ طول قامتي حقيقة؟» فوضع برونو طبق المربّى الصغير على صحن 
فنجان القهوة وقال بحزن: «لكنك يا سيّد ماتسرات امتنعت مرّة أخرى عن 
تثاول المرين. » 

بلى» إنني أعرف هذا العتاب الذي تتصاعد حدته دائماً بعد الإفطار. 
لكن برونو كان يجلب لي كل صباح تلك الحفنة الصغيرة من مربى الفريزء 
لكي أغطيها أنا بورقة؛ أي بجريدة كنت أثنيها على هيئة سقف. ثم أطبقها 
على المربى في الحال. إنني لا أطيق رؤية المربى ولا أستسيغ طعمهء 
لذلك نفيت تهمة برونو بهدوء وحزم: «إنك تعلم يا برونو كيف أفكر أنا 
في المربى - فمن الأفضل أن تقول لي كم هو طول قامتي.» 

وكانت عينا برونو تشبهان عينيّ حيوان منقرض» ثمانيّ القوائم. كان 
يرسل بصره ما قبل التاريخي إلى سقف الغرفة كلما اضطر إلى التفكرء 
وكان يتكلّم غالباً في الاتجاه ذاته» فخاطب صباح اليوم أيضاً سقف 


0_5 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الغرفة : «لكنه مربّى التريزالا أكتر ولا أثزاة م لاتيت ياي .أن قامتي 
بلغت متراً وواحداً وعشرين ستتمترأً» بعد فترة توقف طويلة - لأنني كنت 
أتمسك بسؤالي عبر الصمت بمقدار حجمي الجسدي - أي بعدما استعاد 
برونو بصره من السقف وثبّته في قضبان سريري. «ألا ترغب يا عزيزي 
برونو بأن تتخذ القياسات من جديد التزاماً بالنظام؟» 

ودون أن يحرف بصره أخرج برونو مسطرة القياس القابلة للثني من 
جيب مؤخرته» فقذف بالغطاء إلى الخلف بعنف وحشيّ إلى حدّ ماء ورد 
ثوب نومي على عورتي المكشوفة» ثم فتح أداة القياس الفاقعة الصفرة 
المثلومة عند المتر والثمانية والسبعين سنتمترأًء ثم أسندها على جسمي» 
وأخذ يدفع بها ويراقبها ويسويها بيديه بدقة» بيد أن بصرة ظلّ عالقاً 
بالأزمان الديناصورية» فتظاهر كما لو أنه قرأ النتيجة» ثم ترك المسطرة 
ترتخي على جسدي : امازال قياسك مترا وواحدا وعشرين ستتمترا!» 

لماذا تراه يصنع جلبة كلّما طوى مسطرة القياس أو كلما رفع صينية 
الإفطار؟ ألم يعجبه قياسي؟ 

وعندما غادر برونو الغرفة حاملاً صينية الإفطار التي وضع فيها 
المسطرة الصفراء صفار مح البيض إلى جانب المرّبى ذي اللون الطبيعي 
الفاقع» ألصق عينه مرّة أخرى بالثقب السحري للباب وهو يقف في الممر 
- كان بصره يجعلني هرماء شديد القدم. قبل أن يتركني بمفردي مع متري 
الواحد وستتمتراتي الواحدة والعشرين 

إذا هكذا هو طول أوسكار! غير أن هذه القامة تعتبر طويلة بالنسبة 
لقزم أو بالنسبة لرجل ليليبوتانيَ قصير. كم كان طول صاحبتي روزفيتا من 
القدمين حتى هامة الرأس؟ وبأي قامة احتفظ أستاذي بيبرا المنحدر من 
صلب الأمير أويغن؟ فبإمكاني اليوم أن أنظر حتى إلى كيتي أو فيلكس من 
الأعلى . بينما كان أولئك الذين أحصيتهم ينظرون زماناً بلطف يشوبه 
الحسد إلى أوسكار الذي بلغت قامته أربعة وتسعين استتمدرا وهو في 
الواحدة والعشرين 

ولكنني بدأت بالئمو أوّل الأمر بعدما أصابني حجر في قحفة رأسي 


/اام 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أثناء دفن ماتسرات في مقبرة سازبه: لقد قال أوسكار حجرا. لذلك فإنني 
عزمت على تكملة التقرير الذي يتناول الأحداث التى وقعت فى المقبرة. 
تعت ها (عداديت خلال سمارسضي للعة إلى أنه الم يعد أماني خبار اقيم 
يتعلق بالسؤال «هل أفعلهاء أم لا؟4»: إنما فقط «عليَ أن أفعلها ويجب أن 
أفعلها وأريد أن أفعلها!» انتزعت الطبل عن بدني ورميته مع المضربين في 
قبر ماتسرات» عازماً على النموء صرت أعاني لحظتها من طنين في أذنيّ 
أخذ يزداد حدّة على الدوام» ثم أصابتني حصاة في حجم ثمرة الجوز 
الصغيرة؛ أصابتني في قحفة رأسي» قذفها ولدي كورت بقدرته ذات 
الأعوام الأربعة والنصف. وعلى الرغم من أن تلك الإصابة لم تفاجئني - 
شعرت بأن ابني نوى على فعل شيء ما معي - إلا أنني سقطت مباشرة 
قوق موضع الطبل فى سعفرة عالضرات + تادثلتي المجرز غايلانك يولم 
الهرمة الجافة. تاركاً الطبل والمضربين مطمورة في الرمل؛ وبعدما أصبح 
النزيف واضحاً طرحني على قفاي فوق حديد المعول. فخفٌ النزيف على 
عجل مثلما علمنا من قبل» أنّا النمو فقد أحرز تقدماًء لكنه كان تقدماً 
ضئيلاً للغاية لم يلحظه سوى شوغر ليو فصرخ بصوت عالء معلئاً عنه 
وهو يرفرف خفيفاً كالطير. وإلى هذا الحدّ انتهت التكملة الفائضة عن 
الحاجة فى حقيقة الأمرء إذ أن النمو بدأ قبل رمى الحصاة وقبل السقوط 
لي قبرهاتسرات. آنا بالنسزة لحاريا وللسئد فاينغولك فإنيما لم كنذا منة 
البداية إلا تفسيرا واحدا لنموي الذي سمياه مرضا: الحصاة في قحفة 
الرأس والسقوط في الحفرة. ثم أوسعت ماريا كورت ضرباً في المقبرة 
نفسهاء فشعرت بالحزن على كورت؛؟ إذ أن من الممكن تماماً بأنه خضّني 
بالحصاة لكي يساعدني على الإسراع في النمو. لعله آراد أن يحل آخيراً 
بأب حقيقيّ؛ أب بالغ؛ أو على الأقل كتعريض عن ماتسرات؛ إذ أنه لم 
يتعرف على أبداً بصفتي أباً له ولم يظهر لي أدنى احترام . 

وخلال فترة النمو التي استغرقت نصف عام كان ثمة عدد كاف من 
الأطبّاء والطبيبات الذين أكدوا ذنب الحصاة المقذوفة والسقوط المنحوس 
فقالوا ودوّنوا في تاريخ مرضي: إن أوسكار ماتسرات هو أوسكار المعرّق 


6ه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


النمو؛ لأن حجارة أصابته في مؤخرة رأسه - وهلّم جرًا. وعلى المرء أن 
يتذكر هنا عيد ميلادي الثالث: فما الذي يعلمه البالغون عن بداية قصتي 
الحقيقية : لقد سقط أوسكار ماتسرات من سلّم القبو على أرضية الإسمنت 
وهو في الثالثة من عمره» فتوقف نموه إثر تلك السقطة. وهلم جرًا. 

لعل المرء سيعثئر فى هذه التفسيرات على محاولة الإنسان الفطرية 
لتقديم الأدلة والبرافين لمعك ولابد أن يعترف أوسكار بأنه» هو 
نفسهء يقوم بفحص كل معجزة فحصاً دقيقاً قبل أن ينحيها إلى الجانب 
باعتبارها تخيّلات غير جديرة بالتصديق. وبعد قدومنا من مقبرة سازبه 
وجدنا مستأجرين جدداً في بيت الأمّ تروجنسكي . كانت هناك عائلة بولندية 
مكونة من ثمانية أفراد سكنت المطبخ والغرفتين. فبدا أفراد العائلة هؤلاء 
لطيفين» وأرادوا إيواءنا حتى نعثر على مكان آخرهء بيد أن السيّد فاينغولد 
اعترض على ذلك السكن الجماعي؛ فتخْلّى لنا عن غرفة النوم من جديد» 
على أن يكتفي بغرفة السكن. لكن ماريا لم ترغب في ذلك؛ إذ رأت أن 
من غير اللائق الإقامة مع رجل أعزب وهي حديثئة الترمّل. أخيراً وجد 
السيّد فاينغولد الذي لم يدرك أحياناً بأن ليس هناك زوجة اسمها لوبا ولا 
عائلة أحاطت به» فاينغولد الذي كان يتحسس عقيلته الحازمة خلف ظهره 
دائماً؛ وجد الفرصة المناسبة لكي يتفهّم ظروف ماريا ودوافعها. وعملاً 
بأصول اللياقة وبسبب السيّدة لوبا؛ فإن تلك الفكرة لم تتحققء لذا أراد أن 
يخلي لنا القبو. وقام أيضاً بمساعدتنا في ترتيب السرداب» غير أنه لم 
يسمح لي بالإقامة في القبو؛ لأنني كنت مريضاء مريضاً بشكل يدعو إلى 
الشفقة» فنصبوا لي فراشاً مؤقتاً في غرفة الجلوس إلى جانب بيانو أمّي 
المسكية: 

كان من الصعب العثور على طبيب آنذاك» إذ أن معظم الأطبّاء غادروا 
المدينة في الوقت المناسب مع نقل القوّات؟؛ لأن مؤسسة التأمين الصححي 
البرويسية الغربية قد انتقلت في شهر يناير إلى الغرب» وبناءً على ذلك 
اتخل مصطلم مراجع العيادة الطبيّة بعداً غير واقعي في نظر الكثير من 
الأطبّاء. بعد بحث مضن حصل السيّد فاينغولد على طبيبة من «أيلبنغ» في 


014 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


مدرسة «هيلينه-لانغه) حيث كان جرحى القوّات الألمانية وجرحى الجيش 
الأحمر يرقدون إلى جانب بعضهم.ء وكانت الطبيبة تقوم هناك ببتر 
الأطراف. فوعدت فاينغولد بالمجيء؛ فجاءت فعلاً بعد أربعة أيَام؛ 
وجلست عند فراشي». ودخنت ثلاث أو أربع سجائر متلاحقة وهي 
تفحصني» ثم غفت عند السيجارة الرابعة. 

ولم يجرؤ السيّد فاينغولد على إيقاظهاء فلكزتها ماريا بتردد. لكنها لم 
تفز من غفوتها إلا بعد أن لسعت السيجارة المحترقة سبابتها اليسرى. 
فاستيقظت على الفورء وسحقت على العقب فوق البساط. ثم قال 
باختصار وانفعال: «يجب أن تعذرونني» إذ أنني لم أغمض جفنيّ خلال 
الأسابيع الثلاثة الأخيرة. كنت في كيزهماركت في العبّارة التي نقلت 
الأطفال البرويسيين الشرقيين. لكننا لم نصل إلى الناحية الأخرى. وفقط 
القرّات وصلت. وكان عددهم حوالي أربعة آلاف طفل. كلهم انتهوا.» ثم 
طبطبت على خديٌّ الناميّ الصغير مثل خدّ الطفل؛ طبطبت باقتضاب مثلما 
تحدثت عن الأطفال الصغار الذين انتهواء ثم وضعت سيجارة جديدة في 
فمهاء وشمرّت عن ساعدها اليسرى وتناولت حقنة من حقيبتها لتقول 
لماريًا وهي تحقن نفسها بمادة منشطة: «إنني لا أستطيع أبداً القول ما الذي 
حدث للصبي. فيجب أن ينقل إلى المستشفى. لكن ليس هنا. يجب أن 
تدبري أمرك وتغادرين» في اتجاه الغرب. مفاصل الركبتين واليدين الكتفين 
كلّها متورمة. بالتأكيد أن الأمر بدأ من الرأس. اعملي كمّامات باردة. 
وسأترك لكم بعض الأقراص هنا في حالة شعوره بالألم وعدم قدرته على 
النوم . » 

لقد حظيت بإعجابي تلك الطبيبة المقتضبة التي لم تعرف ما الذي حل 
بي » فاعترفت بعجزها أيضا. فأعدٌ لي السيّد فاينغولد وماريا الكمّامات 
الباردة خلال الأسابيع التي أعقبت ذلك فكان مفعولها حسناء إلا أنها مع 
ذلك لم تمنع مفاصل الركبتين واليدين والكتفين والرأس من الانتفاخ 
والوجع. لاسيما رأسي الذي أخذ يزداد عرضاً حتى أن ماريا والسيّد 
فاينغولد انتابهما الهلع. فناولتني ماريا تلك الأقراص التي سرعان ما 


0 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


نفدت. وبدأ فاينغولد يرسم منحنيات الحرارة ومنعطفاتها مستعيئاً بقلم 
الرصاص والمسطرة» إلا أنه انغمر في التجريب» وصار يسبل في تركيبات 
اخترعها بجرأة؛ يسبل أرقام حمّاي التي كان يقيسها خمس مرّات يومياً 
بمقياس الحرارة الذي قايضه في السواق السوداء بعسل اصطناعي. بحيث 
أن جداول السيّد فاينغولد بدت مثل جبال رهيبة وعرة - فتخيلت جبال 
الألب وسلاسل ثلوج «الأندن» - على الرغم من درجات حرارتي لم تكن 
في الحقيقة خطرة إلى ذلك الحدّ: فكانت تصل إلى الثمانية والثلائين 
مناخ على الأغلب وكدة أرمتلها إلى التاشعة والفلقيق وواحك عد 
عشرة» ووصلت درجة حرارتي إلى التاسعة والثلاثين وأربعة من عشرة 
على الأكثر إِبّان مرحلة نمويّ الجسدي. وهكذا صرت أرى وأسمع شتئ 
الألوان والأفانين تحت تأثير الحمّى» فرأيت نفسي أجلس في دولاب 
الهراء؛ فأردت النزول» لكنني لم أستطع. لقد جلست مع الكثير من 
الأطفال الصغار في سيّارات الإطفاء والإوز المجوفة والكلاب والقطط 
والخنازير والأيائل» فكنت أدور وأدوار» ثم أهمكٌ بالنزول» لكنني لم 
أقدر» فبدا الأطفال الصغار راغبين مثلي في الخروج من سيّارات الإطفاء 
والإوز المجوفة ومن القطط والكلاب والأيائل؟ إذ أنهم لم يعدوا راغبين 
في الدوران» لكنهم لم يقدروا على النزول. آنذاك وقف الأب السماوي 
إلى جانب صاحب الدولاب فدفع عنّا ثمن تذاكر جولة دوران أخرى؛ 
ونحن نتوسل به: «يا ربنا إننا نعلم بأن لديك الكثير من النقود الصغيرة» 
وأنك تريد بسرور أن ندور في الدولاب؛ لأنك تجد لذَّة في أن تثبت لنا 
كروية هذا العالم. فدسٌ محفظة نقودك في جيبك وقل قف. الزم مكانك» 
انتهى. كفىء انزلواء اقفلوا الدكان - لقد أصابنا الدوار نحن الأطفال 
المساكين» كانوا قد أتوا بناء نحن الأربعة آلاف» إلى كيزهمارك فى 
نايكسل» لكتنا لم تسعطع العبور إلى الضفة الأتخرىء لأن دولابك؛ 
دولابك . . .» لكنّ الله العزيز» ربناء صاحب دولاب الهواءء ابتسم مثلما 
جاء فى الكتاب» تاركا قطعة نقد صغيرة تنط مرّة ثانية من محفظة نقوده» 
اك هدتها الدرركي» نحن الأربعة آلاف طفل صغير» ومن ضمئهم 


١ه‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أوسكارء في سيّارات الإطفاء والإوز المجوّفة والقطط والكلاب والخنازير 
والأيائل» ليدور بناء وكل مرّة حين يمرق أيُليِ أمام ربنا - مازلت أظن إلى 
اليوم بأنني جلست في أيّل - يتخذ وجهه ملامح أخرى: فكان مرّة 
راسبوتين الذي عض على قطعة النقد بأسنانه الحريّة بمن يشفون الناس 
بالصلاة؛ قد أحضرها لجولة الدوران القادمة وهو يضحك؛ واتخذ مرّة 
أخرى ملامح أمير الشعراء غوته الذي كان ينتشل النقود من خرج دقيق 
التطريز» النقود التي حملت على وجهها صورة ربنا الجانبية المسكوكة 
كاملة» ثم راسبوتين النشوان من جديدء فالسيّد غوته المعتدل. فمورس 
قليل من الجنون مع راسبوتين والحكمة والتعمّل مع غوته. فرافق 
المنطرفون مع راسبوتين وقوى النظام والصلاح مع غوته. فرافقت جموع 
العامة والمشاغبين راسبوتين بينما حفلت حكم التقويم السنوي بمقولات 
غوته. فى آخر المطاف انحنى - ليس لأن الحمّى خفتت» بل لأن أحداً 
بحت أن تسق ررق وان على لكك .دن افون البدكد فاشولة فأر قله 
قولات البيراء» أرقت الأطفاء :و الزون ولاب وضط مح قة تفرد 
راسبوتين» وبعث بغوته إلى الأمهات» وجعل أربعة آلاف طفل صغير 
مصابين بالدوار يرفرفون محلّقين إلى السماء في اتجاه كيزهمارك عبر نهر 
فيستولا - ثم رفع أوسكار من فراش الحمّى» وأجلسه على سحابة من 
محلول الليزول المطهّر؛ ذلك يعنى أنه طهّرنى . فارتبط هذا الأمر فى البدء 
بالقمل» ثم أصبح عاد تاتقي القمل أل مرّة لدى كورت» تولني 
ومن ثمّ لدى ماريا وأخيراً لداه هو. ولعل المغولي الأصل قد ترك لنا 
القمل» أي ذلك المغولي الذي انتزع ماتسرات من ماريا. وكم كانت حادةً 
صرخة السيّد فاينغولد حينما اكتشف القمل. فقد نادى على زوجته وعلى 
أبنائه واحداً بعد الآخرء متهماً عائلته كلّها بجلب الحشرات» فقام بمبادلة 
مختلف محاليل المطهرات بالعسل الاصطناعي والشوفان» ثم بدأ يعقم 
نفسه وعائلته بكاملها ومعها كورت وماريا وأنا وفراش مرضي كل يوم. 
فصار يدهننا ويرشنا ويذرٌ علينا المسحوق المطهر. وبينما كان يقوم بالدهن 
والرش والذرٌ اشتدذت علي الحمّى» فأخذ فاينغولد يكثر من الحديث» 


وك 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فعلمت بعربات الشحن المحملة بمحاليل الكاربول والكلور والليزول التي 
كان يرشها وينثرها وينقّطها عندما كان مُطهّراً في معتقل تربلتكا وينقّط 
حوالي الساعة الثانية من ظهيرة كل يوم شارع المعتقل والسقائف وأماكن 
الاستحمام السريع وأفران الحرق وصرر الملابس والمنتظرين وأولئك 
الذين لم يأخذوا حمّاماً بعدء وكلّ ما يخرج من الفرن وكل ما يريد 
الدخول إليه؛ كان ماريوش فاينغولد المطهّر ينقّط ذلك كله يوميّا بمحلول 
الليزول. ثم عدد عليّ الأسماء؛ إذ أنه كان يعرفها كلّهاء فتحدث لي عن 
بيلاور الذي نصح المطهّر ذات يوم قائظ من أيَامِ أغسطس بأن لا ينقّط 
شارع المعتقل بماء الليزول» بل بالنفط» ففعل فاينغولد ما نصحه به؛ وجاء 
بيلاور بعيدان الثقّاب. فقام العجوز «تسيف كورلاند» من جماعة المعتقل 
باستحلاف الجميع . وتمكن المهندس «غاليفسكي» بكسر باب مستودع 
السلاح» فقام بيلار بإطلاق الرصاص على السيّد النقيب كورتنر فأرداه 
قتيلا. ثم أمسك «جتولباخ» و«فارينسكي»؛ بتلابيب اتسيزيئس». وهجم 
الآخرون على أعوان #ترافينكي»؛ بينما حاول آخرون قطع الشرك 
المكهرب فلاقوا حتفهم. لكن العريف شربكه الذي كان يروي النكات 
عندما يقود الناس إلى الدش وقف فى مدخل المعتقل وأخذ يطلق 
الرصاص . بيد أن ذلك لم ينفعه شيئاً» لأن الآخرين هجموا عليه : آديك 
كافي وموتيل ليفيت وهينوخ ليرر» إضافة إلى هيرش روتبلات وليتيك 
زاغل وتوسياس باران ودبّورته. فصرخ لوليك بيغمان: «على فاينغولد أن 
يلتحق بنا قبل أن تأتي الطائرات.» لكن السيّد فاينغولد ظل ينتظر زوجته 
لوبا. إلا أنها نم تأت حين نادى عليها آنذاك. فأمسكوا به من اليمين ومن 
اليسار. أمسك به «ياكوب غليرنتر» من اليمين و«موردخاي شفارسبارد؛ من 
اليسار. ومن أمامه سار الدكتور أطلس القصير القامة الذي نصح باتخاذ 
إجراءات لتنقيط معتقل تربلينكا تنقيطاً دقيقاً ومن بعده غابات فيلناء والذي 
ادعى بأن: محلول الليزول أهمّ من الحياة نفسها! ولم يكن بوسع السيّد 
فاينغولد إلا أن يؤكد على صِحّة هذه المقولة؛ إذ أنه نقطّ أمواتاًء لم أقل 
ميت واحداًء بل أمواتاً» فما الذي يعنيه العدد هناء أقول أمواتاً نقّطهم 


07 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فاينغولد بمحلول الليزول. كان يعرف أسماءهم لدرجة أنني ضجرت؛ أنا 
الذي كنت أستحم بالليزول بحيث لم يعد السؤال عن حياة أو موت مئات 
الآلاف من الأسماء يشغل اهتمامه بقدر السؤال عمًا إذا تمكن المرء من 
تعقيم الحياة» أو الممات» إن كان قد عجز عن تعقيم الحياة» بمطهّرات 
السيّد فاينغولد في الوقت المناسب وعلى نحو كاف. 

وإثر ذلك خفّت حمّاي؛ فحل شهر إبريل. ثم اشتدت الحمّى» ودار 
الدولاب من جديد وبدأ السيّد فايتغولد يرش الليزول على الموتى 
والأحياء. نعم» بعد ذلك خفتت حدّة الحمّى» فانتهى شهر إبريل/ نيسان. 
وفي مطلع مايو / آيار قصرثٌ رقبتي واتسع قفصيّ الصدري. وزحف إلى 
الأعلى؛ حتى صار بمقدوري أن أحكُ عظم ترقوة أوسكار بحنكي دون أن 
أنكس رأسي. ثم عاد شيء قليل من الحمّى ثانية ومعه القليل من محلول 
الليزول. إضافة إلى أننى سمعت ماريا تهمس بعبارات عائمة بالليزول: «لو 
أنه نقط يتوقف عن الدمو بهذا الشكل! فيا لبت أن لا تخرج له عدبة 
جديدة. ونتمتّى أنه لا يصاب بداء الاستسقاء في الدماغ!» فحاول السيّد 
فاينغولد أن يهدّأ من روع مارياء وتحدث لها عن أناس عرفهم كانوا قد 
حققوا نجاحاً كبيراً في حياتهم على الرغم من حدبهم ورؤوسهم المصابة 
بالاستسقاء. ثم قصّ لها شيئاً من رواية فريدرش الذي نزح إلى الأرجنتين 
مع حدبته؛ وأفتتح هناك محلا لبيع ماكينات الخياطة فتوسّع فيما بعد وبات 
مشهورا. 

لم تقدم قصّة الأحدب «فريدرش» المتفوق العزاء لمارياء لكنها 
أدخلت الراوي» السيّد فاينغولد نفسه. في حماس منقطع النظير حمله على 
تغيير وجه محلنا الذي كان يبيع بضائع المستعمرات. في منتصف مايرء 
عقب انتهاء الحرب بفترة وجيزة» استقبل المحل بضائع جديدة. فعرضت 
أولى ماكينات الخياطة وأدواتها الاحتياطية» غير أن المواد الغذائية بقيت 
إلى جانبها فترة من الزمن» فسهّلت من عملية التحوّل. يا لها من أزمان 
فردوسية! بحيث أضحى من النادر التعامل بالنقود»ء إنما بالمقايضة 
والمقايضة مرّة أخرى» فتحوّل العسل الاصطناعي وأقراص الشوفان 


غ053 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الصغيرة وأكياس الخميرة المنتجة في معامل الدكتور أوتغر والسكر أو 
الدقيق أو السمن النباتى إلى درّاجات هوائية» فكانت الدرّاجات الهوائية 
وأدواتها الاحتياطية تتحوّل إلى محرّكات كهربائية سرعان ما تستحيل 
بدورها إلى عدد وأدوات والعدد والأدوات إلى فراء؛ فكان السيّد فاينغولد 
يسحر الفراء ويحيله إلى ماكينات خياطة. وبدا كورت مفيداً جدّاً في لعبة 
المقايضة تلك» فكان يأتي بالزبائن ويتوسط بين الأطراف التجارية» وتأق 
في هذا المجال الاقتصادي الجديد أسرع بكثير من ماريا. فأصبح المحل 
مثلما كان عليه فى زمن ماتسرات إلى حد ما. كانت ماريا تقف وراء طاولة 
البيع» وتخدم ذلك الجزء من الزبائن الذي آثر البقاء في البلدء محاولةٌ تلبية 
رغبات الزبائن القادمين حديثا من خلال لغة بولندية استخدمتها بمشقة. في 
حين بدا كورت موهوباً من ناحية اللغة» وكان موجوداً في كلّ مكان» حتى 
أصبح موضع ثقة فاينغولد. لقد تخصص كورت في ذلك الميدان وهو لم 
يبلغ الخامسة من السنّ بعد فكان ينتقي أجود ماكينات الخياطة من طراز 
«سنغر» و«بفاف» من مئات الماكينات المتوسطة أو المتدنية القيمة 
المعروضة في السوق السوداء المقامة في شارع المحطة. كان فاينغولد 
يقدر معرفة كورت تقديراً عاليا. عندما جاءت جدّتي آنا كولياجك نهاية 
مايو قادمة مشياً من بيساو إلى لانغفور عبر برنتاو» لتقوم بزيارتناء وألقت 
بنفسها على المقعد الصغير وهي تتنفس بصعوبة» أخذ السيّد فاينغولد يكيل 
المديح لكورت وقد خصٌ ماريا كذلك بعبارات المديخ. حين روى على 
جدّتى قصّة مرضي بإسهاب وتفصيل» مشيراً فى الوقت ذاته إلى فائدة 
سوال المطهّرة» 5-7 بأن أوسكار كان عدا الها بالتقريظ ؛ لأنني كنت 
هادثاً جد ووديعاً ولم أصرخ طوال فترة المرض كلها. 

وسعت جدّتي للحصول على النفط» لأن الكهرباء انقطعت في 
بيساو. فتحدث لها فاينغولد عن تجاربه مع النفط في معتقل تربلتكاء وعن 
مهامه المتنوعة بصفته مطهّراً للمعتقل» ثم طلب من ماريا أن تعبأ زجاجتين 
من النفط بسعة لترء وأضاف إلى ذلك علبة من العسل الاصطناعي 
وتشكيلة من محاليل التعقيم؛ ثم استمع بذهن شارد وهو يهرٌ رأسه حين 


3ع0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


روت هل جدّتي ما حدث من حرائق في بيساو وبيساو- أبّاو إِبَان العلميات 
الحربية» و عن الأضرار التي لحقت بناحية فيرأك التي أصبحت تسمّى 
فيروغا مثلما في السابق. وصار الناس يطلقون على بيساو اسم بيسيفو 
الذي كان سارياً قبل الحرب. أمّا «إيهلر» الذي كان قائداً للتنظيم الفلاحي 
في رامكاوء أي من رجال التنظيم النشطين؛ إيهلر الذي تزوج من هدفغ, 
زوجة يانء ابن شقيقها الذي بقى فى البريدء فقد شنقه العمّال الزراعيون 
أمام مكتبه. وكانوا على وشك أن يشنقوا هدفغ ايشا لأنها كانت زوعة 
لبطل بولنديٌ ثم قبلت أن تقترن بمسؤول فلاحين ألمانيّ الأصلء وأيضا 
لأن ولدها شتيفان وصل إلى رتبة ملازم في الجيش الألماني؛ فضلا عن أن 
ابنتها مارتا كانت منتمية إلى اتحاد الفتيات الألمانيات. فقالت جدّتي: 
هناك فوق. لكن حاولوا يأخذون مارتا ويحجزونها في المعتقل. لكن 
فنسنت فتح فمه وحكى كأنه ما كان يحكي من قبل. اليرم صارت هدفغ 
ومارتا عندنا في البيت» وتساعدنا في الزرع. بس زيادة الكلام أثرت على 
فنسلت؟ يمكن صارت أيَامه معذلودة. والجذة صار عندها مرض في القلب 
وفي كل مكان» حتى في الرأسء» بعد ما ضربها واحد أحمى على رأسها؛ 
كان يظن أنه لابد يضرب مرّة من المرّات.» وهكذا شكت آنا كولياجك» 
بعض الإدراك المتبصر الحصيف : «هذا هو قدرنا نحن الكاشوبيين يا 
أوسكاري. دائماً تجيئنا الضربة في الرأس. لكن أنتم تروحون إلى الجهة 
الثانية» هناك الوضع أحسنء» بس الجذة تبقى وحدها. الكاشوبيون لا 
يتتقلون من مكان إلى مكان. يجب أن يبقوا في مكانهم ويقدمون رؤوسهم 
لكي يخبط عليها الآخرون؛ لأننا لا من البولنديين الحقيقيين ولا ألمان بما 
يكفي. إذا كان الواحد من أهل كاشوب فهذا لا يكفي الألمان ولا يكفي 
البولاكن! كلّهم يريدون دائماً أن تكون الأمور واضحة!» ثم انفجرت 
جذتي في ضحكة مجلجلة؛ واخفت زجاجات النفط والعسل الاصطناعي 
ومحاليل التطهير تحت أثوابها الأربعة تلك التي لم تفقد شيئاً من لونها 


0015 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الأصفر صفرة البطاطس على الرغم من الأحداث السياسية والعسكرية 
العنيفة ذات الطابع التاريخي العالمي. 

وقبل أن تذهب جدتي ترجّى منها السيّد فاينغولد أن تصبر لحظة حتى 
يقدم لها زوجته لوبا وبقية العائلة» إلا أن آنا كولياجك قالت له بعدما 
تأكدت من عدم مجيء لوبا: «أترك الأمر يا حضرة السيّد. أنا نفسي أنادي 
دائما: يا آغنس» يا آغنس يا بنيتي» تعالى وساعدي أمّك العجوز في عصر 
القذات النعسولة : اللمنها لا تي ء ارد ماما مكل زوك لوباى وفسييف: 
أخوي؛ يطلع في الليل؛ عندما تصير الدنيا ظلمة» ويوقف في الباب رغم 
المرض ويفزز الجيران من النوم؟ لأنه يناجي ابنه يان بأعلى صوته؛ يان 
الذي كان في البريد وراح. . ٠.‏ 

وقفت الجذة آنذاك في الباب» وتلفعت بمنديلهاء فهتفت بها من 
فراشي : «بابكاء بابكا!» بما يعني جدّتي» جدّتي. فالتفتت إلى الوراء 
ورفعت أذيال أثوابها قليلاً إلى الأعلى؛ كما لو أنها أرادت أن تدخلني 
تحتها لتقوم بإيوائي» لكنها تذكرت زجاجات النفط ربماء والعسل 
الاصطناعي والمطهرات التي احتلت المكان - ثم غادرت» منصرفة 
بدوني» انصرفت بدون أوسكار. 

وفي بداية يونيو / حزيران تحركت أولى شاحنات النقل في اتجاه 
الغرب؛ فلم تقل ماريا شيئأء بيد أنني لاحظت بأنها ودعت أيضاً قطع 
الأثاث والمحل وبيت الإيجار والقبور على طرفي شارع هندنبورغ المشججر 
والهضاب في مقبرة سازبه . 

أحيانا كانت ماريا تجلس في المساء أمام بيانو أمّي المسكينة إلى 
جانب فراشي قبل أن تدخل إلى القبو مع كورت» فتمسك بهرمونيكا الفمّ 
بيدها اليسرى وتحاول أن تنقر بأحد أصابع يدها اليمنى مفاتيح البيانو 
لتصاحب اللحن . فكان السيّد فاينغولد يتألم كثيراً لسماعه تلك الموسيقى» 
فيناشد ماريا لعلّها توقف. ثم يتوسل بها أن تواصل العزف قليلاً حالما 
تخفْض آلة الهرمونيكا إلى الأسفل وتهمّ بإطباق غطاء البيانو. 

وبعد ذلك تقدم لها باقتراح. وقد تكهّن أوسكار بذلك؛ إذ أن السيّد 


اه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


فاينغولد. أصبح نادراً ما ينادي على زوجته لوباء وبعدما تأكد من غيابها التام 
ذات يوم مليء بأسراب الذباب والطنين» تقدم لها بطلبه. قال إنه مستعد 
لإيواء الطفلين» إضافة أوسكار المريض . ثم عرض عليها الدار والمشاركة 
فى المحلٌ. وكانت ماريا آنذاك فى الثانية والعشرين» فبدا جمالها الأصلى 
الذي بدا كما لو أنه جاء بمحض الصدخة ثابتاً إن لم يكن صلباًء وقد ذهبت 
سنوات الحرب الأخير إضافة إلى الشهور التي أعقبت الحرب بتسريحة 
شهرها الذكري الذي كان ماشيرات سد مه وح لو آنها لم تكن 
تضفر جدائل في عهدي آنذاك؛ فإن شعرها كان ينساب على كتفيهاء فتتيح 
للناظر أن يرى فيها فتاءٌ جديّةَ إلى حدّ ماء متبرمة على الأرجح» تشعر 
بالمرارة - فقالت هذه الفتاة لا» رافضة طلب السيّد فاينغولد. كانت ماريا 
تقف على بساطنا القديم» حاملة كررت على ذراعها اليسرى» مشيرة 
بإبهامها اليمنى إلى المدفأة الحجرية» فسمعناها أنا والسيّد فاينغولد تقول: 
«إن هذا غير ممكن. لقد ضاع كل شيء هنا. سنرحل الآن إلى بلد الراين» 
إلى شقيقتي غوسته. فهي متزوجة هناك من رئيس ندل يعمل في الفندقة) 
اسمه كوستر» وسيستضيفنا مؤقتاً نحن الثلاثة.» ١‏ 

وفي اليوم اللاحق تقدمت بالطلبات» فأعيدت إلينا أوراقنا بعد ثلاثة 
يام . كان السيّد فاينغولد قد لاذ بالصمت. فقفل محلّه وجلس على طاولة 
البيع إلى جانب الميزان في الدكان المظلم حينما بدأت ماريا تحزم 
الأمتعة» غير راغب في غرف العسل بالملعقة. ولم يتزحزح من مكانه إلا 
بعد أن أتت ماريا لتودعه» فانزلق من مقعدهء وأحظر الدرّاجة الهوائية التى 
التقت بها مقطورة سشيرة وفرض علا ماقي لنا سكن مبحطة القطارات , 
فتم شحن أوسكار والأمتعة فوق المقطورة التي سارت على عجلتين 
مصنوعتين من المطاط - كان يسمح لكل شخص منا بحمل خمسة 
وعشرين كيلوغراما. أخذ السيّد فاينغولد يدفع العجلات» وأمسكت ماريا 
بيد كورت والتفتت مرّة ثانية إلى زاوية شارع اليزين حين انعطفنا شمالا. 
لكنني لم استطع الالتفات في اتجاه لابسفيغ» لأن الالتفات كان يؤلمني» 
فبقي رأس أوسكار هادثاً مستقراً بين الكتفين. فحييت مارين شتراسه 


24 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وكلاينهامرفيغ ونفق شارع المحطة الذي مازال يقطر ماءً يثير الغثيان» ثم 
حييت كنيستي التي لم يصبها الدمار» كنيسة-قلب-يسوع ومحطة ضاحية 
لانغفور التي أطلق عليها في ذلك الوقت اسم فرتسيجيج الذي لم يقو أحد 
على لفظه لفظا صحيحا؛ وقد فعلت ذلك كله بعينىّ وحدهما اللتين 
استطاعتا الاحتفاظ بحركتهما. وكان علينا أن ننتظرء وعندما تحبّك القطار 
اتضح أنه كان قطار شحن. ثمّة ناس هناك وأطفال كثيرون. فقام المعنيون 
بتفتيش أمتعتنا ووزنوه. كان الجنود يرمون باقة من التبن في كل عربة 
مقطورة. ولم يكن هناك أيّ أثر للموسيقى» لكن السماء لم تمطر ساعتها. 
كان الجرّ صاحيا إلى غائم وكانت الريح تهبّ من الشرق. 

وركبنا في العربات الأربعة الأخيرة» فوقف السيّد فاينغولد بشعره 
الناعم الضارب إلى الحمرة» المتمايل بفعل الريح؛ وقف تحتنا على 
الرصيف» واقترب من العربة بعدما أعلن محرّك القطار عن قدومه. ثم 
ناول ماريا ثلائة علب من السمن النباتي وعلبتين من العسل الاصطناعي» 
وأضاف إلى متاع السفرء حين تعالى الصراخ والبكاء والأوامر البولئدية 
معلنة الرحيل» علبة مطهرّات - إذ أن الليزول كان أهمّ من الحياة - ثم 
تحركنا تاركين انيل فايتدولد وعذه خلنناء قباث يضغر شيا فكياً بشعره 
الأحمر المتطاير» بشكل صحيح» ومثلما يقتضي الأمر عادة» حتى استحال 
إلى مجرد تلويح قبل أن يتلاشى نهائيا . 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


نمو في عربة الشحن 


مازال الألم يجتاحني إلى اليوم. وقد قذف برأسي الآن على الوسادة. 
كان الألم يجعل مفاصل القدمين والركبتين بارزة» ويجعلني أصرٌ بأسناني - 
ذلك يعني أن أوسكار كان يصرٌ بأسنانه؛ لكي لا يسمع طقطقة عظامه في 
مقلاة المفاصل. كنت أتأمل أصابعي العشرة» حتى اضطررت إلى 
الاعتراف بأنها قد تورّمت. ثم برهنت آخر محاولة أجريتها على طبلي: 
على أن أصابع أوسكار لم تكن متورمة فقطء بل لم تعد صالحة الآن لهذه 
المهنة؛ إذ أن مضربي التطبيل كانا يفلتان منها. كذلك لم يرد قلم الحبر 
مطاوعتي؛ فكان عليّ أن أتوسل ببرونو» لكي يلفَني بالكمّادات البادرة. 
وقمت بتسليح معيني برونو بالورق وقلم الرصاص وأنا ملفوف اليدين 
والقدمين والركبتين واضعا منشفة على جبيني ؛ لأنني لا أحبّ إعارة قلمي 
الحبر إلى أحد آخر. فهل سيصغي برونو بشكل جيّدء أو هل يستطيع 
الإصغاء أصلا؟ وهل ستعطي إعادته لقصّة الرحلة بعربة الشحن حقها؛ 
تلك الرحلة التي بدأت في ١١‏ يونيو / حزيران من العام الخامس 
والأربعين؟ 

لقد جلس برونو إلى الطاولة تحت صورة شقائق النعمان. وفي تلك 
اللحظة آدار ل رأسهء كاشفاً لى عن فلك الصضفحة الى يسموتها الوجه؛ 
متطلعاً بعينيه اللتين هما عينا حيوان خرافي؛ متطلعاً إلى يميني وإلى شمالي 
دون أن يتطلع إليّ مباشرة. أما قلم الرصاص فإنه وضعه بشكل عرضي 
على فمه الرقيق العابس» متصنعاً حالة الانتظار. حتى لو افترضنا أنه كان 
ينتظر كلمتي فعلاًء أو ينتظر إشارة البدء بإعادة القضّة؛ فإن أفكاره دارت 


لك 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حول تركيباته المعقدة. فهو سيعقد الخيوط» بينما ستبقى مهمة أوسكار 
قائمة على فل خيوط مقدمة القصّة المعقدة بثراء لغوىٌ؛ 

فكتب برونو: 

أناء برونو مونستربيرغ» القادم من ألتينا في زاورلاند» وأنا غير 
متزوّج» وليس لدي أطفال وأعمل معيئا في القسم الخاص التابع لمصّحة 
الأمراض العقلية. وإن السيّد ماتسرات المقيم هنا لغرض المعالجة منذ أكثر 
من عام هو مريضي الذي اعتني به. وهناك مرضى آخرون اعتني بهم أيضاء 
لكنني لا أتحدث عنهم هنا. إن السيّد ماتسرات هو أكثر مرضاي براءة. 
فهو لم يفقد أعصابه لدرجة تضطرني إلى الاستعانة بالمعينين الآخرين. كما 
أنه يكتب ويطبّل كثيراً إلى حدّ ما. ولكى يرفق بأصابعه المكدودة فقد 
دسست فى جيبى بعض الخيوط» وسأبدأ بتركيب الأعضاء السفلية لشكل 
جديد سأطلق عليه اسم «اللاجئ الشرقي» وأنا أتابع قصّة السيّد ماتسرات. 
فهذا لم يكن الشكل الوحيد الذي استلهمه من قصص مرضاي. فحتى 
ذلك الوقت كنت عقدت شكل جدته التي أطلقت عليها اسم «تفاحة في 
أربعة أثواب» ونسجت شكل جدّه الرّمَاثْ الذي منحته اسماً ينطوي على 
مجازفة: «كولومبس»» وتحوّلت أمّه المسكينة إلى «آكلة السمك الفاتنة» 
بفعل خيوطي » وعقدت من أبويه ماتسرات ويان برونسكي مجموعة من 
الأشكال التي وضعتها تحت عنوان «لاعبا الورق»» وكذلك نسجت ظهر 
صديقه هربرت تروجنسكي المليء بالندب وأطلقت على هذا النقش البارز 
عنوان «المسافة غير المستوية» وفعلت الشيء ذاته مع بعض المباني مثل : 
البريد البولندي» البرج ذي الطوابق» المسرح البلدي. ممر تسويغهاوس» 
متحف الملاحة» قبو البقال غريف» مدرسة بستالوتسي» حمّام بروزن 
وكنيسة-قلب-يسوع» مقهى الفصول الأربعة؛ معمل شيكولاتة البلطيق» 
إلى جانب الكثير من المخابئ المنتشرة على ساتر الأطلسي» برج أيفل في 
فضلاً عن البيت الذي أبصر فيه السيّد ماتسرات نور العالم. ذلك كلّه 


7ه 
1_طماع1© :-1عا]آنلا 1 


نسجته عقدةً إثر عقدة» وقد شكلت قضبان مقبرتي سازبه وبرنتاو 
وشواهدهما الزخارف اللازمة لخيوطي»؛ كما أننى جعلت نهري فيستولا 
والسين يجريان خيظاً إثر يط وجعلت أمواج الأطلسي وبحر البلطيق 
ترتطم بسواحل خيوطي» وأحلّت الخيوط إلى حقول بطاطس كاشوبية 
وإلى مراع في قطاع النورماندي» ثم أسكنت الناس في تلك البقعة الريفية 
المتكونة من الخيوط والتي سميتها ببساطة لأورباءء حيث قطنتها 
مجموعات من الأشكال مثل : المدافعين عن البريد البولندي» تجار بضائع 
المستعمرات؛ الناس على المنصّة» الناس أمام المنصّة» تلاميذ المدرسة 
الابتدائية مع أكياس اليوم الأوّل من المدرسة» حرّاس متاحف منقرضون» 
فتيان مجرمون يقوم بالتحضير لعيد ميلاد المسيح. خيّالة بولنديون في 
الغروب» نمل يصنع التاريخ , مسرح الجبهة الذي يقدم عروضه لضباط 
الصفٌ والجنود. أناس واقفون يعقمون أناساً مضطجعون في معتقل 
تربلنكا. والآن سأبدأ بهيئة اللاجئ الشرقي الذي سيتحوّل على أكثر 
الاحتمالات إلى مجموعة من اللاجئين الشرقيين. 

لقد رحل السيّد ماتسرات في ١١‏ يونيو/ حزيران من العام الخامس 
والأربعين فى حوالى الساعة الحادية عشرة ضحىئ» رحل من غدانسك التى 
بات اسمها مل ذلك الوقك غذانساك» ركان ترقتعه مازيا التى اذعى فريضى 
بأنها عشيقته السابقة وكورت ماتسرات» الابن المفترض لمريضي. إضافة 
إلى ذلك كان هناك اثنان وثلائون شخصاً آخرون فى عربة الشحن» من 
ضمنهم أربع راهبات كاثوليكيات في مسوح الطائقة الفراتسيتكائية: وثمة 
شابة صغيرة غطت رأسها بمنديل وقد تعرّف عليها السيّد أوسكار باعتبارها 
الآنسة لوتسى رنفاند من خلال شعرها. وبعد استفسارات عديدة من طرفى 
أنا أقرّ مريضى بأن تلك الفتاة كان اسمها رغينا رائيك» نينا آله لل ييحت 
عن وجه ثعلب مثلّث يلا اسمء أطلق عليه فيما بعد لقباًء وأخذ يناديه 
بلوتسي» مما حال دون أن أدرّن تلك الفتاة تحت اسم الآنسة رغينا. كانت 
رغينا رائيك قد رحلت مع والديها وجديّها وعم مريض حمل معه سرطان 
معدة خبيثاً إلى الغرب بالإضافة إلى عائلته» وكان كثير الكلام» وأعلن 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بعدما تحرّك القطار مباشرة بأنه عضو سابق في الحزب الديمقراطي 
الاجتماعي. وحسبما تذكر مريضي» فإن الرحلة. مرّت بسلام من دانسغ 
إلى غدينيا التي كان اسمها غوتنهافن لمدة أربعة أعوام ونصف العام. كان 
ثمة امرأتان من أوليفا وبضعة أطفال ورجل عجوز من أهالي لانغفور قد 
بكوا حتى بعد أن اجتازوا ناحية تسوبوت بمسافة قصيرة» في حين انهمكت 
الراهبات فى الصلاة. فتوقف القطار خمس ساعات فى (غدينيا؛؛ حيث 
امرث انرانان ويعة اطفال بالركوب فى العرية غير أن الدمشراطى 
الاجتماعي احتج على ذلك؛ لأنه كان مريضاًء كما أنه طالب بأن يعامل 
معاملة خاصة بصفته ديمقراطياً اجتماعياً قبل الحرب. لكن الضابط 
البولندي الذي أشرف على الترحيل وجّْه له صفعةً بعدما امتنع من فسح 
المجال» وقال بلغة ألمانية سلسة نوعاً ما بأنه لا يفهم ما تعنيه صفة 
الديمقراطي الاجتماعي. فقد كان عليه أن يقيم في أماكن متخلفة من ألمانيا 
إبَان الحرب» لكنه لم يسمع قط بكلمة ديمقراطي اجتماعي. فلم يفلح 
الديمقراطي الاجتماعي المريض بالمعدة في أن يشرح للضابط البولندي 
معنى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني وجوهره وتاريخه؛ لأن 
الضابط ترجّل من العربة وأوصد الأبواب وقفلها بالمزلاج من الخارج. 
ونسيت أن أدوّن بأن الركاب كلهم كانوا يجلسونء أو يرقدون على 
لش . لما تحرّك القطار في ساعة متأخرة بعد العصر هتفت بعض النساء : 
«سنعود مرّة ثانية إلى دانسغ » لكن ذلك كان خطاً؛ إذ أن القطار حول 
فقط إلى سكة أخرى» ثم تابع سيره في اتجاه الجنوب نحو شتولب. لقد 
استغرقت الرحلة إلى شتولب أربعة أيّام؛ لأن القطار أجبر مرّات عديدة 
على التوقف بين محطة وأخرى من قبل رجال الأنصار السابقين وعصابات 
الفتيان البولنديين. كان الشباب يفتحون الأبواب المنزلقة للعربات ويتركون 
شيئاً من الهواء الطلق يدخل إليهاء ثم يخطفون الهواء الفاسد من العربات 
ومعه جزءاً من أمتعة السفر. وكلّ مرّة عندما يحتل الشبّان مقطورة السيّد 
ماتسرات تنهض الراهبات أربعتهن ويرفعن صلبانهن المعلّقة على مسوح 
الرهبئة إلى الأعلى. كانت الصلبان الأربعة تخلّف أثراً بليغاً في قلورب 


رفك 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الفتيان» فيرسمون علامة الصليب على عجل قبل أن يقذفوا بالأمتعة 
وحقائب الظهر العائدة للمسائرين على سذة السكة .. حين عرض 
الديمقراطى الاجتماعى أوراقه على الفتيان التى كانت السلطات البولئدية 
في دانسغ 0 غدانسك قد صادقت عليهاء تلك الأوراق التي ثبتت بأنه كان 
عضواً في الحزب الديمقراطي الاجتماعي من العام 198١‏ إلى 1917 وقد 
كان يسدد اشتراكه بانتظام» فإن الفتيان لم يرسموا علامة الصليب» بل 
انتزعوا الأوراق من يده واستولوا على حقيبتيه وعلى مخلاة زوجتهء 
وحملوا معهم المعطف الشتوي الفاخر ذا المربعات الكبيرة الذي رقد عليه 
الديمقراطي الاجتماعيى؛ حملوه معهم في الهواء العذب لمقاطعة «بومرن». 
ومع ذلك ادعى السيّد أوسكار ماتسرات بأن الشبّان ولدوا لديه انطباعاً بأنهم 
كانوا على قدر كبير من الانضباط والتميّز. وقد أرجع ذلك إلى تأثير 
رئيسهم الذي مثل شخصية قائمة بذاتها على الرغم من أنه كان يبلغ بالكاد 
ستة عشر ربيعاً؛ شخصية دفعت بالسيّد ماتسرات إلى أن يتذكر بشكل مؤلم 
ومفرح في آن قائدٌ عصابة النافضين شتورتبكر. 

وعندما حاول ذلك الشاب الذي كان يشبه شتورتبكر أن يسحب مخلاة 
الظهر من أصابع مارياء ونجح في سحبهاء تمكن السيّد مانسرات في 
اللحظة الأخيرة من التقاط ألبوم العائلة المحشور لحسن الحظ في أعلى 
المخلاة. فأراد رئيس العصابة أن يغضب أوّل الأمرء لكن بعدما قام 
مريضي بتقليب صفحات الألبوم؛ مطلعاً الفتى على صورة جدّته كولياجك» 
ترك المخلاة تسقط على السيّدة ماريا من جديد؛ إذ أنه فكر فى جدّته» 
ووضع إصبعين على طاقيتيه البولندية المربعة محيياً» ثم قال موجها كلامه 
إلى عائلة ماتسرات: ادو فنتسياا؟ وكادر هم جباعته عربة القطارء» حاملا 
معه حقيبة من حقائب المسافرين الآخرين بدلا من مخلاة عائلة ماتسرات. 

وفي المخلاة التي بقيت في حوزة العائلة بفضل ألبوم الصور كان ثمة 
بضع قطع من الملابس الداخلية وإيصالات ضريبة المبيعات الخاصة بمحلٌ 
بضائع المستعمرات ودفاتر التوفير وعقد من الياقوت الأحمر» كان يعود 
زماناً إلى ملكية والدة السيّد ماتسرات؛ وقد أخفاه مريضي في إحدى علب 


0 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المطهّرات» كذلك تكبّد الكتاب التعليمي» المؤلف نصفه من مقتطفات 
راسبوتين ونصفه الآخر من كتابات غوته؛ تكيّد عناء الرحلة إلى الغرب . 

لقد زعم مريضي بأنه وضع ألبوم الصور معظم الوقت على ركبته» 
وفعل الشيء ذاته مع الكتاب التعليمي أحياناً طوال الرحلة» وأنه أخذ يقلّب 
بالكتابين اللذين وهباه ساعات كثيرة من المتعة والتأمل على الرغم من آلام 
المفاصل المبرحة. إضافة إلى أن مريضي كان يود القول بأن الارتجاج 
والاهتزاز والمرور بتحويلات سكك القطار وتقاطعاتها والاضطجاع على 
المحور الأمامي لعربة الشحن المترجرج على الدوام قد ساهمت كلها في 
التعجيل من عملية النمو. فهو لم يواصل نموه بالعرعن كما في السايق: 
بل في الطول أيضاً وارتخت المفاصل المتورمة؛ لكن غير الملتهبة. فشمل 
التمدد أذنيه وأنفه وأعضاؤه التناسلية بفعل ارتجاج السكة تحت عربة 
الشحن. طالما كان القطار يسير بلا عوائق؛ فإن السيّد ماتسرات لم يشعر 
بأيّ ألم؛ فقط عندما يتوقف ليقوم بعض رجال المقاومة وعصابات الفتيان 
بزيارته ؛ فإنه يعاني من حدّة الألم المبرح الذي كان يعالجه كل مرّة. مثلما 
قيل» بألبوم الصور المسكن للآلام. وباستثناء شتورتبكر البولندي» كان 
هناك الكثير من اللصوص الفتيان وأحد رجال المقاومة الكبار في السنّ 
أظهروا اهتماماً بألبوم الصور. فاتخذ المحارب القديم مكانه في العربة 
وزوّد نفسه بسيجارة وصار يقلب بالألبوم بتأن» دون أن يغفل مربعاً 
واحدأ» مبتدثاً بصورة الجدّ كولياجك وتابع صعود العائلة المقرون 
بالصورء حتى وصل إلى السيّدة ماريا ماتسرات مع كورت ذي العام الواحد 
وذي العامين فالأعوام الثلاثة فالأربعة. لقد لمحه مريضي يبتسم وهو يتأمل 
بعض معالم النعيم والارتياح التي بانت على العائلة . ولم يبد رجل الأنصار 
استياءه إلا بعد أن أبصر شارات الحزب الشديدة الوضوح على ملابس 
المرحوم السيّد ماتسرات وعلى ياقة السيّد إيهلر. مسؤول التنظيم الفلاحي 
في رامكاو والمتزوّج من.أرملة يان برونسكي المدافع عن البريد. فحك 
المريض بحافة سكين الإفطار شارات الحزب الواضحة في الصور أمام 
عيني الرجل الناقدتين إرضاءً له 


ممه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كان ذلك النصير - مثلما لقننى السيّد ماتسرات للتو - نصيراً حقيقياً 
على الدكني من الكثير من الأنضار يليو فيناك لضان شرل بان 
الأنصار هم ليسوا أبداً أنصاراً مؤقتين» إنما هم دائماً أنصار يعيدون 
الحكومات الساقطة إلى سدّة الحكم» أو يطيحون بالحكومات التي اعتلت 
للتو سدّة الحكم بمعونة الأنصار أنفسهم. والأنصار غير القابلين للإصلاح 
والمتغلغلين في أوساط بعضهم البعض» المكرسين حياتهم للسياسة 
الآخرين أكثر من الناس الآخرين هم حسب نظرية السيّد مانسرات - التي 
بدت لي مقنعة تماماً مرهريرة ذا بشكل كيرا انهم سرعان ما يبارت 
ما أنجزوه للتو. وأنا أستطيع أن أقول الشيء ذاته عن نفسى . ألم يحدث 
ل ل الور 
الجبس فأحطمها؟ إنني أفكر الآنء وبشكلٌ خاصء في تلك المهمّة التي 
عهد إلي بها مريضي قبل شهور والقاضية بأن أنسج بخيوط بسيطة راسبوتين 
الروسي الذي كان يشفي الناس بالصلوات وأمير الشعراء الألماني غوته في 
هيئة شخص واحد» تلك الهيئة التي يجب أن تكون شبيهة به» أي بصاحب 
الطلب» شبهاً متناميا. ولم أعد أعرف كم كيلومتراً من الخيوط عقدتها لكي 
أحيل أخيراً هذين النقيضين إلى عقدة واحدة سارية المفعول. بيد أنني 
بقيت حائراً متبرماً شأنيى شأن النصير الذي التوخه السكد ساضراك باغقياره 
نموذجاً» فعمدت إلى حل ما حاكته يميني بشمالي؛ محطماً بيمناي 
المكوّرة ما شكلته يدي الشمال. ْ ْ 

لكنّ السيّد ماتسرات نفسه لم يستطع أن يروي قصته باستقامة دون 
لف أو دوران. فبغض النظر عن الراهبات الأربع اللواتي حسبهن تارةٌ على 
الطائفة الفرانسسكانية وطوراً على طائفة القديس فنسنت؛ لاسيما تلك الفتاة 
ذات الاسمين والوجه الواحد المئلّث الممائل لوجه الثعلب حسب ادعائه 
التي تفككت في تقريره كل مرّة» فتضطرني» أنا الراوي المعيد» إلى تدوين 
تفاصيل تلك الرحلة المنطلقة من الشرق إلى الغرب بصيغتين أو أكثر. فهذه 
ليست مهنتي؛ وسأتمسك بالرجل الديمقراطي الاجتماعي الذي لم تتغير 
معالم وجهه طوال الرحلة؛ فهو كان يروي للمسافرين جميعهم حتى مسافة 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


قصيرة قبل شتولب». حسب قول مريضيء بأنه كان يلصق الملصقات إلى 
العام السابع والثلاثين» وأنه قام بهذا العمل الذي يمكن اعتباره نوعاً من 
المقايعة الداخلية» مجازفا يسحة» يها بوقت فراغه؟ لأنه كان يتتمي 
إلى عدد قليل من الديمقراطيين الاجتماعين الذين كانوا يلصقون الملصقات 
على الرغم من الطقس الممطر. وتحدث على هذا المنوال بعدما أوقتف 
القطار للمرّة كذا وكذا؛ لأن عصابة فتيان أعلنت عن زيارتها له. وبما أنه 
لم تعد هناك أمتعة كافية فقد هرع الفتيات إلى سلب ثياب الركّاب من 
أجسادهم . بيد أنهم اقتصروا على نزع قطع الملابس العليا من الرجال 
وحدهم مثلما تقتضي الحكمة. فلم يفهم الديمقراطي الاجتماعي هذا 
التصرف؛ إذ أن أي خيّاط ماهر بإمكانه أن يفصّل من مسوح الراهبات 
الفضفاضة عدداً من الحلل الممتازة. كان الديمقراطي الاجتماعي ملحدا 
كما صرّح بكل إيمان. لكن الشبّان اللصوص كانوا مرتبطين بالكئيسة 
المنقذة دون أن يعلنوا انتماءهم» فلم يرغبوا في الاستيلاء على أقمشة 
الراهبات الواسعة» إنما على بذلة الملحد ذات الأزرار المصفوفة على 
جانب واحدء تلك البذلة المنشّاة بنشارة الخشب قليلا. بيد أنه امتنع عن 
نزع السترة والصديري والسروال» بل تحدث عن سيرته القصيرة في 
الحقيقة» المكللة في النجاح من ناحية أخرى» باعتباره ديمقراطياً اجتماعياً 
يلصق الملصقات» وحين أبدى عناده أثناء انتزاع بذلته منه مواصلاً حديثه» 
رفسه أحدهم على معدته بجزمة عسكرية قديمة من جزم الجيش الألماني. 
نتقيّأ الديمقراطي الاجتماعي بحذة وبلا انقطاع حتى أخذ يقذف دما. إلا 
أنه لم يعد يلق بالا لبذلته. وفقد الفتيان اهتمامهم بالبذلة الملوّثة التي يمكن 
إنقاذها بالغسيل الكيماوي الجيّد. فاستغنوا عن ملابس الرجال العليا 
وجردوا السيّدة ماريا ماتسرات من بلوزتها الزرقاء الفاتحة المصنوعة من 
الحرير الاصطناعي وانتزعوا سترة الفتاة الضغيرة التي لم يكن اسمها لوتسي 
رنفائد؛ بل رغينا رائيك» ثم ردّوا الباب ردّأ ولم يقفلوه» فسار القطار في 
اللحظة التي بدأ فيها الديمقراطي الاجتماعي يحتضر 

وقبل «شتولب» بكيلومترين أو ثلاثة دفعت عربات الشحن في رصيف 


فرك 
1_طماع1© :عا ]آنلا 1 


مهمل للقطارات المعطلة؛ وأمضى هناك ليلته المرصعة بالنجوم التي كانت 
باردةً بالنسبة لشهر يونيو. في تلك الليلة بالذات توفي ذلك الديمقراطي 
الاجماض التتملى دلت # كوي بصيورة إلينة عا كلما عر النيل عاتشرات 
- وهو يكفر بالله ويدعو الطبقة العاملة إلى النضال» ويهتف بكلمات أخيرة 
تمجّد الحريّة - مثل تلك الكلمات التي يسمعها المرء في الأفلام -» ثم 
صرعته أخيراً نوبة تقيؤ ملأت عربة الشحن بالرعب. وقال مريضي بأن أي 
صراخ لم يعقب ذلك» فبقي الصمت مخيماً على العربة. فقط السيّدة ماريا 
كانت تطقطق بأسنانها التى اصطكت من شذة البرد؛ لأنها كانت بلا بلوزة» 
وقد تلفعت بآخر ما تبقى من ملابس داخلية عائدة إلى الولد كورت والسيّد 
ماتسرات. في الصباح اغتنمت راهبتان جريئتان فرصة انفتاح باب 
المقطورة» فنظفتا العربة ورميتا بالقش المبلول وبراز الأطفال والكبار ومعه 
تُخامة الديمقراطي الاجتماعي على سدّة القطار. وفي شتولب نفسها تمّ 
تفتيش القطار من قبل ضباط بولنديين» ووزع في الوقت ذاته حساء فاتر 
الحرارة ومشروب يشبه قهوة الشعير. وصودرت الجتّة التي كانت قي عربة 
النته عاتبرات: كو نا من تقار وراد ماه تايا وال العنقة على ارم 
خشبية عريضة. وبعد تشع من قبل الراهبات سمح ضابط كبير لذويّ 
الميّت بإقامة صلاة قصيرة. وسمح أيضاً بتجريد الرجل الميّت من حذائه 
وجواربه وبذلته. كان مريضي يراقب ابنة أخ الرجل المنزوع الثياب أثناء 
مشهد نزع الثياب - لقد عُطيت الجنّة فيما بعد بكيسين إسمنت فارغين 
أطبقا على اللوح. فذكرته تلك الفتاة مرّة أخرى بشكل منفر وأخّاذ في آن 
بلوتسي رنفاند التي شكلت هيئتها بالخيوط وأطلقت عليها اسم ملتهمة 
الفطائر المحشوة بالسجق» على الرغم من أن اسمها كان رائيك. لم تهرع 
تلك الفتاة في الواقع إلى الخبز المحشو بالسجق لتلتهمه بقشوره بمناسبة 
سلب عمهاء بل ساهمت في السلب فحسبء فورثت الصديري عن بذلة 
عمهاء فارتده عوضاً عن سترتها التي نهبت» ثم أخذت تنظر في مرآة جيب 
إلى مظهرها الجديد الذي لم يكن خالياً من الأناقة» ويبدو أنها - وهنا 
يكمن ذعر مريضي الذي مازال قائماً إلى اليوم - شملت مضجعه بمرآتها 


4ه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وصارت تراقبه بعينين صافيتين ضيقتين باردتين انطلقتا من مثلّث. وقد 
بنرك الرحله من تكولب إلى تحن زوين لين و وكا انعد ها يكنيي 
من الوقوف الاضطراري ومن الزيارات التي تحؤلت شيئا فشيئا إلى عادة 
والتي قام بها المراهقون المسلحون بحراب المظليين والبنادق الرشاشة» 
بيد أن تلك الزيارات باتت تزداد قصراً على الدوام؛ إذ لم يعد هناك ما 
يمكن نهبه من المسافرين . 

وادعى مريضي بأن قامته طالت بمقدار تسع أو عشر سنتمترات على 
الأرجح خلال أسبوع واحد أثناء الرحلة من دانسغ-غدانسك إلى شتيتين. 
فتمدد وركه وساقه. لكن القفص الصدري والرأس بقيا على حالهما. ومع 
ذلك فإن نمواً خفيفاً طرأ على الحدبة التي زحفت نحو أعلى اليسار على 
الرغم من أن مريضي كان مضطجعاً على ظهره طوال الوقت. وأقرّ السيّد 
ماتسرات بأن الآلام تصاعدت حدتها بعدما خلّفوا شتيتين وراءهم - إِبّان 
ذلك استلم طاقم ألماني مهمّة النقل - ولم يعد التقليب المحض لألبوم 
صور العائلة يسهل من نسيان الآلام. فاضطر إلى الصراخ مرّات عديدة 
وبشكل متواصل» لكنه في الحقيقة لم يصب زجاج أي محطة قطارات 
بأضرار > هاتسراك نضا لقد فقد صوتي أدني قدرة له على تحطيم 
الزجاج. غير أنه جمّع الراهبات الأربع أمام مضجعه» وجعلهن لا ينقطعن 
عن الصلاة. 

وغادر القسم الأعظم من المسافرين» بما فيهم ذوو الديمقراطي 
الاجتماعي المتوفى وفي المقدمة منهم الآنسة رغيناء غادروا قطار الشحن 
في شتيتين. فشعر السيّد ماتسرات بالحزن؛ لأن مرأى الفتاة بدا له أليفاً 
وضرورياًء فتعرض بعد ذهابها إلى نوبات تشنّج عنيفة مصحوبة بحمّى 
عالية جعلته يرتجف. وحسب قول السيّدة ماريا ماتسرات فإنه أخذ ينادي 
على فتاة باسم لوتسيء» ناعتاً نفسه بالحيوان الخرافي ووحيد القرن» خائفاً 
من السقوطء وراغباً في السقوط أيضاً من منصّة القفز البالغ ارتفاعها عشرة 
أمتار...وتقل السئد أوسكار ماتسرات إلى إحدى المستشفيات في 
لونهبورغ» حيث تعرّف على بضع ممرضات وهو في حالة الحمّى» لكنه 


01 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


سرعان ما حول إلى مستوصف جامعة هانوفر» فتمكنوا هناك من تخفيف 
حتاة كانت السئدة مازيا وابنها كورت لآ بريان الستد عاسرات إل تادراء 
ثم أصبحا يريانه يومياً بعد وجدت السيّدة ماريا وظيفة منظفة في 
المستشفى. وبما أنه لم يكن هناك مكان في المستوصف أو قريب منه 
لتسكن فيه ماريا وابنها كورت» ولأن الإقامة فى معسكر اللاجئين باتت لا 
تطاق - كان على ماربا أن تمضي ثلاث ساعات يوميّاً في قطار مزدحمء 
وكفيراً ما كانت تقف على موطئع الغرية المخصض للصعود والتزول:ت 
هكذا كانت المسافة الفاصلة بين المستوصف والمعسكر؛ فقد وافق الأطباء 
بعد تردد كبير على تحويل المريض إلى المستشفى البلدي في دوسلدورف» 
خصوضاً أن النكدة ماروا انك تحيل تر عيضا بالافال إلى عفالف 
فوضعت شقيقتها غوسته التي كانت متزوّجة من رئيس ندلٍ مقيم في 
دوسلدورف إبان الحرب؛ وضعت غرفة من سكنها المؤلف من غرفتين 
ونصف الغرفة في خدمة السيّدة ماريا؛ لأن رئيس الندل لم يعد بحاجة إلى 
شغل أي مكان, إذ أنه كان في الأسر الروسي . 

كان السكن يقع في ناحية مناسبة» بحيث أنه يمكن الوصول إلى 
المستشفى البلدي بجميع قطارات الترام المنطلقة من محطة بيلك أو الذاهبة 
في اتجاه فيرستن وبيئرات دون أن الانتقال من ترام إلى آخر. وقد رقد 
السيّد ماتسرات في ذلك المستشفى من أغسطس / آب ١940‏ إلى مايو/ 
آيار 1947 ومنذ أكثر من ساعة تحدث لي في وقت واحد عن بضع 
ممرضات يحملن أسماء مثل الممرضة «مونيكا» والممرضة «هلمترود» 
والممرضة «فالبورغا» والممرضة (إليزا؛ والممرضة «غيرترود». كانت يتذكر 
الأقاويل الشائعة في المستشفى» معطياً قيمة مبالغ فيها لكل ما يحيط بحياة 
الممرضات ولملابسهن المهنية. إلا أنه حسب ما أتذكرء لم ينطق بحرف 
واحد حول طعام المستشفى السيئ جد في ذلك الوقت ولا عن غرف 
المرضى السيئة التدفئة. لا شىء آخر سوى الممرضات وحكايات 
الممرضات المملة ومجتمع الممرضات:, فكان يُهمس آنذاك ويذاع في 
السرٌ بأن الممرضة إليزا قالت لرئيسة الممرضات شيئاً ماء وقيل إن رئيسة 


غ0 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الممرضات تجرأت على تفتيش سكن متدربات التمريض بعد استراحة 
الغداء بفترة قصيرة» وقيل إن ثمة أشياءً سّرقت». فوجهت التهمة إلى 
ممرضة من مديئة دورتموند - أعتقد أنه ذكر اسم غيرترود - وكانت تلك 
التهمة باطلة. وروى أيضاً بطريقة ملتوية ومسهبة حكايات عن أطبّاء شباب 
كانوا يحاولون الحصول على السجائر التي تورّع بالبطاقات من 
الممرضات. كما أنه وجد قصّة عملية إسقاط قامت بها عاملة مختبر 
كيميائي أو ممرضة» بنفسها أو بمعونة مساعد طبيب» وجدها جديرة 
بالقصّ . إنني في الواقع لا أفهم مريضي الذي يبدد روحه وعقله في تلك 
التفاهات . 

والآن طلب متي السيّد ماتسرات أن أصفهء وسأنفذ هذه الرغبة 
بسرور» لكنني سأقفز على ذلك الجزء من الحكايات التي كان يسهب في 
تصويرها على نحو مغر فيضفي عليها الكلمات الرنّانة الخطيرة» لمجرد أنها 
تتعلق بشؤون الممرضات. وكانت قامة مريضي تبلغ متراً وواحداً وعشرين 
سنتيمترا. وكان يحمل رأسه الضخم حتى بالنسبة للأشخاص الكبار 
الطبيعيين بين منكبيه فوق رقبة معوجّة إلى حذ ماء وقد برز القفص 
الصدري والظهر الذي يمكن تسميته بالحدبة بروزاً واضحا. كان يتطلع 
بعينين زرقاوين حادتي البريق تتحركان بفطنة وذكاء» تتسعان أحياناً 
ثمتين. وكان له شعر بنيّ غامق كثيف, متمرّج قليلاء وكثيراً ما كان 
يظهر عن ذراعيه المتينتين بالمقارنة مع بقية جسده؛ كاشفا عن يديه 
الجميلتين كما يسميهما. وإذا ما طبّل السيّد ماتسرات - كانت إدارة 
المصحّة تسمح بالتطبيل ثلاث أو أربع ساعات يوميّاً -؛ فإن أصابعه تبدو 
كأنها مستقلة عنهء وتعود إلى جسد آخر كامل. لقد أصبح السيّد مانسرات 
ثرياً جدّاً من خلال الأسطوانات» ومازال إلى يكسب المال بالأسطوانات 
إلى اليوم. إن هناك أناساً مثيرين للاهتمام يقومون بزيارته في مواعيد 
الزيارات. كنت أعرف اسم السيّد أوسكار ماتسرات قبل محاكمته وقبل 
تحويله إلينا؛ إذ أنه كان فئاناً مشهورا. إنني مقتنع شخصياً ببراءته» لذلك 
فأنني لست متأكداً فيما إذا سيبقى عندنا أم أنه سيخرج ذات يوم ويقدم 


6١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


عروضه الناجحة من جديد كما في السابق. الآن عليّ أن أقيسه على الرغم 
من أنني قمت بذلك قبل يومين. 

إنني» أوسكار» سأهرع إلى القلم ثانية دون أن أتفحص إعادة الرواية 
التي دوّنها معيني برونو. لقد قام برونو للتو بقياسي بمسطرته القابلة للطي 
أنه تخلى حتى عن تشكيلات خيوطه التي اشتغل عليها في الحفاء أثناء ما 
رويت عليه قصتى. أظنّ أنه أراد استدعاء الآنسة الدكتورة هورنشتيتر. لكن 
قبل أن تأتي الطبيبة لتأكد قياسات برونو؛ فإن أوسكار يريد التحدث إليكم : 
خلال تلك الأيّام الثلاثة التي رويت فيها قصّة نموّي على معيني كسبتٌُ 
قامتي ريا برع مد ص كازج م ير الما الما 
واعتباراً من هذا اليوم فإن طول أوسكار بلغ متراً وثلاثة وعشرين سنتيمترا. 
وسيروي الآن ما جرى له بعد الحرب» اح تن و سرف 
البلدي شاباً معافى إلى حدّ ماء قادراً على الكلام» لكنه بدا متردداً في 
الكتابة وطليقاً فى القراءة» حتى وإن كان مشوّه الجسدة لكى يبدأ حياةً 
جديدةٌ حريّة بالبالغين مثلما يعتقد المرء بعد خروجه من المستشفى. 


037 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الكتاب الثالث 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حجر صوان وشواهد 


ثمة سمنة ناعسة وطيّبة السريرة: إذ لم تضطر غوسته تروجنسكي إلى 
تغيير نفسها بصفتها غوسته كوسترء لاسيما أنها لم تشعر بوطأة كوستر 
فوقها إلا فى أسرّة الملجأ أثناء فترة الخطوبة التى دامت أربعة عشر يوما 
قبل إبحاره إلى جبهة البحر المتجمد بفترة قصيرة» وبعد ذلك بمناسبة 
إجازته من الجبهة. وحتى لو لم تصل أخبار عن مكان كوستر عقب 
استسلام الجيش الكورلاندي؛ فإن غوسته كان ترد حين يسألها أحد عن 
بعلها بثقة وهي تشير بإبهامها في اتجاه باب المطبخ : «(بلى» بلى . هو هناك 
في الأسر عند إيفان. إذا ما يرجع يختلف كل شيء.» وقد توقفت 
التقبيرات القن يمكن أن غطرا على وان فباحية بلكده المشقرظة امه 
لكوستر نفسه؛ على ماريا ومن ثمة على سلوك كورت. حين خرجت من 
المستشفى بعدما ودعت الممرضات اللواتى وعدتهن بالزيارة» وركبت 
الترام قاصداً بلكه حيث مسكن الشقيقتين وولدي كورت» رأيت مركزاً 
لتجارة السوق السوداء فى الطابق الثانى من البناية المحترقة من السقف إلى 
وماريا يشرفان على إدارته. وكانت ماريا المخلصة والمطيعة لماتسرات 
حتى في تجارة السوق السوداء تتعامل بالعسل الاصطناعي» فكانت تعبثئه 
بالجرادل الخالية من الكتابة» ثم تصفقه على ميزان المطبخ» وأجبرتني» 
حالما دخلت الدار؛ أي قبل أن أتآلف مع صلات القرابة» على لفٌ 

كان كورت يجلس وراء صندوق مسحوق غسيل كما لو أنه جلس إلى 


ه66 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


طاولة بيع فتطلع إلى العائد إلى أهله؛ أي إلى الأب الذي برئ من 
مرضه » بيد أنه سلط عينيه الرماديتين الشتويتين على شيء آخر أصبح عبر 
حضوريء ومن خلالي أيضاًء جديراً بالرؤية. كان يمسك بورقة ويسطرٌ 
عليها متسلسلة من الأرقام الخيالية» فبدا منظره يشبه منظر المفكّر أو 
التلميذ الطموح بعد ستة أسابيع من زيارته لصفوف المدرسة المكتظة السيئة 
التهوية. وكانت غوسته كوستر تحتسي القهوة. قهوة البنْ مثلما لاحظ 
أوسكان بعتا قدمت لى تتجانا.. وبيقنا كنت متوسكا يتعيفة العسل 
الاصطناعي أخذت غوسته تتأمل حدبتي بفضول لا يخلو من الشفقة على 
شقيقتهاء فكان يصعب عليها البقاء جالسة» فنهضت لتتحسس حدبتى؛ إذ 
أن تحسس الحدبة يجلب الحظ إلى جميع النساء؛ والحظّ في نظر غوسته 
يعني : عودة كوستر الذي سيغيّر كل شيء. وبدت متحفظة تماماًء تتحسس 
فنجان القهوة لمجرد التعويضء لكن بلا حظّ» ثم قذفت بحسرة حرّى من 
ذلك الذي النوع الذي كتب عليّ أن أسمعه كلّ يوم خلال الشهور القادمة: 
#يمكن أن نتراهن على جرع السمّء إذا ما رجع كوستر فيتغيّر كلّ شيء 
هنا: كأن عينك ما شافت من قبل!؛ 

كانت غوسته تدين تجارة السوق السوداء» بين أنها كانت تحتسي 
بسرور قهوة البنْ المكتسبة بالعسل الاصطناعي» فتغادر غرفة الجلورس 
حالما يأتي الزبائن؛ وتحث جلبة في المطبخ» مرتعدة بصوت احتجاجي 
عال. 

وكان يأتي الكثير من الزبائن» فبعد الساعة التاسعة مباشرة؛ أي عندما 
يبدأ الإفطار يرن الجرس: رنةٌ قصيرة؛ فطويلة؛ فقصيرة. وفي المساء 
المتأخرء حوالي الساعة العاشرة» توقف غوسته الجرس على الرغم من 
احتجاج كورت الذي لا يستطيع العمل إلا بمقدار نصف الوقت المخصص 
للبيع والشراء بسبب المدرسة . فكان الناس يقولون: «عسل اصطناعي؟؛ 
فتهرٌ ماريا رأسها إيجاباً وبرقة: «ربع رطل أو نصف؟» لكن هناك ناس لا 
يطلبون عسلا اصطناعياء بل يقولون «حجر صوان؟» فيرفع كورت الذي 
كان يذهب إلى المدرسة في أوقات متناوبة ضحى أو عصراً؛ يرفع رأسه 


0:5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


من أرقامه الحسابية» فيتحسس أكياس القماش الصغيرة تحت بلوزته ويطلق 
أرقاماً في فضاء غرفة الجلوس بصوته صبياني حاد متحدٌّ. «ثلاثة أو أربعة؟ 
من الأفضل أن تأخذ حضرتكم خمسة. إنها ستصعد قريباً إلى حدّ الأربعة 
والعشرين على الأقل. في الأسبوع الأخير كان الرقم الساري ثمانية عشرء 
واليوم صباحاً كان عليّ أن أنطق برقم عشرين» ولو أنكم أنيتم قبل 
ساعتين » حين رجعت للتو من المدرسة» لقلت لكم واحدا وعشرين.» 

كان كورت التاجر الوحيد لحجر الصوان على امتداد أربعة شوارع 
طولاً وستة شوارع عرضاً. وكان له منجم لا يفشي سرّه أبداء لكنه كان 
يردد قوله دائماً كما لو أنه يرد صلاة المساءء حتى قبل أن يذهب إلى 
الفراش : «إنني امتلك منجماً!» فحاولت أن استفيد من حمقّي كأب» لكي 
أطلع على منجم ولدي. كلّما صرّح بوعي وبلا كتمان «بأنني امتلك 
منجماً) ؛ فإن سؤالي كان يعقب تصريحه مباشرة: امن أين تأتي بالحجر؟ 
بحن أن تغرف فورا من أين تأتي بالحجر؟» وأمًا خطبة ماريا الثابتة في 
تلك الشهور ردًاً على تحرياتي عن مصدر الحجر فقد كانت كالآني: ادع 
الضب:وهاتة يا اوسكان. ارلا لأن هذا الاير لا يخسك. ثانا إذلاكان 
هناك سؤال فسأطرحه أنا ثالكاً له تلعن هنا دور الأب قبل بضعة شهور 
لم يكن بمقدورك أن تنطق بحرف واحد!» 

وإذا ما أبيت الانصياع إلى مارياء مصرًا على معرفة المصدر الذي 
يستمد منه كورت حجره؛ فإنها تصفع أحد جرادل العسل الاصطناعي 
براحة يدها وينتابها الغضب إلى حدّ مرفقيها وتهاجمنا أنا وغوسته التي 
كانت تؤيد أحياناً تحرياتي عن المصدر: «أنتم تصلحون لي فعلاً! هل 
تريدون إفساد تجارة الولد؟ لكنكم تعيشون من نقوده. إذا ما فكرت في 
السعرات الحرارية التى قدمتها لأوسكار كعلاوة» لأنه مريض» فالتهمها 
خلال يومين فإننى أشعر بالغئيان» لكننى أضحك على ذلك فقط.» 
تأوسكار يعرف بأنذ كان يتمع آنذاكا بشهية تسد عليها, بلاافنك أن 
الفضل كان يعود إلى منجم كورت الذي أعاد لي عافيتي من جديد بعد 
طعام المستشفى الشحيح. وتوجب على الأبّ أن يصمت خجلاء ثم يغادر 


/وء60 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


قدر الإمكان سكن ضاحية بلكه حاملاً مصروف جيب محترم من بركات 
كورت الطفولية» لثلا يرى عاره ماثلاً أمام عينيه. وهناك عدد وافر من نقّاد 
المعجزة الاقتصادية”*' المرموقين يزعمون اليوم وبحماس كلما قل تذكرهم 
للحالة آنذاك : «كان زمنا رائعا قبل إصلاح النقد! كانت الدنيا مقلوبة!» 

كان الناس بطونها خاوية ومع ذلك تقف طوابير على تذاكر المسرح . 
كذلك الاحتفالات المرتجلة التي يُقدم فيها عَرَىُ البطاطس بدت خرافية 
بكل بساطة» أكثر نجاحاً من حفلات هذه الأيّام التي يقدم فيها الكونياك 
والعجيانا: وفكدا كان زوماسيو القرص الفاتمة يسدقرن .آنا آنا ايشا 
فعليّ في الواقع أن أشكو مولولاً» إذ عندما كان منجم كورت يجود بحجر 
اح يي ا ) المهتمين 
بالتعليم وطالبي التزوّد بالعلم استدراكا. فأنهيت دورات تعليمية في الجامعة 
الشعبية؛ وأصبحت ضيفاً دائماً على المركز البريطاني الذي يدعى 
(المجسراة وناققيتمسالة اللانب السما سم الكاتوليكبين 
والبروتستانتيين» وشعرت بالذنب مع أولئك الذين شعروا على هذا النحو: 
دعونا نحسم الأمر الآن» لنتفرغ لأنفسنا فيما بعد ولم نعد بحاجة إلى 
تأنيب القعي إنانا جلت لمر زتده. 

وعلى أية حال» إننى أدين للجامعة الشعبية بمستواي التعليمى الملىء 
بالثغرات» وإن كان امتواضها . كنت أقرأ كثيراً آنذاك. تلو يعة كديس 
كتاب القراءة ذاك الدي و قسم العالم نصفين قبل مرحلة النموٌ الجسدي» 
نصفاً لغوته ونصفاً لراسبوتين» ولا معلوماتي المستمدة من كتاب كوهلر 
عن تقاويم الأساطيل في الفترة الواقعة بين العام الرابع والعام السادس 
عشر. ولم أعد أعرف كل ما كنت قرأته. إذ أنني كنت أقرأ في 
المرحاضء أو أثناء الوقوف ساعات طويلة للحصول على تذكرة لدخول 
المسرحء محصوراً بين الفتيات ذوات الضفائر التي تشبه ضفيرة موتسرات» 


(*8) يقصد هنا مرحلة النهوض الاقتصادي التي رافقت عملية إعادة البناء في ألمانيا 
الغربية عقب الحرب العالمية الثانية والتي عرفت بالمعجزة الاقتصادية. 


8ه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الفتيات اللواتي كنْ يقرأن كذلك. كنت أقرأ بينما كان كورت يبيع حجر 
الصوان» بل أقرأ وأنا ألف العسل الاصطناعي في الورق. إذا ما انقطع 
التيّار الكهربائي فكنت أقرأ على ضوء الشموع التي احتفظنا بها بفضل 
منجم كورت. 

ومن الخجل القول إن القراءة في تلك الأعوام لم ترسخ في أعماقي 
بل تنصلت عنّي. فلم يبق منها سوى بضع كلمات متفرقة وبضع مقدمات 
مقتضبة على الأغلفة. والمسرح؟ أسماء ممثلين مثل : «ماريانا هوبه» وابيتر 
أيسر»؛ وحرف الراء الذي يلثغ به #فلكنشيلد؛؛ والممثلات اللواتي يحاولن 
إصلاح لفظه لحرف الراء على مسارح الجيب» و«غروندغنس» المتلفع 
بالسواد تماماً وهو يمثل دور تاسوء فكان يرفع إكليل الغار الذي أوصى به 
غوته عن الباروكة؛ لأن الإكليل يخرّب». حسب اعتقاده» خصلات 
الباروكة» وثمة غروندغنس من جديد في سواد ممائل وهو يلعب دور 
هاملت. وزعم فلكنشيلد بآن هاملت كان بديناً. إضافة إلى رأس يوريك 
الذي ترك في نفسي وقعاً كبيراً لأن غروندغنس قال عنه أشياءً مؤثرة حقًا. 
لقد مئّلوا أمام الجمهور الحزين من فرط التأثر مسرحية «في الخارج خلف 
الباب»!*؟ على قاعات مسرح خالية من التدفئة. فتخيلت شخصية بكمان 
ذي النظارة المحطمة في المسرحية وكأنها شخصية زوج غوسته. كوستر 
العائد إلى أهله؛ الذي سيغيّر كل شيء على حدٌّ تعبير غوسته فيطمر منجم 
حجر الصوان التابع لولدي كورت. 

أمّا اليوم وبعد أن خلّفت ذلك ورائي؛ فإنني أعلم بأن نشوة ما بعد 
الحرب لم تكن أكثر من نشوة» تقود معها قطاً يموء بلا انقطاع؛ محيلاً 
اليوم الذي بدا لنا في الأمس طازجاً ودموياً؛ بصفته عملا ما أو جريمة 
اقترفناها ببساطة. محيلا إيّاه إلى مجرد تاريخ . إنني اليوم أكيل الثناء في 
نفسي على دروس غريتشن شفلر التي تلقيها بين الشعارات النازية وقطع 





(*) فولغانغ بورشرت )1947-1937١(‏ قاص وكاتب مسرحي ألماني» اشتهر بعد 
الحرب العالمية الثانية بمسرحيته «خلف الباب؟ 


25:6 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الحياكة : قليلاً من راسبوتين وغوته باعتدال ونبذاً مختصرة من تاريخ مدينة 
دانسغ الذي كتبه كايزر وتجهيز سفينة مدنية غريقة بالمدافع» والسرعة 
المحسوبة بالعقد لجميع الطوربيدات اليابانية التي خاضت المعركة الحربية 
في تسوشيماء إضافة إلى بيلزار و نارسس وتوتيلا وتيّا وكفاح فيلكس دان 
من أجل روما. 

وفي ربيع العام السابع والأربعين تخليّت عن الجامعة الشعبية والمركز 
البريطاني والقسّيس نيموللر”*2؛ مودعاً غوستاف غروندغنس من الصفٌ 
الثاني الذئ مازال اسمة موجوداً قن برتافج العرشن' بصلعة شبعلاً لشنخمية 
هاملت. فلم يمض في الواقع عامان على اتخاذي لقرار النمو عند قبر 
ماتسرات» حتى باتت حياة الكبار البالغين لا تعني شيئا في نظري» 
فصرت أحنّ إلى تقاسيم جسد الصبي ذي الأعوام الثلاثة» متمنياً العودة 
مرّة ثانية» وبشكل حاسم إلى السنتمترات الأربعة والتسعين» أي أن أكون 
أصغر من صديقي بيبرا ومن المرحومة روزفيتا. لقد افتقد أوسكار طبله» 
حين كانت جولاته الطويلة تجعله قريياً من الحنشحقن التلدي :..وبما أنه 
فُرض عليه الذهاب كلّ شهر إلى البروفيسور إرديل الذي أطلق عليه 
مصطلح احالة مثيرة»؛ فإنه بدأ يزور أيضاً الممرضات اللواتي تعرّف 
عليهن»؛ شاعراً بالارتياح والسعادة إلى حدّ ما بالقرب من الثياب البيضاء 
المتعجلة المبشرة بالشفاء أو المنذرة بالموت» حتى لو كانت المعينات لا 
يملكن وقتاً كافياً له. 

وكانت الممرضات يكئن لي ودّآء فيمارسن المزاح الصبياني» لكن 
غير الخبيث؛ مع حدبتي» ويقدمن لي طعاما جيّداء ويبحن لي بحكايات 
المستشفى المتشابكة اللامتناهية التي تجعل المرء يشعر بالنعاس اللذيذ. 
فكنت أصغي وأسدي لهن النصائحء» بل أقوم بأعمال الوساطة في 


(*) مارتن نيموللر ( )١1985-١1845‏ راهب بروتستانتي» من أبرز قادة «كنيسة الالتزام» 


عء نكا علمعدمعاء8 وذ المعارضة للنظام النازي» أعتقل من ١977‏ إلى 
6 ., 


ه606 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المشاجرات الصغيرة؛ لأنني كنت أتمتع بتعاطف رئيسة الممرضات 
واحترامها. 

كان أوسكار منذ سنّ العشرين إلى الثلائين الرجل الوحيد المرغوب 
بشكل نادر من قبل الفتيات المستترات تحت زيّ الممرضات. وقد قالها 
برونو: إن أوسكار يتمتع بيدين معبرتين وشعر خفيف التموّج وعينين 
زرقاوين بما فيه الكفاية» عيني برونسكي المغريتين. فلعل حدبتي والقفص 
الصدري الضيق» المحدودب بالقدر ذاته» المبتدأ أسفل الحنك مباشرة» 
يقفان على النقيض تماماً من جمال يدي وعيني وشعري؛ على أية حال» 
كان كثيراً ما يحدث أن تمسك الممرضات بيديّ حين أكون جالساً في غرفة 
القسم المخصصة لهنء فيداعبن أصابعي» وشعري كذلك, ثم يخاطبن 
بعضهن البعض عند الانصراف: «إذا ما تطلع المرء إلى عينيه فإنه ينسى 
جميع الأشياء الأخرى.» 

كنت في الحقيقة متفوقاً على حدبتي؛ عاقداً العزم تماماً على القيام 
بغزوات داخل المستشفى لو أنني تمكنت آنذاك من طبلي ومن قدرتي 
المشهود لها في التطبيل. إلا أنني كنت أنصرف من المستشفى إثر هكذا 
مقدمات حسيّة رقيقة؛ انصرف بحياء وارتباك» غير واثق من انفعالات 
جسدي؛ متحاشياً القيام بفعل مثير» مسلماً نفسي للنسيم» فأنجوّل في 
الحديقة أو أطوف حول سياج الأسلاك الشائكة الذي كان يطوّق المصحّة 
بانتظام وبعيونه الضيقة السباكة التي كانت تعلل نفسي بالصبر. فأتطلع إلى 
مقطورات الترام الذاهبة في اتجاه فيرستن وبيئرات» شاعرا بالملل 
الخفيف» مبتسما بسخرية من إسراف الطبيعة التي كانت تلعب دور الربيع؛ 
جاعلة البراعم تتفجر كالمفرقعات حسب البرنامج. ومقابل ذلك كان 
الرسّام الهاوي المخيّم فوقنا كلنا يلوّن يوماً بعد يوم بفرشاته؛ وبصبغ 
طازج؛ أشجار مقبرة «فيرستن» بالاخضرار المرهف. إن المقابر كثيراً ما 
تستهويني وتستدرجني. كانت منتظمة معتنى بهاء ساطعة الوضوح». 
منطقية» رجوليّة» حيويّة. والمرء يستطيع أن يستمد الشجاعة منها ويتخذ 
القرارات فيهاء كما أن ملامح الحياة المحددة تتجلى أوّل الأمر في المقابر 


06١ 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


- إننى لا أعنى الإطارات - وفى المقابر أيضاً تكتسب الحياة معنى» إن 
ل ْ 

كان هناك درب رجاء على امتداد السور.الشمالي للمقبرة» حيث 
تنافست سبعة محلات للشواهد؛ محلات كبرى على شاكلة «س. شموغ» 
و يوليوس بوبل»؛ لكن بينها دكاكين صغيرة بأسماء مثل #ر. هايدنرايش» 
ودي. بويس» و«كون وموللرا واب. كورئيف»» وهى خليط من الأكشاك 
والاستوديوهات واللافتات المعلقة عند السقوف المطليّة حديثاً أو المقروءة 
نوعاً والتي حملت عبارات تحت أسماء أصحابها من قبيل: محل شواهد - 
وتماثيل قبور وإطارات- ومعمل الحجر الفئّي والطبيعي - أو فنّ تزيين 
القبور. و استطعت أن أتهجى على كشك كورنيف الكلمات التالية: ب. 
كورنيف مصنّع الأحجار ونححات تمائيل القبور. 

واصطفت تماثيل القبور المخصصة للأفراد أو الجماعات التى يصل 
غددها إلى أزبعة أفراد: ل القنور العائلية» موضوعة على قراعد بسيطة أو 
مركبة ومصفوفة بوضوح بين الورشة وسياج الأسلاك الشائكة المحيط بها. 
وثمة ألواح احتوت على رسوم قواقع متحجرة لتلبية الطلبات المتواضعة؛ 
وصخور بركانية نحت عليها سعف نخيل كابيّ البريق؛ وشواهد أطفال 
ذات ارتفاع تقليدي بلغ ثمانين شرا غائرة عرد الأعلى المصنوعة من 
المرمر الألماني «الشليزيٌ» الغائم الشكل قليلاء مثّلت على الأغلب زهوراً 
مثنية في الثلث العلوي الغائر الذي احتوى على النقش البارز» مركونة 
مباشرة وراء الشرك الذي أتاح لنماذج الظلّ المربعة الشكل الظهور أثناء 
الطقس المشمس. ثم أتى بعد ذلك صف من الحجر الذي يبلغ ارتفاعه 
متراً واحداً؛ حجر نهر الماين الرمليّ الأحمر المنتزع أصلاً من واجهات 
البنوك والمحلات التجارية المقصوفة الذي احتفى آنذاك بانبعاثه إلى 
الحياة» إذا ما يحق للمرء أن يطلق تعبيراً كهذا على حجر . أمّا القطعة 
الفنيّة الرائعة فقد انتصبت في منتصف المعرض: كانت عبارة عن نصب 
مؤلف من ثلاث قواعد وقطعتين جانبيتين وجدار مليء بالنقوش البارزة» 
منحوت من المرمر التيرولي الأبيض. وعلى الجدار الرئيسي ارتفع بسموٌ 


005 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ذلك الشيء الذي يطلق عليه النحاتون اسم الجسدء فكان جسداً برأس» 
حليق الذقن» وبركبتين مائلتين إلى اليسار وإكليل أشواك وثلاثة مسامير» 
وبيدين مشرعتين؛ وجرح غائر في الصدرء نزف خمس قطرات حسبما 
ظئنت. وعلى الرغم من جود الكثير من تماثيل القبور ذات الأجساد 
المتجهة يساراً - قبل بداية موسم الربيع يكون هناك أكثر من عشرة تماثيل 
مشرعة أيديها -» لكن مسيح كورنيف ولد في نفسي انطباعاً خاصاً؛ لأنهء 
نعم ؛ لأنه كان أكثر شبهاً بلاعب الجمباز فوق المذبح الرئيسي لكنيسة- 
قلب-يسوع الذي استعرض عضلاته؛ رافعاً قفصه الصدري إلى الأعلى . 
فأمضيت ساعات أمام السياج» حيث مررت عبر الشرك ذي الفتحات 
الضيقة عوداً صغيراً» معرباً عن هذه الأمنية أو تلك» وفكرّت في كل ما هو 
ممكن وفي لاشيء أيضا. فبقي كورنيف محجوباً فترة طويلة. ومن إحدى 
نوافذ الأستوديو اندفعت عذة مرّات ماسورة مدخنة» منثنية» مرتفعة درجة 
أعلى من السطح . كان الدخان الأصفر للفحم الرديء يتصاعد بهدوء. ثم 
يهبط على ورق السقف المطلي بالقارء متسرباً إلى الأسفل عبر النوافذ 
والمزرات» تكله بين الصخور الخام واتراخ العرمر» :انام باب الورقنة 
الذي كان يقفل ويفتح بالانزلاق وقفت سيّارة بئلاث عجلات مغطاة 
بالمشمّع كما لو أنها مموهة لكي لا تستهدفها الغارات الجويّة المنخفضة 
الارتفاع. ثمة أصوات انطلقت من الورشة - خشب يضرب فوق الحديدء 
وحديد يفلق الحجر - معلنة عن انهماك النححات في العمل. 

في شهر مايو / آيار كان المشمّع يختفي من السيّارة ذات العجلات 
الثلاث فيكون الباب مفتوحا. فكنت ألمح في داخل الورشة صخوراً 
مكومة فوق بعضها وعارضة ماكينة الصقل والتنعيم» ورفوفاً مليئة بقوالب 
الجبس» وفي الأخير كورنيف نفسه. كان يخطو محدودباً بركبتين مثنيتين 
ورأس متشنّج بارزاً إلى الأمام . ثمة أشرطة لاصقة وردية سوداء متسخة 
بالشحم تقاطعت على قفاه. جاء كورنيف حاملة مجرفة مسننة وصار يعالج 
الأعشاب بين الشواهد المعروضة؛ لأن الوقت كان ربيعا. ففعل ذلك 
بعناية كبير» مخلفاً آثاراً متغايرة على الحصىء, وأخذ يجمع الأوراق 


؟وهم 
1_طماع !© :11 ]آنلا 1 


المتساقطة في العام المنصرم الملتصقة على بعض التمائيل. قبالة السياج 
مباشرة» وبينما كانت المجرفة تتحرك بحذر بين ألواح القواقع المتحجرة 
والصخور البركانية فاجئني صوته: «ماذا أيها الشاب؟ يبدو أنهم لا 
يريدونك في البيت؛ وإلا؟) 

فقلت مجاملاً: «إن شواهدك أعجبتني تماما.) 

#الكن يجب إن لا يقال ذلك بصوت عال؛ وإلا سيضعونها فوق الناس 
مباشرة . ؛ 

والآن بدأ يجهد قفاه المتصلّب» فشملنيء أو بالأحرى شمل حدبتي 
ببصره المائل: «ما هذا الذي فعلوه بك؟ ألا يضايقك هذا الحمل أثناء 
النوم؟» 

فتركته ينتهي من قهقهته؛ ثم أوضحت له بأن الحدبة ليست مزعجة 
بالضرورة» فهناك نساء وفتيات يتلهفن شوقاً إلى الحدبة؛ بل يتكيفن مع 
ظروف الرجل الأحدب وإمكانياته» ويجدن» بصراحة» متعة فى ذلك. 
فأمعن كورنيف في التكفير وهو يسند حنكة إلى المجرفة: «هذا جائز 
تماماًء لكنني لم أسمع به من قبل.» ثم تحدث لي عن وقته الذي أمضاه 
في منطقة الآيفل حيث عمل في مقلع الصخورء وأقام علاقة بامرأة كان 
يمكن فك رباط ساقها الخشبية» اليسرى حسبما أعتقدء وعقد مقارنة بين 
ساقها و«صندوقي»» على الرغم من أن صندوقي لا يمكن حل وثاقه. كان 
النحات يروي حكايته بإسفاف وإسهاب وتكلف. فانتظرت إلى أن انتهى 
وقام بربط ساق المرأة من جديد» ورجوته أن يطلعني على ورشته. 

فتح كورنيف باب الصفيح في منتصف السياج» وأشار بمجرفته 
يدعونني إلى المضي في اتجاه الباب المفتوح» فجعلت الحصى يطقطق 
تحت قدميّ» حتى تلقفتني رائحة الكبريت والجير والرطوبة. هراوات 
خشبية مستوية من الأعلى لها شكل الكمّثرى وبدت كخيوط منسولة؛ 
ومفصحة عن التصدعات ذاتهاء وقد استقرت على سطوح خشنة الاستواء. 
إلا أنها كانت ممهدة بأربع ضربات. قضبان حديد مدببة لمطارق الزخرفة 
ذات الرؤوس الخشبية» قضبان حديد مدببة برؤوس هراوات وقضبان مسننة 


غ06 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


طازجة الصبٌ لم تزل زرقاء بفعل التقسية وحديد طرق وصقل المرمر طويل 
مطاوع وإزميل نحت عريض وقصير على مرمر إيطالي أزرق ومواد جلخ 
طينية موضوعة للتجفيف فوق حامل خشبي رباعيّ القوائم وفوق خشب 
دائري جاهز للدوران و لوح من الحجر الجيري» مركون بشكل عموديٌ» 
باهت اللون مصقول جاهزء وبدا: ثخيناً » أصفرء شاحباء ذا مسامء بدا 
قرأ معدا لشخصين: 

«هذه مطرقة خشبء هذا قلم حديد للحرّء هذا قلم للحفرء وهذا؛. 
رفع كورنيف لوحاً بعرض اليد وبطول ثلاث أقدام: ثم وضع حافته أمام 
عينه ليتفحصهاء «هذه آلة برد أقلام الحديد إذا تثلمت.» 

بيد أن سؤالي لم يكن مهذباً فحسب: «هل تشفّل لديك متدربين؟» 

فردٌ كورنيف شاكياً: «أستطيع أن أضع خمسة منهم في العمل. لكن 
صعب الحصول على واحد منهم. اليوم يتعلم الأوغاد كلّهم التجارة في 
السوق السوداء!» فكان النححات يقف مثلي على الضد تماماً من تلك 
الأشغال الملتبسة التي تمنع الشاب المستقيم المفعم بالأمل من تعلّم مهنة 
منتظمة. وبينما كان كورنيف يستعرض لي أحجار الصقل الناعمة منها 
والخشنة وتأثيرها على لوحة من الرخام قلّبت في ذهني فكرة صغيرة. 
فثمة حجر تنظيفء حجر بِنَيّ معد للتنعيم الأوّليء مسحوق ترابيّ يلمّع به 
المرء ما كان منطفئ اللون» ثم جاءت فكرني الصغيرة التي مازالت تلمع 
بارقة. فأطلعني كورنيف على نماذج من الخطوط وحدثني عن الخط 
الجزل البارز والغائر» وعن طلاء الخط بماء الذهب» ذاكراً التعامل مع 
الذهبء الذي لم يكن أمراً عسيراً تماماً: فبدرهم قديم جيّد يستطيع المرء 
أن يطلي جواداً وفارساً مما جعل تمثال القيصر غليوم الممتطي جواده في 
دانسغ» عند هويماكت, المتجه إلى حفرة الرمل» يزداد في مخيلتي 
وضوحاًء ذلك التمثال الذي بات أمر طلائه بالذهب متعلقاً بقرار مؤسسة 
حماية الآثار البولندية» بيد أنني لم أنبذ فكرتي الصغيرة التي بدأت تكتسب 
قيمة أكثر فأكثر على الرغم من الجواد والفارس المكسويين برقائق الذهب» 
فصرت أغازلهاء وصغتها حين شرح لي كورنيف ماكينة التنقيط ذات القوائم 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الثلائة» والمخصصة للأعمال النحتية» ناقراً بمفصل إصبعه باعتزاز على 
مختلف نماذج الجبس المتجهة يميناً وشمالاً التي كانت تجسّد المصلوب: 
الإنك ستشفْل إذاً أحد المتدربين؟؛ ثم سارت فكرتي الصغيرة في دربها. 
«إنك تبحث في واقع الحال عن متدرب» وإلا؟» فحك كورنيف الشريط 
اللاصق على قفاه المتقبّح . «أعني فيما إذا ستعيّن متدرباً عند الضرورة؟ 
كان هذا السؤال قد طرح بشكل سيئ» فأصلحته على الفور: «أرجو أن لا 
تستهين بقدراتي يا سيّد كورنيف المحترم! إن ساقيّ وحدهما ضعيفتان 
بعض الشيء. لكن لا يعوزني التشمير عن ساعديٌ!» ومن فرط تحمسي 
بفعل عزيمتي شمّرت فعلاً عن ذراعي اليسرى» مغامراً بكلّ شيء؛ مقدماً 
لكورنيف عضلة صغيرة في الواقع» ليتحسسهاء لكنها بدت صلبة صلابة 
لحم البقر؛ ولأنه لم يتحسس عضالتي فإنني التقطت إزميل نقش من فوق 
حجر جيريّ» وجعلت القطعة المعدنية السداسية الحواف تقفز على ربوتي 
التي كان حجمها بحجم كرة المضضرب» ول أتوقف عن امتغراضيي إلا .بعد 
أن شغْل كورنيف ماكينة الشحذء تاركاً قرص التنعيم الأزرق الرمادي يجأر 
دائراً فوق قاعدة الحجر الجيريّ للوح المخصص لفردين» وأخيراً علا 
صوته على زعيق الشحذ وهو يثبّت بصره في الماكينة: «نم يا فتى ليلتك.. 
هذا ليس لحس عسل . فإذا أردت بعد ذلك أن تأتي فتعال كمتمرن.» 

فأطعت النححّات ونمت على فكرتي الصغيرة أسبوعاً كاملاً» عاقداً 
المقارنات فى النهار بين حجر الصوان العائد لكورت وشواهد درب 
الرتعادة فنعا تانبب مازناة. (آلك تفاش عان ميحقظلة تقودناا يا أرسكان: 
فأبدأ بمشغلة ما : في الشاي أو الكاكاو أو الحليب المجفف!» لكنني لم 
أبدأ بمشغلة منهاء تاركاً غوسته التي كانت تثني أمامي على كوستر الغائب 
باعتباره نموذجاً» وتكيل المديح لي بسبب امتناعي عن التعامل مع السوق 
السوداء؛ غير أنني عانيت كثيراً تحت وطأة ولدي الذي 0 يخترع 
متسلسلات من الأرقام ويدوّنها على الورق» متجاهلاً وجودي بالطريقة 
ذاتها التي تجاهلت بها ماتسرات أعواما طويلة . 

كنا نجلس حول طعام الغداء؛ بعدما أوقفت غوسته جرس الباب» 


005 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


لكي لا يفاجئنا زبون أثناء تناولنا عبَة البيض وشحم الخنزير. قالت ماريا: 
«هل ترى يا أوسكار أننا نتمكن من هذا؛ لأننا لا نضع أيدينا في أحضاننا 
بلا شغل ولا عمل.» فقذف كورت بحسرة. كان حجر الصوان قد هبط 
إلى ثمانية عشرة. لاحظت بأن غوسته كانت تأكل كثيراً وبصمت. فحذوت 
حذوقا» مستطيا لعما ماء مكفرعا طعنا ما سدئ هوق البيقن 
المجفف على الأرجح» منكسر النفس. شاعراً بأنني عضضت على 
غضروف في الشحمء متلهفاً حتى أذنيّء وبشكل طارئ بغية العثور على 
سعادة» فأصبحت توّاقاً إلى السعادة على الرغم من معرفتي باستحالة ذلك» 
فبات الشكٌ كله عاجزاً عن التغلّب على رغبتي في تحقيق السعادة» إذ كنت 
أطمح إلى نيل السعادة بلا حدود؛ فنهضت بينما بقى الآخرون جالسين 
يتناولون الطعام» مرتاحين لمسحوق البيض المجفف». وخطوت نحو 
الكنانة» كما لو آن الحظ كان معاها جاهرا» واحذت أنبش فى درج 
فعثرت» كلا؛ لم أعثر على الحظّء إنما على عقد الياقورت الأحجير غياك 
ألبوم الصور وعلى كتاب التعليم وعلبتي المطهّرات التي زوّدنا بها السيّد 
فاينغولد؛ عثرت على عقد أمّي المسكينة الذي تلقفه يان برونسكي من 
إحدى الواجهات قبل أعوام وفي ليلة شتوية مترعة رائحة الثلج» واجهة 
متجر كان أوسكار السعيد آنذاك» القادر على كسر الزجاج» قد ولّد فيها 
تغرة دائرية. ثم غادرت البيت حاملاً معي الحلية» مبصراً في الحلية 
المقدمة الموصلة إلى. . .؛ واضعاً قدمي على الطريق...؛ ثم ركبت 
الترام إلى المحطة الرئيسية» فإذا ما تمٌ الأمر.... حسبما فكرت» 
فإنني. . .» ثم تفاوضت وقتاً طويلاً. . . ٠‏ فاتضح لي بأن. . . لكن الرجل 
المبتور الذراع والرجل السكسوني الذي أطلق عليه الآخرون لقب المرشّح 
اتفقا فقط على القيمة العينيّة؛ غير مدركين بأنهما جعلاني مهيئا وناضجا 
ناما لين السعادة تعن حاتي سقيية بدوية تين الجلد الطريعي وين 
عشرة خرطوشة سجائر من ماركة لوكي سترايك الأمريكية ذات العشرين 
علبة» مقابل عقد أمّي المسكينة. 

في وقت العصر التحقت بالعائلة في مسكن ضاحية بلكه؛ وأفرغت ما 


/اههة 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أتيت به: خمس عشرة خرطوشة؛ يا لها من ثروة» لوكي سترايك؛» عشرون 
علبة في الخرطوشة الواحدة؛ فتركت الآخرين يصابون بالدهشة» ثم 
زحزحت جبل التبغ الأشقر المعلب أمامهم» وقلت إن هذا لكم» فاتركوني 
بسلام منذ اليوم» فهذه السجائر تضاهي ثمن تركي بسلام» إضافة إلى أنكم 
يجب أن تزودونني كل يومء اعتباراً من الآنء «بقدر متاع سفرّي» مليء 
بطعام الغداء الذي سأحمله في حقيبتي يوميّاً من البيت إلى مكان عملي. 
ثم أضفت بلا سخط أو شكوى كونوا سعداء بالعسل الاصطناعي وحجر 
الصوان؛ فإن في سيكون شيئاً مختلفاً. وسيُكتب حي على شواهد القبور 
منذ الآنء أو سينقش على الشواهد بشكل حرفي رائع. 

وظفني كورنيف متدرباً بمائة مارك ألمانيّ في الشهرء أي بمبلغ يكاد 
أن لا يساوي شيئاًء ومع ذلك فإنه كان مجزياً في نهاية المطاف. فبعد 
أسبوع واحد أتضح بأن قواي الجسمانية لم تكن كافية لأعمال النحت 
الأرّلية القاسية. إذ توجب عليّ أن أسطح حجر غرانيت بلجيكيّ قُلع للترء 
معدّاً لقبر رباعيّ» وبعد ساعة واحدة أصبحت عاجزاً عن الإمساك بالقضيب 
الحديدي. بل أن أمسكت بإزميل التسطيح دون أي شعور به. فاضطررت 
إلى التخلي عن النحت المدبب الأوّلي ليقوم به كورنيف» في حين أظهرت 
مهارة في أعمال التنعيم الدقيق أو التسنين أو التأكد من استواء السطح من 
خلال شاقولين معاً. وسحب البلاطات الأربع» وحرّ إطارات الرخام بلاطة 
إثر أخرى . . ئمة جذع خشبيّ عمودي رباعي الحواف» ينتهي من الأعلى 
بشكل 1؛ جلست عليه» أعالجه بقضيب من حديد بيدي اليمنى» طارقاً 
بيدي اليسرى. على الرغم من اعتراض كورنيف الذي أراد أن يحوّلني إلى 
أيمنَ اليد» طارقاً الكمثرى الخشبية ومستخدماً الإزميل الحديدي والمطرقة 
الخشبية فجعلتها تقرقع وترّنء عاضةً على الحجر بأربعة وستين سا خشييًاً 
في وقت واحدء حتى أنهكته: حظّء لكنه لم يكن طبلي؛ بل ما يعرّضٍ 
عنه ربما لم تكن هناك سعادة إلا باعتبارها تعويضاًء فالسعادة هي دائماً 
بديل للسعادة ذاتهاء وهذا آمر يترسب شيئاً فشيعاً: سعادة المرمرء سعادة 
الحجر الرمليّ؛ حجر جبال الألب الرمليَء حجر نهر الماين الرمليّ؛ 


م66 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


حجرك”*' الرملىّ؛ حجرنا الرملىّ» سعادة ناحية كيرشهايم» سعادة 
غرنسهايم» سعادة قأسية: : مرمر إيطالي أزرق. سعادة غائمة متداعية: 
سعادة الرخام الأبيض . فولاذ يتوغل بسعادة ف في الصخر البركاني. رخام 
الدولوميت: سعادة خضراء. سعادة رقف حجر مساميّ من رماد 
البراكين . سعادة متعددة الألوان قادمة من نهر لاهن. سعادة مساميّة: حجر 
البازلت الصلد. سعادة مصابة بنزلة برد: من منطقة آيفل. لقد تفجرت 
السعادة كالبركان» ثم ترسبت متربة» وأخحذت تصرٌ بين أسناني . 

لقد كشفت اليد السعيدة عن قدرتها أثناء حفر الخطوط» فتجاوزت 
بذلك حتى كورنيف نفسه؛ إذ أنني أنجزت الجزء الزخرفيّ من العمل 
النحتي: فزخرفت أوراق الأقنوث» وزهورا منثنية مخصصة لقبور 
الأطفال» وسعف نخيل» 0 6( أو 12181 إضافة إلى 
الأشكال المقعرة أو الدائرية أو البيضوية أو المنحنية أو المزدوجة الانحناء. 
كان أوسكار يغبط شواهد القبور المتباينة الأسعار بشْتّى المناظر النحتية فلم 
يدّخر وسعا. إذا ما نقشت خخطأً على لوح من الصخر البركانيّ مصقول» 
يصدر بريقاً كل مرّة تحت أنفاسي طوال ثمان ساعات» خطأً من قبيل: هنا 
يرقد زوجى العزيز بين يد الله - سطر جديد - أبونا الطيّب»ء الأخ والعمّ - 
سطر جديد - يوسف أيسر - سطر جديد - المولود فى "/ 4/ ١886‏ 
والمتوفي في ١947/7/77‏ - سطر جديد - الموت هو بوّابة الحياة -, 
فإنني أكون حينئذ سعيداً من ناحية تعويضية» ذلك يعني سعيداً على نحو 
ممتع» حينما أعيد قراءة النصّ» فأشكر يوزيف إيسر المتوفى في سنّ 
الواحد والستين وأيضاً الصخر البركانيّ الأخضر أمام قلم الخط الحديديّ 
الذي استطعت من خلاله نقش الواوات العشرة على شاهدة إيسر بعناية 
فائقة؛ لذلك جاء حرف الواو الذي كان يحبه بشكل خاص كبيراً إلى حد 
ماء على الرغم من انتظامه واتساقه التام. وفى أواخر مايو بدأ زمنى 





(*) ينوّع غراس هنا على اسم نهر ماين» فيحيله إلى ضمير» ليلحق به ضمائر شخصية 
أخرى ذات إيقاع موححد. 


0غ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كمتدرب على النحت» وفي مطلع أكتوبر ظهر دمّلان جديدان على قفا 
كورنيف» فكان علينا آنذاك أن ننقل الحجر الجيريّ المعدّ لهيرمان 
فيبكنشت وإليزا فيبكنشت,» المولودة باسم فرايتاغ إلى المقبرة الجنوبية. 
حتى ذلك الحين لم يكن النحّحات الذي مازال غير واثق من قدراتي» راغبا 
في اصطحابي معه إلى المقابر. غالبا ما كان يعاونه في النقل عامل مساعد 
من معمل يوليوس فيبلء» عامل أصِمٌ إلى حدّ ماء لكنه مفيد. فكان 
كورنيف يؤدي المهمة نفسه إذا لم يكن هناك أحد شاغر في معمل فيبل 
الذي كان يوظّف ثمانية عمّال. فدائماً ما عرضت عليه مساعدتي في أعمال 
المقابر» لكن بلا جدوى؛ ومع ذلك كنت أسحب نفسي إلى هناك حتى لو 
لم تكن القرارات قد صدرت في ذلك الحين. لحسن الحظ بدأ الانتعاش 
المطرد يعمّ معمل فيبل» فلم يستطع التخلي عن أي عامل قبل حلول فترة 
الصقيع» فاضطر كورنيف إلى الاعتماد عليّ . 

وضعنا معاً لوح الحجر الجيريٌ خلف العربة ذات العجلات الثلاث» 
ثم زحزحناه فوق خشب دائري صلب» ودحرجناه حيث مساحة مكان 
الشحن» ودفعنا القاعدة إلى جانبه» وغطيّنا الحواف بأكياس فارغة لغرض 
الحماية» ثم شحنا عدّة العمل والإسمنت والرمل والحصى والأخشاب 
والصناديق للتنزيل» وأغلقت باب الشاحنة الخلفيٌّ» بينما جلس كورنيف 
وراء المقودء وأدار المحرّك» ثم أخرج من النافذة الجانبية رأسه وقفاه 
المتقبّح وصاح بي : «أسرع يا ولد. قليلا من الهمّة. هات متاعك واصعد!» 

وسرنا على مهل حول المستشفى البلدي. كانت هناك سحب بيضاء 
من ممرضات شخصت أمام المدخل الرئيسي. في وسطها معينة كنت 
أعرفهاء تدعى الممرضة غيرترود. فلوّحت لها بيدي» فردّت علي التحية. 
يا لها من سعادة» هكذا فكرت» لو أنها تقوم بدعوة مرّة أخرى» حتى لو 
أنني ما عدت أراها الآن؛ لأننا سرنا في اتجاه نهر الراين» حاملين معنا 
ا اه ولو أنها تقوم بدعوة في اتجاه (كابس هام) لزيارة 
السينما أو لرؤية غروندغنس في المسرحء فلاح لنا بناء القرميد الأصفرء 
ملوّحاً بيده؛ مقدماً لنا الدعوة» فأصبح ليس من الضروري الذهاب إلى 


05 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المسرح؛ إذ أن الدخان كان يتصاعد من قاعات حرق الجثث شبه الخالية» 
فما رأيك أيتها الممرضة غيرترود في تغيير كساء الجدران ذات يوم؟ مقابر 
أخرى ومحلات شواهد مختلفة: دورة أخرى على شرف المهرضة غيرثروة 
أمام المدخل الرئيسي: معمل بويتس وكارنش» صخور بوتغيسر الطبيعية» 
معمل بومس لفن الشواهد» مشتل غوكل لزهور المقابر» ثمة تفتيش في 
الباب» لم يكن من السهل الدخول إلى المقبرة» فهناك إدارة ارتدت قبعة 
مقابر: حجر جيريّ لقبر بسعة شخصين» رقم تسعة وسبعين» حقل ثمانية؛ 
فيبكنشتء هيرمان» يضع يده على القبعة» متاع سفريٌ يوضع في قلعة 
حرق الجثث لغرض التسخين؛ وأمام مبنى الجئث انتصب شوغر ليو. 

قلت لكورنيف: «أليس هذا هو شوغر ليو بالقمّاز الأبييض؟» 

فأجاب كورنيف وهو يحك دمامله: «هذا الشخص هو مُطَلِق الرذاذ 
فيللم وليس شوغر ليوء فهو يسكن هنا.؛ فكيف لي أن اكتفي بهذه 
المعلومة! إذ أنني في نهاية المطاف كنت موجوداً في دانسغ من قبل» 
والآن فأنا موجود فى دوسلدورف» ومازال اسمى أوسكار: كان عندنا 
شمن مزجرة في جم التقابر+ ويكيه هذا تناما كا انمه شوغر ليو 
ودخل في البداية في كلية الرهبان عندما كان اسمه مجرد ليو .» فانعطف 
كورنيف من أمام نكرقة النسف» واضماً يدو السرئ على التمافل واليفتق 
على مقود السيارة ذات العجلات الثلاث: «يمكن أن يكون هذا الكلام 
صحيحا. لكنني أعرف الكثيرين الذين يشبهونه وكانوا في البداية في كليّة 
الزقبان: وأصبحوا يغيقيوة البوع في المقابن» فاتخذوا لهم أسماة أخرض: 
هذا الذي هنا اسمه اتفال فيللم!» ومرقنا من أمام التفال فيللم الذي حيّانا 
بقفازه الأبيض» فشعرت وأنا في المقبرة الجنوبية كما لو أنني بين أهلي . 

وحل شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل» وثمة دروب مقابر مشبجّرة» والعالم 
قد تساقط شعره وأسنانه» ومازلت أعتقد بأن ثمة أوراق صفراء تتأرجح في 
الأعلى والأسفل. صمتء عصافيرء متنزهون؛ محرّك السيّارة ذات 
العجلات الثلاث يتحرك في اتجاه الحقل الثامن الذي مازال بعيدا. بيننا وبينه 
عجائز بأباريق رش ومعهن أحفادهن؛ ثمة شمس على الرخام السويدي 


اكه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الأسودء مسللات» أعمدة حجرية متصدعة على نحو رمزيٌ عميقء أو أنها 
أضرار حرب حقيقية» ملائكة خضراء اللون خلف شجيرات الصقّوس أو 
أحراش خضراء تشبه الصمّوس . وامرأة بيد من مرمر موضوعة أمام عينهاء 
المرمر نفسه خطف بصرها. المسيح بنعل من حجر يبارك شجر الدردار» 
ومسيح آخر في الحقل رقم أربعة يبارك شجرة بتولا. أفكار جميلة على 
الدرب الشجريٌ بين حقل أربعة وحقل خمسة: دعونا نقول: إنه البحر. 
والبحر يقذف» من ععملة ها يقذف» جلة ماغلى الشاط. ثمة موسيقى 
كمان انبعئثت من شاطئ تسوبوت وبدايات مترددة لألعاب ناريّة من أجل 
عميان الحرب. فانحني بصفتي أوسكار ذي الأعوام الثلاثة على حطام 
سفيئة» متمنياً أن تكون مارياء أو الممرضة غيرترود التي سأوجه إليها الدعوة 
ذات مرّة في آخر الأمر. لكنها كانت لوتسي» لوتسي الشاحبة مثلما أبلغتني 
الألعاب النارية المسرعة للوصول إلى ذروتهاء فأكدت لى ذلك. لقد ارتدت 
أيضاً سترتها البافاريّة الحياكة التي كانت ترتديها حين تبدو سيئة النيّة. 
الصوف الذي خلعته عن جسدها كان مبللا. كذلك السترة التي ارتدتها تحت 
سترة الحياكة كانت مبللة ة. ثم تفتحت أمامي السترة البافاريّة مرّة أخرى. وفي 
الأخير كفاناء 5-5 استنفدت الألعاب الناريّة طاقتهاء ولم يبق سوى 
الكمان» عثرت على قلبها الملفوف في قميص «اتحاد الفتيات الألمانيات» 
المخصص للتمارين الرياضيّة» أي على قلب لوتسي» فوق الصوف وتحت 
الصوف وفى الصوف نفسه. ا با و 
عليها تاقد أوسكادبت هنا يرقد أوسكار - هنا يرقد أوسكار. . 

فقطع كورنيف أفكاري الجميلة التي فاض بها البحر وزينتها الألعاب 
النارية بالأضواء هاتفاً: «لا تنم يا فتى!». انحرفنا يساراًء فتراءى الحقل 
الثامن الجديد الخالى من الأشجار مسطحاً أمامنا وجائعا. وارتفعت التلال 
الذاوية للأكاليل البنية بشرائطها الممطورة الناصلة الألوان» ارتفعت بجلاء 
من سطح القبور الخمسة الطازجة التي لم تسوّى بعد. وعثرنا على الرقم 
تسعة وسبعين بسهولة في بداية الصف الرابع» بمحاذاة الحقل السابع 
مباشرة ‏ الذي نبتت فيه بضع شجيرات فتيّة متعجلة النمو. وكذلك شواهد 


سك 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


قد بعضها من المرمر الألماني الشليزيّ على الأغلب» فبدت مننظمة نسبيًا. 
تقدمنا نحو الرقم تسعة وسبعين من الخلف» ثم أنزلنا العذة والإسمنت 
والحصى والقاعدة واللوح الجيريٌ ذا اللمعان الزيتيّ الخفيف. فقفزت 
الشاحنة الثلائية العجلات عندما دحرجنا قطعة الحجر فوق الصندوق من 
ظهر الشاحنة إلى الأسفل. فاستل كورنيف الصليب الخشبيّ المؤقت الذي 
كتب على ضلعه الأفقيّ: ه. فيبكنشت و ي. فيبكنشت من رأس القبر» ثم 
طلب فى أن أناوله المجرفة» فبدا يخفر اللقرثين يعمق عثر وسقيق ماشكراً 
اخريت عمودئ الأسمنت حسبما تقضي لوائح المقبرة» بينما نقلت أنا الماء 
في حقل سبعة؛ وخلطت الإسمنت» وجهزته عندما قال (جاهرز!) حين 
وصل الحفر إلى عمق متر وخمسين» فأصبح بمقدوري أن أدكُ الإسمنت 
في الحفرتين» في حين جلس كورنيف على اللوح الجيري» يلهث ويمدٌ 
بده لتحسين ونائلة اقريا متحين الأران. آنا اح مقى بحين الآران 
وينتهي الأمر.» لكنني بقيت أدك بقدميّ ولم أشغل نفسي بما قاله إلا 
قليلاً.و انطلاقاً من حقل سبعة زحفٌ موكبٌ تشبيع بروتستانتي قاطعاً حقل 
ثمانية نحو حقل تسعة. حين مرق الموكب بصفوفه الثلاثة من أمامنا 
تزحزح كورنيف من اللوح الجيريٌّ» فخلعنا طاقيتينا بدءاً من مرور القسيس 
حتى آخر المشيعين من ذوي الميّت بمقتضى تعاليم المقبرة. ثمة سيدة 
قصيرة عوجاء الجسد في ثياب حداد سارت بمفردها وراء النعش . ثم جاء 
بعدها أناس طوال كلّهمء ضخام الأجسام. فقذف كورنيف بحسرة إلى 
جانبي: «أنت لم تقفل الباب بصورة صحيحة! عندي إحساس أنهم 
سيغادرون قبل أن نتمكن من تثبيت جدار الحجر.» 

وفي غضون ذلك وصل الموكب إلى الحقل الثامن؛ فاحتشد 
وتمخض عن صوت قسيس مرتفع تارةً ومنخفض طورا. كان بإمكاننا أن 
نضع القاعدة فوق الأساس؛ لأن الإسمنت تشربٌ بالماء في تلك اللحظة. 
بيد أن كورنيف انبطح على بطنه فوق اللوح» ودس قبعته بين جبينه 
والحجرء ثم جذب ياقتي سترته وقميصه؛ فانكشف قفاه؛ عندما تناهمت 
إلى آذاننا تفاصيل من سيرة حياة الفقيد» قادمة من الحقل التاسع إلى الحقل 


07 
1_طماع1© :11 آنلا 1 


الثامن. فتوجب على ليس فقط أن أتسلق جدار الحجر الجيريٌ» إنما 
اعقايت موريت ته عن الكلت) تادركك المقاسأة يرمعها؛ كانت تال 
نقرتان متجاورتان. ثمة مشيّع متأخر جاء يحثٌ خطاه نحو حقل تسعة وفي 
اتجاه الموعظة التي أوشكت على الانتهاء. فقمت بمسح دهان الدمامل 
بورقة من شجر الزان بعدما انتزعت الشريط اللاصق بسحبة واحدة» 
وأبصرت الفوهتين المتصلبين المتساويتيّ الحجم إلى حدّ ماء بلونهما البنيّ 
الضارب إلى الصفرة. فهبٌ علينا صوت انطلق من حقل تسعة: «دعونا 
نصلي.» تلقيّت ذلك بمثابة إشارة» فأملت برأسي إلى الجانب» وصرت 
أعصر وأسحب بورق الزان تحت إبهامي. «أبونا الذي . . .» كورنيف أخذ 
بع بأستاله: اايتحب أن كستهي» لا أن تعصر.» فسحبت «اسأتى إلى 
ملكوتك...4 فسحبت. «.. .سيكون اعدف #امخطاع كورنيف أن 
يصلّي معنا: «سآني إلى ملكوتك.» هنا عصرت حقّا ؛ لأن السحب لم 
يجد لقعاء استحسقق إرادتك كما لو هنا أيضا:» لقد حدثت فعلاً معجرة؛ 
إذ أن فرقعة لم تحدث. ومرّة أخرى: «اعطنا اليوم.» فلحق كورنيف 
بالنصٌ: «الذنب ولا تجعلنا نوسوس . . .» كان ذلك أكثر مما توة 
«الملك والجبروت والعظمة.» أخرجت الخراج الملّون. «خالد أبديّء 
آمين.» وبينما سحبت مرّة ثانية قال كورنيف: «آمين» فعصرت مرّة أخرى 
«آمين»» وبينما بدأ الآخرون في حقل تسعة المقابل يقدمون العزاء لبعضهم 
كان كورنيف يكرر القول: «آمين»» وهو منبطح باستواء وارتياح على اللوح 
الجيريّ» يتأوه ويزفر من الأعماق: «آمين»» ثم سألني: «هل عندك إسمنت 
لنضعه تحت القاعدة؟» فكان عندي ما يكفي من الإسمنت» فصار يردد: 
«آمين . ؛ وأفرغت آآخر جاروف إسمنت للربط , بين العمودين. ٠‏ حينئذ تزحزح 
كورنيف من مساحة اللوحة الملمعة المخطوطة:؛ تاركاً أوسكار يريه أوراق 
الزان الخريفية الملونة ذات المحتوى الملون نفسه الذي امتصته من الدمّامل 
المتقيحة. ثم ثبتنا طاقيتيناء وبدأنا نخف أيدينا لننتهي من الحجرء فنصبنا 
تمثال القبر ل «هيرمان فيبكنشت» و«إليزا فيبكنشت»؛ المولودة باسم 
«فرايتاغ» حينما تبدد موكب التشييع في حقل تسعة. 


053 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فورتونا الشمالية 


آنذاك لم يكن بوسع الناس الحصول على شواهد, باستثناء أولئك 
الذي كانوا يخلفون أشياءً ثمينة على وجه البسيطة. ليس بالضرورة أن 
يكون هذا الشيء فصّ ماس أو عقد لؤلؤ بطول الذراع. كان يمكن 
الحصول على متر من صخور «غرنسهايم» التي تحجرت فيها القواقع 
بخمس قناطير من البطاطس . فقد جلب لنا تمثال من الغرانيت البلجيكي 
بغلاث قواعد معد لقبر مزدوج قطعة قماش كافية لتفصيل بذلتين مع 
الصديري. وعرضت علينا أرملة الخيّاط التي امتلكت القماش أن تخيطه لنا 
مقابل إطار شاهدة من الرخام؛ لأنها مازالت توظف في المحلّ مساعد 
خيّاط . 

فحدث أن ركبنا الترام رقم عشرة في اتجاه شتوكوم لكي نزور الأرملة 
لينرت» وتركناها تأخذ قياساتنا. كان أوسكار يرتدي يومئذ قيافة جنود 
الدروع المضحكة للغاية بعد أن أعادت ماريا فصالهاء إلا أن سترتها لم 
تعد تزرر بسبب قياساتي غير الطبيعية» على الرغم من أن مواضع الأزرار 
قد حوّلت من مكانها. 

وصنع لي المساعد الذي نادته الأرملة باسم أنتون بذلة حسب القياس 
فصلها من قماش بنيّ غامق مقلم بخطوط دقيقة: ذات صف واحد من 
الأزرار وبطانة رمادية» جلست على الكتفين بصورة جيّدة» دون المبالغة 
في حشو بطانة المنكبين بحيث يولدان انطباعاً مزيفاً» ولم تسع إلى ستر 
الحدبة» بل أنها قامت بإبرازها على نحو هادئ متحفّظ . كان السروال 
مزوّداً بثنيتين» لكنه لم يكن واسعاً؛ فالأستاذ بيبرا مازال يمثل لي نموذج 


056 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الأناقة وحسن الهندام . لذلك لم أر ضرورة لإبزيمات الحزام» إنما لأزرار 
حمآلة السروال» فبدا الصديريّ لامعاً من الخلف. كابياً من الأمام» مبطنا 
بقماش ورديّ داكن؛ وقد استلزمت العملية كلها خمس بروفات. وعندما 
كان ساعد الختاظ متفخلة ببذلة كورتيت المزوّدة بصفية من الأزراز 
وببذلتي ذات الصف الواحد من الأزرار جاء إسكافيّ يبحث عن إطار 
حجري لقبر زوجته التي توفيّت في عمر الثالثة والأربعين نتيجة أضرار 
القصف الجوّي. عرض علينا الرجل بطاقات تموين في البدءء لكننا طالبنا 
ببضاعة . الى عورا اتا تقال قلدة من العام شاد عع كارن 
الحجر الفني بالإضافة إلى النصبء». حذاءً ضير | : بنىّ غامق وخنا 3 
من جلدء وحصلت أنا على حذاء ألموة طوول وباط قديم الطرازء لكنه 
طريّ بشكل رائع» بقياس خمسة وثلاثين» فوهب قدميّ الضعيفتين سنداً 
ثابتاً وأنيقاً في آن . 

تولّت ماريا مسألة القمصان بعدما وضعت أمامها على ميزان العسل 
الاصطناعي رزمة من ماركات الرايخ الألماني: «هل يمكنك أن تشترين لي 
قميصين» أحدهما بخطوط رفيعة مع ربطة عنق رمادية فاتحة وأخرى بلون 
كستنائي؟ البقية لكورت ولك يا ماريا العزيزة التي لا تفكر في نفسهاء بل 
في الآخرين دائما.؛ وذات مرّة وبنزوة عطاء أهديت إلى مزسكه فطل 
بمقبض من قرن الغزال ولعبة ورق لم تستخدم إلا قليلآء إذا أنها كانت 
تحب اللعب بالصور على الطاولة»؛ ولا تحبٌ إعارة لعبة من الجيران إذا ما 
أرادت أن تطرح سؤالاً متعلّقاً بعودة كوستر. فسارعت ماريا إلى تلبية 
طلبي: وابتاعت لنفسها بما تبقى من النقود معطفاً مطريّاء ولكورت جراباً 
مدرسيًاً من الجلد المقلّدء فحقق الغاية المرجوة منه ولو مؤقتاً» على الرغم 
من بشاعته . ونضدت إلى جانب قمصاني وربطتي عنقي ثلاثة أزواج من 
الجوارب الرمادية التي نسيت أن أوصيها بشرائها. 

ولمّا ذهب كورنيف وأوسكار ليجلبا بذلتيهما وقفا أمام مرآة ورشة 
الترزي بحيرة» لكن بإعجاب إزاء بعضهما. فلم يقو كورنيف على إدارة 
عنقه المغروز من الخلف بندب الدمامل. وشرع ذراعيه أمامه عبر مفاصل 


0515 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


منكبيه المتراخيين وحاول أن يمد ساقيه المقوستين. أمّا أنا فقد منحتنى 
الحلّة الجديدة مظهر المثقّف الشيطانيّ» لاسيما حين شبكت ذراعي على 
قفصيّ الصدري». جاعلاً قياساتي الأفقية تتسع» بصنا قدي اوش 
النحيفة للوقوف» طاوياً عليها اليسرى باسترخاء. اقتربت من المرآة مبتسما 
من كورنيف ومن دهشته» حتى وقفت قبالة ذاك السطح المستوي الذي 
احتله صورتي المعكوسة عن كثب لدرجة أنني هممت بأن أقبلهاء بيد أنني 
اكتفيت بالنفخ على وجهي» قائلاً على نحو عابر : «أهلاً يا أوسكار! الآن 
لا يعوزك سوى دبّوس الربطة.» وبعد أسبوع, حين دخلت المستشفى 
البلديّ ذات أصيل أحدء لكي أزور معيناتي» عارضاً نفسي بجدّة وغطرسة 
وتأنق من أفضل النواحي؛ كنت حينها مالكاً لدبّوس ربطة عنق فضيّ مزين 
بدرّة. 

كانت الفتيات الطيبات يفقدن الكلام عندما يشاهدنيّ أجلس في غرفة 
القسم . الام ا م ا 5 0-0-١‏ 
ذراعيّ البذلة على القفص الصدري بالطريقة المعهودة التي أثبتت عليتهاء 
وأعبث بقفًازي الجلدي. لقد أمضيت آنذاك ل 
وأستاذاً في سحب الخراج. كنت أخلف فردة سروال على أخرى» ومع 
ذلك اتخذت الحيطة لثلا تصاب ثنية السروال بالتجعّد والانكماش. 
فاعتنت غوسته الطيّبة بذلك الزخرف كما لو أنه فصل من أجل غوسته 
العائد الذي سيغيّر كل شيء. وكنت اشتريت معطف جوخ رمادي مثل لون 
الفئران لكورت في خريف العام السابع والأربعين بمناسبة عيد ميلاده 
السابع الذي أحييئاه بعرق البيض الذي مزجناه بأنفسنا وبالكعك المحبب - 
حسب الوصفة: خخذ مقدار كذا وكذا! قدّمتٌ للممرضات - كانت 
الممرضة غيرترود من ضمنهن - فطائر حلوى حصلنا عليها بالإضافة إلى 
عشرين رطلا من السكر الأسمر من خلال صخرة بركانية. كان كورت 
كثيراً ما يذهب إلى المدرسة بكل سرور على حدٌ تقديري. أمّا المعلمة 
التي لم تستهلك بعد» والتي لم تكن» أقسم بالله» مثل «شبولنهاور»» تثني 
عليه. فقد كالت له الثناء» قائلة عنه إنه نيّر الذهن» لكنه جدّي بعض 


اكه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الشيء. كم تبدو الممرضات سعيدات عندما تُقدم لهن الحلوى! حين 
اختليت لحظة بالممرضة غيرترود في غرفة القسم. ا 
أوقات عطلتها وفراغها. فأجابت الممرضة غيرترود بنبرة استسلام : «اليوم 
عطلتي مثلاًء بعد الخامسة أفرغ من عملي. لكن المدينة خاوية؛ ليس فيها 
شيء.» فأعربت لها عن رأيي بأن الموضوع كله يتوقف على القيام 
بمحاولة. بيد أنها لم ترغب أوّل الأمر في القيام بمحاولة» مؤثرة أن تشبع 
نوما ذات مرة. حينئذ أصبحت مباشرا» فتقدمت لها بدعوة» وختمتها 
بالكلمات التالية: «قليلاً من روح الأقدام يا غيرترود. الإنسان يكون شاباً 
في حياته مرّة واحدة. بالتأكيد لا يوجد نقص في بطاقات توزيع الكعك.» 
وصرت أنقر على المنديل في جيب الصدر بمرافقة النصّ» مضفيا عليه 
بعضاً من قوّة التعبير» ثم قدمت لها قطعة حلوى» وشعرت فوراً بحالة 
رعب خفيفة حين اتجهت الفتاة الفستفالية الفظة التي لم تكن أبداً من النمط 
الذي أهواه؛ اتجهت إلى دولاب المراهم وسمعتها تقول: «جيّدء إذا كان 
هذا هو رأيك. دعنا نقول في السادسة؛ لكن ليس هناء إنما في ميدان 
كورنليوس . ؛ 

مدخل القاعة أو أمام المدخل الرئيسي للمستشفى . فانتظرتها في الساعة 
اس لو وي 0 
ري ل ا لي لل قبل أن 
تلمحني هي نفسهاء ولكنت انصرفت خالي الوفاض خائباً؛ إذ أن الممرضة 
ف لوم سرت سي لأنها لم تأت مرتدية البياض 
وشارة الصليب الأحمر» إنما أ تت بصفتها الآنسة غيرترود فيلمز» ريه 
ثياباً مدنية من النوع الشديد الضيقء كأي فتاة قادمة من مدينة دورتموند أو 
هام أو من مكان ما بين دورتموند وهام . ولكنها لم تلحظ استيائي» وروت 


0548 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لي بأنها كادت تتأخر ف في المجيء؛ لأن رئيسة الممرضات كلفتها بمهمّة قبل 
الساعة الخامسة بفترة وجيزة» خبئاً وتعنتاً ليس إلا. 

«هل تسمحين لي يا آنسة غيرترود بأن أعرض عليك بعض 
المقترحات؟ ريما سنبدأ بلا تكلّف بمحلّ فطائر وبعد ذلك سنذهبء إذا ما 
رغبت» إلى السيئماء لأننا سوف لا نحصل الآن على بطاقات لدخول 
المسرح» وإلا فما هو رأيك برقصة صغيرة؟» 

«آه يا لها من فكرة! دعنا نذهب إلى الرقص!» بدت متحمسة» ثم 
لاحظت أخيراء دون أن تنجح في إخفاء رعبهاء بأنني» وبصفتي زميلها في 
الرقص» سأفسد عليها كل شيء بهيتي هذه حتى لو كنت حسن الهندام. 
وبقليل من الشماتة - لماذا لم تأت بزيّ الممرضات القريب من نفسي! - 
قمت بتثبت خطتي التي استحسنتهاء فتخلّت عن رعبهاء أتت الفتاة التي 
كانت تعوزها قوّة المخيلة» وتناولت معي ثلاث قطع من الكعك». » أمَا أنا 
فقد تناولت قطعة واحدة من الكعك المخلوط بالإسمنت» وبعدما دفعت 
الحساب نقداً وببطاقات التموين المخصصة للكعكء؛ ركبنا معاً في الترام 
من محطة فيرهان» فذهبنا في اتجاه غيرسهايم» إذ أن هناك مرقصاً يقع 
أسفل «غرافنبيرغ» حسب معلومات كورنيف. 

وقطعنا المسافة الأخيرة مشياً على الأقدام وببطء» لأن الترام توقتف 
قبل صعود المرتفع. وكان الوقت مساءً من أمسية سبتمبر/ أيلول التي 
يشتهيها المرء. وكان صندل غيرترود الخشبيّ الذي يمكن الحصول عليه 
بدون بطاقة تموين يطقطق بصوت عال مثل الطاحونة على الجدول؛ 
فجعلني ذلك أشعر بفرح» وأخذ الناس الذين يهبطون المرتفع يلتفون إليناء 
فشعرت الآنسة غيرترود بالحرج والارتباك. لكنني كنت معتاداً على ذلك» 
فلم ألقي له بالاً: فضلاً عن أن بطاقات تمويني هي التي أعانتها على تناول 
ثلاث قطع من كعك الإسمنت في محل الحلوى. 

كان المرقص يدعى «فندش») ويحمل اسما فرعيا هو: قلعة السباع . 
وفي المدخل بدأت الكركرة؛ وبعدما دخلنا استدارت نحونا الرؤوس. 
تراءت الممرضة غيرترود غير واثقة من نفسها وهي ذ في ثيابها المدنية» 


053 
1_طماع1© :11 آنلا 1 


فتعثرت بكرسيّ قابل للطبق وأوشكت على السقوط» لو لم يسارع النادل 
وأنا معه لإسنادها. أرشدنا النادل إلى طاولة قرب حلبة الرقص» فأوصيت 
على مرطبات» ثم أضفت بصوت خافت» لم يسمعه سوى النادل: «لكن 
مع جرعة من الشراب رجاءً.» وكانت قلعة السباع مؤلفة في الواقع من 
قاعة استخدمت زماناً بمثابة مدرسة لركوب الخيل. وقد عُلّقت الأماكن 
العليا من السقف المتضرر كثيراً بثعابين ورقيّة وقصاصات زينة تعود إلى 
الحفلة التنكرية السابقة. كانت الأضواء الملوّنة شبه المعتمة تدور لتلقى 
بالاتيعابياك عن قفر زووس تكار المنوق البدوداة الشنات الكالقين 
جزئياًء ذلك الشعر المسرح إلى الوراء بشكل متماسك صارم وعلى 
بلوزات الفتيات المنسوجة من الحرير الاصطناعي ؛ الفتيات اللواتي أوحين 
كما لو أنهن كن يعرفن بعضهن بعضاً. 

وحين قدم لنا المشروب البارد المخلوط بقطرة من الخمر» حصلت 
بالمزايدة على عشر سجائر أمريكية من النادل» وقدمت واحدة منها 
للممرضة غيرترود وأخرى للنادل الذي وضعها فوق أذنه» ثم أخرجت» 
حالما أوقدت سيجارة السيدة التي برفقتي» مبسم الكهرمان لأدحن سيجارة 
(الجمل) إلى حدّ النصف تقريبا. ران الهدوء على الطاولات المجاورة لناء 
فتجرأت الممرضة على رفع بصرها. عندما عصرت عقب السيجارة الراقية 
في المنفضة» وتركته ملقى هناك» التقطت الممرضة غيرترود العقب بحركة 
يد حياديّة» ثم دسته في الجيب الجانبي من حقيبتها الصغيرة المصنوعة من 
المشمع. 
00 «أخذته لخطيبي في دورتموند. إنه يدخن كالمجنون.» 

وأحسست بالفرح لأنني لم أكن خطيبها ولأن الموسيقى بدأت» 
فعزفت الفرقة الخماسية "12 226 ع20ع1 1002”*6". رجال بنعل من المطاط 
سارعوا إلى دخول حلبة الرقص بشكل قطريٌّ دون أن يرتطموا ببعضهمء 
اصطادوا في طريقهم فتيات سلمهن حقائبهن اليدوية إلى صاحباتهن. أبدى 
البعض منهم مرونة فعلاً كالمتدربين على الرقص الزوجي .ثم تحرك الكثير 
من العلكة في الأفواه» بعض الشبّان توقفوا عن الرقص أثناء عدد من 


ولاه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الإيقاعات؛ ممسكين بأذرع الفتيات المتلهفات إلى الرقص اللواتي بقين 
يراوحن فى مكان واحد - لقد عوضت المفردات الإنجليزية المقتضبة عن 
العروة اللغوية الريعانية :“قبل ان يتابم الأزواج الرقض تبادلوا قيما ببدهنم 
حاجيات صغيرة : إن تجار السوق السوداء لا يعرفون الاستراحة والتوقف 
برخ العما ..: 

وتجاهلنا تلك الرقصة وكذلك رقصة الفوكس التي أعقبتها. فأخذ 
أوسكار يتطلع بيت الحين والآخر على أقدام الرجال» ثم طلب من 
الممرضة غيرترود أن تراقصه على أنغام فرقة «روزاموند»» بحيث أنها لم 
تعد تعلم ما الذي حل بها. وتجرأت على القيام بهرّة» أنا الذي كنت 
أصغر من الممرضة غيرترود برأسين ومطلعاً على طبيعة علاقتي العجيبة 
بهاء التي نويت على تقويتهاء متذكراً فنون الرقص التي كان يان برونسكي 
يظهرها: فأمسكت بهاء فجعلتني أقودها بطواعية» واضعاً راحتي على 
مؤخرتهاء متحسساً الصوف الذي بلغت نسبته ثلاثين في المائة» ودفعت 
الممرضة غيرترود» الضخمة الجسدء إلى الوراء بعدما لصقت خدّي على 
بلوزتهاء وأدخلت ساقيّ بين ساقيهاء طالباً فسح المجال أمامناء متحركاً 
من زاوية إلى أخرى فوق حلبة الرقص؛ لأن أذرعنا المتشنجة بدأت تتجه 
نحو اليسار. فبدا الأمر أفضل مما تمنيت. وسمحت لي بالتنويع» وبقيت 
متشبثاً ببلوزتها من الأعلى وردفيها اللتين منحتاني مستقراً من اليمين ومن 
الشمال» وصرت اطوق راقضاً حولهاء دون أن اتخلى لحظة واحدة عن 
الوضع التقليدي لرقصة «الزحزحة» الذي يولد عادةً انطباعاً كما لو أن 
السيّدة موشكة على السقوط إلى الوراء» وكما لو أن السيّد الذي أراد 
إسنادهاء سيسقط عليها من الأمام» ومع ذلك فإنهما لم يسقطا؛ لأنهما من 
راقصي الزحزحة البارعين. 

وسرعان ما حظينا بمتفرجين» فسمعت هتافات مثل: ألم أقل لكم 
هذا هو جيمي! انظروا جيّدا إلى جيمي. هاللو جيمي!! ,2ه عمه0) 
لمتزل رمع 5'اأعآ الإمتصال» بيد اندي للأسف لم أستطع رؤية وجه 
الممرضة غيرترود» فاكتفيت بأمل أن تتلقى غيرترود الإعجاب بكبرياء 


الاهة 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ورزانة» باعتباره إعجاب شباب لا يختلف عن مجاملات المرضى القليلة 
الخيلة و الت شهذتها بنتها محرضة: ولم يتقطع التصفيق حتن بعد 
جلوسناء و أدّت الفرقة الخماسية سلاما مربّعأء لاسيما عازف الإيقاع, 
فآخر فثالث. فتعالى الهتاف «جيمي؛ جيمي» أو «هل رأيتهما؟؛ حينئذ 
نهضت الممرضة غيرترود؛ وجاءت على ذكر المرحاض وهي تتلعثم» ثم 
تناولت حقيبتها اليدوية التي أخفت فيها عقب السيجارة لخطيبها المقيم في 
دورتموند» وحثت خطاها بوجنتين محمرتين نحو المرحاض» إلى جانب 
خزانة تسديد الحساب» مرتطمة بالكراسي والطاولات. لكنها لم تعد أبدا. 
فحقيقة أنها أفرغت كأسها بجرعة طويلة واحدة دفعتنى إلى الظنّ بأن 
احتساء الكأس دفعة واحدة يعني الانصراف: هكذا تركتني الممرضة 
غيرترود أجلس وحيداً. 

وأوسكار؟ لقد أوصى النادل الذي أبعد بتحفّظ كأس الممرضة الفارغ 
بأن يأتيه بجرعة عرق بلا مشروب باردء حاشراً عقب سيجارته في مبسم 
التدخين. فليكلف الأمر ما شاء: لقد ابتسم أوسكارء بتوجع في الواقع» 
لكنه ابتسم على أية حال؛ ثم عقد ذراعيه على صدره؛ ووضع ساقاً على 
ساق» وأخذ يهرّ حذاءه الأسود اللطيف ذا الرباط البالغ حجمه خمسة 
وثلاثين» مستمتعا بتفوق المهجور. وبدا الشباب» رؤاد قلعة السباع. 
لطيفين؛ فغمزوا لي بأعينهم من أمام حلبة الرقص» وهتفوا قائلين «هاللو»؛ 
ثم هتفت النساء قائلات '[685 ]1 18166. فشكرت بمبسم سيجارتي أولئك 
ممثليّ الإنسانية الحقيقيين» وابتسمت ابتسامة رضا وتسامح عندما أخذ 
عازف الإيقاع يقرع الطبول ببذخ؟ إذ أنه ذكرني بأزمان المنصّات العتيدة. 
الرائعة» من خلال عزفه المنفرد على الطبلة والئقّارة والصئاجة ومثلث, 
النقرء قبل أن تدعو النساء الرجال إلى الرقص. وعزفت الفرقة بكلّ حرارة' 
مقطوعة 1م118 عط) لإستصرذلء فكنت أنا المقصود بهاء على الرغم من أن: 
أيَاً من رواد قلعة السباع لم يكن يعلم شيئاً عن سيرتي الطبلية تحت هياكل, 
المنضّات. على أية حال» همس فى أذنى ذلك الشىء الفتيّ الزئبقيّ ذو 
الرأس الغزير الشعر المصبوغ بالحمّاء الذي انتخبني سيّداً له : عط بوستصسطة. 


ااه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


جوعة1 بصوت أبمٌ بفعل التبغ والعلك. وبينما استحضرنا الأدغال ومخاطر 
الأدغال على وجه السرعة» راقصين على أنغام جيمي» صار النمر يطوف 
على كفوف النمر وقد استغرق ذلك عشر دقائق. ثم عزفت الموسيقى تحيّة 
«سلام مربّع*» لحق بها تصفيق ومن ثم سلام مربّع آخر؛ إذ أنني كنت 
أتمتع بحدبة متأنقة الهندام» إضافة إلى أنني كنت خفيف القدمين» ولم 
أولد انطباعاً سيئاً بصفتي جيمي النمر. دعوت السيّدة التي انتقتني إلى 
المائدة» ثم طلبت مني هيلما - هكذا كان اسمها عاق ولب معنا 
صاحبتها «هانيلوره». كانت هانيلوره صامتة» مستكينة» تشرب بكثرة. فى 
حين كانت #هيلما؛ تميل إلى السجائر الأمريكية» مما دفعني إلى طلب 
المزيد منها من النادل. 

ونجح ذلك المساء تحاما فرقصت رقصات ع 10 
0 و لاه عطلطوء560 وثرثرت إبان ذلك» ممونا فتاتين قنوعتين 
ببساطة بما احتاجتا إليه؛ فقصتا عليّ بأنهما تشتغلان في دائرة التلفونات في 
مزذالة غراك> آدزلك الكن هناك الككير من الفسيات الأواتن يأتين يمت 
السبت والأحد إلى مرقص فيدش في قلعة السباع. كما أنهما تأتيان إلى هنا 
كل نهاية أسبوع؛ إذا ما فرغتا من العمل فواعدتهما أنا بدوري على 
المجيء دائماً إلى المرقص؛ لأن هيلما وهانيلوره كانتا لطيفتين جدّاً ولأن 
المرء يستطيع التفاهم مع فتيات مكتب التليفونات حتى إذا جلس بالقرب 
منهن - هنا أخذت ألعب بالكلمات» ففهمتنى الفتاتان على الفور. وبعد 
ذلك انقطعت فترة طويلة عن الذهاب إلى المسطي: وعندما بدأت أقوم 
بهذه الزيارة أو تلك كانت الممرضة غيرترود قد تقلت من قسم النساء» فلم 
أعد أراها قطء إلا مرّة واحدة وبشكل عابر عندما ألقت علي التحيّةَ عن 
بعد. فأصبحت أحدّ رواد قلعة السباع الذين ينظر إليهم باحترام» فاستغلتني 
الفتيات بكثرة؛ لكن ليس بإفراط. ومن خلالهن تعرفت على بعض أفراد 
قوّات الاحتلال البريطانية» فتلقفت مئات المفردات الإنجليزية» وعقد 
صلاتء كان بعضها حميماًء مع أعضاء الفرقة الموسيقية لقلعة السباع» 
كابحاً في نفسي رغبة التطبيل» فلم أجلس أبداً خلف آلة الإيقاع» بل 


؟/ام 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


اكتفيت بالسعادة الصغيرة التي وفرها لي نقش الشواهد في سقيفة كورنيف 

بقيت على اتصال مع فتيات مكتب التلفونات طوال فترة الشتاء القاسية 
بين العامين ١957‏ و2194448 وحظيت بشيء من الدفء غير الباهظ 
التكاليف من لدن هانيلوره الصامتة الهاجعة» بحيث أننا بقينا محافظين على 
مسافة ما بيئناء معتمدين على الأفانين غير الملزمة. وكان مشغل نحت 
الأحجار يحظى بالصيائة في فصل الشتاء؛ فيتوجب أن تشّحم أدواته» ويتم 
تحديد المساحات المخطوطة على بعض من القطع القديم» وإذا ما تآكلت 
الحواف؛ فإن المرء ينحت أضلاعاً مائلة ويعد المساحات للنقش. فكئًا 
نقوم أنا و كورنيف بمليء مخزن الشواهد الذي فرغ في موسم الخريف١.‏ 
ثم ندكٌ بعض الأحجار الفنيّة من ألواح الصخور المستخرجة من باطن 
الأرض. كذلك حاولت استخدام آلة التنقيط لجملة من الأعمال النحتية 
البسيطة؛ فنحت نقوشاً بارزة ملت رؤوس ملائكة ورأس المسيح المتؤج 
بالأشواك وحمامة الروح القدس. وحين يهطل الثلج؛ كنت أجرفه؛ وإذا 
لم يسقط الثلج» كنت أذيب الجليد عن مواسير المياه لغرض تشغيل ماكينة 
التنعيم . 

وفي نهاية فبراير / شباط من العام الثامن والأربعين - كان الكرنفال 
قد خلّف في جسدي الهزال» فبدوت كالشبح؛ إذ أن بعض الفتيات في 
قلعة السباع أسبغن عليّ لقب الدكتور - جاء عقب أربعاء الرماد مباشرة 
أوائل الفلأحين من الضفة اليسرى لنهر الراين» وتفقدوا مخزن شواهدنا. 
لم يكن كورنيف موجوداً في ذلك الوقت» إنما كان يتلقى علاجه السنويٌ 
من الروماتزم؛ ويشتغل في مدينة «دوسبورغ» أمام فرن عال؛ وحينما عاد 
بعد أربعة عشر يوماً ناشفاً تمامأء خالياً من الدمامل» كنت قد بعت ثلاث 
صخور بسعر مناسب» من ضمنها واحدة لقبر ثلاثئي. ثم باع كورنيف نفسه 
لوحين من الصخور المستخرجة من باطن الأرض» ومنتصف مارس بدأنا 
بنقلها ونصبهاء فذهبت قطعة من المرمر الشليزيٌ إلى «غريفنبروش»»؛ 
وانتتصب لوحان من المرمر الكيرشهايمي في مقبرة قروية قرب مدينة 


5و0 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


نويس» أمّا حجر رمل الماين الأحمر الذي نحت منه رأس ملاك فمازال 
يثير إعجاب الرائي إلى يومنا هذا في مقبرة شتومل. ثم شحنا لوح الصخر 
البركانيّ الذي نقشت عليه رأس المسيح المكلل بالأشواك» المخصص 
للقبر الثلاثيٌّ؛ وسرنا في اتجاه كابس-هام حتى جسر «انويس» على مهل ؛ 
لأن العربة ذات العجلات الثلاث كانت محملة أكثر من طاقتها. فاتجهنا 
من نويس إلى «رومرسكيرشن» عبر «غريفنبروش»» وانحرفنا يمينا في 
الطريق المؤدي إلى «بيرغهايم أبرقتة؛ مخلفين «رايدت» وانيدرأوسم» 
ورائناء وأوصلنا اللوح سالماً مع القاعدة إلى مقبرة «أوبرأوسم» الواقعة 
اح ب ع اا فياله من منظر! كان منجم الفحم الحجريٌّ 
التابع لمنطقة أيرفت يقع تحت أقدامنا. ثمّة المداخن الثمانية التابعة لمصنع 
نووتونا القى اتطلق دخائها لخو السماء. وسحطة شنال افورتوتاة الجديدة 
لقولة الطافة الكهربائية ذات الأزيز والصفير والراغبة دوماً في الانفجار. 
الجبال الوسطى للركام والمخلفات والأسلاك المعلقة التي سارت عليها 
عربات الفحم. كل ثلاث دقائق كان يمرّ قطار كهربائيّ محمّل بالفحم أو 
فارغ. كان الخط الكهربائيّ نّ ينطلق من محطة توليد الطاقة ويعود إليهاء 
متصاغراً مثل لعبة» نجل أن يفيل إلى لعية عنخيةم متجاوزاً ركن 
المقبرة» متجهاً بثلائة طوابير نحو كولونياء يطنّ مشحوناً بالضغط العالي. 
ثمة طوابير اتجهت نحو الأفق» مسرعة في اتجاه بلجيكا وهولندا: عالم» 
نقطة تلاق - نصبنا لوح الصخر البركانيّ المخصص لعائلة فليز -: 
الكهرباء تتولد إذا ما فعل المرء. . .الدفان ومساعده الذي عوّض عن 
شوغر ليو جاءا بعدتهماء فوقفنا نحن في مجال التيّار الكهربائيّ» وبدأ 
الدفان بتمهيد التربة أسفل مما وقفنا بثلاثة صفوف 59 57700 
الحرب كانت تسدد هنا - جلبت إلينا الروائح المألوفة التي ترافق النقل 
المبكر للجثث من قبر إلى آخر - كلا؛ لم نشعر بأي غثيان؟ إذ أننا كنا في 
شهر مارس. حقول مارس الهاجعة بين مخلفات الفحم. كان الدفان يحمل 
نظارة مفتولة الإطار» ويتشاجر بصوت خافت مع صاحبه شوغر ليوء إلى 
أن 'تقسيت صقار إنذار فروتونا لمدة ذقرتة؟ تصرنا ذليف» ناسيك عن 


و/زاه 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الحديث حول المرأة التي سينقل جثمانها إلى قبر آخرء فلم يصمد سوى 
تيّار الضغط العالي وحده؛ فهرّت صفارة الإنذار» ساقطة من سطع 
المركب» لتغرق - بينما كان الدخان القرويّ الرمادي المائل المنبعث من 
السطوح المائلة يلتف ملتوياً في الظهيرة وخلفه نواقيس الكنيسة: صلي 
واعمل - الصناعة والدين يدا بيد. حلت فترة المناوبة في فورتوناء فتناولنا 
شرائح بالزبد ورقائق شحم الخنزير» بيد أن تغيير مكان الجثمان لم يسمح 
بأي استراحة» كذلك كان التيّار الكهربائى الذي حتٌ خطاه بلا استراحة' 
إلى الدول المنتصرة» ليضيء هولتداء بيتساكات التيّار ينقطع هنا دائماً - 
غير أن المرأة خرجت إلى الضوء! وعندما حفر كورنيف النقر اللازمة 
لوضع الأساس على عمق متر وخمسين ستتمتراًء ظهرت على السطح في 
الهواء البارد المنعشء» إذ أنها لم ترقد هناك فترة طويلة» إنما رقدت في 
الظلمة منذ الخريف الماضيء. ومع ذلك أظهرت تقدماًء مثلما جرت 
التحسينات في كل مكان؛ ومثلما تقدمت أعمال التفكيك في منطقتي الرور 
والراين؛ لقد خاضت تلك المرأة جدالاً جدّياً مع نفسها تحت قشرة الأرض 
المتجمدة التابعة لمنجم الفحم الحجري خلال فصل الشتاء كلّه - الذي 
بددته في قلعة السباع-» والآن يجب إقناعها جزءاً فجزءاً بضرورة تغيير 
قبرها فى الوقت الذي دككنا فيه الإسمنت ونصبنا القاعدة. لهذا الغرض 
خض نابرث الخارصين» بحيث أن يناه مهما كان ضئيلا» لم يفقد منه 
- مثلما كان الأطفال يفعلون أثناء خروج قوالب الفحم في فورتونا حين: 
يركضون خلف عربات الشحن المحملة أكثر من طاقتها ليجمعوا قوالب 
الفحم المتساقطة؛ لأن الكردينال #فرنكس» خطب من المنبر ذات مرّة, 
قائلاً: إنني أقول لكم الحق: إن سرقة الفحم لا تعد معصية. بيد أن أحداً' 
لم يكن بحاجة إلى تدفئة المرأة. أعتقد أنها لم تتجمد بفعل هواء مارس 
البارد الذي يضرب به المثل» لاسيما أن هناك ما يكفى من الجلد؛ حتى لو 
كانمتكرياً وفهليل التسيية ويدلاً ين ذلك كانت ثمة بقايا مخ قمائن 
وشعر مازال مصففا بالكئ - من هنا جاءت الكلمة -» وبدت زيئة التابيوت 
أيضاً حرية بتبديل القبرء حتى أن قطم الأخشاب الصغيرة أرادت الاثتقال 


كلاه 
1_طماع1© :-1عا]آنلا 1 


إلى المقبرة الأخرى؛ حيث صغار الفلآحين وعمال المناجم الذين قطنوا 
فورتوناء كلا؛ إنما أرادت المرأة الرجو إلى المدينة الكبيرة» إلى الحركة 
الكبيرة وحيث عرضت سبع عشرة دار سينما أفلامها في وقت واحدة؛ لأن 
المرأة كانت أصلاً مرحَلةٌ كما روى الدثّان» ولم تكن من أهالي المنطقة: 
«هذه هي غريتاء من أهالي كولونياء ستذهب الآن إلى مولهايم؛ على 
الضفة الأخرى من النهر؛» قال هذه العبارة» وهمّ بإضافة الكثير إليهاء لو 
لم تبدأ صفارة الإنذار بإطلاق عويلها لمدة دقيقة كاملة» فاقتربت من مكان 
نقل الجنّة» سكلا ضقارة الأذارء ميتعدا عن تآثيرها غير طرق ملتوية؛ 
فتلقفت في طريقي شيئاً ماء اتضح فيما بعد بأنه كان مجرفتي التي رُكنت 
على تابوت الخارصين» وأخذت أعمل بها على الفور» ليس الأنني رغبت 
في تقديم المساعدة» إنما فقط لأنني حملتها بيدي؛: وحملت معها شيئاً ما 
سقط إلى الجانب: فكانت هذه المجرفة عائدة فى السابق إلى وحدة 
خدمات الرايخ الألماني. إِمَا ذلك الشيء الذي حملته في مجرفة وحدة 
خدمات الرايخ فقد كانا الإصبعان الوسطيان أو مازال الإصبعان الوسطيان 
- وهذا ما أعتقده إلى اليوم - العائدان إلى المرأة المرحّلة» واللذان لم 
يسقطاء بل بترهما الباتر المجرد من الإحساس . وتراءيا لي جميلين ماهرين 
مثل رأس المرأة الذي مازال في صندوق الخارصين» فثمة تناسق ربما بتأثير 
شتاء العامين السابع والأربعين والتاسع والأربعين الذي أعقب الحرب؛ 
ذلك الشتاء القاسي كما هو معروف والذي ساهم بالحفاظ على التناسق» 
بحيث يمكن الحديث عن جمال سابق حتى وإن بات متداعيا الآن. فضلا 
عن أن إصبعيّ المرأة ورأسها أصبحا أكثر قرباً لنفسي من جمال محطة 
فورتونا لتوليد الطاقة الكهربائية» بل أكثر إنسانية. لعلّني تمتعت بروح 
التعاطف مع المشهد الصناعي مثلما كنت أستمتع بمشاهدة غوستاف 
غروندغنس على المسرحء بيد أنني بقيت في حالة شك إزاء ذلك الجمال 
الظاهر؛ حتى لو كان جمالا فنيّا رائعاء أو حتى لو كانت المرأة المجلية 
طبيعية تماماً. لابد من الاعتراف هنا بأن تيار الضغط العالي منحني شعوراً 
عالمياً كالشعور الذي منحني إِيّاه غوته من قبل» بيد أن إصبعيّ المرأة مسا 


/ابعة 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


قلبي» على الرغم من أنني تخيلت المجليّة رجلاً؛ لأن هذا التخيّل كان 
يناسب جعبة اتخاذ القرارات التي احتفظ بها ويناسب المقاربة التي صيرتني 
بمثابة يوريك وصيّرت المرأة التي كان نصفها في الأسفل ونصفها الآخر 
فى صندوق الخارصين بمثابة الرجل هاملتء هذا إذا عنّ للمرء أن يطلق 
صفة الرجل على هاملت. لكنني» أنا يوريك» في الفصل الخامس» 
الأحمق» «كنت أعرفه» قوراتسيو» المشهد الأول أناء الموجود على 
خشبات مسارح العالم كلّها - «آه يا يوريك المسكين!؛ - الذي أعار 
جمجمته إلى هاملت؛ لكي يصوغ شخص مثل غروندغنس أو السير 
الورنس أوليفر» أفكاراً حول الموضوع» متقمصين شخصية هاملت: «أين 
ذهب تذبذبك؟ وأين صارت وثباتك؟» - لقد حملت إصبع هاملت العائد 
إلى غروندغنس على مجرفة شعبة الخدمات» ووقفت على الأرض الصلبة 
لمنجم الفحم الحجري في منخفض الراين» بين قبور عمّال المناجم 
والفلاحين وذويهمء أتطلع من الأعلى إلى السقوف المائلة لقرية 
الأوبرأوسم؛. محيلا المقبرة القرويّة إلى بؤرة الاستقطاب العالمي» ومحطة 
كهرباء فورتونا الشمالية إلى معبودي الإلهِيّ المؤثر» الشامخ» فاستحالت 
الحقول حقولاً دنماركية ومنطقة أرفت إلى منطقتي أنا البلطيقية التي تعفنت 
بين يدي في مملكة الدنماركيين - أناء «يوريك»» الغريب الأطوار» 
المشحون توترأًء المطقطق, والمترنم الذي لم ينشد ملاكاًء ومع ذلك؛ 
فإن ملائكة تيّار الضغط العالي أخذت تنشد بطوابير ثلاثة في اتجاه الأفق» 
حيث كولونيا ومحطة قطاراتها الواقعة بجانب الحيوان القوطيّ الخرافي 
التي زوّدت مكاتب الاستشارات الكائوليكية بالكهرباء من السماء فوق. 
حقول البنجر» بيد أن الأرض أعطت قوالب الفحم وجنّة هاملت» لكنها. 
لم تعط جنّة يوريك. أمّا الآخرون الذين لا علاقة لهم بالمسرح فعليهم 
البقاء في الأسفل - «أولئك الذين وصلوا إلى ذلك الحدٌ. - والبقية 
صمت» - فكانوا يُثقلون بالشواهد» مثلما أثقلنا على كاهل عائلة فليز بلوح 
ثلاثيّ من الصخر البركانيّ. لكن بالنسبة لى أنا أوسكار ماتسرات» 
بروتسكي: فإن يوريك يدا عهدا يدا رت أتأمل بسرعة» قبل 


08 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فوات الأوان» ودون أن أدرك العهد الجديدء أتأمل إصبعيّ الأمير هاملت 
المتداعيتين فوق مجرفتي . كان بديئاً قصير النفس» فجعلت غروندغنس 
بسأل في الفصل الثالث؛» المشهد الأوّلء عن الوجود والعدم؛ ثم نبذت 
هذا التساؤل الأخرق» بل وضعت أشياءً محددة إلى جانب بعضها: ابني 
وحجر الصوان الذي امتلكهء أبويّ المفترضين السماويين والأرضيين» 
الثياب الأربعة الأربع لجذتي؛ جمال أمّي المسكينة الخالدة على الصورء 
متاهة آثار الجروح على ظهر هربرت تروجنسكي» سلال رسائل البريد 
البولندي الماصة الدمّ؛ أمريكا - لكن ما هي قيمة أمريكا إزاء خط الترام 
رقم خمسة الذاهب إلى بروزن» تاركاً عطر الفانيلاً المنتشر على الدوام 
المنبعث أحيانا من جسد ماريا يهبّ على الوجه الجنونيّ المثلث لفتاة 
اسمها لوتسى رنفاند» متوسلا بالسيّد فاينغولد المطهّر الموت لعله يبحث 
عن شارة الحزب التي بات من الصعب العثور عليها في القصبة الهوائية 
لماتسرات؛ قائلاً لكورئيف» بل لأعمدة تيار الضغط العالي - إذ أنني 
توصلت شيئاً فشيئاً» شاعراًء على الرغم من كلّ شيء» بالحاجة إلى طرح 
سؤال يحتفي بي» أناء يوريك» المواطن الحقيقيٌّ»؛ ويوضع هاملت موضع 
التساؤل حسب ما يقتضي المسرحء قائلاً لكورنيف عندما نادى عليّ؛ لأن 
القاعدة يجب أن تربط بلوح الصخر البركانيَّ» قلت بصوت واطئ» 
يحدوني الأمل بالتحوّل أخيراً إلى مواطن» قلت - مقلداً غروندغنس 
قليلً» من وراء مجرفتي: «الزواج أو عدم الزواج؛ هذا هو السؤال.» 
ومنذ ذلك التحوّل في المقبرة» قبالة فورتونا الشمالية» تخليّت عن 
مرقص فندش في قلعة السباع» وقطعت اتصالاتي بفتيات ذائرة البريد 
والبرق» اللواتي كمنت مزيتهن الكبرى في إقامة الاتصالات بشكل عاجل 
ومرض . وفي مايو / آيار اشتريت لي ولماريا بطاقات لدخول السيئما. 
بعد العرض مضينا إلى مطعمء فأكلنا طعاماً جيّداً نسبيَاً. وأخذت أثرثر مع 
ماريا التي شغلها القلق والهِمٌ؛ لأن منجم كورت لاستخراج حجر الصوان 
قد نضب ولأن المتاجرة بالعسل الاصطناعي أصبحت فاترة ولأنني- مثلما 
قالت - بتّ أتكفل إعالة العائلة برمتها منذ شهور. فهدأت من روع مارياء 


4/اه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


قائلاً إن أوسكار فعل ذلك بكلّ سرورء ولم يكن لديه شيء أكثر أهمية من 
تحمّل مسؤولية كبيرة» ثم أطريت مظهرها وتجرأت أخيراً على التقدم 
بعرض الزواج. فطلبت مني مهلة للتفكيرء غير أن سؤالي اليوريكيّ بقي 
بلا إجابة أسابيع طويلة؛ أو أجيب عليه بتهرّب» إلى أن تم الرد عليه في 
آخر المطاف من خلال عملية إصلاح النقد. وذكرت لي ماريا طائفة من 
الأسباب» ثم صارت تتحسس كم قميصيء وتناديني بلقب «أوسكار 
العزيز؛» وقالت أيضاً بأنني طيّب القلب تماماً بالنسبة لهذا العالم» وطلبت 
مني أن أتفهمهاء وأن استمر بعلاقتي معها دون أي تعكيرء فتمنت لي 
الخير كلّ الخير مستقبلاً بصفتي نحّاتاًء وامتنعت مرّة أخرى بعدما ألححت 
عليها بالسؤال من أن تتزوجني؟ وبذلك لم يتحول يوريك إلى مواطن» إنما 
إلى هاملت؛ أي إلى شخص أحمق. 


.مه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


عذراء 5:3 


جاءت عملية إصلاح النقد مبكرة جِدَا فجعلتنى أحمق جنا 
وأجبرتني على إصلاح نقود أوسكار أيضاًء فوجدت نفسي مضطراً منذ 
ذلك الحين إلى كسب قوتي من حدبتي على الأقل؛ إذا ما عجزت عن 
كسب مال وفير. وكان بوسعي أن أظهر نفسي بمظهر المواطن الجيّد 
فالمرحلة التي أعقبت إصلاح النقد التي انطوت على جميع المقدمات 
اللازمة للتبرجز المزدهر آنيَاً - مثلما نراه اليوم - كان بمقدورها أن تنمح 
أوسكار ملامح برجوازية» بحيث يكون باستطاعتي المساهمة في إعادة 
البناء بصفتي زوجاً ومواطناً برجوازيًاًء ويكون باستطاعتي امتلاك ورشة 
نحت متوسطة الحجمء تؤهلني لدفع أجور ثلاثين فساعدا وعاملا مغاوناً 
ومتدرياً» ولأصبحت رجلا معتبراً ذا جاه بفضل عمارات المكاتب وقفصور 
شركات التأمين المشيدة حديثاً التي زيّن الرخام والحجر الجيريّ المرغرب 
واجهاتهاء بل لأصبحت تاجراً وبرجوازيّاً وزوجاً - لكن ماريا سلمتني 
سلة . 

حينئذ تذكر أوسكار حدبته فآل به الأمر إلى الفنّ! فقبل أن يوضع 
وجود كورنيف المتعلق بالشواهد موضع التساؤل بفعل إصلاح النقد 
فسخت, نعم أنهيت عملي» وصرت أجوب الشوارع من جديد, هذا إذا 
لم أجلس في غرفة غوسته كوستر المخصصة للسكن والطبخ؛ حيث 
أطقطق بأصابعيء بعد أن بليت بذلتي المفصلة شيئاً فشياً وبتّ مهملا 
قليلا. وعلى الرغم من أنني لم أدخل في شجار مع مارياء لكنني كنت 
أخشى الفجار مغهاء لذلك :صرت أغادر دار بلكه فى الضحى الباكرء 


084١ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لأزور في البدء الإوز في ميدان غراف-أدولف» ومن ثم الإوز المجتمع في 
حديقة القصرء فأجلس متصاغراً» غارقاً في أفكاري» ليس بمعنى الشعور 
بالمرارة؛ أجلس في ذلك المتنزه الحتايل لمكي لحمل وأكاديمية الفنون 
الجميلة المتجاورين في دوسلدورف. وكان المرء يجلس ويطيل الجلوس 
على مصطبة المتنزه إلى أن يتخشب فيصبح توّاقاً لمكاشفة الآخرين. شيوخ 
مسنون مرتبطون بالطقس» نساء موهوبات ذوات قريحة يتحولن على مهل 
إلى فتيات مثرثئرات» حسب الفصولء إوز أسودء أطفال يطاردون بعضهم 
صارخين» عشّاق يستطيع المرء أن يراقبهم فيضطرهم إلى الانفصال مثلما 
تنبأ المرء منذ البداية . كان البعض منهم يُسقط أوراقاًء فترفرف ساقطة» ثم 
يأنتي رجل يعتمر طاقية» تدفع له بلدية المديئة راتباً» فيشكها بعصا مديبة. 
لقد أتقن أوسكار وضع الجلوسء» فصار ينفخ نفخ سرواله بركبتيه 
على نحو متساو. بالطبع أثار انتباهي أولئك الفتيان الضامرون الذين كانوا 
يأتون برفقة فتيات يضعن نظارات» قبل أن تخاطبني تلك المرأة البديئة التي 
ارتدت معطفاً جلدياً بحزام يعود إلى الجيش النازي . بلا شك أن فكرة 
مخاطبتي جاءت من قبل الشبّان ذوي الملابس السوداء الفوضويّة . فعلى 
الرغم من مظهرهم الباعث على الخوف, لكنهم لم يتجرأوا على مخاطبة 
أحدب مباشرة» بلا لفٌ أو دوران؛ فلعلهم كان يخشون من القوّة الكامنة 
فيه» فأقنعوا المرأة المتلفعة بالجلد. فأتت» وانتصبت على قائمتين 
عريضتين» متلعثمة في الكلام» إلى أن طلبت منها الجلوس» فجلست» 
وبدت نظارتها غائمة» لأن بخاراًء بل ضباباً إلى حد ماء أتى من حوض 
الراين» فأخذت تتكلم وتتكلم» إلى أن طلبت منها أن تنظف نظارتهاء ثم 
تشرح لي مرادها بطريقة أكون قادراً على فمهما. حينئذ أشارت إلى الفتيات 
بالتقدم. فأطلق هؤلاء على أنفسهم لقب فتانين على الفورء أي فتّانين رسم 
وتخطيط وتشكيل» دون أن أطالبهم بذلك. قالوا إنهم يبحثون عن موديل. 
أخيراً صرحوا لي» ليس بدون تحمّسء بأنهم يرون فيّ موديلاً جيّداء ثم 
أخبروني حالاً إثر ما حركت إبهامي وسبابتي حركة سريعةً عن إمكانيات 
الكسب النقدي المتوفرة أمام موديل-الأكاديمية: بأن أكاديمية الفنون 


مه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الجميلة تدفع ماركاً وثمانين فنكاً في الساعة الواحدة - لتصوير الجسم 
العاري - فقالت المرأة البدينة إن هذا مستحيل - حتى لو دفعت له 
ماركين . 

لكن لماذا قال أوسكار نعم؟ فهل كان الفنْ يغريني؟ أم أن المكسب 
هو الذي أغراني؟ لقد أغراني الفن والمكسب معاً. فسمحا لأوسكار أن 
يقول نعما. فنهضت,ء مخلّفاً مصطبة المتئزه ورائي. إلى الأبد. ومعها 
إمكانية الوجود التي تزقرطضطة البعروه تبعت القيات ذرات النظارات 
اللواتي سرن سير الجنود وتعقبت الفتيان المحدودبين كما لو أنهم حملوا 
عبقريتهم على ظهورهم؛ فمرقنا من أمام مكتب العمل في شارع 
آيزكللربيرغ» ثم دخلنا مبنى أكاديمية الفنون المهدم جزئيا. وكذلك 
البروفيسور «كوخن؛ - ذو الذقن الأسود. والعينين الفاحمتيّ السواد 
والقبعة السوداء الجريئة المرتخية على رأسه والدوائر السوواء ميت لاله 
- لقد ذكرني بصوان السفرة أيَامِ شبابي - رأى فيّ الموديل النموذجي» 
مثلما رآه تلاميذه» أي في ذلك الرجل الجالس على مصطبة المتنزه. 
فطاف البروفيسور حولي وقتاً طويلاء وجعل عينيه تدوران حولي» ثم 
تمخط فانفلت غبار أسود من منخاريه؛ وتكلم وهو يخنق بأظافره السوداء 
عدوا غير مرئيّ: «الفنْ هو شكوى الاتهام, التعبير» إنه المعاناة! الفنّ هو 
الفحم الأسود الذي يتهالك مستنزفاً نفسه على الورق الأبيض .» 

لقد أصبحت موديلاً لهذا الفنّ المتهالك» فقادني البروفيسور كوخن 
إلى مشغل تلامذته» ثم رفعني بيديه ووضعني على قرص دوّار فأدراف لا 
ليجعلني أشعر بالدوار» إنما ليعرض بوضوح تفاصيل جسد أوسكار من 
جميع الجوانب. فتقدم ستة عشر حامل رسم من المسقط الجانبي 
لأوسكار. وألقيت محاضرة قصيرة أخرى من قبل البروفيسور الذي كان 
يتمخط غبار الفحم: مطالباً بالتعبير - كان مولعا بمفردة التعبير - فقال: 
تعبيراً أسود قاتماً يانساء مدعياً بأنني أعبّر عن صورة الإنسان المحطم 
المتشكيّ بتحدّ وبشكل سرمديّ؛ إضافة إلى ذلك؛ فأنني عبّرت أيضاً عن 
جنون قرننا الحاليّ؛ ثم درّى صوته مخترقاً حوامل الرسم: «لا ترسموا 


؟مره 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


هذا المشوّهء بل مزقوا أوصاله؛ اصلبوه؛ سمّروه بالفحم على الورق!» 
فكانت تلك إشارة البدء» إذ أن الفحم احتك ست عشرة مرّة خلف 
الحوامل الخشبية صارخاً» مستنزفء ساحقاً نفسه من أجل تعبيري - كانت 
حدبتي هي المقصودة - فسودته. جعلته قاتمة السوادء وعلمته بالخطوط ؛ 
لأن تلامذة البروفيسور كوخن تدافعوا كلهم بغية اللحاق بتعبيري من خلال 
السواد الكثيف» بحيث تحتم عليهم أن يبالغواء خاطئين في تقدير قياسات 
حدبتي» فكانوا يضطرون إلى تناول ورق رسم كبير الحجم على الدوام 
دون أن يتمكنوا من تجسيد الحدبة. وحينها أسدى البروفيسور كوخن 
نصيحة رائعة لمستهلكي فحم الرسم بأن لا يبدءوا بمعالم حدبتي الكثيفة 
التعبير - المتمردة على جميع الأحجام»؛ حسب ادعائه - إنما عليهم البدم 
من الخمس العلويٌّ للورقة» وأن يسوّدوا رأسيّ أوّل الأمر في أقصى زاوية 
من جهة اليسار. 

أخذ شعري الجميل يلمع بنَا داكناء إذ جعلوني غجريًاً بذوائب» ولم 
يلحظ أيّ من الفئّانين الشباب الستة عشر بأن عينيَّ أوسكار زرقاوان. 
وعندما أمعنت بصري أثناء الاستراحة - لأن أي موديل له الحق في 
الاستراحة لمدة ربع ساعة بعد ثلاثة أرباع الساعة من الوقوف- في الجزء 
العلوي من يسار أوراق الرسم فاجأني في الواقع وجهي المهموم المتشكيّ 
اجتماعياًء المجسّد أمام الحوامل» لكنني افتقدت قرّة الإشعاع الكامنة في 
عينيّ الزرقاوين؛ مما أذهلني قليلاء وأثار حيرتي: بحيث أمكن رسم 
الإشعاع بوضوح وجاذبية» تلوّت آثار الفحم الحجري القاتمة السواد 
وضاقت متفتتة فوقي حتى وخزتني. فخاطبت نفسي» واضعاً حريّة التعبير 
فنا بنظر الاعتبار: لقد أدرك أبناء ربّات الفنّ الفتيان أو الفتيات المتورطات 
في الفن شخصية راسبوتين فيك؛ فهل سيكتشفون غوته الراقد في أعماقك 
فيوقظونه ليجسدونه على الورق؛» ليس من ناحية تعبيرية» إنما بقلم فضّة 
معتدل؟ لكن التلامذة جميعهم لم يتمكنواء مهما بلغت موهبتهم: ولا 
حتى البروفيسور كوخن» مهما كان خطه متميزاً بن وعم عبرو الحيددة 
لأوسكار يمكن أن تهدى للأجيال القادمة. غير أنني كنت أكسب أجرا 


:08 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


جيّداً وحظيت بمعاملة محترمة» فكنت أقف ست ساعات على القرص 
الدوار» حيث يدار وجهى داننا فى اتجاء المخسلة السدودة المخرى: 
ومن ثمة يدار أنفي في اتجاه نافذة المرسم الرمادية الغائمة الزرقاء زرقة 
السماء» وأحياناً في اتجاه عازل خشبي أسبانيّ الأصل» متبرعاً بتعبير كان 
يجلب لي عائداً يبلغ ماركاً وثمانين فنكاً في الساعة الواحدة. 

وعقب بضعة أسابيع نجح التلامذة في رسم عدد من الصور اللطيفة » 
ذلك يعني أنهم اعتدلوا بعض الشيء فيما يتعلق بالاستخدام المكئف 
للفحم» وتوقفوا عن المغالاة غير المحدودة فى تقدير قياسات حدبتى» 
فصاوا يضعونني على الورق بين الحين والآخر من هامتي إلى حافة قدميّ» 
ومن أزرار السترة على قفصي الصدري إلى الموضع الناتئ المحاذي 
لحدبتي تحت قماش بذلتي. بل أنني عثرت في الكثير من أوراق الرسم 
على مكان لخلفية اللوحة» فقد بدا الشبّان متأثرين بالحرب على الرغم من 
عملية إصلاح النقدء فكانوا يشيدون الخرائب والأنقاض بثقوب نوافذها 
الشاكية السوداء ورائي» جاعلين مني متشرداً جائعاً يائساً بين جذوع 
الأشجار المقطوعة» بل أنهم اعتقلوني؛ ناصبين بالفحم الأسود المثابر 
سورا من الأسلاك الشائكة» مبالغا فيه» خلف ظهري» ثم وضعونى تحت 
رقابة أبراج الحراسة المتوعدة في خلفية اللوحة؛ فكان عليّ أن أمسك 
بقصعة من الصفيح؛ إضافة إلى نوافذ المعتقل أشاعت جور من الإثارة 
البيانية خلفي وعلى جانبيَ - لقد حشروا أوسكار في ثياب السجناء - فما 
كلّ هذا الذي حدث من أجل التعبير الفتى! فبقيت على وضعي موديلاً 
للرسم؛ لم أحرك ساكناً حتى بعد أن سوّدوني»؛ جاعلين مني أوسكار- 
الغجريّ ذا الشعر الأسودء واضعين ليّ عينين فحميتين أبصرتا البؤس كله 
بدلا من العينين الزرقاوين؛ نعم بقيت على وضعي على الرغم من 
بالسرور حين أحالني النححاتون المعروف عنهم بأنهم لا يحتاجون بالضرورة 
إلى خلفيات ذات طابع آني معاصرء أحالوني إلى موديل» أي إلى نموذج 
مجرد من الثياب. 


هم 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لم يخاطبني التلامذة تلك المرّة» إنما الأستاذ شخصيًا. وكان 
البروفيسور «ماروعن)» صديقا لبروفيسور الفحم» أستاذي كوخن. فذات 
يوم وقفت ساكناً في مرسم كوخن الخاص الذي كان عبارة عن مكان مظلم 
مليء بآثار رسوم الفحم الموضوعة في إطارات» لكي يقيدني الأستاذ 
الملتحي بخطه المتميز على الورق» زاره بروفيسور ماروهن الذي كان 
قصير القامة متيناً وفي الخمسين من عمره؛ الذي بدا بمعطفه التشكيلي 
قريب الشبه بالطبيب الجرّاح؛ لولا أنه اعتمر قبعة إقليم الباسك المتربة التي 
شهدت على هويته الفنيّة. فرمقني ماروهن الذي كان مغرماً بالأشكال 
الكلاسيكية؛ مثلما لاحظت على الفورء بنظرة عدوانيّة بسبب تقاطيعي 
الجسدية. فقال ساخرا من صديقه: ألم يشبع كوخن من موديلات الغجر 
التي سوّدها حتى ذلك الحين والتي جلبت له لقب (كوخن الغجر) 
المتداول بين أوساط الفئّانين؟ فهل سيحاول الآن مع المشوّهين» أم أنه 
عقد النيّة على أن يبدأ بتخطيط مرحلة الأقزام الأكثر رواجأ بعد انتهائه من 
مرحلة الغجر الرائجة؟ 

لكن بروفيسور كوخن قلب سخرية صديقه إلى آثار فحم غاضبة؛ 
حالكة السواد: فأصبحت تلك الصورة الأشد سواداً من بين جميع الصور 
التي رسمها لأوسكارء بل كانت في الواقع عبارة عن سوادء ماعدا بعض 
نقاط الضوء الشحيحة على عظم الوجنتين والأنف والجبهة واليدين التي 
ضخمها كوخن باستمرار وزودها بمفاصل مصابة بالنقرس» قوية التعبير» 
في منتصف رسومه الفحمية الماجنة. بيد أنني رأيت فيما بعد عيوناً زرقاء 
في تلك اللوحات داخل المعارض» عيوناً فاتحة مضاءة. وليس عيوناً تشم 
ظلاما. لقد أرجع أوسكار هذه الحالة إلى تأثير النحات ماروهن الذي لم 
يكن سمّاح فحم تعبيرياًء بل كلاسيكياً برقت أمامه عينايٌ بوضوح غوتيّ» 
ولعل نظرة أوسكار هي التي أغرت النحات ماروهن الذي كان لا يحب إلا 
التناسق وحده فرأى فىّ موديل نحت» أي موديله النحتى الخاص به. وبدا 
مرسم ماروهن ساطع النور مغبراًء وخالياً إلى حدّ ماء ليس فيه أي عمل 
منجز. لكن هياكل التشكيل انتصبت جاهزة للأعمال النحتية فبدت على 


كمه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


درجة متناهية من الدقة والتكامل لدرجة أن الأسلاك والحديد وأنابيب 
الرصاص الملتوية المجردة أعلنت حتى وإن كانت خالية من صلصال 
التشكيل عن تجانس مستقبليّ متكامل الهيئة. فصرت أقف موديلاً للنحات 
خمس ساعات يوميّاً فأتقاضى ماركين في الساعة الواحدة. فأضحى يعَّلم 
نقطة ما بالطباشير على القرص الدوّارء ليشير بعدها بأن عليّ الوقوف 
بثبات على ساقي اليمنى. إن خطاً مستقيماً منطلقاً من الكاحل الداخلي 
لساق الوقوف نحو الأعلى لامس خسوف الرقبة بين عظمي الترقوة. كانت 
الساق اليسرى بمثابة ساق مهملة؛ لكن هذه مجرد تسمية مضللة. فإذا 
كنت منحرفاً قليلاً إلى الجانب وبارتخاء؛ فإنني لم أكن قادراً على زحزحة 
تك الشاق أو تحريكها مرونة لآن الساق الميهلة فكت أنقيا بدائرة 
طباشير على القرص الدوار. 

وخلال الأسابيع التي انتصبت فيها موديلاً للنحات ماروهن لم يوفق 
في العثور على وضع ثابت لذراعيّ؛ مثلما كان الحال مع ساقيّ» حينئذ 
توجب عليّ أن أترك ذراعي اليسرى معلقة وأطوي اليمنى على رأسي» ثم 
اضطررت إلى عقدهما أمام صدريء؛ أو شبكهما أسفل حدبتي» أو أنني 
أخذت أسندهما إلى خصريّ. كان هناك ألف احتمال» وقد قام النححات 
بتجريبها كلّها علىّ وعلى السقالة الحديدية المزودة بأنابيب الرصاص 
المطاوع . ولمًا اتخلّ قراراً في نهاية المطاف وبعد شهر كامل من البحث 
الدءوب عن وقفة مناسبة بأن عليّ إمّا أن أعقد ذراعيّ خلف رأسيء أو أن 
أكون بلا ذراعين؛ فيصبني في قالب النحت على شكل تمثال نصفيّ» شعر 
ماروهن بالإرهاق من خلال تركيب السقالة وتغييرهاء فصار في الواقع 
يتناول الصلصال من صندوق الصلصالء» ويبدأ بالمحاولة؛ لكنه سرعان ما 
يصفع الطين الرطب غير المتناسق في الصندوق من جديد» ثم يتربع أمام 
السقالة ويرمقتى والسقالة معاً بنظرات ثاقبة» مرتجفاً وأصابعة ترتجف معه 
من اليأس: كانت السقالة بالغة الكمال! فيستسلم وهو يقذف بحسراته» 
متظاهراً بوجع الرأس» لكن دون أن يغيظ أوسكار» متخلياً عن كلّ شيء: 
منحيا السقالة الحدباء بساقيها الثابتة منهما والمهملة وبذراعيها المرفوعتين 


/امه6 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بأنابيب الرصاص والأصابع المثبتة على الأسلاك» المتشبثة بالقفا 
الحديدي؛ نحو الزاوية» إلى جانب السقالات الأخرى التي توقف إنجازها 
مبكراً؛ فأخذت قطع الخشب - التي يطلق عليها اسم الفراشات أيضاً - 
التي كان عليها أن تتحمل ثقل الصلصال تترنح بهدوء في سقالة حدبتي 
الواسعة» ليس بتهكم» بل أدركت عدم جدواها. 

بعد ذلك شربنا شاياً ثم تحدثنا سويعة» سدد حسابها النحات 
باعتبارها ساعة عمل. فروى لى عن الأزمان السابقة عندما كان مايكل 
إنجلو فتاً يحشو الطين قناطيرٌ بلا حساب في النقالات» فيصنع التماثيل 
التي تحطم معظمها أثناء الحرب. ورويت له بدوري عن عمل أوسكار 
نحاتاً للصخر وخطاطا. ثم تحدثنا بلغة أهل المهنة قليلاً إلى أن أخذني إلى 
تلامذته الذين رأوا فيّ موديلاً للنحت» فنصبوا السقالات. وإذا ما دل طول 
الشعر على الصفة الجنسية؛ فإن ستة من تلاميذ بروفيسور ماروهن كانوا 
فتيات؛ من ضمنهن أربع فتيات قبيحات وائنتان جميلتان» ثرثارتان» 
لكنهما كانتا فتاتين حقيقيتين. لم أكن قد شعرت بالضيق والخجل قطء بل 
أن أوسكار استمتع بدهشة الفتاتين النحاتتين الجميلتين المثرثرتين» حين 
تفحصتانى للمرّة الأولى عندما انتصبت على القرص الدوّار» فلاحظتا 
بشيء .من الحيرة والغك بآن وسكا حمل عه عضا تناتلياً يمكن مقارلته 
عند الضرورة بالأعضاء الأخرى التى يطلق عليها لقب الخاصية الرجولية 
الطبيعية» على الرغم من حدبته وقامته الشحيحة الطول. وبدا الوضع مع 
تلامذة الأستاذ ماروهن مختلفاً بعض الشىء مقارنة بالأستاذ نفسه. إذ 
تصير] البتقا لات ينك يوميدة ». وكزاعوا كالعائر 3ه تقصاروا بللكرة السلفنال 
بين أنابيب الرصاص المثبتة بنزق وبلا إتقان» مسكوئين بالتعجل العبقري» 
بيد أنهم علّقوا القليل من «فراشات؟ التثبيت الخشبية في سقالة حدبتي: 
فحالما وطأ ثقل صلصال التشكيل الرطب الأنفاس في السقالات» مانحاً 
أوسكار ملامح وعرة شديدة القسوة» مال أوسكار المنحوت توا عشر 
مرّات» فسقط رأسي بين قدمي» وانهار الصلصال من أنابيب الرصاص» ثم 
هوت حدبتي على باطن ركبتي» حينئذ أدركت قدر الأستاذ ماروهن الذي 


م6048 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كان بتّاء سقالات من الطراز الأوّل» بحيث أنه لم يعد بحاجة إلى ستر 
السقالة بتلك المادة الزهيدة. 


وصارت دموع التحاتات القبيحات» لكن الموهوبات» تسفح حالما 
يتساقط طين-أوسكار منهاراً من سقالة-أوسكارء فى حين كانت النححاتات 
الجميلات الثرئرات يضحكن كلما يبصرن اللحم ينسلخ عن العظم انسلاخاً 
رمزيّاً نوعا ما وبشكل متسارع. وبعدما تمكن تلاميذ النحت من إنجاز 
بضعة تماثيل لطيفة مهذبة بعد أسابيع عديدة» صنعوها من الطين في البدءء 
ومن ثمة من الجبس والبريق بغية إقامة معرض بمناسبة انتهاء الفصل 
القبيحات الموهوبات والجميلات الثرئارات. فبينما تمتعت الشابات 
البشعات اللواتي بشيء من الحسٌ الفئّي وهن يقلدن رأسي وأعضائي 
وحدبتي بعناية» لكنهن يهملن جهازي التناسلي بسبب الحياء الغريب» أو 
يجسلنه ر يقة مغفلة حمقاء؛ فإن الشابات الظريفات ذوات العيون 
الواسعة والأصابع الرقيقة الفاتنة» لكن غير الماهرة» أظهرن اهتماماً ضئيلاً 
بتقاسيم جسديء لكنهن أظهرن مثابرة فائقة الدقّة في تشكيل أعضائي 
التناسلية التى لا يستهان بها. ولكى لا أنسى فى هذا السياق الشبّان الأربعة 
ذي أخاديد؛ صانعين منّى مربعاًء جاعلين من أوسكار الذي أهملته 
القبييحات ونمقته الظريفات بأسلوب طبيعيَ مكتنز مجرد قطعة خشب مربعة 
جاف. وبغض النظر عما إذا كان الأمر يتعلق بعينيّ الزرقاوين أم بالمدفأة 
الكهربائية التي جمّعت النحّاتين حولي» أي حول أوسكار العاري: فإن 
رسامين كنباباً كانوا يَوُوْرُوَن النشحاتات الوسيمات اكتشفوا ففبة ما جديرة 
بالرسم إِما في زرقة العينين» أو في جلدي المتوهج الأحمرء حمرة 
السرطان» والمضاء بسطوع. فاختطفوني من أستوديو النئحت والرسم 


44م 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الواقع في أرضية مستوية إلى الطوابق العليا ثم خلطوا الأصباغ في ألواح 
اللون منذ تلك اللحظة بما يتناسب ولون جسمي. 

كان الرسامون متأئرين جدّاً بداية الأمر بنظرتي الزرقاءء فبدا كما لو 
أنني نظرت إليهم بزرقة عميقة لدرجة أن فرشاة الرسم أرادت أن تصورنني 
أزرق على نحو كليّ تام. فذبل لحم أوسكار السليم وشعره البئي المتموج 
وفمه النضر المتورّد» وبدت هذه المعالم متعفنة في ظل درجات اللون 
الأزرق الجنائزية؛ على أي حال» ثمة اخضرار محتضر هنا أو هناك» 
واصفرار تقيؤ حشر بين خرق لحميّ الزرقاء فعجل في التفسخ. وحصل 
أوسكار على ألوان جديدة بعدما اكتشف «أولا» أثناء الأعياد التنكرية التي 
أحتفل بها في أقبية الأكاديمية أسبوعاً كاملاً وقدمها للرسامين بصفتها إحدى 
يات القن قهل سدث ذلك في يوم الأثنين .عن الكرتفال؟ نعف كان اليوم 
يوم الاثنين» حين قررت الاحتفال والذهاب إلى الأكاديمية متنكراًء 7 
أوسكار المتنكر وسط الحشد. وقالت ماريا عندما رأتني أمام المرآة: «ابق 
في البيت يا أوسكار. لأنهم سيدوسونك بالأقدام.» لم أعائتي على ارتاء 
الزي التنكري» وقطعت بقايا يه غيالا بابر 
مصحوبة بالهذر. محولة إياه إلى حلّة مهرّج. في البدء طاف بمخيلتي 
أسلوب الرسّام الأسباني «فيلائكيث.» ثم تخيّلت نفسي قائد الحرب 
نارسس أو الأمير أويغن. وحين وقفت قبالة المرآة الضخمة التي أعانتها 
أحداث الحرب لتحصل على شرخ قطريّ يحرّف إلى قدر ما الصورة 
المنعكسة؛ إذ برز بوضوح كل شيء صارخ اللون فضفاض أو مفتوق أو 
مربوط بالأجراس والخلاخل مما دفع بابني كورت إلى الاستغراق في 
القهقهة والوقوع في نوبة سعال» فخاطبت نفسي أخيراً بصوت خفيض: 
الآن أصبحت يوريك المهرّج يا أوسكار. لكن من أين ستأتي بالملك الذي 
ستهرّج له؟! فخطر في ذهني وأنا في الترام الذاهب إلى بوّابة راتنغ» 
بالقرب من الأكاديمية» بأنني لم أقم بإضحاك الشعب المتنكر بزيٌ رعاة 
البقر أو بزيّ الفتيات الأسبانيات» إنما أثرت الرعب في قلبه. فصار الناس 
يتخذون مسافة فاصلة بيني وبيئهم» لذلك حظيت بمقعد للجلوس على 


09٠ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


الرغم من الزحام الخانق في الترام. وأمام الأكاديمية هرّ رجال الشرطة 
هراواتهم المطاطية الأصيلة الثابتة اللون» غير المتنكرة. كان الحفل الذي 
أقامه الفنانون الشباب تحت عنوان «برْكة ربّة الفنّ؛ مكتظا بالحاضرين» 
ومع ذلك حاولت الجموع اقتحام المبنى» فدخلت في مصادمات مع 
الشرطة؛ كان البعض منها دمويّاًء لكنها بدت مصادمات ملوّنة على أية 
حال. وحين أنطق أوسكار جلجله الصغير المعلقٌ على ذراعه اليمنى» 
انشطر الحشد نصفين» وأدرك أحد الشرطة حجمي الحقيقي من خلال 
تمرسه في المهنة فألقى عليّ بتحية من الأعلى» واستفسر عن مرادي» ثم 
رافقني ملرّحاً بهراوته إلى الأقبية المحتفلة حيث كان اللحم يغلي» بيد أنه 
لم ينضج بعد. فعلى المرء أن لا يعتقد بأن حفل الفتانين هو حفل يحتفل 
فيه الفتانئرن وحدهم., إنما وقف معظم طلبة الأكاديمية بوجه صارم جديّ» 
إن لم يكن مرسوماً بالألوان» وراء طاولات طريفة مبتكرة» لكنها متداعية 
بعض الشيء.» ليبيع البيرة والشمبانيا الرخيصة والسجق والعرق المسكوب 
بالكؤوس بطريقة سيئة؛ بغية الحصول على قليل من الإيراد الإضافي. وقد 
استأثر بحفل الفئّانين المواطنون الذين كانوا ينثرون النقود بلا حساب مرّة 
واحدة في العام؛ راغبين في العيش والاحتفال على غرار الفئّانين. وبعدما 
قمت طوال سويعة بإدخال الرعب في قلوب الأزواج على السلالم والزوايا 
وتحت الطاولاات» حيث حاولوا انتشال المتعة والإثارة من المتاعب المثيرة 
للإزعاج» تصادقت مع صينيتين لابد أنهما قد حملتا في عروقهما دماءً 
إغريقية؛ لأنهما طبقتاً نوعاً من الحبّ كان الناس يتغنون به في جزيرة 
ليسبوس . على الرغم من أن إحداهما ألحّت على الأخرى بسرعة وبأصابع 
عديدة؛ لكنهما تخلتا عنّ المواضع الحساسة فتركتاني بسلام» وقدمتا لي 
عرضاً ممتعاً نوعاً ماء ثم احتسيتا معي الشمبانيا الساخنة؛ وجربتا بموافقة 
مني صلابة حدبتي المتينة الملمس» الصلدة حمّاء حتى شعرتا بفرح غامر 
- مما أكد فرضيتي القائلة بأن الحدبة تجلب الحظ للنساء. ومع ذلك فقد 
جعلنى هذا النمط من معاشرة النساء أشعر بالحزن كلما طال أمده؛ فأخذت 
الأفكا راعين بي وفسرقدي أبور الساية قلقاترسيك الحمباز 


09١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


المضروب على برلين بالشمبانيا فوق ظهر الطاولة» وأعملت فرشاتي 
بالجسر الجوّي» وانتابني اليأس فيما يتعلق بالصينيتين اللتين لم تتمكنا من 
التفاعل فيما بينهماء بل أصابني اليأس أيضاً فيما يتعلق بالوحدة الألمانية» 
ففعلت ما لم أفعله من قبل: إذ أخذ أوسكار يبحث عن معنى الحياة بصفته 
يوريك. وحالما توقفت السيّدتان عن تقديم ما هو جدير بالمشاهدة - لقد 
انتابتهما نوبة عارمة من البكاء خلفت آثارأ فاضحة على وجهيهما المزينين 
بالطريقة الصينية - نهضت بفتوقي وثيابي الفضفاضة وخلاخيلي وأجراسي 
الصاخبة؛ راغبا في الذهاب إلى الدار بمقدار الثلثين» باحثا في النلث 
المتبقي عن حدث تنكريٍّ احتفاليَ» فأبصرت - كلاء إنما هو الذي كلمني 
- رئيس العرفاء لانكس . 

فهل أنتم تتذكرونه؟ لقد التقينا به عند ساتر الأطلسي في صيف العام 
الرابع والأربعين»؛ حيث كان يحرس الخرسانة ويدخن سجائر الأستاذ 
بيبرا. وأردت أن أطلع السلّم الذي جلس عليه الناس لصق بعضهمء 
وأعطيت لنفسي ناراء وإذا به يربت على كتفي» ثم نطق رئيس عرفاء 
الحرب العالمية الأخيرة: «هذا هو أنت يا زميلي؟ هل لديك سيجارة لي؟؛ 
فليس من العجب أن أتعرّف عليه فوراً عبر طريقته الكلام» وكذلك لأن 
حلته التدكرية كانت رمادية عسكرية. ريما ما كنت سأنعش تلك المعرفة لو 
لم يضع رئيس العرفاء والرسّام ربّة الفنَ عينها على ركبته الرمادية بلون 
الميدات» 

فدعوني أتحدث في البدء إلى الرسّام ثم أعرّج فيما على وصف ربّة 
الفن. إذ أنني لم أعطه السيجارة وحدهاء إنما أعملت فيه قدّاحتي وقلت 
حين سحب أوّل نفس من الدخان: «هل تتذكر يا رئيس عرفاء لانكس؟ 
مسرح بيبرا الميداني؟ غامض» بربريٌ» متضجر؟!» فارتعب الرسّام عندما 
تكلمت معه بهذه الصيغة» فأسقط. ليس السيجارة» بل ريّة الفنّ من 
ركبته. فتلقفت الطفلة الثملة الطويلة الساقين» واعدتها إليه ثانية. أثناء ما 
كناء لانكس وأناء نتبادل الذكريات حول النقيب هيرتسوغ الذي منحه 
لانكس لقب المهووسء» ثم شتمهء وأحيينا ذكر أستاذي بيبرا والراهبات 


لاحك 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


اللواتي بحثن عن السرطان في هليون رومل» فأصابتني الدهشة إثر ظهور 
رئة الفن. لقد جاءت كملاك» معتمرة قبعة من الورق المضغوط على نحو 
مجسّم مثل الورق الذي يستخدم لحفظ بيض التصديرء عاكسة بمظهرها 
فتنةٌ فيها جنوح لحرفة الفنّ» فتنة حريّة بمن سكن السماء» على الرغم من 
سكرها الشديد وأجنحتها المنكسرة الحزينة . وأوضح لي الرسّام لانكس: 
«هذه هي أولا. لقد تعلمت مهنة الخياطة في الواقع» لكنها تريد أن تشتغل 
بالفنّ» وهذا شيء لا يناسبني أبداً؛ لأنها تستطيع أن تكسب شيئاً بالخياطة» 
لكن بالفن فلا.» حينئذ رفع أوسكارء الذي كان يكسب بالفنّ نقوداً 
محترمة» الخيّاطة أولا إلى مرتبة موديل وربّة فنّ سيقدمها لرساميّ أكاديمية 
الفنون الجميلة. فتحمس لانكس لأقتراحى اللارجة أنه اسل من ليك 
ناذك سجائر دقعة واحدةة وتقدم يمن تالجرحة يدغوة لزيازة موس ل 
اشترط أن أقوم أنا بدفع أجرة التاكسي التي ستأخذنا إلى المرسم. فركبنا 
في التاكسي على الفورء مخلفين الحفل التنكريّ ورائناء وقمت أنا بتسديد 
الأجرة» بينما قام لانكس بتحضير قهوة لنا على شعلة موقد صغير داخل 
مشغله الواقع في سيتاردهشتراسه» من شأنها أن تنعش ربّة الفن. فبدت 
صاحية إلى حدٌّ ما بعدما أعنتها بسبابتي اليمنى على التقيؤ. 

فلاحظت حينئذ بأنها بدت مندهشة باستمرار من خلال عينيها 
الفاتحتي الزرقة» وسمعت صوتها الذي بدا مزقزقاً بعض الشيء صفيحيّاًء 
لكنه لم يخلو من جاذبية مؤثّرة. حين فاتحها الرسّام لانكس باقتراحي 
المتعلق بوقوفها موديلاً في أكاديمية الفنون الجميلة» بلهجة آمرة؛ أكثر مما 
هي نبرة اقتراح» رفضت ببّة الفنّ في البدء العمل موديلاً في أكاديمية 
الفنون الجميلة؛ لأنها أحبّت أن تكون مخلصة للرسّام لانكس وحده. بيد 
أن الرسّام وجّجه إليها صفعة جافة بيده الضخمة. وبلا كلام» صفعةً لا 
يوجهها عادةً إلا الفنانون الموهوبون» ثم سألها مرّة ثانية» وضحك 
بارتياح» بل بطيبة قلب؛ عندما أعلنت موافقتها على العمل موديلا في 
أكاديمية الفنون الجميلة؛ ذلك العمل الذي سيدرٌ عليها عائداً مالياً جيّداً 
وهي تشهق باكية بكاء الملائكة. وعلى المرء أن يتصور بأن قامة أولا 


094 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بلغت متراً وثمانية وسبعين ستتمترأًء فكانت رشيقة القوام» ظريفة؛ هشَّة 
تذكّر بالرسّام الإيطالي بوتيشللي والرسّام الألماني كراناخ على السواء. 
أخذنا نقف موديلاً مزدوجاء فكان لحمها الرشيق الناعم» الذي أطبق عليه 
زغب ناعم» يشبه لحم السرطان» وشعر رأسها أشقر شقرة التبن خفيفاً 
ومسيلا.. ما شعر العانة فقل كان احمر مجقداء نبت فوق عغلف صغير. 
وكانت «أولا» تزيل شعر إبطيها كلّ أسبوع . .ومثلما كان متوقعاً لم يستطع 
تلامذة الفنَ إنجاز أي عمل بالاعتماد عليناء فكانوا يجعلون ذراعيها 
طويلتين: ورأسي كبيراًء واقعين بالأخطاء التي يرتكبها المبتدءون: فلم 
يتمكنوا من تجسيد أحجامنا الحقيقية . 

لكن بعدما اكتشفنا راسكولنيكوف والعنزة» نشأت صور بدت متناسبة 
مع مظهر أوسكار وربّة الفن. فصوّروها نائمة وأنا أقرم بإرعابها: الشهواني 
والحوريّة. أو أنا مقرفصاً وهي تنحني فوقيّ بئديين صغيرين» مرتعشين 
قليلاً بفعل البردء وتداعب شعري: الجميلة والوحش. أو هي راقدة» وأنا 
بين ساقيها الطويلتين» أعبث بقناع حصان ذي قرن: السيّدة ووحيد القرن. 
وأنجز ذلك كله بأسلوب العنزة أو راسكولنيكوف» مرّة بالألوان» وأخرى 
بدرجات محترمة من اللون الرمادي» وثالثة بفرشاة دقيقة مليئة بالتفاصيل» 
ومن ثم بمزاج العنزة ذات المقشطة العبقرية» وأخرى بخطوط غامضة 
لمّحت تلميحاً إلى أولا وأوسكار» أخيراً اهتدى راسكولنيكوف إلى 
السريالية بمعونتنا: فتحوّل وجه أوسكار بفضل السريالية إلى ميناء ساعة 
أصفر صفرة العسل» تماماً مثل ميناء ساعتنا الأرضية الضخمة» ثم تفتحت 
في حدبتي الزهور المتسلقة آلياً التي كان على «أولا» أن تقطفهاء ثم 
أجلسوني في البطن المبقور لأولا المبتسمة من الأعلى» الطويلة الساقين 
من الأسفل» مقرفصاً بين طحالها والكبدء وأتصفح في كتاب مصوّر. 
كذلك خُشرنا فى حلل تنكريّة: فجعلوا من أولا كولمبينه» أي الحمامة» 
عشيقة «أرليجينو»» ومئي ممثلاً حزيتاً مدهوناً بالمساحيق البيضاء. ثم ترك 
الأمر لراسكولنيكوف - كان يدعى هكذا لأنه كثيراً ما كان يتحدث عن 
الجريمة والعقاب - ليرسم اللوحة العظيمة التي أظهرتني جالساً عارياً على 


04 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الفخذ اليسرى لأولا الناعم الزغب» أي أنه أظهرني مثل طفل مشوّه النموء 
بينما ملت هي العذراء؛ فهجع أوسكار ساكنا بصفته يسوع . 

وتجولت هذه اللوحة بعد ذلك في الكثير من المعارض» حيث 
منحت اسم: عذراء 44 - وقد أظهرت كفاءتها كملصق» فلمحتها ماريا 
المحافظة» فأحدثت ضحّة عائلية» ومع ذلك تم بيعها لرجال صناعة من 
منطقة الراين بمبلغ تقديري - لاشكٌ أنها معلقة الآن في قاعة اجتماعات 
إحدى العمارات الشاهقة» لتترك تأثيرها في نفوس أعضاء مجلس الإدارة. 

كانت تلك الأعمال العبثية الموهوبة المرتبطة بحدبتي وتقاطيع جسدي 
ترفه عنّى. إضافة إلى أنناء أولا وأناء» كنا نتقاضى «ماركين» ونصف 
«المارك» على الساعة الواحنة هن الرقرق مركياد بوديها» نشي النظر 
عن مواهبنا. فشعرت أولا بالارتياح لعملها موديلاً للرسم» فصار الرسّام 
لانتكس ذو اليد المتينة يعاملها بشكل أفضل منذ أن بدأت تجلب النقود إلى 
الدار؛ ولم يعد يضربها إلا بعد أن تطالبه تجريداته العبقرية باستخدام يده 
الغاضبة. وعلى هذا المنوال مثّلت بنظر الرسّام الذي لم يستخدمها قط 
بمثابة موديل من ناحية بصرية محض ربّة فنّ بمعنى ما؛ إذ أن تلك 
الصفعات التي كان يكيلها لها وحدها هي التى منحت يده تلك الطاقة 
الإبداعية الحقيقية. وكانت أولا رصني ل الواقع بهشاشتها البكائية» 
التي لم تكن في الأصل سوى صلابة الملائكة» على القيام بأعمال عنف؛ 
ومع ذلك تمكنت من السيطرة على نفسي» فكنت أدعوهاء إذا ما نازعتني 
شهوة إلى السوط» إلى محل فطائرء فأقودها من يدها بشيء من التكبّر 
الذي اكتسبته من خلال تعاملي مع الفئّانين» كما لو أنها نبتة فارعة إلى 
جانب تقاطيع جسدي» فأتجوّل معها عبر «كونغسشتارسه؛ الضاج بالناس 
المبحلقين» حيث أشتري لها سراويل داخلية بنفسجية وقفازات وردية. 

غير أن الأمر أصبح متخلفاً مع الرسّام راسكولنيكوف الذي كان 
يتعامل مع أولا تعاملاً حميماً» دون أن يسيء إليها. فكان يضعها فوق 
القرص الدوار بساقين منفرجتين» إلا أنه لم يقم برسمهاء إنما كان يجلس 
في كرسيّ بلا مسند على بعد خطوات؛ يجلس قبالة عانتهاء ويمعن بصره 


وومةه 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


في اتجاه العانة» ثم يتهامس بصوت ملم بكلام عن الجريمة والعقاب؛ إلى 
أن ترشح عانة ربّة الفنَ بالرطوبة» فتنفرج» فيحظى راسكولنيكوف بنتيجة 
مريحة محررة من خلال التطلع والكلام المجرّد» فيقفز من مقعده» ليجسّد 
عذراء 44 على حامل الرسم بضربات فرشاة رائعة. فصار راسكولنيكوف 
يرمقنى أحياناً بنظراته» حتى وأن فعل ذلك لأسباب لا علاقة بها بأولاء 
معرباً عن رأيه ذات هزّة بالقول إن شبعاً ما ينقصني . فتحدت عن قراغ نما 
بين يديّ»ء فصار يحشر بين أصابعي حاجيات متتابعة كانت تخطر في 
مخيلته السريالية بوفرة. وهكذا قام بتسليح أوسكار بمسدس» وتركني » 
بوصفي يسوعء أصوبه نحو العذراء. توجب عليّ أن أمسك بساعة رمليّة 
ومرآة أمام وجههاء فشوهتها بصورة بشعة؛ لأن المرآة كانت محدذبة» ثم 
حمّلني مقصّات وعظام سمك وسماعات تلفون وجماجم وطائرات صغيرة 
وعربات مصفّحة وبواخر عابرة المحيطات؛ ومع ذلك فإنني لم أملأ 
الفراغ» مثلما لاحظ راسكولنيكوف على وجه السرعة. وبدا أوسكار 
متوجساً من أن يأني ذلك اليوم الذي سيجلب فيه الرسّام ذلك الشيء 
المخصص لى وحديء المهيأ أصلاً من أجل أن أمسك به. عندما أتى 
بالطبل في آخر المطاف صرخت: «كلاً!») 

فقال راسكولنيكوف: «خذ الطبل يا أوسكار؛ فإنني عرفتك!» 

فأخذت أرتجف: «كلاء أبداً. لقد انتهى كلّ شيء!» 

لكنه قال بوجه مكفهرٌ: «إنما لم ينته كلّ شيء. بل إن كلّ شيء 
سيأتي » بما فيه الجريمة والعقاب» فالجريمة مرّة أخرى!؛ 

فقلت بما بقي لي من قوّة: «لقد تاب أوسكارء فأعفيه من الطبل؛ 
فهو سيمسك بكل شيء؛ إلا طبل الصفيح!» 

ثم بكيت حالما انحنت عليّ أولاء فلم أستطع منعها من أن تقبّلني 
على الرغم من الدموع التي غشيت عينيّ؛ قبّلتني ربّة الفنَ بشكل مرعب - 
إن جميع أولئك الذي تلقّوا قبلة من ربّة الفنَ سيتفهون كيف أن أوسكار 
أمسك بطبل الصفيح إثر تلك القبلة الدامغة» فتناول الطبل الذي نبذه ودفنه 
في رمال مقبرة سازبه . 


ك6 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لكنني لم أطبل» بل وقفت موديلاً فرسموني بصعت شع المطبل 
على الفخذ العارية اليسرى لعذراء 59» فكان ذلك أمرا سيئا بما فيه 
الكفاية. وهكذا رأتني ماريا على الملصق الفئّي الذي كان يعلن عن أحد 
المعارض. فزارت المعرض بدون علميء ولعلّها وقفت طويلاً أمام تلك 
اللّؤحة وجمعت غضبها؛ وعندما واجهتني بالموضوع ضربتني بمسطرة 
ولدي كورت. لقد واجهتني بصفتها امرأة تأقلمت جيّدا مع غرب ألمانيا؛ 
إذ أنها عثرت على عمل كبير الأجر في متجر للأطعمة الفاخرة» ثم 
تسلّمت وظيفة محاسبة بعد فترة قصيرة بفضل كفاءتهاء فلم تعد مجرد 
امرأة لاجئة من الشرق» تتاجر فى السوق السوداء؛ لذلك تمكنت من أن 
تطلق عليّء وبقوة إقناع ْ ا بهاء صفة خنزير قذر وفاسق وإنسان 
فدح » ٠‏ ثم زعقت بي أيضاً قائلة إنها لا تريد النقود التي كسبتها بتلك 
الحقارات» بل لا تريد أن تراها أبدآ أو أن تراني أنا أيضا. فعلى الرغم من 
أن ماريا سحبت عبارتها الأخيرة» وأضافت جزءاً ليس هيّناً من نقود وقوفي 
موديلاً إلى دخل الدار بعد أربعة عشر يوماًء إلا أنني قررت التخلى عن 
السكن المشترك معها وشقيقتها غوسته وولدي كورت؛» وودت الرحيل 
بعيداًء إلى هامبورغ؛ أو ربما إلى البحر مرّة ثانية» بيد أن ماريا التي 
ارتضت على عجل بانتقالي المزمع» أقنعتني بمساعدة شقيقتا غوسته» 
بالبحث عن غرفة بالقرب منها ومن كورت» غرفة في مدينة دوسلدورف 
في كل الأحوال. 


/اوه 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الضْنْم 5 


لقد بنيٌّ من جديد؛ ثم اقتلع من جذوره؛ فشمله. ثم ضاع هباءً» 
فشعر به ثانية: وإِنْ أوسكار لم يتعلم فنْ إعادة التطبيل إلا بعد أن أصبح 
مستأجراً. وليس الغرفة وحدهاء بل القنفذ ومخزن التوابيت والسيّد مونتسر 
ساعدونى على العودة إلى التطبيل» كما أن الممرضة «دوروتيّا؛ عرضت 
نفسيا كبقية ‏ فل تفرئرن اابارتسفال؟ آنا افا لا أغرقه يشكل كد إذ 
لم يبق في ذاكرتي منه سوى حكاية قطرات الدم الثلاث على الثلج. إن 
هذه الحكاية صحيحة؛ لأنها تنطبق عليّ. ربما تنطبق على كلّ من يحمل 
فكرة. لكن أوسكار يكتب عن نفسه» لذلك بدت له مريبة» لاثقة» كأنها 
مفصلة عليه تفصيلاً. فقد كنت ما أزال في ذلك الوقت أخدم الفنّء فكنت 
أتركهم يرسمونني أزرق أخضر أصفر أو في لون الأرض؛ أتركهم يسودوني 
ويضعوني في خلفية اللوحات؛ فأتحفناء أولا وأنا مع أكاديمية الفنون 
الجميلة بفصل دراسيّ شتويّ كامل؛ خصب ومثمر - ومنحنا فصل الصيف 
الدراسيّ الذي أعقبه بركاتنا تألهنا الفئي -, بيد أن الثلج قد سقط فامتص 
تلك القطرات الثلاث من الدم التي سمرت بصريّ مثلما سمرت بصر 
المغفل بارتسيفال الذي لم يفقه أوسكار بأنه سيشعر بنفسه متماثلاً معه دون 
أيّ قسر. وبلا شك أن صورتي الخرقاء ستكون واضحة لكم بما يكفي: إن 
الثلج هو الزيّ المهني للممرضة؛ والصليب الأحمر التي تعلقه معظم 
الممرضات» ودوروتيًا من ضمنهنْ؛ على الدبّوس الذي يثبّت ياقاتهن» هو 
الذي تألق أمامي بدلاً من قطرات الدمّ الثلاث. فجلست حيتئذ» غير قادر 
على أن أصرف بصري بعيداً. 


616 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ولكنني قبل أن أقطن في غرفة الحمّام السابقة العائدة لمنزل 
«تسايدلرة؛ انشغلت في البحث عن تلك الغرفة. كان فصل الشتاء الدراسيّ 
قد انتهى للتوّء فأخلى قسم من الطلبة غرفهم» وسافروا إلى أهاليهم لتمضية 
عيد الفصح.ء فعاد البعض منهم, أو لم يعد. كانت زميلتي» ربّة الفنْ 
أولاء قدّمت لي معونة في البحث عن غرفة» فذهبت معي إلى ممثلية 
الطلاب» حيث زوّدت بعناوين كثيرة» إضافة إلى بتوصية خطيّة من 
أكاديمية الفنون الجميلة. وقبل البدء بعملية البحث عن سكن» زرت بعد 
فترة طويلة النخات كورنيف في ورشته في درب الرجاء. كان الولع هو 
الذي مهّد الطريق أمامى» كذلك فتشت عن عمل أثناء العطلة الدراسيّة. إذ 
أن تلك الساعات القليلة التي وقفت فيها موديلاً خاصاً أمام عدد من 
الأساتذة مع أولا أو بدونهاء لم تعيلني إلا بشكل سيئ خلال الأسابيع 
الستة اللاحقة - ناهيك عن قضية توفير إيجار غرفة مؤثثة. فوجدت 
كورنيف كما هوء لم يطرأ عليه أي تغيير» بدمامله الموشكة على الشفاء 
والأخرى التي لم تنضج بعد على قفاه. منحنياً على لوح من الرخام 
البلجيكي ويحرّه بالإزميل» ضربة إثر أخرى. تجاذبنا أطراف الحديث 
نايف ايت أعبث بأقلام الخط الحديدية تلميحاً؛ ثم أرسلت بصري 
إلى عدد من الصخور المصفوفة فوق بعضها المصقولة؛ المنعمة التى 
الفظوت:الكتانة وحدها.. كان عفاك مترانا من الكتجر السجري وقطعة مين 
المرمر الشليزيٌ معدة لقبر مزدوج بدت كما لو أن كورنيف قد باعهاء 
فتطلعت لهفة إلى خطاط نحت عارف. فرحت لنححات الصخور الذي 
عاش وقتاً صعباً عقب إصلاح النقدء غير أننا عزينا أنفسنا آنذاك بمقولة 
حكيمة مفادها: أن عملية إصلاح النقد سوف لا تمنع الناس من الموت 
ومن طلب الشواهد حتى لو بدا إصلاح النقد عملا متفائلا ومبتهجأ 
بالحياة. فأثبتت تلك المقولة صحتهاء فكان الناس يموتون أو يشترون 
الشواهدء إضافة إلي الطلبات التي لم تكن معروفة قبل إصلاح النقد: 
بدأت محلآت القصابين تكسو واجهاتها وبواطنها بالمرمر الملرّن؛ وكان 
لابد من حرّ مربعات في الحجر الرملي أو الصخر البركاني الذي كان يزيّن 


241 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


واجهات بعض المصارف المالية والمتاجر المتضررة» بغية إعادتها إلى 
شكلها السابق . 

لقد امتدحت نشاط كورنيف» وسألته فيما كان سينجز جميع تلك 
الأعمال الكثيرة؛ فتحاشى الإجابة في البدء» لكنه اعترف بأنه كان يتمنى 
أحياناً أربعاً من الأيدي. ثم اقترح عليّ أن أعمل نصف نهار في وضع 
الخطوط؛ على أن يدفع لي أجراً خمسة وأربعين فنكاً للحرف الواحد من 
الخط المسماريّ على اللوح الجيريٌّ» وخمسةً وخمسين فنكاً على حجر 
الصوان أو الصخر البركانيٌ؛ أمّا الحروف الرفيعة السامية فسيدفع لها من 
ستين إلى خمسة وسبعين فنكاً. وتناولت في الحال حجراً جيريًاء 
وانهمكت بسرعة في العمل ومن ثمة في حرّ الحروف» فحفرت في الخط 
المسماريّ: ألويس كوفر - ولد في 9/7/ 18417 توفى في ١917/7/1١‏ 
- وانتهيت من الحروف والأرقام الثلاثئة والثلائين خلال أربع ساعات» 
فتلقيت جرّاء عملي ثلاثة عشر ماركا وخمسين فنكا حسب التعريفة المتفق 
عليها. وكان هذا المبلغ يعادل ثلث الإيجار الشهري الذي خولت نفسي 
بتسديده » فإنني لم أستطعء ولم أردء أن أدفع أكثر من أربعين فاركاء إذ 
أن أوسكار قطع عهداً على نفسه بمواصلة تقديم الدعم إلى ميزانية البيت 
في محلة بلكه وإلى ماريا والصبي وغوسته كوستر» حتى لو بدا دعما 
متواضعاً. ومن بين العنوانين الأربعة التى أعطانى إياها الناس الطيبون فى 
ممفلية 'طلااب أكاديمية القدرة الجميلة اعفرنث. العدوان العالى : تسايدئر» 
يوليشر شتراسه رقم 17؟ لأنني سأكون قريباً من أكاديمية الفنون. 

فوضعت قدميّ على الدرب مطلع مارس» حين كان الجوٌّ ساختاًء 
مغلفاً بوشاح من الرطوبة و«رينانياً» منخفضاً حقّاًء وكنت مزودا بما يكفي 
من مصروف الجيب. لقد أصلحت ماريا بذلتى» فبدوت أنيقاً حسنّ 
الهندام. وكانت البناية التي شغل تسايدلر ثلاث غرف من طابقها الغالث 
تنتصب» مفتتة الجصّ» خلف شجرة كستناء متربة. وبما أن يوليشر 
شتراسه قد تحوّل نصفه إلى أنقاض؛ فإن من الصعب الحديث عن بنايات 
مجاورة أو منزل مقابل. فئمّة جبل اشتمل في شماله على عارضة من 


030 5 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الحديد الصدئ على شكل 1 وقد علته الحشائش والزهور الصغيرة 
الصفراءء مما يحمل المرء على الاعتقاد بوجود بناية من أربعة طوابق 
اتكأت على بيت تسايدلر. ومن اليمين ثمة قطعة أرض مخربة جزيثاً أعيد 
بناؤها حتى الطابق الثاني. ولعل الإمكانيات لم تكن كافية» إذ لابد من 
ترميم واجهة الرخام السويدي الأسود المصقول الناقصة والمشروخة في 
عدة مواضع. كانت اللافتة التي كتب عليها «مؤسسة شورنهمان للدفن» 
يعوزها عدد من الحروف لا أعلم ما هي. لحسن الحظ لم تتضرر سعفتا 
النخيل المخروطتان اللامعتان كالمرآة» المحفورتان في الرخام الأسودء 
حيث أعارتا المحلّ المنكوب مظهراً من البدّ والإحسان مقبولا. 
كان فخرة ترايت هذه المؤسسة القائمة مل فسن وسبعية غاماً 
موجوداً في باحة المبنى» وسيكون حريّاً على الدوام بمشاهدتي له من 
خلال غرفتي المطلة إلى الخلف. فصرت أراقب العمّال الذين كانوا 
يزحزحون التوابيت من السقيفة حين يكون الطقس صافياًء ثم يضعونها 
على الحوامل الخشبية» ليقوموا بتلميع هذه الصناديق الضيقة من ناحية 
القدمين بالشكل المألوف بالنسبة لي» مستخدمين جميع الوسائل. وفتح 
بتر يتس البائيه سكير فر انيت الجرس» فرأيته يقف قصيراًء متين البناء» 
ضيّق النفس ومتقنفذاً عند الباب» واضعاً نظارة سميكة العدستين» وقد 
أخفى النصف السفلي من وجهه تحت رغوة صابون تشبه ندف الثلج» بينما 
رص بيمناه فرشاة الحلاقة على خذه. فبدا مدمنا على الكحول وفستفاليا 
إذا لم تعجبك الغرفة» فقلّ لي فوراء لأنني أحلق نفسي الآن ويجب 
أن أشطف رجليّ.» 
كان تسايدلر رجلاً لا يحبّ اللف والدوران» فاستطلعت الغرفة التي 
كان من الممكن أن لا تحظى بإعجابي؛ لأنها بدت عبارة عن حمّام مرصع 
نصفه بالبلاط الفيروزيٌ اللون وتم كساء نصفه الآخر بالورق المضطرب 
النماذج. ومع ذلك فإنني لم أقل إن هذه الغرفة لم تعجبني. فنقرت 
بأصابعي على حوض الاستحمام» غير عابئ برغوة الصابون الجافة على 


"١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


تسايدلر» أو بقدميه غير المشطوفتين» إنما أردت أن أعرف فيما إذا كان 
السكن ممكناً بدون حوض الاستحمام هذا؛ إذ أنه في كلّ الأحوال لا 
يحتوي على أنبوب تصريف إلى البالوعة. فهر تسايدلر رأسه المليء 
بالشيب» مبتسماء وحاول بلا جدوى إخراج رغوة صابون من فرشاة 
الحلاقة» فكانت هذه هي إجابته. وهكذا أعلنت عن استعدادي لتأجير 
غرفة حوض الاستحمام مقابل أربعين ماركاً في الشهر. 

وحين وقفنا في الممر الشحيح الإنارة الذي يشبه خرطوم المياه؛ 
حيق تفرعت عنه غرف ككيرة بابرات شخغلنة الألوان ومرجحة حرفا 
أعربت عن رغبتي في معرفة من يسكن سوايّ في دار تسايدلر. 

#زوجتي ومستأجر داخليّ. » 

فقرعت على باب حليبيّ البياض وسط الممر يمكن أن يصله المرء 
من مدخل السكن في خطوة واحدة. 

«هنا تسكن الممرضة. لكن هذا لا يخصّك. سوف لا تراها فى 
جميع الأحوال. إنها تنام هنا فقطء وحتى هذا لا تفعله دائما.» ْ 

وأنا لا أريد التول هنا إن أوسكار ارتعك نفيك ذكرت عبارة #معرظة 4 
فهرٌ رأسه؛ ولم يجرؤ على طلب معلومات عن الغرفة الأخرىء إذ أنه 
أصبح على علم بغرفته ذات حوض الاستحمام التي وقعت على يده اليمنى 
وينتهي عندها الممر بمقدار عرض الباب. فنقر تسايدلر على ياقة سترتي ثم 
قال: «تستطيع الطبخ إذا كان عندك مشعل غاز. ولا مانع لديّ أن تأتي 
بعض المرّات إلى المطبخ» إذا لم يكن موقد الطبخ مرتفعاً بالنسبة لك.» 
وكانت هذه هى ملاحظته الأولى حول قامة أوسكار. لككن توصية أكاديمية 
الفنون اللييلة تددعت مفعولها عليه بعد أن قرأها قراءة خاطفة؛ لأنها 
كانت مركم من قبل المدير البروفيسور رويزر. فأجبت على جميع 
تحذيراته بنعم وآمين» طابعأ في ذهني مكان المطبخ الواقع إلى اليسار 
بجانب غرفتي» وعاهدته على أن أغسل ملابسي خارج الدار؛ إذ أنه خشي 
على ورق كسار غرفة الحمّام من تأثير الرطوبة؛ فوعدته بتحقيق ما أراد 
بكل تأكيد؛ لأن ماريا أعلنت عن استعدادها لغسل ملابسي . 


ا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


حينئذ أصبح بإمكاني الانصراف» لأجلب أمتعتي وأملأ استمارات 
تغيير السكن. بيد أن أوسكار لم يفعل ذلك» فبات عاجزاً عن مغادرة 
الدار. ودون أي داع ترجى من مؤجره المستقبلي أن يريه المرحاض» 
فأشار المؤجر بسبابته إلى باب مسّمر من الخشب الرقيق الذي يذكر بأعوام 
الحرب وبأعوام ما بعد الحرب التي أعقبتها مباشرة. عندما أبدى رغبته في 
استعمال المرحاض فوراً ضغط تسايدلرء الذي تقشرت رغوة الصابون فوق 
وجهه وبدأت تحكه» زرّ الكهرباء الخاص بالمرحاض. بيد أنني شعرت 
بامتعاض في داخله؛ لأن أوسكار لم يشعر بحاجة إلى امعان 
فانتظرت بإصرار على الرغم من ذلك إلى أن أخرجت بعض الماء. بحيث 
أنني أجهدت نفسي بسبب الضغط الضعيف للمثانة - كذلك لأنني كنت 
قريباً من النظارة الخشبية - لكي لا أبلل النظارة والأرضية المبلطة في 
المكان الضيّق. فمسح منديلي الآثار عن الخشب المستهلك» غير أن نعلي 
أوسكار حملا معهما بضعة قطرات منحوسة إلى الأرضية المبلطة. 

وعلى الرغم من أن الصابون تصلّب فوق وجه تسايدلرء إلا أنه لم 
يبحث عن مرآة الحلاقة أو الماء الساخن أثناء غيابي» بل أنتظر في الممرء 
وبدأ كما لو أنه استظرفني فقال: «يا لك من شخص غريب! إنك لم توقع 
عقد الإيجار ومع ذلك تستخدم المرحاض!!» فاقترب مني بفرشاة حلاقة 
باردة» متجمدة» مخططاً بالتأكيد لدعابة سخيفة» غير أنه فتح باب السكن 
دون أن يضايقني. حينما انصرف أوسكار هابطأً سلّم البناية سائراً إلى 
الخلف. مارقاً أمام القنفذء واضعاً إيّاه في مرمى بصرهء لاحظت بأن باب 
المرحاض الذي ينتهي فيه الممر كان يفصل بين باب المطبخ والباب 
المزجج التي تمضي خلفه إحدى الممرضات لياليها بغير انتظام. وبعدما 
عاد أوسكار في المساء المتأخر مع أمتعته التي علق فوقها الطبل الجديد 
ولوحة العذدراء التي رسمها راسكولنيكوف» وقرع جرس تسايدلر عدة 
مرّات ملوحا له باستمارة تغيير السكن» قادنى القنفذ الحديث الحلاقة الذي 
غسل قدميه في تلك الأثناء إلى سكنه الشخصي . 

كان لسكنه رائحة دخان سجائر باردة» فبدت رائحته مثل رائحة 


نا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


السيجار المشتعلة مرّات عديدة. إضافة إلى الإفرازات التي انبعثت من 
السجاد الكثير المكدس الملفوف في أركان الغرفة والذي لعلّه كان سججاداً 
نفيسا. كذلك انتشرت رائحة تقاويم قديمة» لكنني لم أر أي تقويم؛ لقد 
كانت هذه رائحة السباد. من العجيب أن مقاعد الجلوس المريحة 
المكسوة بالجلد لم تبعث أي رائحة» مما خيّب أملي. إذ أن أوسكار الذي 
لم يجلس قط في مقعد جلديّ. كان يجمل تصوّراً واقعياً عن جلد المقاعد 
ذي الرائحة القويّة» حتى أنه أخذ يشكك فى كساء مقاعد تسايدلر وكراسيه 
وحبية الشاناعيا ب .وكانت لمكا نيدل لين حل أ المقاعد 
الجلدية الناعمة» الأصلية الجلد مثلما اتضح فيما بعدء الخالية من 
الرائحة. وقد ارتدت فستانا رماديًا مفصلا تفصيلا رياضيّاء متناسقأ مع 
جسمها وغير متناسق في آن. كانت تنوّرتها مزاحة عن الركبة فبان سروالها 
الداخليّ بمقدر ثلاثة أصابع. ولأنها لم تصلح من تنورتها المزاحة ولأن 
عينيها بدتا دامعتين» مثلما ظنّ أوسكارء فإنني لم أجرؤ على تقديم نفسي 
لأفتتح حديث تحيّة معهاء فبقي انحنائي بلا كلام؛ والتفت في المرحلة 
الأخيرة إلى تسايدلر الذي قدم لي امرأته بحركة إبهام مصحوبة بنحنحة 
قصيرة. وبدت الغرفة رحبة مربعة» أمّا شجرة الكستناء المنتصبة أمام البناية 
فقد عتمت على المكان» فجعلته واسعاً صغيراً فى آن. تركت الحقيبة 
والظبق قرت الاب ووتوت باسشازة تقبر الك من سابد لى الف رقف 
بين نافذتين. لم يعد أوسكار يسمع وقع خطاه؛ إذ أنه سار على أربع 
سسجادات متفاوتة الأحجام مردودة على بعضهاء بحيث أن الكبيرة منها 
كانت في الأسفل؛ فشكلت بحوافها المتباينة الألوان» المهلهلة منها وغير 
المهلهلة؛ سلما ملوّناًء بدأت درجته الأولى القريبة من الجدران باللون 
البنيّ الضارب إلى الحمرة؛ واختفت معظم أطراف الدرجة الخضراء التي 
فوقها تحت قطع الأثاث مثل البوفيه الضخمة والدولاب الزجاجي المليء 
بكؤوس العرق التي بلغ عددها العشرات وفراش الزوجية الفسيح. أما 
حواف السجادة الثالثة الزرقاء الكثيرة النقوش فقد امتدت من ركن إلى ركن 
على 'تتحق .مركن » :بيلما وقس على النتتادة الرابنة المتكملية الحمراء حمرة 


195 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


النبيذ مهمّة حمل الطاولة المستديرة القابلة للتوسيع المفروشة بمشمع 
للوقاية المحاطة بأربعة مقاعد مكسوة بالجلد المثبّت بالمسامير بشكل 
منتظم. وثمة ساد كثير كان معلقاً على الجدران على الرغم من أنه لم 
يكن سجّاداً جداريّأ. ومنه ما كان يسترخى مطويا فى الزواياء فحمل 
أرسكان إلى التتقمين بان القنقك كانت يتاجر بالسجاد قبل عملية [صتلاح 
النقدء ومن ثم ظل جالسا عليه بعد الإصلاح. 

لم تكن هناك سوى صورة واحدة مزججة عُلّقت بين السجاجيد 
الشرقية الإيحاء على الجدار ذي النوافذ» مثلت الأمير بسمارك. فجلس 
القنفذ الذي عبّأ بجسده المقعد الجلدي تحت المستشار الذي كان يشبهه 
بعض الشبه العائلي. بعدما جذب استمارة تغيير السكن من يدي» وتفرّرس 
في تلك الورقة الرسمية وجهاً وظهراً» ليتدارسها بيقظة وتفخخص ونفاد 
صبرء أجبره سؤال هامس طرحته زوجته على أن يصاب بنوبة غضب» 
دفعت به إلى الاقتراب من المستشار الحديديّ شيئاً فشيئاء ثم سرعان ما 
بصقه المقعد. فانتصب على سجاجيد أربع» ممسكاً بالاستمارة جانباً» 
فملاأ صديريّه بالهواء» ثم أصبح بوثبة واحدة فوق السججادة الأولى فالثانية» 
وأمطر زوجته المنحنية على قطعة للخياطة بوابل من الكلام من قبيل: من 
ذا الذي يتحدث هنا إذا لم يُسأل ولم يكن له ما يقوله إلا «أناء أناء أنا! 
فلا تنطقي بكلمة واحدة!4 وبما أن السيّدة تسايدلر لاذت بالصمت بأدبٌ 
جم ولم تنطق بحرف,» مكتفية بوخز قطعة الخياطة بإبرتهاء تركزت حيئئذ 
مشكلة القنفذ الذي بات يدوس على السجاد؛ مغلوباً على أمره؛ في 
التنفيس عن ما بقي من غضبه بشكل يوحي بالمصداقية لكي يتخلص من 
عبئه. وبخطوة واحدة أنتصب أمام الدولاب الزجاجي» ثم فتحه؛ بحيث 
أنه أصدر قرقعة؛ فقبض بأصابع منفرجة على ثمانية كؤوس بحذر» أمسك 
بمقابضها المزخرفة؛ وأخرجها من الدولاب دون أن يصيبها بضررء اقترب 
خطوة إثر خطوة - مثل مضيّف أراد أن يسلىّ نفسه وسبعة من الضيوف 
كرون على:العروتة والدهارة 5 ]قترن من الفررة الدائم الاحتراق المغلف 
بالبلاط الأخضرء ثم قذف بالحمل الهش باب الفرن البارد المسبوك من 


2160 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


حديد الزهرء متناسياً الحذر كله. ومما أثار العجب هو أن القنفذ استطاع 
أن يترصد بعينيه المختفيتين تحت النظارة زوجته التى نهضت وحاولت أن 
تضع خيطأ في خرم الإبرة قرب النافذ اليمنى» أثتاء المشهد برمته الذي 
تطلّب قدراً من دقّة التصويب. وبعد مرور ثانية على تحطيمه للأقداح» 
تمكنت امرأة القنفذ من تنفيذ محاولة إدخال الخيط الصعبة التي تطلبت يدا 
تتحلى بالهدوء. فرجعت السيّدة تسايدلر إلى مقعدها الدافئ» فجلست 
بحيث أن فستانها انزاح عن ركبتها مرّة أخرى فكشف عن سروالها الداخلي 
الورديٌّ الملتث بمقدار ثلاثة أصابع. كان القنفذ قد راقب طريق زوجته إلى 
النافذة وإدخال الخيط في سم الإبرة ثم رجوعها؛ راقبها منحنيّاً يلهث 
ومستسلماً بالإضافة إلى ذلك. حالما جلست سارع إلى مدّ يده خلف 
الفرن؛ فعثر على صفيح جمع القمامة ومكنسة صغيرة» فلم شظايا الزجاج 
وأفرغها في جريدة» كان نصفها مليئاً بشظايا كؤوس العرق» فلم يعد فيها 
مكان كاف لنوبة تحطيم زجاج ثالثة . 

وإذا ما حسب القارئ بأن أوسكار عثر على نفسه في شخصية القنفذ 
المكسر للزجاج؛ لأنه كان يحطم الزجاج بصوته طيلة أعوام؛ فإنني لا 
أظلم القارئ واتهمه بمجافاة الحقيقة؛ فقد كنتء أنا أيضاًء أنفس عن 
غضبي بتحطيم الزجاج - بيد أن أحداً لم يرني قط أهرع إلى صحيفة جمع 
القمامة والمكنسة! فبعدما أزال تسايدلر آثار غضبه وجد طريقة إلى كرسيه 
ثانيةة. فاوله. أوسكان اتشمارة تغيير السكن الى أشقطها القفل أرضا ين 
فتخ الدولاب ببديه:معاً. فوكّم تسايدار على الاستمارة» .وتبهتي إلى ضرورة 
الالتزام بالنظام» وإلا ستسود الفوضى الدارء فهو يعمل منذ خمسة عشر 
عاماً وكيلاء في الحقيقة وكيلاً لماكينات حلاقة الشعرء فهل أعلم ما هي 
ماكينات الحلاقة؟! فكان أوسكار يعلم ما هي ماكينات الحلاقة» ثم قام 
ببضع حركات إيضاحية في فضاء الغرفة» استشف تسايدلر منها بأنني مطلع 
على آخر التطوّرات فيما يتعلق بماكينات الحلاقة. كانت تسريحة شعرة 
الشبيهة بفرشاة التنظيف أتاحت لي أن أرى فيه وكيلاً ممتازا. بعدما شرح 
لي نظام عمله - كان يسافر دائماً لمدّة أسبوع» ثم يمضي يومين في بيته - 


ا" 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فقد اهتمامه بأوسكارء وصار يتأرجح متقنفذاً في المقعد الجلدي البنيّ 
الفاتح المطقطق. أخذ يومض بزجاجتيّ نظارته ويقول بسبب وبدون 
سبب: لعم نعم نعم نعم نعم نعم - فتوجب علي الانصراف. 

وفى البدء استأذن أوسكار من السيّدة تسايدلر التى كانت يد باردة» 
خالية من العظام» لكنها جافة؛ بينما لوّح إلى القنفذ من كرسيه» مشيراً إلى 
الناب» ينك أمفعة أوسكانء فجاءتى غرته: وأنا منيتك تماماً يبحمل 
الأمتعة: «ما هذا الذي يتدلى على الحقيبة؟؛ 

«هذا هو طبلي.» 

«إذاً؛ إنك تريد أن تطبّل هنا؟» 

«ليس بالضرورة. فى السابق كنت اطبل كيرا » 

#بالنسبة لى يمكنك أن تطبّل كما تشاء. فأنا فى كلّ الأحوال لست 
موجوداً في البيت.؛ 1 

«ليس هناك أي أمل في أن أعود إلى التطبيل ذات يوم.» 

«لكن لماذا بقيت صغيراً هكذا؟ أي نعم؟؛ 

اسقطة منحوسة أعاقت نموّي.» 

«أرجو أن لا تصدع رأسي بالسقطات وما شابه ذلك.» 

«لقد تحسن وضعي الصحّي في الأعوام الأخيرة. انظر إليّ كم أنا 
خفيف الحركة.!ا ثم أدَى أوسكار أمام السيّد والسيّدة تسايدلر بعض 
القفزات وقام يبعض الألعاب البهلوانية التي تعلمها في زمن المسرح 
الميدانى» فأحلت السيّدة تسايدلر إلى امرأة مكركرة» وأحلته إلى قنفذ 
يكبل الضربات إلى فده حالما وققت في الممر» متجاوزاً بانيه الممرضة 
الغائم البياض وبابيّ المرحاض والمطبخ؛ حاملاً إلى غرفتي أمتعتي 
والطبل. وقد حدث ذلك في الأوّل من مايو/ آيار» ومنذ ذلك اليوم 
تملكني سر الممرضة فأغو اني واحتلني احتلالاً: إن المعينات يجعلنني 
سقيماً دائماًء بل مريضاً بلا شفاء» فاليوم؛ وبعد ما خلّفت كل شيء 
ورائي» وجدت نفس أخالف رأي برونو الذي زعم للتو بأن: الرجال 
وحدهم قادرون على القيام بمهمات العناية قولاً وفعلء وأن بحث النزلاء 


17 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


المرضى عن ممرضات يعتنين بهم يعتبر ظاهرة مرضيّة؛ فبينما يجهد المعين 
نفسه بتقديم العناية للمريض» بحيث أنه يشفيه أحيانا؛ فإن الممرضة تتبع 
الطريق الأنثويّ: فتقوم بإغواء المريض» وتستدرجه إلى الشفاء أو الموت؛ 
إذ أنها تثيره جنسيّاً بسهولة وتوقظ شهوته. وهكذا كان رأي معيني برونو 
الذي أعيده هنا على مضض . فمن دأب على تثبيت حياته عبر الممرضات 
كلّ بضعة أعوام فإنه يحتفظ بالعرفان» ولن يسمح لمعين متذمر» حتى وإن 
كان لطيف المعشرء بالنفور من زميلاته الممرضات بسبب حسد المهنة. 

لقد بدأ ذلك بالسقوط من سلّم القبوء بمناسبة عيد ميلاديّ الثالث. 
أعتقد أن اسمها كان الممرضة لوتاء وقد قدمت من «براوست». فبقيت 
محتفظاً بالممرضة إنغا التي عملت لدى الدكتور هولاتس لمدّة أعوام 
طويلة. عقب الدفاع عن البريد البولندي وقعت تحت رحمة عدد من 
الممرضات في وقت واحد. لكن لم يبق في ذاكرتي سوى اسم ممرضة 
واحدة: كانت تدعى الممرضة أرني أو برني. وثمّة ممرضات بلا أسماء 
في الونهبورغ» ومستوصف جامعة هانوفر. جاءت بعد ذلك ممرضات 
المستشفى البلدي في دوسلدورف» وفي مقدمتهن الممرضة غيرترود. ثم 
جاءت تلك الممرضة التي لم أبحث عنها في أي مستشفى. فوقع أوسكار 
في غرام ممرضة سكنت مستأجرة داخلية في دار تسايدلر مثل أوسكار الذي 
كان في أتم الصحّة والعافية. منذ ذلك اليوم أصبح العالم في نظري مليئاً 
بالممرضات؛ فكنت أذهب في الصباح المبكر إلى العمل» أحرّ الحروف 
على الصخر لدى كورنيف» وكانت المحطة التي أستقل منها الترام تنسمى 
مستشفى مارياء حيث كان الكثير من الممرضات يغدون ويأتين بلا انقطاع 
أمام بوّابة المستشفى المقامة من الآجر وساحته الأمامية الكثيفة الزهور؛ 
ممرضات تركن عملهن الشاق ورائهن أو أمامهن. ثم يأتي الترام» فكنت 
أضطر إلى الجلوس في مقطورة واحدة مع عدد من أولئك المعينات 
المجهدات اللواتي يتطلعن بتوتر في معظم الأحيان» أو أقف على الرصيف 
ذاته. في البدء أخذت أتشممهن على كره» ثم صرت استقصي رائحتهن» 
بل صرت أقف إلى جانب ملابس عملهن أو بينها. 


م1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبعد ذلك أت درب الرجاء» حيث بدأت أنحتّ الخط في الخارج 
بين افشركتن الظتواها سين مكرن التلفنى مدا فاراعون اين خزاعاً بذراع, 
اثنين اثنين» أو في مجموعات رباعية» يمضين ساعة استراحتهن» فكنّ 
يجبرن أوسكار على رفع رأسه وإهمال عمله؛ إذ كل رفعة رأس كانت 
تكلفني عشرين فنكاً. وإضافة إلى ملصقات دور السينما: كانت هناك أفلام 
كثيرة تعرض في ألمانيا لها علاقة بالممرضات» وقد أغرتني الممثلة ماريا 
شيل هن وغول هوي السيعماة إذ أنيا ازكدات رض العمر مات فكانت 
تضحك وتبكي وتعتني بالآخرين بنكران ذات» ثم تعزف الموسيقى الجديّة 
مبتسمة . كانت تضع على رأسها قلنسوة الممرضات» لكن اليأس قد 
انتابها» فمزقت ثوب نومهاء مضحيّة بحبها إثر محاولة انتحار - كان بطل 
الفلم طبيباً - لكنها بقيت مخلصة لمهنتهاء متمسكة بالقلنسوة ودبّوس 
الصليب الأحمر. وبينما كان مخ أوسكار ومخيخه يقهقهان ويحشران 
البذاءات في شريط الفلم» فقد اغرورقت عينا أوسكار بالدموع» وتاف 
نصف مبصر» في صحراء من الممرضات المجهولات ذوات الملابس 
البيضاء» باحثاً عن الممرضة دوروتيًا التي علمت بأنها استأجرت حجرة 
خلف زجاج ذي لون غائم في دار تسايدلر. 

أحياناً كنت أسمع وقع خطاها حين تعود من الخدمة؛ نعم» أسمعها 
في حوالي الساعة التاسعة مساءً عندما تنتهي من عملها اليومي فتأتي إلى 
حجرتها. إذا ما سمع أوسكار الممرضة تخطو في الممر؟؛ فإنه لم يبق 
جالساً دائماً فى كرسيّه . فكان كثيراً ما يعبث بأكرة الباب. فمن ذا الذي 
يتحمل تلك الحالة؟ ومن ذا الذي لا يتطلع إذا ما مرق أحدء فريما أنه 
يمرق من أجله؟ بل من ذا الذي سيبقى جالساً في كرسيّه إذا ما بدت الجلبة 
التي يصدرها الجوار لا تهدف إلا إلى دفع الجالسين بهدوء إلى القفز من 
مقاعدهم؟ لكن الأمر مع الصمت والسكينة بدا أكثر سوءا! لقد عشنا من 
قبل وقائع المنحوتة الصامتة المستكينة المصنوعة من الخشب. آنذاك خرٌ 
وَل مستخدم في المتحف صريعاً غارقاً في دمه» فقيل إن نيويا قتلته. فأخذ 
المدير يبحث عن حارس جديدء إذ لا يجوز إقفال المتحف. عندما فقتل 


3 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الحارس الثانى صاحت الناس: نيوبا هى التى قتلته. حينئذ وجد المدير 
متعونة بالغة ذن العثور على حارس ثالث - أم أنه كان الحارس الثالث 
عشر الذي بحث عنه؟ - فبغض النظر عن ذلك» قل هذا الحارس الذي 
عثر عليه بمشقة. فصرخت الناس: نيوباء نيوبا المصبوغة 0 
المتطلعة بعينين من الكهرمان» نيوبا الخشبية» العارية» التي لم ترتجف 
ولم تشعر بالبرد ولم تعرق أو تتنفس» نيوبا الخالية من العنّة لأنها رشت 
بدواء مضاد للعئّة والديدان» لأنها كانت نفيسة وتاريخية. ا 
ساحرةٌ من أجلهاء وقطعت اليد الموهوبة لناحتهاء فغرقت السفن» 
نجت هى عائمة. كانت نيوبا ثميئة» غير قابلة للاحتراق» فكانت تقتل 
وتبقى يم فأسكتت تلميذ ثانوية وطالباً وكاهناً عجوزاً وجوقة من 
حرّاس المتحفء أسكتتهم كلهم بصمتها. لكن صديقي هربرت 
تروجنسكى قد ضاجعهاء فقذف بها ما قذفء بيد أن نيوبا ظلت جافة 
وائؤاة منيعها: 

وعندما تغادر الممرضة حجرتها والممر ودار القنفذ في الصباح 
المبكرء حوالي الساعة السادسة»؛ يسود السكون التام» على الرغم من أنها 
لم تحدث ضحّة أثناء وجودها. ولكي يستطيع أوسكار التحمّل فإنه كان 
يصدر أصوات صرير من سريره أو يزحزح كرسيّاء أو يدحرج تفاحة من 
فوق حوض الاستحمام. عند الساعة الثامنة يبدأ الحفيف, فيكون ذلك 
موعد ساعي البريد الذي كان يسقط البطاقات البريدية والرسائل من شئٌّ 
الرسائل على أرضية الممر. إضافة إلى أوسكارء كانت السيّدة تسايدلر 
تنتظر هذا الحفيف» ثم تبدأ بالعمل كسكرتيرة في شركة «مانسمان» في 
الساعة التاسعة» فكانت تسمح لي بالتقدم قبلهاء فبات أوسكار أوّل من 
يستطلع أمر الحفيف. فكنت أؤدي ذلك بهدوءء على الرغم من معرفتي 
بأنها كانت تسمعني» فأترك باب غرفتي مفتوحاًء لكي لا أضطر إلى إشعال 
الضوء؛ فالتقط البريد كلّه دفعة واحدة» وأدسّ في جيب منامتي عند 
الضرورة الرسالة التي تحدثت فيها ماريا بدقة عن نفسها أو عن الطفل أو 
شقيقتها غوسته» وتبعث بها مرّةً في الأسبوع, ثم أتفحص بقية البريد» 


51 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فكنت أفلت من يديء أنا الذي لم أقف باستقامة» إنما أجلس مقرفصاًء 
تلك الرسائل المعنونة إلى آل تسايدلر أو إلى سيّد يدعى مونتسر الذي 
سكن الطرف الثاني من الممرء فأجعلها تنزلق على الأرضية؛ بينما كنت 
أقلّب بريد الممرضة» وأشمّه وأتحسسهء غير مكتف بمعرفة المرسل . 

كانت المعرضة دوروتيًا نادراً ما تتلقى بريداء لكنها كانت تستقبل 
بريداً أكثر منّى. أمَا اسمها الكامل هو دوروتيًا كونغيترء بيد أننى أطلقت 
اسم الممرضة دوروتياء ناسياً من وقت إلى آخر لقبها الذي يمكن الاستغتاء 
عنه تمامأ بالنسبة لممرضة. كانت تتلقى بريدا من أمها المقيمة في 
هلدسهايم: إضافة إلى رسائل وبطاقات بريدية كانت تأتيها من مستشفيات 
مختلفة في ألمانيا الغربية. ثمّة ممرضات أنهت معهن تعليمها على 
التمريض كنّ يكتبن إليها. غير أنها حافظت على اتصالها بزميلاتها على 
نحو متراخ» انطوى على عناء؛ عبر كتابة البطاقات البريدية» فكانت تتقلى 
إجابات تافهة سطحية مثلما تأكد أوسكار بشكل خاطف. ومع ذلك اطلعت 
على شيء من الحياة السابقة للممرضة دوروئيًا من خلال البطاقات البريدية 
الكاشفة على الأغلب عن واجهات المستشفيات التي تسلقها اللبلاب: لقد 
اشتغلت الممرضة دوروتيًا فترة من الزمن في مستوصف فنسنس في 
كولونياء ثم في مستشفى خاص قريب من مدينة آخن» وكذلك في 
هلدسهايم؛ حيث كانت أمّها تكتب الرسائل. إنها إذاً قدمت أصلاً من 
ولابة نيدرزاكسنء أو أتنت لاجئة من الشرق مثل أوسكارء فوجدت لها 
ملاذاً هناك عقب الحرب. وعرفت بأن الممرضة دوروتيًا قد عملت في 
مستشفى ماريا القريب من السكنء وأنها لا بد أن تكون مرتبطة بعلاقة 
صداقة قويّة مع ممرضة تدعى بيآتا؛ إذ أن كثيراً من بطاقات البريد أشارت 
إلى تلك العلاقة» وحملت أحياناً تحيّات إلى بيآنا هذه. 

لقد أثارت الصديقة قلقي» فصار أوسكار يمارس الحس والتأمل فيما 
يتعلق بوجودها. وأخذ يكتب لها رسائل» فتوسل بها في إحدى رسائله أن 
تتشفع لهء لكنه تكتم في الأخرى عن دوروتيًا؛ لأنني أردت التقرب في 
البدء من بيآناء ثم أنتقل إلى صديقتا. فكتبت خمس أو ست رسائل» وقد 


51١ 
1 1_طماع1© :121 ]آنلا‎ 


وضعت البعض منها في ظروف» بل وضعت قدميّ على الطريق إلى 
صندوق البريدء لكنني مع ذلك لم أبعث بأي واحدة منها. فربما كنت 
سأبعث برسالة إلى الممرضة بيآتا ذات مرّة» حينما عشت حالة الجنون 
تلكء لو أنني لم أعثر ذات يوم اثنين في الممر على تلك الرسالة التي 
أحالت ولهي الذي لم يكن يعوزه الحبٌ إلى مجرّد غيرة - أقامت ماريا 
آنذاك علاقة برب عملهاء شتنتسل» لكن مما يعجب هو أن تلك العلاقة لم 
تؤثر فيّ قط . وأبلغني اسم المرسل المطبوع على المظروف بأن الدكتور 
فيرئر - مستشفى ماريا - كتب رسالة إلى الممرضة دوروتيًا. وفي الثلاثاء 
وصلت رسالة ثانية. ثم جاء الخميس بالرسالة الثالثة. كيف كان الأمر في 
ذلك الخميس؟ كان أوسكار قد رجع إلى غرفته» فسقط على أحد كراسي 
المطبخ العائدة لأثاث الدارء فأخرجت رسالة ماريا الأسبوعية من جيب 
بيجامتي - على الرغم من علاقتها بمبججلها الجديد واصلت ماريا الكتابة 
إليّ بانتظام ودقة؛ فلم تهمل شيئاً -» بل أنني فضضت المظروف» فقرأت 
دون أن أقرأ شيئًء وسمعت السيّدة تسايدلر تخطو في الممرء ثم سمعت 
صوتها حين نادت على السيّد مونتسر الذي لم يرد عليهاء على الرغم من 
أنه لابد أن يكون موجوداً فى الدار؛ إذ أن امرأة تسايدلر فتحت باب غرفته 
وناولته البريد وهي تلم بالقول. فصممت أذنيّ عن سماع صوت السيّدة 
تسايدلر عندما تكلمت. فأسلمت نفسي إلى جنون كساء الجدران؛ أي إلى 
الجنون العمودي فالأفقي فالقطريّء بل إلى الجنون المنحني المضاعف 
ألف مرّة» وتقمصت شخصية ماتسرات» وتناولت معه خبز المخدوعين 
الهنيء المشكوك فيهء مستسهلاً جعل يان برونسكي مغرراً مضللاً يتدكر 
تنكراً رخيصاء يظهر بمعطف عاديّ ذي صفيّن من الأزرار وياقة من 
القطيفة» فتركته يظهر بمريلة الدكتور هولاتس» ثم بمظهر الجرّاح فيرنر 
بعد ذلك مباشرة» لكي أضلل» وأفسدء وأدنس» وأهين» وأضرب» 
وأعذب - لكي أقوم بكلّ ما يفعله المضلل من أجل الاحتفاظ بمصداقيته. 
واليوم تراني أبتسم حين استعيد تلك الخاطرة التي جعلت أوسكار 
يصبح آنذاك ممتقع الوجهء مضاباً بيجتون ورق الكساء+ قآردت أن آدرس 


117 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الطبّء بأقصى ما يمكن من سرعة. أردت أن أصبح طبيباً» طبيباً في 
مستشفى ماريا. لآأنني أردت أن أطرد الدكتور فيرنر وأعريه» أتهمه 
بالإهمال والتقصير والقتل غير المتعمد أثناء إجرائه عمليه في الحنجرة. 
كلاء إنما اتضح بأن السيّد رثن كان طيبا دارساً ف الجايطة» وقد اشتغل 
إبَان الحرب في مستوصف ميدانيَ» حيث حصل على بعض المعارف : 
دلنيتعد هذا المخادع! تقد أضبح اوسكار طبيباً رئيس أطباء» فكان عياياً 
ومع ذلك شغل وضيفة في موقع المسؤولية. حينئذ خطا الطبيب المشهور 
«زاوربروخ؟. ترافقه الممرضة دوروتيًا كمساعدة في غرفة العمليات» 
محاطاً بحاشية من أصحاب الملابس البيضاء» عبر الردهة التى كان الصدى 
يتردد فيهاء وقام بزيارة مريض» فقرر في اللحظة الأخن 8 إجراء ملي _- 
لكن من حسن الحظ أن هذا الفلم لم ير النور أبدا! 


اتدل 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


في خزانة الثياب 


لا يظنن أحد بأن أوسكار لم يعد يتحدث إلا مع الممرضات» بل إنني 
مازلت أحتفظ بحياتى المهنيّة! لقد بدا الفصل الدراسى فى أكاديمية الفنون 
الجميلة. نتوجب على التخلن عن عمل تقش التخروف الذي كنت أمارسه 
حسب الظرف أو المناسبة» إذ أن على أوسكار الوقوف بهدوء مقابل أجر 
جيّد؛ فثمة أساليب قديمة لابد أن تثبت صلاحيتها أمامه وأمام ربّة الفنّ 
أولاء ولابد أن تُجرّبٍ علينا الأساليب الجديدة؛ فرفع عنّا الشكل المادي 
المجسّمء فأصيب المرء بالياس» وصار يتنكر لناء واضعاً خطوطاً 
ومربعات ولوالب وخزعبلات محفوظة عن ظهر قلب أثبتت جدواهاء في 
كلّ الأحوال» على ورق كساء الجدران والأقمشة وأوراق الرسمء مائحاً 
إياها نماذج صالحة للاستعمال؛» لا يعوزها سوى أوسكار وأولاء أي كان 
يعوزها التوتر الغامضء. حملت عنوانين تجارية صارخة: مجدولا إلى 
الأمام؛ أو غناء على الزمن» أو أحمر في أماكن جديدة. وفعل ذلك 
طلاب الفصول الأولى الذين كانوا لا يجيدون الرسمء أما أصدقائي القدماء 
المتحلقين حول البروفيسور كوخن والبروفيسور ماروهن؛ ومنهما التلميذان 
البارعان العنزة وراسكولنيكوف, فقد أثروا فى السواد واللون» لكى يتحفوا 
الفقر بالمديح من خلال الخطوط الخفيفة الدم والمشبكات الشاحبة 
الصفراء . 

لكن ربّة الفنَ أولاًء التي كانت تظهر في الواقع ذوقاً فنا مهنياً إذا ما 
أصبحت دنيويّة» فقد تحمست لورق كساء الجدران الجديد» لدرجة أنها 
نسيت على عجل الرسام لانكس الذي هجرهاء وأخذت تنظر إلى أعمال 

314 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الزخرفة والديكور المختلفة الأحجام التي أنتجها رسّام آخر كبير في السنّ 
يدعى مايتل» باعتبارها أعمالاً جميلة» طريفة» مؤنسة» فنطازيّة» عظيمة» 
بل حتى أنيقة. أما حقيقة أنها حطبت من قبل الرسّام الذي كان يفضّل 
الأشكال مثلما يفضّل بيض عيد الفصح الملون الشديد الحلاوة» فلم تعد 
بذي أهمية» إذ أنها وجدت فيما بعد فرصاً كثيرة للخطوبةء كما أنها وقفت 
اليوم - كشفت لي عن هذا السرّ عندما زارتني يوم أمس الأوّل وجلبت لي 
ولبرونو حلوى الملبّس - على أعتاب علاقة جديّة على حدّ تعبيرها. لقد 
أولت أولا بصفتها ربّة للفنَ جل اهتماما إلى الاتجاه الجديد الأعمّى» دون 
أن تدرك ذلك؛» فكان رسّام بيض عيد الفصح. مايتل» هو الذي أوحى لها 
بتلك الأشياء» وأتحفها بثروة لغوية كهدية للخطوبة» وقد جربته معي خلال 
أحاديثنا عن الفن. فتحدثت عن التقريريّة» وعن التركيبات الوقعة 
والنبرات والمنظورات والبنى الانسيابية وعمليات الانصهار وظواهر 
التعرية. تحدثت وهي تأكل الموز طوال النهار وتشرب عصير الطماطم؛ 
ثم تحدثئت عن الخلايا الأولى» عن ذرّات اللون التي لا تعثر فقط على 
وضعها الطبيعي بسرعة ديناميكية في مجالات قوّتهاء بل أكثر من 
اللقم + على هذا النستر تملكت لامع اثكاء إسدراحة اقصيرة من 
الوقوف موديلاء وكانت تستمر في حديثها حتى عندما نتناول القهوة في 
راتنغرشتراسه بين الحين والآخر. وبعدما فسخت خطوبتها من الرسّام 
الديناميكي لبيض عيد الفصح. لتقيم علاقة بأحد تلامذة كوخن» بغية 
الدخول إلى العالم الماديٌّء إثر قصة غرام قصيرة بامرأة سحاقية» بقيت 
محتفظة بتلك الثروة اللغوية التى أجهدت وجهها الصغير لدرجة أن تجاعيد 
حادةٌ متطلبةٌ بعض الشيء» بذات تتشكل خول فمهاء فم ربّة الفن. 
ويمكن الاعتراف هنا بأن فكرة رسم ربّة الفنَ أولا كممرضة إلى جانب 
أوسكار لم تبدر عن راسكولنيكوف وحده. فبعد عذراء 14 رَسَّمِنا تحت 
عنوان «اختطاف أوربًا» - فأصبحت أنا الثور. ثم نشأت لوحة «المهرّج 
يشفي الممرضة» وفقط كلمة واحدة أطلقتها فألهبتٌ بها مخيلة 
راسكولنيكوف؛ فصار يطيل التفكير على نحو مكفهرٌء بشعره الأحمرء 


116 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


وبمكرء ثم غسل فرشاتهء وأخذ يتكلم عن الذنب والتكفير”* وهو يتفرّس 
بعناء في أولا. فنصحته بأن يرى فيّ الذنب وفي أولا التكفيرء فذنبي 
جليّ أمَا التفكير فيمكن أن يهبه المرء رداء ممرضة. 

كان راسكولنيكوف هو الذي وضع عنواناً مضللاً لتلك الصورة 
الممتازة. فكان بودّي أن أمنح تلك الصورة اسم «الوسوسة»؛ إذ أن يدي 
اليمنى المرسومة قد قبضت على أكرة باب» وضغطتها إلى الأسفل» فاتحة 
بذلك غرفة ما اتتصبت في وسطها الممرضة. 

وكان يمكن إطلاق اسم «أكرة الباب» على لوحة راسكولئيكوف. ولوا 
كان الأمر يقتصر على إعطاء اسم جديد للوسوسة» لاقترحت عبارة أكرة 
الباب» لأن ذاك النتوء البارز الذي يمكن مسكه بسهولة قد أغراني 
بالمحاولة ولأنني كنت أحاول يوميّاً إغواء تلك الأكرة المثبتة في باب 
حجرة الممرضة دوروتيّاء الباب الضبابيَّ الزجاج؛ إذ أن القنفذ «تسايدلر) 
كان مسافراً والممرضة كانت فى المستشفى» بينما جلست السيّدة تسابدلر 
في مكتب شركة مانسمان. وخرج أوسكار من غرفته المزودة بحوض 
استحمام خال من أنبوب التصريف» ووطأ ممر دار تسايدلر» ليقف قبالة 

خبجرة المعرفة» ثم قبض على أكرة الباب. كنت أقوم بهذه التجربة كلّ. 
يوم تقريباً منذ منتصف يونيوء بيد أن الباب لم يلن ولم يطاوعني . وأردت 
أن أرى في تلك الممرضة إنساناً تمت تربيته على النظام من خلال العمل 
المسؤول» فبدا لي من الحكمة أن أضع آمالي جميعها على باب قد يُفتح 
سهواً؛ لذلك بدر متى ردّ الفعل الآلى الغبىّ الذي جعلنى أقفل الباب ثانية 
بعدما عثرت عليه مفتوحاً ذات يوم. 

وبلا شاك أن أوسكار وقف في الممر دقائق طويلة تحت جلده 
المنفعل المتوترء متيحاً المجال للكثير من الأفكار المتباينة المشارب 
تتجاذبه في آن واحدء لدرجة أن قلبه شعر بصعوبة بالغة فى تسديد 


(#) لحديث هنا عن رواية دوستويفسكي المعروفة بالجريمة والعقابء وبالألمانية 
ابالزنب وات لتكفير؟ . 


الملل 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


النصيحة لذلك التدقق لكي يسير وفق خطة منتظمة. وحين تمكنت من 
التضحية بنفسي وفكري من أجل أوضاع أخرى : ففكرت في ماريا ومبججلها 
- أصبح لماريا مبجّل - فأهدى لها المبجل إبريق قهوة» وبات يذهب مع 
ماريا إلى «أبولو؛ أيَامِ السبت» لكن ماريا كانت نادراً ما تتحدث إليه بعد 
انتهاء الدوام أما في المحل فقد دأبت على مخاطبة مبجّلهاء أي صاحب 
المحلّء بلغة الاحترام - بعدما أمعنت التفكير في ماريا ومبجلها من هذه 
الزاوية وتلك» تمكنت من خلق بعض التنظيم المكانيّ في رأسي المسكين 
- ففتحت الباب الغائم الزجاج . 

لقد تخيّلت هذا المكان فى السابق باعتباره مكاناً خالياً من النوافذ» 
بنغل أن التجزء العلرق من الباب الغاتم الشذافية لم يقصم بدا عن أي شريط 
من ضوء النهار. فعئرت على زر الكهرباء على يميني مثلما الحال في 
حجرتي . كان المصباح ذو الأربعين واطا كافيا تمامأ لإنارة تلك الحجرة 
الضيقة جد التي لا يجوز أن تطلق عليها تسمية الغرفة» نظراً لحجمها. 
فشعرت بالحرج حين وجدت نفسي أقف على الفور قبالة مرآة عكست 
نصف جسدي . بيد أن أوسكار لم يتجنب صورته المقلوبة التي لم تحمل 
أي دلالة بفعل انعكاسها؛ إذ أن الأشياء المعروضة على طاولة الزينة على 
امتداد عرض المرآة جذبتنى إليها بقوّة» فوقف أوسكار على أطراف أصابعه . 
فكشف ميناء طشت الغسيل عن بقع زرقاء مائلة إلى السوادء وكذلك بدا لوح 
الممر الذي شكل طاولة الزينة» والذي غطس فيه طست الغسيل حتى 
الحافة» مصاباً أيضاً بأضرار. وطرحت زاوية لوح المرمر المثلومة أمام 
المرآة؛ كاشفة عن عروقها. ثمة آثار شريط لاصق مقشّر في موضع الثلم 
نمت عن محاولة إصلاح غير ماهرة. فشعرت بأصابعي النحتية تحكني» 
ففكرت في معجون ترميم المرمر الذي صنعه كورنيف بنفسهء فيحيل المرمر 
الهش القادم من حوض لاهن إلى ألواح واجهات متيئة تلصق على محلات 
القصابة الكبرى. والآن». بعدما أتاحت لى صحبة الحجر الجيريٌّ الأليف 
لنبيان:منورتى التى فوسعها المراة انين انظ تقويد» مريت آيضاً من 
تعيين تلك الرائحة التي بدت لأوسكار رائحة خاصة أثناء دخوله. 


/1 1" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


كانت تلك رائحة خل» وقبل بضعة أسابيع عذرت ذلك الهواء الشديد 
الإلحاح من الافتراض القائل بأن الممرضة ربما غسلت شعرها يوم أمس . 
كان محلول خلّ ذاك الذي خلطته بالماء قبل أن تشطف فروة رأسها. لكن 
لم تكن هناك زجاجة خلّ على طاولة الزيئة» كذلك لم أعثر على خل في 
القوارير التي لصقت بملصقات مواد مختلفة؛ فقلت في نفسي وكررت 
القول بأن الممرضة دوروتيًا ما كانت لتغلي الماء في مطبخ تسايدلر» بعد 
حصولها على موافقة منه؛ لكي تغسل شعرها بطريقة معقدة؛ لو أنها عثرت 
في مستشفى ماريا على حمّام حديث. فمن الممكن, على أية حال» أن 
الممرضة دوروتيًا اضطرت إلى غسل شعرها هنا في هذا الوعاء ذي الميناء 
المطلي. أمام المرآة غير الدقيقة» إثر منع عام ون لد رئيسة الممرضات 
أو من جهة عليا في المستشفى يحرّم على المعينات استعمال المرافق 
الصحيّة العائدة للمستشفى. وعلى الرغم من أنني لم أعثر على زجاجة خلٌ 
على رف الزينة» غير أن هناك قوارير صغيرة وعلباً كثيرة على المرمر 
المبلول. وثمة علبة قطن وعلبة أخرى من حفاظ الحيض» نصف فارغة» 
أطاحتا بجرأة أوسكار فمنعتاه من فحص محتوى القوارير. ومع ذلك فإنني 
أصبحت مقتنعاً اليوم بأن محتوى تلك القوارير لم يكن سوى مستحضرات 
تجميل؛ أو مجرد مراهم طبيّة غير خطيرة. 

وقد شكت الممرضة المشط بفرشاة الشعرء فتطلب الأمر بعض 
المشقّة لكي انتزعه من الشعر الخشن وأعرضه أمام بصري الكامل. فبدا 
حسناً ما فعلته؛ إذ أن أوسكار توصل في تلك اللحظة إلى اكتشاف مهم : 
كان شعر الممرضة أشقرء ربما أشقر رمادياء لكن على المرء أن يحاذر من 
إعطاء الاستنتاجات» لذلك فأننى أطلق التأكيد التالى فحسب: إن الممرضة 
دوروتيًا شقراء الشعرء إضافةً إلى أن الشحنة الكثيفة المثيرة للريبة التي 
حمليا النقط.دللت على أن المدرقة كانتت مانن من تساقط الختفر 
كألقيك سب هذا العرفن النقبجل الدن يتليل مشاصر الأنكن وملام 
بالمرارة على عاتق القلنسوة» بيد أنني لم أوجه الاتهام إلى القلنسوة؛ لأن 
الأمور لا تستتب بدونها في مستشفى جيّد الإدارة . 


518 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ولم توّلد حقيقة تساقط الشعر عن رأس الممرضة دوروتيًا سوى 
الحبّ المشحون بالقلق الذي أرهفه التعاطف ورقة القلب»؛ مهما كانت 
رائحة الخلّ مزعجة بالنسبة لأوسكار. ومما له دلالة كبيرة على وعلى 
الوضع الذي كنت فيه هو أن كثراً من متتحقدرات تم الشعر الناجتعة قد 
خطرت فى ذهنى على الفورء تلك التى سأقدمها إلى الممرضة فى فرصة 
نكاسية . أنناء تفكيرى قن ذلك اللقاء < قطيلة أرمكاز يع تحت سماء 
صيف صافية بين حقول القمح المتمايلة - أزلت الشعيرات المنفردة» 
فلففتها ببعضهاء ثم طويتها معاًء ونفخت بعضاً من الغبار والقشرة عن 
الخصلة»؛ ودسستها بحذر فى أحد جيوب محفظتي الذي أفرغته على 
يكل + آنا البتقط: اللدى الثاء اومتكان على وف المرسرء لكي سيط طن 
مبعنكافه تدا رلته عقة كانه عبن حملك التحفظلة والقتيية قن فر 
فرفعته إزاء المصباح الخالي من الغطاء» جاعلاً ياه يضيح شقافاًء وعدت 
أتابع أسنانه الشديدة التباين» فتثبت من خلو سئّين من صف الأسنان 
النحيفة» وانتهزت الفرصة فخرطت يظفر سبابتى اليمنى أسنان المشط من 
الناحية الغليظة» فشعر أوسكار بالبهجة في فترة الوقت الضائع عبر إضاءة 
بعض من الشعر القليل الذي تجاهلت نفضه عمداًء لكي لا أثير الريبة. 

ثم غاص المشط داخل فرشاة الشعر بشكل نهائي. لكنني وجدت 
نفسي أبتعد عن رف الزيئة الذي وجهني توجيهاً أحاديّ الجانب» فعثرت» 
وأنا في طريقي إلى فراش الممرضة؛ بكرسيّ مطبخ عُلَقَ عليه مشدّ أثداء. 
فلم يستطع أوسكار ملء تجويفيّ الحمّالة اللتين بُليت حوافهما من كثرة 
الغسل حتى نصل لونهاء إلا بقبضتيه؛ لكنهما لم يستطيعا ملئهماء كلآء 
إنما تحركتا في الوعائين باغتراب وتعاسة وتصلّب وعصبية أيضاء متمنياً 
تلوقيها يومياء دوة أن اعرف طسنيناة" واضعا |مكانية التقيق الفوقت فن 
نظر الاعتبار؛ إذ أن كلّ حساء يستدعي الاستفراغ أحياناً؛ ثم يصبح حلو 
المذاق بعد ذلك» بل شديد الحلاوة» لدرجة أن التقيؤ يجد له طعماً ماء 
ريضع لحب موضع الاعغبار. 

وخطر في ذهني الدكتور فيرئر» فانتشلت قبضتي من حمّالة الأثداى 


194 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وعلى الفرن دقيت ووه الدكوير جرتر عن عكيلتي» فتمكنت من الوقوف 
على سرير الممرضة دوروتيًا. هذا هو إذا سرير الممرضة! كم مرّة تخيله 
أوسكارء والآن فإنه يرى هذا الهيكل القبيح الذي أطر هدوئي أو الأرق 
الذي كان ينتابني بين الحين والآخر بإطار بنيّ. كنت تمنيت لها سريراً 
حديدياً أبيض اللون برؤوس نحاسية؛ وبقضبان من النوع الخفيف» لكن ‏ 
ليس قطعة الأثاث هذهء الفظة» الشديدة الجفاء. وقفت فترة طويلة قبالة 
مذبح النوم ذلك الذي بدت أضلاعه كما لو أنها قُدّت من الرخام؛ وقفت 
برأس عاجز عن التفكير وعن الشعور بالشهوة وحتى عن الشعور بالغيرة. 
إن أوسكار لم يتخيل أبداً الممرضة دوروتيًا وفراشها في قبر كريه كهذا. 
وأصبحت في طريقي إلى طاولة الزينة مرّة ثانية» مدفوعاً بهاجس فتح تلك , 
القوارير المحتوية على المراهم المزعومة حين أمرتني خزانة الثياب بمراقبة ' 
قياساتهاء وبإعطاء صبغها صفة اللون الأسود البنيّ» وبتعقّب معالم. 
حاشيتهاء لكي أفتحها أخيراً؛ إذ أن تلك الخزانة أرادت أن تُفتح. فلويت, 
المسمار الذي أمسك بمصراعيّ الباب بدلاً من القفل إلى الأعلى» فانشطر ' 
الخشب نصفين دون معونتي, زافراً متنهداً. وقدم ليّ مشهداً حافلاء 
أجبرني على التراجع بضع خطوات», لكي أتمكن من تأمله بهدوء وبذراعين 
متشاركتين + فأوسكار لم يود أن يضيّع نفسه في التفاصيل مثلما فعل مع , 
طاولة الزينة» ولم يرغب في إصدار حكم جاهز وهو محملاً بالآراء. 
المسبقة كما فعل مع السرير» إنما أراد الالتقاء بالخزانة على نحو طازج ؛ 
كما تمئى في اليوم الأوّل؛ لأن الخزانة استقبلته بذراعين مشرعتين. َ 
لكن أوسكارء المتمادي في ولعه الجماليّء علم يستطع التخلي كلاً. 
عن الانتقاد: فثمة بربريٌّ ما قطع بالمنشار أقدام الطاولة بتسرّعء مخلفا مخلفا 
شظايا كثيرة» لكي يضعها فوق الأرضية بشكل مستو ومعوج. وبدا النظام 
الداخلي للخزانة خالياً من كلّ عيب» فعلى اليمين تكدست الملابس : 
الداخلية والبلوزات في رفوف ثلاثة عميقة» بيضاء ورديّة» متنوعة مع 
الأزرق الفاتح الأصيل الذي لا يمحل لونه في الغسيل . ثمة حقيبتان من 
المشمّع ذي المربعات الخضراء الحمراء ارتبطتا ببعضهما وعَلّقتا قرب 


0 
1_طماع1© :عا ]آنلا 1 


رفوف الملابس الداخلية في الناحية الداخلية لمصراع باب الخزانة اليمين» 
وقد احتفظتا من الأعلى بالجوارب المرنّقة ومن الأسفل بالجوارف 
المنسولة الخيوط . بدا نسيج الجوارب المحفوظة في حقيبتيَّ المشمّع أكثر 
تماسكا ومتانة من الجوارب التي تلقتها ماريا ار ورا 
ثم ارتدها أيضأًء وإن كانت لم تقلّ عنها خشونة. رأيت ملابس المستشفى 
المنشّاة الخافتة اللمعان ملعقةٌ على شمّاعات الثياب في الجزء الفسيح من 
يسار الخزانة. وعلى رف القبعات الذي فوقها اصطفت قلنسوات 
الممرضات» البسيطة الجمال؛ بحسّاسية بالغة لا تتحمل أي لمسة غير 
مدرّبة. فلم ألقي إلا بنظرة قصيرة على الثياب المدنية المصفوفة إلى يسار 
رفوف الملابس الداخلية. فأكد خيارها للملابس الزهيدة الذي نمّ عن 
إهمال ما رجوته في صمت: بأن الممرضة كانت تهتم اهتماماً متواضعاً 
بهذا الجزء من لوازمها وتجهيزاتها. ثم تراءت أغطية الرأس الثلاثة أو 
الأربعة التي كانت تشبه القدور المصفوفة فوق بعضها إلى جانب 
القلنسوات في رفٌ القبعات بغير عناية» حيث احتكت زهورها الاصطناعية 
الغريبة الأشكال ببعضهاء فبدت على العموم مثل كعكة حالفها الإخفاق. 
كذلك اتكأت على علبة حذاء محشوة بالقطن المستعمل في رفٌ القبعات 
دستة صغيرة من الكتب الملوّنة الظهر. ثم أمال أوسكار برأسه. وتوجب 
عليه الاقتراب» لكي يستطيع قراءة ا وأعدت رأسي إلى وضعه 
السابق مبتسماً بتسامح؛ لأن الممرضة دوروتيًا الطيبة القلب كانت تقرأ 
الروايات البوليسيّة . والآن يكفى الحديث عن الجزء المدنئّ من خزانة 
البلايس! لقد أغرين الكعت في الاعراي من هذا العيتدوقع شهدا 
المكان المناسب» بل قمت بأكثر من ذلك» إي أنني أنحيت إلى الداخل» 
ممتئعاً عن مقاومة الرعية فير الانتجاء إلى هذا المكان» تلك الرغبة التي 
ازدادت قوة» 0006 إلى محتوى الخزانة الذي وهب الممرضة دوروتيًا 
جزءاً ليس ضئيلاً من مظهرها الخارجي . أمَا الحذاء الرياضيّ العمليّ ذو 

الكعب المسطح المركون في القسم السفلي للميتاوة أن على 30 
الخشبيّة السفلى» الملمّع بعناية فائقة» منتظراً الخروج» فلم أكلف نفسي 


"7١ 
1 1_طماع1© :-1ع1]آنلا‎ 


حتى بتنحيته إلى الجانب. كان نظام الخزانة مقاماً على نحو يشجّع على 
الدخول إليها بقصد واضح إلى حدّ ماء لدرجة أن أوسكار زحف على 
ركبتيه » عائراً على مكان وملاذاً واسعين داخل الصندوق» منترعيا على 
الكعبين» دون أن أزيح أي رداء. هكذا ركبت فيه ممنياً النفس بالكثير. 

ومع ذلك فإنني لم أتمكن حالاً من السيطرة على نفسي» إنما شعر 
أوسكار بمراقبة المحتويات ومصباح الحجرة. ولكي أجعل إقامتي داخل 
الخزانة إقامة حميمة حاولت جذب مصراعى الباب» فنشأت صعوبات 
جاه ذلك ؟ لأقارزات لباب كاناسركفية اعت القكب بالأقرام من 
الأعلى: حيث تسلل الضوء إلى باطن الخزانة» لكن الضوء لم يكن حاداً 
لدرجة إزعاجى . بيد أن الرائحة اشتدت على العكس من ذلك . فانبعثت 
الرائحة القديمة الخالية من أيٍّ شائبة» والتي لم تكن لها علاقة بالخلٌ» إنما 
برائحة مواد لمكافحة العثّة؛ بمعنى أنها كانت رائحة جيّدة . 

فما الذي فعله أوسكار حين جلس في الخزانة؟ لقد أسند جبهته على 
أوَّل ثوب مهنيّ من أثواب الممرضة دوروتيًا؛ كان عبارة عن مريلة بأكمام؛ 
تطبق من الرقبة» ومن خلالها وجدت على الفور جميع الأبواب إلى 
ردهات المستشفى مفتوحة أمامها - فامتدت يدي اليمنى التى ربما بحثت 
عن متكأ إلى الخلف, متجاوزة الثياب المدنية» ثم ضلّت وميا فاقدة ما 
استندت إليهء ثم أمسكت بشيء ما ناعم» لينَ مطاوع» وعثرت أخيراً - 
ويدي لم تزل ممسكة بذلك الشيء الناعم - على قضيب خشبيّ ساند» 
فانحدرت بموازاة عارضة»؛ سمرت بشكل أفقىّ»؛ فقدمت لى ولجدار 
الخزانة الخلفي منعقراً؛ .يعد ذلك غادت يذه إلى موؤضعها البعين» فكان: 
عليه أن يبدو راضياً» إذ أنني كشفت لنفسي ما قبضت عليه من خلف 
ظهري . فرأيت حزاماً أسود لامعاً. غير أنني لمحت ما هو أكثر من الحزام 
اللأمع ؛ لأن الصتدوق نفسه كان معتما زماديا» بيحيك أن حزاماً لامعا لا 
يمكن أن يتكشف على هذا النحو فحسبء فمن الممكن أن يعني شيئاً 
آخرء شيئاً مشابهاً ناعماً؛ متمدداء رأيته على سدّة المرفأ في نويفارفاسر 
عندما كنت طبّالاً لا يعرف الكلل» في الثالئة من السنّ: كانت أمّي 


51> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


المسكينة ترتدي معطفاً ربيعياً أزرق بثنية كمّ لها لون التوت البريّ» وارتدى 
ماتسرات معطفاً بصفّين من الأزرار» وتلفّع يان برونسكي بياقة من القطيفة» 
إضافة إلى أوسكار بقبعته البحرية ذات الشريط التي طرّزت عليه عبارة 
نالو 8115 مخبوط نذفيةه تقكن صاحب المعطقت رضاحي الباقة 
صخرة بعد صخرة» مبتعدين مني ومن أنّي التي لم تستطع القفز بسبب 
حذائها ذي الكعب العالي» حتى وصلا العلامة البحرية التي جلس أسفلها 
سياه الاسمالة يصتارقه وخيل العسبيل وبعوال البطاطين المليم بالفاخ 
والحركة. بيد أنناء نحن الذين رأينا الجوال والحبل» أردنا أن نعرف لماذا 
استخدم الرجل حبل غسيل لاصطياد السمك أسفل العلامة البحرية» لكن 
الرجل القادم من نويفارفاسر أو من بروزن» أو حيثما كان قادماًء بصق في 
الماء بصقة بنيّة» ظلّت تتأرجح فترة طويلة إلى جانب السّدة ولم تتحرك 
من مكانها حتى تلقفها نورس؛ إذ أن النورس يتلقف كلّ شيء» فهو ليس 
كالحمامة الحسّاسة» ناهيك عن أن يكون كالممرضة - سيكون الأمر سهلاً 
لو أن المرء يقذف بكل من ارتدى البياض في قبعة واحدة» ثم يدسها في 
خزانة» ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن كل من ارتدى السواد؛ إذ أنني لم 
أخف آنذاك من الطاهية السوداء» فجلست فى الخزانة بلا خشية» وكذلك 
لم أجلس فيهاء إنما وقفت ثابت الجنان مثلما كنت آنذاك ؛ وقفت فوق 
سدة المرفأ قرب نويفارفاسرء حين كانت الريح ساكنة؛ ممسكاً هنا بحزام 
لامع وهناك بشيء آخرء أسود لزجء إلا أنه مع ذلك؛ لم يكن حزاماء 
فأخذت أبحث عن مقارنة؛ لأننى جلست فى خزانة» والخزانات تجبر 
المرء على القيام بعقد المقارنات؛ فوجدت ذلك في الطاهية السوداء» لكن 
الأمر لم يشغل اهتمامي آنذاك؛ إذ كنت عارفاً بالأبيض أكثر منه» وغير قادر 
على التمييز بين النورس والممرضة دوروتيّاء نابذا الحمامات وما شابهها 
من خرافات» لاسيما وأن عيد العَنْصَّرة لم يحن بعد بل حلّت الجمعة 
الحزينة؛ إذ أننا رحلنا إلى بروزن ومن ثم ذهبنا إلى السدّة - كذلك لم 
تحم الحمامات حول علامة البحر التي جلس أسفها الرجل القادم من 
نويفارفاسر بحبل الغسيل» حيث كان جالسا ويبصق. 


5 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وعندما جذب الرجل القادم من بروزن حبل الغسيل إلى النهاية» آنياً 
بالدليل على ثقله؛ ساحباً إِيَاه من مياه نهر موتلاو الشديدة الملوحة» 
وضعت أمّي المسكينة يدها على كتف يان وعلى ياقته؛ لأن وجهها أصبح 
شاحباً كالجبن ولأنها أرادت الانصرافء غير أنها أجبرت على رؤية الرجل 
وهو يصفع رأس الحصان فوق صخرة» فتساقطت منه ثعابين الماء الصغيرة 
الخضراء خضرة البحر» بينما جذب الكبيرة منها المعتمة اللون بقوّة» كما 
لو أنه كان يفك قلاووظء وثمة أحد ما مرّق فراشاً من ريشء» أعني أن 
النوارس جاءت» هابطةً على الأسماك» فظفرت بها؛ إذ أن النوارس كانت 
تتمكن من اقتناص ثعبان ماء صغير دون جهد إذا كان عددها ثلاثة أو أكثر» 
في حين شكلت لها ثعابين الماء الكبيرة مصاعب. حينئذ فغر الرجل فم 
الرئة على آخرف وحضر قطعة خشب بين فكي الجير معها الخضان على 
الضحكء ثم مد ذراعه الكثيفة الشعرء ليقبض على شيء ماء ومذها مرّة 
أخرى» مثلما مددت يدي فى الخزانة» فأمسك به وأخرجه. مثلما فعلت 
أنا بالحزام اللامع؛ فجذب سمكتين دفعة واحدة؛ ثم طرّح بهما في 
الهواء؛ ليلطمها على الصخرء حتى طفر الإفطار من وجه أمّي المسكينة» 
ذلك الطعام الوفير المكوّن من القهوة بالحليب وزلال البيض وصفاره» 
فضلاً عن قطع الخبز الصغيرة و القليل من المربى» لدرجة أن النوارس 
تأهبت على الفور بشكل مائل» هابطة بمقدار طابق واحدء وبأقدام 
منفرجة» أمَا الصراخ فإننا لا نحبٌ الحديث عنه؛ فمن المعروف لدى 
الجدع بأد التوارس لها عيون اشريرة» ولم تستجب لمحاولات إبعادهاء 
بل أنها لم تستجب بالتأكيد ليان برونسكي؛ إذ آليذا غاها من الوارس: 
ترش يديه أباق عبنيه الزرقارين ن الواسعتين؛ كما أن النوارس تجاهلت 
طبلي؛ وصارت تتدافع فيما بينهاء بينما استحدثت ساعتها إيقاعا جديدا 
لاس اح مودي 1 كي بكي 
لأمّي المسكينة» فقد الشغلت بنفسها تماماًء تتقيأ وتتقيأء لكنها لم تقذف 
شيئاً؛ فهي لم تكن أكلت الكثير ؛ لأنها أرادت أمّي الحفاظ على رشاقتهاء 
لذلك بدأت تمارس الألعاب الرياضية مرتين أسبوعياً في منظمة النساء 


53> 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


غير أن تلك التمارين لم تنفعها كثيراً؛ لأنها كانت تأكل في السرّء مختلقة 
دائماً حجّجة ماء مثلما فعل الرجل القادم من نويفارفاسرء على الضدّ من 
جميع النظريات؛ حينما سحب من أذن الحصان ثعبان ماء في الختامء 
تعدما ظنّ الحاضرون بأن لبن هناك ما يمكن سحيه. فكان تحان الماء 
مليئاً بالمخاط ؛ لأنه احتك بمخّ الحصان؛ فصار يطوّح به إلى أن سقط عنه 
المخاط» فأظهر الثعبان طلاءه» لامعاً مثل حزام الجلد المدهون. فكل ما 
أرادت قوله هنا هو: أن الممرضة دوروتيًا لم تتمنطق بالحزام عندما تخرج 
في شأن خاص دون أن تشك في ثوبها ديّوس الصليب الأحمر. 

لكننا ذهبنا إلى الدارء على الرغم من أن ماتسرات أراد البقاء؛ إذ أن 
سفيئة شحن فلندية محملة بما يقرب من ألف وثمانمائة طن مخرت البحرء 
قاذفة بالأمواج من حولها. كان الرجل قد ترك رأس الحصان ملقى على 
السدّة. فاستحال لونه الأسود إلى أبيض. فصهل ليس كما تصهل الخيول» 
بل مثلما يصهل الغيم الأبيض؛ صارخاً بصوت صاخب يطبق بنهم على 
رأس حصان فيحجبه؛ نحيك بذ ذلك آمرا حيدا؛ لأن المرء لم يعد يرى 
الرأس حتى لو تخيّل الجنون الذي اختفى هناك. كذلك صرفت سفينة 
الشحن انتباهنا عنه» إذ أنها كانت محملة بالخشب وصدئة مثل القضبان 
التي سوّرت مقبرة سازبه. بيد أن أمّي المسكينة لم تلتفت إلى السفيئة ولا 
إلى النوارس؛ لأنها رأت ما يكفي. وإذا كانت في السابق لم تكتف فقط 
بعزف أغنية «النوارس الصغيرة تحلّق نحو جزيرة هلغولاند»» إنما تغنيّها 
أيضاً؛ فإنها توقفت فيما بعد عن أداء تلك الأغنية» بل أنها انقطعت تماماً 
عن الغناء» وأرادت في البدء الامتناع عن تناول السمكء» لكنها بدأت ذات 
يوم مشرق بالتهام الكثير منه» لاسيما الدسم منه» حتى لم تعد تطيقه؛ 
كلا؛ بل لأنها تجرّعت ما يكفى ليس فقط من سمك الثعبان» بل من 
الحياة نفسهاء وبالأخص الرجالء» وربما من أوسكار أيضاء فقد اقتنعت 
فجأة بذلك القدر على أية حال تلك المرأة التي لم تتنازل عن شيء قطء 
فصارت زاهدة؛ حتى دفنّاها في مقبرة برنتاو. لقد أخذت عنها صفة عدم 
التنازل عن أي شيء؛ من ناحية» وتدبير شؤوني» بالاستغناء عن كل 


530" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


شيء» من ناحية أخرى؛ بيد أنني لم أستطيع العيش بدون سمّك الثعبان 
المشويّ بالدخان» مهما بلغ ثمنه. فكان هذا ينطبق أيضاً على الممرضة 
دوروتيًا التي لم أرها أبدء والتي لم يحظ حزامها اللامع بإعجابي إلا قليلاً 
- ومع ذلك فإنني لم أستطع التخلص من الحزام الذي كان يطول بلا 
توقفء حتى أنني فتحت أزرار السروال بيدي الطليقة» لكي أتخيّل 
الممرضة التى أضحت صورتها غامضة بفعل الكثير من سمك الثعبان 
وكذلك فيب متا اهن المبحرة في اتجاه المرفاأ. 

وشيئاً فشيئاً تمكن أوسكار أخيراًء وبمعونة النوارس» من العثور على 
عالم الممرضة دوروتيّاء أو على ذلك الشطر من الخزانة التي آوت ثياب 
مهتتهاء أي الثياب اللطيفة» الخالية من جسدهاء مستعيداً باستمرار ذكرى 
سدّة المرفأ. حين رأيتها بوضوح في آخر المطاف» وظننت بأنني تبينت 
معالم وجههاء انفلتت المفاصل من مواضعها المتخلخلة : فانفرج مصراعا 
الباب» مولدين صريرا مزعجاء وأوشك الضياء المفاجئ أن يربكني» 
فتوجب على أوسكار أن يجهد نفسهء لكي لا يلوّث مريلة الممرضة 
دوروتيًا ذات الأكمام المعلقة إلى جانبه. ولكي أحقق انتقالاً ضرورياً 
وأنهي إقامتي الشاقة داخل الخزانة» على العكس مما توقعت؛ أنهيها 
بصورة لعوبة فقد أخذت أطبل - لم أكن فعلت ذلك منذ أعوام - فنقرت 
على جدار الخزانة الخلفى الناشف عدداً من الإيقاعات الخفيفة الماهرة أو 
غير الماهرة؛ ثم غادرت الخزاثة» بعدما تفحصت هرّة أخرى حالة نظافتها 
- لا يمكن أبداً أن أوجه اللوم إلى نفسي - فحتى الحزام اللامع بقي 
محتفظأ بلمعانه؛ كلاء ثمّة مواضع عكرة لابد من مسحهاء فنفخت عليها 
لأمسحها حتى عاد الحزام إلى سابق وضعه التي يذكر بسمك الثعبان الذي 
كان المرء يصطاده قرب سدّة المرفأ في نويفارفاسر أيَام صباي المبكر. 

أناء أوسكارء كنت قد خرجت من حجرة الممرضة دوروتيًا بعدما 
قطعت تيّار الكهرباء عن مصباح الأربعين واطأ الذي راقبني طوال زيارتي. 


1" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وقفت آنذاك فى الممرء حاملاً فى محفظتى خصلة شعر شقراء 
شاحبة» فأجهدت لني لمدة ثانية» ل اسن الخصلة عبر الجلد 
وبطانة السترة والصديري والثوب والقميص الداخلى» غير أننى كنت متعباً 
ومرتاحاً بطريقة متجهمة عجيبة؛ لدرجة أنني لم أر في تلك الغنيمة التي 
سلبتها من حجرة الممرضة أكثر من قمامة تجمعها الأمشاط. والآن فقط 
اعترف أوسكار بأنه بحث عن نفائس أخرى. لقد سعيت أثناء إقامتي في 
حجرة الممرضة دوروتيًا من أجل التعرّف على آثار تشير إلى الدكتور 
فيرئر؛ حتى لو تحقق ذلك عن طريق ظروف الرسائل التي عرفتها. لكنني 
لم أعثر على شيء؛ ولم أجد أثراً لمظروف رسالة؛ ناهيك عن أي ورقة 
مكتوبة. فأوسكار يقرٌ بأنه سحب الروايات البوليسية للممرضة دوروتيًا من 
رف القبعات» واحدهةً تلو الأخرى» فتصفحهاء لعّله يعثر على إهداء أو 
مؤشّرة قراءة موضوعة بين صفحات الكتاب» وفتش أوسكار عن صورة؛ 
إذ أن أوسكار لم يكن يعرف في الحقيقة معظم أطبّاء مستشفى ماريا 
بالاسم» إنما من خلال الملامح - لكن لم تكن هناك أي لقطة فوتوغرافية 
تمثل الذكتون فير فبدا كما لو أن لم يتعرف على حجرة الممرضة 
دوروتيّاء وإذا ما تحققت له رؤيتها ذات مرّة» فإنه لم يخلّف آثاراً وراءه. 
وهكذا احتفظ أوسكار بجميع الدوافع التي يمكن أن تجعله مسرورا: ألم 
أتقدم على الدكتور بجملة من المزايا؟ ألم يأت غياب جميع آثار الدكتور 
بالدليل القاطع على أن العلاقات القائمة بين الطبيب والممرضة اقتصرت 
على المستشفى وحده.؛ أي أنها علاقة ذات طبيعية مهنية» وإن لم تكن 


"111/ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


مهنية» فأحادية الجانب! وباتت غيرة أوسكار تفتّش عن دافع ماء وبمقدار 
ما ستتركه مخلفات الدكتور فيرنر من طعنات في نفسي فإنني سأحظى 
بارتياح بالقدر ذاته؛ ارتياح لا يمكن مقارنته بالنتيجة الضئيلة الأهمية 
والقصيرة العمر التي خرجت بها إثر إقامتي في خزانة الملابس. 

إنني لم أعد أعرف كيف وجدت طريقي إلى غرفتي» لكنني أتذكر 
الآن الى سمعت سعالاً مصطعا ملتمسا الاتماه» انطلق من وراة النات 
الواقع في طرف الممر الذي كان يقفل غرفة ذلك السيّد المدعو مونتسر. 
فما الذي يعنيه لي السيّد مونتسر؟ ألا يكفيني ما شهدته من مستأجرة 
القنفذ؟ فهل أثقل كاهلي بأمر مونتسر - حيث أن أحداً لم يكن يعرف ما 
الذي اختفى وراء هذا الاسم؟ فتجاهلت السعال المطالب بالانتباف» أو 
بالأصح: إنني لم أفهم ما طلبه متي» إلا أنني فطنت إلى قضية بعدما 
دخلت غرفتي» وهي أن السيّد مونتسر المجهول بالنسبة لي» الذي لا 
يعنني أمره شيئاًء قد سعل ليغريني؛ أنا أوسكارء لكي أدخل إلى غرفته. 
فاعترف: بأئني شعرت بالندم وقتاً طويلاً؛ لأنني لم استجب للسعال؛ إذ 
أن غرفتي ضاقت عليّ بما لا يطاق وأصبحت شاسعة فضفاضة» بحيث أن 
أي حديث مع السيّد مونتسر ذي السعال سيكون له وقع الصنيع الجميل» 
مهما كان مزعجاً وقسريًا. فأسلمت نفسيء» بإرادة مسلوبة» إلى كرسيّ 
المطبخ المتصلّب» القائم الزوايا؛ لأنى لم جد الجرأة الكافية لعقد صلة 
بذلك السيّد القابع خلف الباب في نهاية الممرء ولو بشكل متأخرء ربما 
من خلال حنّه على السعال مرّة أخرى» فأخذ القلق تنازعني» كالعادة» 
كلّما جلست على كرسيّ» فتناولت أحد المراجع الطبيّة من الفراش» ثم 
تركت هذا الأثر القديم الذي اشتريته بنقود كسبتها بشقّ النفس من خلال 
الوقوف موديلاء فانثنى المرجع وتثلمت أركانه» فتناولت من الطاولة هدية 
راسكولنيكوفء أي الطبل» وأمسكت به إلا أنني لم أستطع إرضاء 
الصفيح بالمضربين ولا بسفح الدموع التي ستسقط على الطلاء الأبييض 
المستدير بما يعني ارتياحاً خالياً من الإيقاع . 

والآن يستطيع المرء البدء بكتابة بحث عن البراءة المفقودة؛ فيضع 


78 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


أوسكار المطبّل الثابت على أعوامه الثلاثة إلى جانب أوسكار الأحدب 
المحبوس الدمع؛ المهموس الصوتء غير المطبّل. بيد أن هذا كان 
يجافي الحقيقة: لقد فقد أوسكار براءته مرّات عديدة عندما كان طبالا ثم 
استعادها ثانية»؛ وهيئ لها أسباب النمو؛ إذ يمكن مقارنة البراءة بالعشب 
المترعرع بمثابرة - أرجو أن تفكروا في جميع الجدّات البريئات اللواتي 
كنّ» كلّهن. رضيعات لعينات حاقدات - كلا؛ إن أوسكار لم يدع لعبة 
البراءة-الذنب تثب من كرسيّ المطبخ؛ إنما حبّي للممرضة دوروتيًا هو 
الذي أمرني بإلقاء الطبل جانباً» دون أن أطبّل عليه؛ ودفعني إلى مغادرة 
الغرفة والجير ودار تسايدلرء لأذهب إلى أكاديمية الفنون الجيلة على 
الرغم من أن البروفيسور كوخن قد طلبني للحضور أثناء الأصيل المتأخر. 
حين خرج أوسكار من غرفته بخطى مضطربة؛ ودخل في الممرء ثم 
فتح باب الدار بجلبة وبطريقة متكلفة للغاية» أنصتٌ برهةً لباب السيّد 
مونتسر. غير أنه لم يسعل» فغادرت الدار أخيرا ومن ثم البناية في «يوليشر 
شتراسه». خجلاء غاضباً؛ مرتاحاً جائعاًء متخماً بالسأم» مليئاً بالظمأ إلى 
الحياة» مبتسماً فى هذه الناحية أو تلك» موشكاً على البكاء فى أماكن 
أغرى» :وبعد بام قليلة نقّذت.خطة أعددت في الند5 لها طريلاٌء يدا لي 
نبذها وسيلة ممتازة» حتى يتسئّى لي إعداد آخر تفاصيلها. في ذلك اليوم 
كنت بلا عمل طوال فترة الضحى. وفى الساعة الثالثة عصراً توجب على 
أوسكار وأولا الوقوف موديلاً أمام الرسّام راسكولنيكوف الثريّ المخيلة؛ 
أي أن أقف أنا بمثابة عوليس العائد إلى أهله فيهب زوجته بينيلويه حدبة. 
فحاولت عبثاً صرف الرسّام عن هذه الفكرة» إذ أنه استولى آنذاك على 
الآلهة وأنصاف الآلهة الإغريقية سلب ونهبا. بيد أن أولا شعرت بارتياح إلى 
الأساطير الإغريقية؛ فتراجعت عن موقفي» وتركته يرسمني باعتباري الإله 
بركان» ومن ثم إله العالم السفلي بلوتو بصحبة إلهة الخصب «ابروسربيناة» 
ثم جعلني أخيراً «عوليساً» محدودب الظهر. لكن الأمر هنا يتعلق بوصف 
فترة الضحى تلك قبل كل شيء. لقد كتم عنكم أوسكار منظر ربّة الفنّ 
أولا باعتبارها بينيلوبه فقال: كان الصمت يطبق على دار تسايدلر» حيث 


2505 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


غادر القنفذ في رحلة تجارية مع ماكينات الحلاقة» والتحقت الممرضة 
دوروتيًا بعملها نهاراء فأصبحت خارج البيت منذ الساعة السادسة» بينما 
رقدت السيّدة تسايدلر في فراشها عندما جاء البريد بعد الساعة الثامنة بفترة 
وجيزة. وفي الحال استطلعت البريدء فلم أعثر على خاص بي - وصلت 
آخر رسالة من ماريا قبل يومين فقط -» إلا أنني اكتشفت من النظرة الأولى 
مظروفاً قادماً من المدينة نفسهاء حمل إمضاء الدكتور فيرئر على نحو 
واضح . 

في البدء وضعتها بين البريد المرسل إلى السيّد مونتسر وآل تسايدلر» 
ثم رجعت إلى غرفتي وبقيت أنتظر إلى أن وطأت السيّدة تسايدلر الممر 
فسلّمت المستأجر مونتسر رسالته؛ ودخلت المطبخ ومن ثم غرفة النوم» 
لتغادر الدار بعد عشر دقائق؛ إذ أن عملها المكتبى فى شركة مانسمان كان 
بيدا قن الساعة 'النامة .. فقت ابكار يعطلر: فحنا بون اذه في السلان: 
تارتدى ثياية ببطء شديد» 57 أظافر أصابعه بهدوء ظاهريّ: ثم قرر 
القيام بالعمل. فمضيت إلى المطبخ ووضعت قدراً من الألمونيوم مليثاً 
نصفه بالماء على العين الكبرى لموقد الغاز ذي الأعين الغلاث. ثم أدرت 
شعلة الغاز على آخرهاء وحين بدأ الماء يتبخر خفضت اللهب إلى الحدّ 
الأقصى. وتقدمت خطوتين أمام حجرة الممرضة دوروتيّاء محافظاً على 
أفكاري بعناية» واضعاً إياهاء قدر المستطاع, بالقرب من الفعل المرتقب» 
ثم التقطت الرسالة التي دسّتها السيّدة تسايدلر مسافة تحت الباب الغائم 
الزجاج» وأصبحت فوراً في المطبخ. عارضاً ظهر المظروف على بخار 
الماء بحذر حتى استطعت فتحه دون أن أحدث فيه ضررا. وأصبح من 
البديهي أن يطفأ أوسكار الغاز قبل أن يجرؤ على وضع رسالة الدكتور ي. 
فيرئر فوق القدر. 

غير أنني لم أقرأ خبر الطبيب في المطبخ» إنما قرأته وأنا مضجع على 
فراشي. في البدء شعرت بخيبة أمل» إذ لم تفصح المخاطبة الأولى أو 
صيغة المجاملة المتعارف عليها التى أتت فى آخر الرسالة عن طبيعية 
العلاقة بين الطبيب والممرضة. قباد فيها: ازيرت الآنسة دوروتيًا!» 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ثم: «المخلص لكِ أريش فيرنر.» وكذلك لم أعثر أثناء قراءة المكتوب 
الحقيقي على عبارة رقيقة بصفة خاصة. كان فيرنر بتأسف لأنه لم يكلم 
الممرضة دوروتيًا في اليوم السابق» على الرغم من أنه رآها أمام الباب 
المؤدي إلى قسم-الرجال-الخاص . غير أن الممرضة دوروتيًا عادت 
أدراجها لأسباب مجهولة؛ بعدما فاجأت الطبيب يتحدث مع الممرضة بيآنا 
- مع صديقة دوروتيًا. والآن فإن الدكتور فيرنر يطالب بتوضيح؛ إذ أن 
الحديث الذي خاضه مع الممرضة بيآتا انطوى على طابع مهنيّ بحت. 
ومثلما تعلم» أي الممرضة دوروتيّاء فأنه كان يبذل قصارى جهده دائماً 
بغية الإبقاء على مسافة بينه وبين بيآنا التي لا تستطيع السيطرة على نفسها. 
إن دوروتيًا التي تعرف بيآنا لابد أن تتفهم ذلك؛ إذ أن الممرضة بيآنا كثيراً 
ما أظهرت مشاعرها المتدفقة بغير رادع» لكن الدكتور فيرئر لم يستجب لها 
أبداً يطبيعة الحال. وقد جاءت الجملة الأخيرة من الرسالة على النحو 
التالي : «أرجو أن تصدقي بأن الفرصة متاحة أمامك كل وقت للتحدث 

ا الشكلية والبرودة» بل الغطرسة التي حملها 
هذا الشطر إلا أنه لم يكن من الصعب عليّ كشف القناع عن أسلوب 
رسالة الدكتور ي. فيرئرء لأفهم الرسالة مثلما ينبغي فهمهاء أي باعتبارها 
رسالة غرامية ملتهبة. فدسست الورقة بالمظروف على نحو آلي» متخليا 
هله المزة عن حذرق + قللت بلبنان أوسكار الشتريط اللاصق الذ ريما 
بلله فيرئر من قبل» ثم انفجرت في الضحك» وصرت أضرب براحتي يديّ 
جبيني وقحفة رأسي بالتناوب» مستغرقاً في الضحك» حتى تمكنت» وأنا 
في حمى الضربء إبعاد يمناي عن جبين أوسكار ووضعها على أكرة باب 
غرفتي» ففتحت الباب ثم وطأت الممر وزحزحت الرسالة تحت ذلك 
الباب الذي قفل حجرة الممرضة دوروتيًا المعروفة لي بخشبها الرماديٌ 
الطلاء وزجاجها الغائم اللون. 

كنت لم أزل مقرفصاً على كعبيّ» ممسكاً الرسالة بإصبعين إثنين» 
حين سمعت صوت السيّد مونتسر قادما من الغرفة التى فى طرف الممر. 
ففهمت كلّ حرف من ندائه البطيء الملحٌ الذي يصلح لكتابة الإملاء: «أه 


7١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


يا سيّدي العزيزء ألا تأتى لى بجرعة من الماء!؟» فاستقمت» وفكرت في 
أن هذا الأنسان فق يكوت مرشاء نيد أن عرقك فى الوقت ذانه بأن هذا 
الزبجلالقابح خلك الاب الم يكن نزيضا »دوا أإسكار أرهع تلسديهنا 
المرض» ليكون له سبب لجلب الماء؛ إذ أن هتافاً مجرداً خالياً من أي 
باعث لا يمكن قطّ أن يغريني بدخول غرفة إنسان غريب عنيّ غربة 
وحشية. وفي البدء أردت أن أجلت له الماء الفاتر في قدر الألمنيوم الذي 
أعانني على فتح رسالة الطبيب. لكنني سكبت الماء المستعمل في المغسلة 
الحجرية؛ وملاته بالماء العذب» ثم حملت القدر والماء إلى ذلك الباب 
الذي سكن خلفه صوت السيّد مونتسر المطالب بالماء وبي؛ أو لعلّه لم 
يطلب سوى بالماء وحده. وقرع أوسكار الباب ودخل» فاصطدم بتلك 
الرائحة الخاصة بكليب. إذا قلت عنها إنها رائحة عفنة؛ فإنني سأتكتم في 
الواقع عن جوهرها الشديد الحلاوة. لم تكن هناك مثلاً أي علاقة بين 
الهواء الذي طوق كليب وهواء غرفة المصحّة المتحممض كالخل . وإذا 
قلت إنه حامض-حلو فسيكون لك طلا ابفياء كان السيّد مونتسر أو 
كليب» كما أصبحت أسميه اليوم؛ عازفاً على الناي وعلى آلة الكلارنيت» 
كسولاً حتى السماجة؛ ومع ذلك لم يكن عديم الحركة؛ جسده ينضح 
بالعرق الخفيف؛ كان شخصاً خرافيّا» لا يعرف الغسل»؛ لكنه لم يصل إلى 
درجة التفسّخ» ممتنعاً دائماً عن الموت» فبدت رائحته رائحة الجنّة التي لم 
تتقطع عن تين السجائر ومضغ النعناع وفرز عرق الثوم. هكذا كانت 
رائحته زماناً وهكذا هي رائحة اليوم» ومعها رائحة أنفاسه؛ فكان يلقي 
بنفسه عليّ أيّام الزيارات» مشيعاً في الجرّ بهجة الحياة والفناءء مجبراً 
برونو» حالما يخرج خروجه المتكلف المبشّر بالعودة» على القيام بإعمال 
التهوية . 

والآن أصبح أوسكار طريح الفراش» أمّا آنذاك فقد وجدت كليب 
ممدداً في بقية سرير؛ كان كسولاً حتى وهو في مزاج رائع؛ واضعاً تحت 
يده موقل صغير قديم الطراز يوحي كما لو أنه قادم من عصر الباروك؛ 
موقد غاز يعمل على الكحول» ودستة من علب المعكرونة وعلب صفيح 


فر 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


تحتوي على زيت الزيتون ومعجون الطماطم المحفوظ في أنابيب تُعصرء 
وثمة ملح رطب متكتل مكوم على ورق جريدة وصندوق من البيرة» اتضح 
فيما بعد أنها كانت فاترة الحرارة. فأخذ يتبوّل فى الزجاجات الفارغة وهو 
متطجع» ويقفل + فعلها أسرٌ لى غيننا بعد» تلك الأوعية التضراء ذات 
السعة المناسبة له تماماء ثم يطرحها جانباً» عازلاً إيّاها عزلاً دقيقاً عن 
زجاجات البيرة بالمعنى الحرفيّ للكلمة» لكي يحيل دون الخلط بينها 
عندما يشعر طريح الفراش هذا بالظمأ إلى البيرة الحقيقية. وعلى الرغم من 
أن الماء كان موجوداً في غرفته - كان بإمكانه التبرّل في المغسلة لو أنه 
تحلّى بقليل من روح الإقدام -. لكنه كان تنبلاء أو بعبارة أدقٌ كانت 
إعاقته لنفسه دون النهوض أكثر بكثير من قدرته على مغادرة الفراش الممهد 
بجهد بالغ ليجلب الماء العذب بقدر المعكرونة. ولأن كليب كان يطبخ 
منتجات القمح بالماء نفسه دائماً وأبداً عندما كان يدعى بالسيّد مونتسرء أي 
يطبخها بالماء ذاته المسكوب مراراً والذي استحال إلى عصارة متخثرة» 
محافظاً عليه بحرص كما لو أنه يحافظ على ماء عينيه» فقد نجح مرّات 
عديدة في الحفاظ أربعة أيَامِ كاملة على ذلك الوضع الأفقيّ المناسب 
للسريرء معدمداً على رصيده من زجاجات البيزة الفارغة بيد أن نجالة 
الطوارئ كانت تعلن كلما استحالت خثارة المعكرونة إلى ثمالة كثيفة الملح 
لزجة من كثرة الغليان. كان بمستطاع كليب تجاهل الجوع؛ بيد أن 
المقدمات الإيديولوجية الضرورية لذلك كان تعوزه يومئذء فضلاً عن أن 
زهده بدا محدداً منذ البداية بمراحل مؤلفة من أربعة إلى خمسة أَيّامء وإلا 
لجعلته السيّدة تسايدلر التي كانت تجلب له البريد» أو قدر معكرونة كبير» 
أو مياه احتياطية تتناسب مع مخزونه من منتجات القمح» يستقل استقلالاً 
تاما عن المحيط الخارجي . 

حييئما انتهك أوسكار سريّة البريد كان كلببه يرقد مستقلاً فئ فراشة 
دل كنيب نام قياض يإمكانه أن يلهيج:ريقية تاء الممك روث 'ملصقات 
دعائية على أعمدة الإعلانات. حينئذ سمع خطوتي المترددة في الممرء 
والتي أوقفتها على الممرضة دوروتيًا ورسائلها. بعدما علم بأن أوسكار لم 


فرت 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يستجب للسعال المصطنع الملحٌ في طلبه؛ أجهد صوته في ذلك اليوم 
الذي قرأت فيه رسالة الدكتور فيرنر الغرامية الباردة العراطف: «أه يا 
سيّديء, ألا تأتى لى بجرعة من الماء!؟» فأخذت القدر وسكبت الماء 
الفائر» ثم فتحت حنفية الماء: وتركت الماء يهدر حتى امتلاً القدر إلى حدٌ 
النصف. وألحقته برشّة إضافية» وأتيت بالماء الجديد؛ لأنني كنت السيّد 
العزيز الذي ظنه فيّء فقدمت له نفسي تحت اسم ماتسرات» باعتباري 
نحاتاً وخطاطاً على الحجر. 

أمَا هو فقد رفع جذعه العلوي بأدب وبمقدار بضع درجات» مطلقاً 
على نفسه اسم أيغون مونتسره عازف الجازء لكنه ترجى منّي أن أسميه 
كليب؛؟ لأن أباه يسمّى مونتسر. ففهمت رغبته فهماً عميقاً» وسميّت نفسي 
كرلياجك تيا » زاربكار اتخساراً؟ إذ أن كنت الحمل لتجد ماتسيرات 
تواضعاًء ولم استطع تسمية نفسي أوسكار برونسكي إلا نادرا. فلم يكن 
من الصعب عليّ تسمية هذا الشاب الراقد في فراشه - قدّرت سنّه بثلاثين 
عاماًء لكنه كان أصغر من ذلك - باسم كليب ببساطة وبشكل مباشر. 
فسمّاني أوسكار لأن لفظ اسم كولياجك كلفه مشقّة بالغة. ثم خضنا 
حديثاء باذلين جهدا لكي نرفع الكلفة فيما بيننا. فاحتككنا ببعض 
المواضيع من خلال الثرئرة: لأنني أردت أن أعرف فيما إذا كان يعتبر أن 
قدارنا مييوما مبل البداية, فكان رأيه أنه قدر حتميّ. ثم أراد أوسكار أن 
يعلم فيما إذا كان يرى أن الناس سيموتون جميعهم. فاعتبر كليب أن 
الموت النهائي حقيقة مؤكدة» لكنه لم يكن متأكداً فيما إذا كان من 
الضروري أن يولد الناس كلّهم؛ متحدثاً عن نفسه كما لو أنه تحدث عن 
ولادة خاطئة» فشعر أوسكار مرّة أخرى بأنه مشابه له. كان كلانا يؤمن 
بالسماء - بيد أنه أطلق ضحكة قذرة بعض الشىء حينما أتى على ذكر 
التممات واخةا بعك ولد كدف اللبعاق + يمكن انير آنا ررقن بأت 
السيّد كليب كان قد خطط فى حياته لبعض الأعمال الخليعة الفاحشة التى 
و3 أن ينفتها فى السناء, عندنا عثعنا علن موضوعة السبانة أرشك 
كليت أذيكون تنما تعد ان اكترامق ثلاتمانة البرة المائية قيلة: 


575 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


متمنياً أن يهبهاء حالاء الجاه والتاج والسلطان؛ ثم أوكل أمر المنطقة 
المحيطة بمدينة هانوفر إلى الإمبراطورية البريطانية. وحينما سألته عن 
مصير مدينة دانسغ الحرّة سابقاً؛ أعرب عن أسفه لأنه لم يعلم أين تقعء 
لكنه اقترح بلا مبالاة أحد النبلاء من منطقة بيرغش» المنحدرء مثلما ذكرء 
من صلب يان فللم مباشرة» اقترحه أميراً على تلك المدينة المجهولة 
بالنسبة له للأسف الشديد. أخيراً - كنا منهمكين في تعريف مفهوم 
الحقيقة» محققين بعض التقدم - توصلت من خلال الأسئلة الاعتراضية 
التي طرحتها بمهارة إلى أن السيّد كليب كان يعيش مستأجراً هنا في دار 
تسايدلر منذ ثلاثة أعوام. فأعربنا عن أسفنا لأننا لم نتعرف على بعضنا من 
قبل. غير أنني ألقيت اللوم على القنفذ الذي لم يزودني بمعلومات كافية 
عن طريح الفراش هذا - تماماً مثلما لم يخطر بباله أن يبلغني بشيء ما عن 
الممرضة أكثر من الإشارة الصغيرة: هنا تسكن ممرضة خلف هذا الباب 
الغائم الزجاج . 

ولم يود أوسكار أن يثقل على السيّد مونتسرء أو كليب» بهمومه 
الشخصية على الفور. فلم ألتمس منه تقديم معلومات حول الممرضة» 
إنما أبديت قلقي عليه؛ قائلاً: «بالنسبة لموضوع الصحّحة؛ هل تشعر بأنك 
على ما يرام؟» فرفع كليب جذعه العلويٌ مرّة ثانية بمقدار بضع درجات» 
إلا أنه سرعان ما تخلّى عن ذلكء ملقياً بنفسه إلى الوراء» حالما تأكد بأنه 
غير قادر على مثلّث قائم الزاوية» ثم أبلغني بأنه يرقد في الفراش» لكي 
يعرف فيما إذا كانت حالته جيّدة أو معتدلة أو سيئة» وأنه يتمنى أن يعرف 
خلال الأسابيع القادمة بأن حالته متواضعة. ثم حدث ما كنت أخشاف. 
مطمئناً نفسي على أنني سأحول دون تحققه عبر الأحاديث المتشعبة. «آه يا 
عزيزي؛ أرجو أن تتناول معى وجبة من المعكرونة.» فأكلنا المعكرونة 
المغلية بالماء الطازج الذي جلبته معي. لكنني لم أجرؤ على أن أطلب 
الموافقة على إخضاع القدر اللزج إلى عملية تنظيف دقيقة في المغسلة. 
فقام كليب بعملية الطهي بعدما انقلب إلى الجانب» وأحضر وجبة الطعام 
بصمت وبحركات سرنمية مليئة بالثقة» ثم صب الماء بحذر في علبة صفيح 


> 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فارغة» ومدّ يده إلى أسفل» دون أن يغيّر وضع جذعه العلويّ تغييراً 
ملموساًء فأخرج طيقاً جفٌ عليه الزيت ومعجون الطماطمء بيد أن 
علامات الحيرة بانت على كليب برهة وجيزة» قبل أن يمد يده إلى أسفل 
السرير مرّة أخرىء ليتناول جريدة مجعّدة» ويمسح بها حافة الطبق؛ بعد 
ذلك أخفى ورق الجريدة تحت السريرء وأخذ ينفخ سطح الطبق الملرّث 
بأنفاسه» كما لو أنه أراد أن يزيح آخر ذرّة غبارء ثم ناولني طبقاً من أشد 
الأطباق بشاعةً والتمس من أوسكار أن يمد يده بلا كلفة. 

غير أنني رغبت في الأكل بعده» فطلبت منه أن يبدأ. وبعدما زودني 
بملعقة وشوكة لزجتيّ المقبضين حقيرتين» وكوم بملعقة حساء وشوكة 
جزءاً كبيراً من المعكرونة في طبقي وعصر فوقها بحركات لبقة شريطاً 
طويلاً من معجون الطماطم؛ على شكل زخرفة فوق المعكرونة الملتوية» 
وسكب عليها الكثير من زيت العلب؛ وفعل الشيء ذاته مع قدر الطهي» 
ثم رش الفلفل على الوجبتين» ومزج طعامه؛ وطلب مني بنظراته أن أخلط 
طعامي بالطريقة نفسها. «أن يا سيّدي العزيزء أعذرني لأنني لا أملك هنا 
نثار الجبن؟ ومع ذلك أتمنى لك شهيّة طيّبة.» ومازال أوسكار لم يفهم؛ 
إلى يومنا هذاء لماذا حمل نفسه آنذاك على استخدام الملعقة والشوكة. 
لقد استسغت الطعام بشكل عجيب» بل أن المعكرونة الكليبية أصبحت منذ 
ذلك اليوم مقياساً أقيس به كلّ وجبة طعام تقدم لي . وأثناء الأكل وجدت 
فرصة مناسبة لاستطلاع غرفة كليبء الطريح الفراش» ومعاينتها 
باستفاضة؛ لكن بطريقة غير ملفتة للنظر. كان ثقب المدخنة المفتوح 
الدائري الملاصق للسقف من الأسفل أكثر الموجودات فتنة وجاذبية فى 
المكان؛ كان ينفث أنفاسه السوداء من الجدار نفسهء ويدت الريح عاتية في 
الخارج» أمام النافذتين. على أي حال كانت هبّات ريح تلك التي نفخت 
سحب السخام من ثقب المدخنة بين الحين والآخر فعبّأت بها غرفة 
كليب» هابطة بانتظام على الموجودات» مقيمة قدّاساً جنائزيا. ولأن جميع 
الموجودات كانت عبارة عن السرير المنتصب فى وسط الغرفة والسجاد 
الحلفوف المقطى بالجرائد» والعائف إلى تسايدلر؛ فك المرة يستظيع 


خرن 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الادعاء بكل تأكيد بأن: لم يكن في الغرفة شيء آخر أكثر سواداً من 
شرشف الفراش الأبيض والمخذة التي رقدت تحت جمجمة كليب 
والمنشفة التي كان طريح الفراش يغطي بها وجهه على الدوام كلّما أمرت 
هبّة ريح بإطلاق سحابة سخام في الغرفة. وبدت نافذتا الغرفة مثل نافذتيّ 
غرفة نوم آل تسايدلر وغرفة جلوسهما المطلتين على يوليشر شتراسه» أو 
بعبارة أدقٌ مثل ثوب أوراق شجرة الكستناء الأخضر الرمادي» تلك الشجرة 
القائمة أمام واجهة البناية. كانت لوحة الزينة الوحيدة عبارة عن صورة ملونة 
لملكة بريطانياء اليزابيث» منزوعة ربما من مجلة مصوّرة» وقد ثبتت 
بدبابيس بين النافذتين. وتحت الصورة ثمة خطاف حائط عُلقت عليه قربة 
نفخ» بالكاد يمكن التعرف على مربعات قماشها الاسكتلندي الذي تراكم 
عليه السخام. وبينما كنت أتأمل الصورة الملوّنة؛ مفكرًاً في الممرضة 
دوروتيًا الواقفة بيني وبين الدكتور فيرنر» بيأس ربماء أكثر من تفكيري في 
اليزابيث وبعلها فيليب؛ أوضح لي كليب بأنه من الأنصار المخلصين 
المتحمسين للعائلة الملكية البريطانية» لذلك فإنه تلقى دروساً في النفخ 
على القربة لدى نافخى القرب فى الكتيبة الاسكتلندية التابعة لقرّات 
الاحتلال البريطائية» لاشيما أن حلء التحبية عاتت تحت إثرة اليزانيف! 
وهوء كليب نفسهء قد رآها في نشرة الأخبار الأسبوعية تفتش الكتيبة» 
فركدا شورة ابكتفدية وهات ين الأعلى إلى لأسف كنا كين 
العجب هو أن النزعة الكاثوليكية حضرت في نفسي ساعتهاء فأبديت شكيّ 
في أن اليزابيث قد لا تفقه شيئاً من موسيقى القربة» وأطلقت بعض 
الملاحظات حول النهاية المهينة للكاثوليكية ماريا ستيورات؛ باختصار: إن 
أوسكار أفهم كليب بأن اليزابيث امرأة خالية من الحسٌ الموسيقي . 

لقد توقعت في الحقيقة ثورة غضب من هذا الموالي للملكية؛ بيد أنه 
ابتسم ابتسامة العارف وطلب متّى إيضاحاً يمكن أن يستشف منه؛ إذا دعت 
القذرورةه انيه أ الودل السقير ددجدانها اطلى عاق كلب الدين + 
مؤهل لإطلاق حكم فيما يتعلق بالموسيقى. وحدّق أوسكار في كليب وقتاً 
طويلاً؛ لأنه خاطبي بالموضوع دون أن يعلم ما الذي خاطبه فيّء فتملكني 


وخر 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الموضوع من الرأس إلى الحدبة. فكان ذلك مثل يوم القيامة المعدَ لطبولي 
القديمة المنهكة المحطمة بفعل القرع؛ حيث نهضت على الفور طبول 
الصفيح الألف التي أحلتها إلى حطام» فضلاً عن الطبل الذي دفنته في 
مقبرة سازبه؛ انبعثت كلها من جديد محتفية بالخلاص والانبعاث», 
وصارت أصواتها تُسمع» فامتلأت بهاء حتى حضتني على مغادرة طرف 
الفراش » متكا بعدما اعتذرت لكليب» طالباً منه أن يمهلني لحظة 
واحدة» فخرجت من الغرفة» شاعراً بالطبول تجرجرني بعيداً عن باب 
الزجاج الغائم وحجرة الممرضة دوروتيًا - مازالت الرسالة المربعة الشكل 
ترقد على أرضية الممرء مختفية بمقدار النصف -» وتسوقني قسرأ إلى 
غرفتي» فجعلت الطبل يهرع نحويء ذاك الذي أهداه واطكر يكوك لي 
بعدما رسم عذراء 44. فقبضت عليهء وعلى المضربين معاء ثم 
استدرت» أم أن شيئاً ما جعلني أستدير» تاركاً غرفتي» فقطعت الحجرة 
الملعونة» ودخلتء مثل من كتبت له النجاة» فعاد بعد زمن طويل من 
الضياع؛ دخلت مطبخ معكرونة كليب» وجلست على حرف الفراش بلا 
لف أو دوران؛ء وأمسكت بالطبل المطلي بالأبيض والأحمرء أمسكت به 
باعتدال ومعرفة» وطوحت بالمضربين في الهواء» مداعبة أوَل الأمر؛ إذ 
ألثي كفت معردها عفن الكو حين تطلعت إلى كليبي الذي أختلاته 
الدهشة؛ ثم هبطت بمضرب واحد على الصفيح كما لو أنني فعلت ذلك 
صدفة» آه» لقد أتانى من الطبل جواب» فألحقت به المضرب الثاني على 
الفورء ثم بدأت لكل عيب التسلسل» فأصبحت البداية هي البداية : يوم 
طبّلت الفراشة بين المصابيح احتفاءً بمولدي» ثم طفقت أنا أطبل للسّلم 
درجاته التسع عشرة» وكذلك سقوطي من السلم إبّان الاحتفال بعيد 
ميلادي الشالث الأسطوريء» وطبّلت لجدول الدروس في مدرسة 
بستالوتسي طولاً وعرضاًء وارتقيت بالطبل برج الطوابق» وجلست بالطبل 
تحت المنصّات السيّاسية» مطبّلاً لسمك الثعبان والنوارس ونفض السجّجاد 
فى الجمعة الحزينة» وقرفصت مطبلاً فوق تابوت أمَى المسكينة الضيّق من 
ع القدمين» سينا لهراهريريث تروج سكي المليء بالندب قاعدةٌ 


8 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


للتطبيل» فلاحظت بعدما طبّلت من أجل الدفاع عن البريد البولندي في 
ميدان (هيفيليوس» حركة أنت من رأس سرير جلست عليه؛ ليده 
عين كليب الناهض الذي أخرج من تحت المخذة ة نايا خشبيًاً مضحكاء 
فوضع الناي على فمه وصار يسدر الكاما عذبة» غير طبيعية» يح 
تماماً مع تطبيلي» لدرجة أنني قدته إلى شوغر ليو في مقبرة سازبه» بل 
بدأت أرقص باعتباري شوغر ليو» وجعلت المسحوق الفوّار يزبد أمامه وله 
ومعه.» مسحوق حبىّ الأوّل؛ وأخذت بيده إلى أدغال السيّدة لينا غريف» 
وجعلت ماكينة تطبيل غريف» بائع الخضر؛ الماكيئة التي كانت تزن خمسة 
وسبعين كيلوغراماً؛ حيث جعلتها تقرقر» واصطحبت كليب معي إلى 
مسرح بيبرا الميدائي؛ ثم تركت يسوع يضج على طبلي الصفيح» فطبلت 
لشتورتبكر وللنافضين كلهم ليهبطوا من برج القفز - وفي الأسفل جلست 
لونسي -» لكنني ظننت بأن النمل والروس احتلوا طبلي» بيد أنني لم 
أصطحبه ثانية إلى مقبرة سازبه. حيث ألقيت بالطبل خلف ماتسرات» بل 
قرعت قضيتي الكبرى التي لا تنتهي: ألا وهي حقول البطاطس الكاشوبية 
التي علاها مطلا أكتوبر» عندما جلست جدّتي بأثوابها الأربعة؛ فأوشك 
قلب أوسكار أن يستحيل إلى حجر حينما تناهي إلى سمعي مطر أكتوبر 
يخرٌ من ناي كليب» وكيف تقصّى ناي كليب الاثار تحت المطر وتحت 
أثوب جذتي الأربعة ومعها آثار جدّي يوسف. مشعل الحرائق» وكيف 
احتفل الثاى القسه بإلجاب اش االسكينة» فيرها عليه قدرقنا تاعات 
طويلة» وبعدما نوّعنا بما يكفى على هرب جذي بناقلة خشبء أنهينا 
الحفلة الموسيقية مجهدين قليلاء لكن سعيدين» أنهيناها بتلميح ترنيميَ 
إلى عملية إنقاذ مدهشة لمشعل الحرائق المفقود. 

ثمّ وثب كليب من سريرة المفكك» والنغمة الأخيرة لم يزل نصفها 
في الناي» فتبعته رائحة الجثث. لكنه فتح النافذة على آخرهاء وحشا ثقب 
المدخنة بورق الجرائد» ومرّق الصورة الملوّنة لملكة بريطانيا اليزابيث» 
معلناً نهاية العهد الملكي؛ «الوتره الجاه عادن بن دزي العام لي 
المغسلة الحجرية: فاغتسل» نعم اغتسل» بدأ كليب يشطف نفسه بالماء؛ 


خرن 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بل أنه تجرأ على غسل كل شيء» فلم يكن ذلك مجرد غسل» إنما اغتسال 
تطهيرء وبعدما كفٌ المغسول عن الغسل وانتصب أمامي بديناً» يقطر منه 
الماء» عارياً » يكاد ينفجرء وعضوه البشع المنظر يتدلى معوجاًء 
رفعني » نعم ؟ رفعني بذراعيه المشرعتين - إذ أن أوسكار كان خفيفاً ومازال 
-» وحيئما انفجر الضحك فى أعماقه؛ مدركا إِيَام لاطماً سقف الغرفة» 
أدركت بأن طبل أوسكار لويقن وحده الذي انبعث من مواته» بل أن 
كليب قد بُعث حيّاً - فهنأنا أنفسنا وقبلنا وجناتنا. وفي اليوم ذاته - كنا 
خرجنا معاً وقت المساءء فشربنا بيرة» وأكلنا سجقاً مع البصل - اقترح 
عليّ كليب أن نؤسس سوياً فرقة جاز. فطلبت منه في الواقع مهلة للتفكير» 
غير أنني عقدت العزم على التخلي ليس فقط عن مهنة حر الحروف لدى 
نات الرخام كورنيف» بل أيضاً عن الوقوف موديلاً برفقة ربّة الفنَ أولاء 
لأصبح عازف إيقاع في فرقة جاز. 


"45٠ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


على حصيرة الليف 


هكذا أمدّ أوسكار صديقه كليب بأسباب النهوض آنذاك. وعلى الرغم 
من أنه قفز متحرراً من مفارشه العفنة» مغموراً بالفرح » ساكباً الماء على 
جسدهء فأصبح ذلك الرجل الذي يقول هيا بناء فما قيمة هذا العالم؛ 
فإنني أدعي اليوم. بعدما بات أوسكار نفسه طريح الفراش: بأن كليب أراد 
أن ينتقم متي» وأن ينفرني من سرير القضبان في مصحّة الأمراض العقلية؛ 
لأنني نفرته من سرير مطبخ المعكرونة. 

كان عليّ أن أتحمّل زياراته الأسبوعية» وأصغي لكلامه المتفائل 
المستفيض عن الجازء وبياناته الموسيقية-الشيوعية؛ إذ أنه أصبح عضواً 
مشتركاً في الحزب الشيوعي الألماني» حالما انتزعته من فراشه ومن قربة- 
اليزابيث» بعدما كان من أتباع الملكية المخلصين» فأخذ يمارس انتماءه 
الجديد مثل هواية غير شرعية؛ من خلال شربه البيرة والتهامه السجق 
النيئع» وتعديده للأعمال الجماعية المبهجة التي كانت تؤديها فرقة جاز 
كاملة عملت بكل طاقتهاء والجمعيات الفلاحية السوفيتية» وذلك أمام 
الناس المساكين الجالسين إلى طاولات الحانات يتدارسون الكتابة على 
زجاجات البيرة. 

لكن لم تبق أمام الحالم المستنفر هذه الأيام سوى القليل من 
الإمكانيات: إذا ما تغرّب كليب عن سريره المتداعي فإنه يتحول إلى 
رفيق» بل إلى رفيق سرّي؛ مما يصعّد من حذة الإثارة. أمّا مذهبه الثاني 
فهو الولع بالجاز. وثالثاً عليه أن يغيّر دينه» وهو المعمّد بروتستانتيّا 
ليعتنق المذهب الكائول 


5.١ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


على المرء أن يدع كليب وشأنه: فهو قد ترك مداخل الشوارع المؤدية 
إلى الملل والأديان جميعها مفتوحة أمامه. لقد ألهمه الحذر لحمه البرّاق 
وتهكمه المعتاش على الاستحسان وصفة أتاحت بذكائها الريفيَ خلط 
تعاليم ماركس بأسطورة الجاز. فلو صادف ذات يوم قسيساً يساريّاًء من 
نمط قساوسة العمّال» مهتمأء بالإضافة إلى ذلك» بتجميع أسطوانات 
موسيقى الولايات الأمريكية الجنوبية؟ لأصبح منذ ذلك اليوم ماركسياً يجترٌ 
موسيقى الجاز ويتناول فى الآحاد أقراص القربان المقدس» فيخلط رائحة 
مع السوميوقة الها يعرف #انااراية مشيّدة بأسلوب المعمار القوطيّ 
الحديث . فالفضل يعود إلى سريري الذي حفظني من نهج السبيل نفسه؛ 
سريري الذي أراد صاحبي الفتى إغرائي بمغادرته عبر وعود مبتهجة 
بالحياة» بحيث أنه كان يقدم للمحكمة التماساً بعد التماس» واضعاً يده بيد 
المحامي؛ مطالباً بإعادة المحاكمة من جديد: أراد أن يتوصل إلى تبرئة 
أوسكارء أي إلى تحقيق حريّة أوسكار - فليخرج عزيزي أوسكار من 
المصحّة - ففعل كليب ذلك كله فقط لأنه ضِنّ عليّ بالسرير! 

مع ذلك فإنني لم أشعر بالندم عندما دفعت بصديق مضطجع إلى 
التفوض» وآأنا مستاجر واغلخ فى ذا تسايدئر» تجعلعه منديقاً يدك 
الأرض دكاء بل يسير عليها أحيانا. وباستئناء الساعات المضنية التى كنت 
أخصٌ بها الممرضة دوروتيًا وأنا مثقل بالأفكار؛ فإنني عشت حياة خاصة 
خالية من المتاعب. فلطمت كليب على كتفه وقلت: «أهلاً يا كليب؛ دعنا 
نؤسس فرقة جاز.» فقام كليب بمداعبة حدبتي التي أحبها مثل كرشه 
تقريباً» معلناً للعالم بأن «أوسكار وأنا سنؤسس فرقة جاز. لكننا نحتاج 
فقط إلى عازف قيثارة منتظم؛ يجيد العزف أيضاً على آلة البانجو.؛ فبلا 
شك أن الطبل والناي يحتاجان إلى آلة نغمية ثانية. وليس من السيئع؛ من 
ناحية بصرية بحتء أن تكون آلة «باس» وتريّة؛ لكن بدا من الصعب 
الحصول على عازفيّ باس آنذاك» فبحثنا بهمّة عالية عن عازف القيئارة 
الناقص. فكنا نذهب إلى كثيراً إلى السينماء ثم كنا نلتقط الصورء كما 
ذكرت سابقاء مرتين في الأسبوع؛ ممارسين شْتّى أنواع العبث مع الصور 


55 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


أثناء تناول السجق النيئ مع البصل والبيرة. كان كليب قد تعرّف آنذاك على 
إليزا الحمراء» فأهدى له صورته بأسلوب طائش» ثم تزوجها لهذا السبب 
بالذات - بيد أننا لم نعثر على عازف قيثارة. وعلى الرغم من أنني تعرفت 
إلى حدّ ماء من خلال عملي كموديل في أكاديمية الفنون الجميلة؛ على 
مدينة دوسلدورف القديمة بنوافذها السميكة الزجاج المثبت بالرصاص» 
لكنني تعرّفت عليها حقّاً برفقة كليب. أخذنا نبحث عن عازف القيثارة 
راتنغرشتراسه» في «وحيد القرن؛ حيث عزف «بوبي» موسيقى للرقص» 
فكان يدعنا أحياناً نصعد معه بالطبل والناي» مظهراً إعجابه بطبلى 
الصفيح. على الرغم من أنه كان عازف إيقاع ممتازء لكن يده اليمنى 
انتقدت إلى إصبع» للأسف الشديد. فحتى لو أنئا لم نعثر في اوحيد 
القرن» على عازف قيثارة» لكنني تلقيت خبرة ومراناً» إضافة إلى خبراتي 
التي تزودت بها منذ زمن المسرح الميدانيّ» فبات بمقدوري» بعد مدّة 
قصيرة» أن أصبح عازف إيقاع مقبولاًء لولا أن الممرضة دوروتيًا كانت 
تفسد علىّ فرص البدايات تلك بين الحين والآخر. 

لقد دارت نصف أفكاري حاولهاء وكان من الممكن تحمّل ذلك لو 
أن النصف الآخر من أفكاري بقي ملازماً لطبلي نقطة إثر نقطة. فسار الأمر 
على هذا النهج: بحيث أن الفكرة كانت تبدأ بالطبل لتنتهي بديّوس الصليب 
الأحمر العائد للممرضة دوروتيًا. أمَا كليب الذي كان يتجاوز إخفاقى بعزفه 
على الناي بمهارة. فصار ينتابه القلق كلّما رأى أوسكار غارقاً في أفكاره 
كليب يشم رائحة جوع الذئاب خلف معاناة العالم برمتهاء فبات يعتقد بأن 
كل معاناة» مهما بلغت من عمق» يمكن إزالتها بوجبة من السجق النيء. 
فصار أوسكار يأكل في ذلك الزمن الكثير من السجق النيء الطازج» مع 
البصل المقطع على شكل حلقات» ثم يحتسي البيرة» لعل صديقه كليب 
يظنّ بأن معاناة أوسكار كان سببها الجوع النهم وليس الممرضة دوروتيًا. 
فكنّا نغادر دار تسايدلر في يوليشر شتراسه مبكرين جداء فنتناول إفطارنا في 


57 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


المدينة القديمة. وقد انقطعت عن الذهاب إلى الأكاديمية إلا عندما نكون 
بحاجة إلى نقود لدخول السينما. فى تلك الأثناء كانت ربّة الفنّ أولا قد 
شهدت خطوبتها من الرسّام لانكس للمرّة الثالثة أو الرابعة» فبدا وجودها 
فروريا: لآن لأتكسن تلفي أولى عروقيه الكببرة عن الموسباك 
الصناعية. فلم يعد الوقوف موديلاً ممتعاً لأوسكار بدون ربّة الفنّ - فصار 
يُرسم من جديد ويخطط بالسواد بشكل بشع» فلذلك سلّمت نفسي تماماً 
بيد صديقي كليب» إذ أنني لم أحظ بالراحة حتى لدى ماريا أو كورت» 
حيث كان «شتنتسل»؛ ربّ عملها ومبجلها المتزوج؛ حاضراً كل مساء. 
وذات يوم» عندما غادرنا أنا وكليب غرفتينا في الخريف المبكر من 
العام التاسع والأربعين» والتقينا في الممرء بالقرب من الباب السميك 
الغائم الزجاج» راغبين في الخروج من الدار بآلاتنا الموسيقية» هتف بنا 
تسايدلر الذي فتح باب غرفة سكنه ونومه بمقدار شقٌء ثم زحزح أمامنا طبّة 
بساط ضيّق وطويل» طالباً ما مساعدته في مدّ البساط وتثبيته . كان البساط 
عارذ عن جعي اللباود بك طرلها انه أبتار وعشرين مشكرا رلآة حر 
دار تسايدلر بلغ فقط سبعة أمتار ولخئمسة وسبعين سنتمتر سنتمتراً» فقد اضطررنا»ء 
كليب وأناء إلى قطع خمسة وسبعين ستتمتراً من الحصيرة. ففعلنا ذلك 
جلوساً؛ إذ أن قصّ ألياف الجوز الهندي بدا عملاً شاقاً للغاية. بعد القطع 
ات ا قصيرة بمقدار سنتمترين تقريبا. ولأن الحصيرة كانت 
بعرض الممر فقد ترجانا تسايدلر بأن نتعاون على تثبيتها في الأرضية 
بالمسامير» مدّعياً أنه لا يستطيع الانحناء إلا بصعوبة. كانت فكرة مدّ 
الحصيرة أثناء التثبيت قد انبثقت عن ذهن أوسكار» فنجحنا فى تعويض 
الععريق الناقصيو باتتعاء قضرة فيكيلة :لق سكرتاها سامير كانتا 
رؤوس عريضة مسطحة؛ إذ أن المسامير ذات الرؤوس الضيقة لا يمكن أن 
تثبّت الحصيرة المفككة النسيج . ومع ذلك فإن أوسكار أو كليب لم يضربا 
إبيانيا بالمسرنة: بيد أننا سمرّنا في الحقيقة بضعة مسامير بشكل معوجٌ 
بسبب نوعية المسامير التى أتى بها تسايدلر من مخزنه» أي أنها كانت قادمة 
مق غهود ما قبل الاصلام اللقدى :نيدم تكبا قصفالحسيرة مان أرضية 


54> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الممر ألقينا بمطرقتينا فوق بعضهما على شكل علامة ضرب» وحدقنا في 
القنفذ المشرف على عملناء لكننا لم ننظر إليه بإلحاح» إنما باتتظار شيء 
ما. فاختفى في غرفة سكنه ونومه» وعاد حاملاً ثلاثة أقداح للخمرة جلبها 
من مخزون أقداحه» ومعها زجاجة من عرق القمح. فشربنا نخب ثبات 
حصيرة الليف وديمومتهاء معربين إثر ذلك ليس بإلحاح أيضاًء إنما 
بانتظار» عن أن ألياف جوز الهند تصيب المرء بالعطش . لعل أقداح القنفذ 
شعرت بالفرح لأن عرق القمح سيجد فيها مكاناً له للمرّة الثانية» قبل أن 
تدفع نوبة غضب عائلية بالقنفذ إلى جعلها مجرد شظايا. حين قلب كليب 
قدح عرق فارغ على الحصيرة بقي سالمء لم ينكسر ولم يصدر صوتء 
فأطرينا كلّنا جودة الحصيرة. وبعدما امتدحت السيّدة تسايدلر التي راقبت 
علمنا من غرفة السكن والنوم الحصيرة مثلما فعلنا؛ لأن الحصيرة حفظت 
أقداح العرق الساقطة من الإصابة بأضرار» تناول السيّد تسايدلر الأقداح 
الثلائة على وجه السرعة واختفى مشحوناء متوتراء في غرفة السكن والنوم 
التسايدلرية» فسمعنا الدولات يضل --]ذ أنه تناول أقداحاً أخرى» غير 
مكتف بالثلاثة الفارغة» وبعد ذلك سمع أوسكار الموسيقى التي كان 
يعرفها جيّداً: فرسا المزاد على فرن تسايدلر الدائم الاحتراق؛ أمام عين 
أوسكارء حيث استلقت ثمانية أقداح محطمة عند أقدام الفرن» فانحنى 
تسايدلر ليلتقط المكنسة وصفيحة القمامة» ليكنس» بصفته تسايدلرء» تلك 
الشظايا التى حطمها بصفته قنفذاً. غير أن السيّدة تسايدلر بقيت منتصبة عند 
الباك» يسا تصاعدت آصرات العظايا 316 خلنياء مظهرة اعتياماً كبيراً 
بعملناء لاسيما وأننا هرعنا إلى مطرقتينا حالما اجتاح الغضبٌ القنفد. إلا 
أنه لم يرجع, مع أنه ترك زجاجة الخمر لنا على الحصيرة. فاستحينا في 
البدء من السيّدة تسايدلر حين أخذنا نعبٌ العرق في البلعوم بالتناوب. غير 
أنها هرّت رأسها بلطف, لكن اللطف لم يدفع بنا إلى أن نعرض عليها 
احتساء جرعة من الخمر. ومع ذلك فإننا اشتغلنا بانتظام» مسمّرين حصيرة 
الليف بالمسامير» واحداً إثر آخر. حين ثبّت أوسكار الحصيرة بالمسامير 
أمام باب حجرة الممرضة؛ بدأ زجاج الباب الغائم يهترٌ عند كلّ ضربة 


56 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


مطرقة» فمسه ذلك على نحو مؤلم» فتوجب عليه أن ينكس المطرقة لحظة 
مشبعة بالألم» وحالما تجاوز باب حجرة الممرضة دوروتيًا الغائم الزجاج 
تحسنت حالته وحالة مطرقته. ومثلما ينتهي كل شيء ذات يوم فقد انتهى 
تثبيت حصيرة الليف. حيث سارت المسامير من ركن إلى ركن» برؤوس 
عريضة » منتصبة حتى العنق في الأرضية» رافعة رؤوسها بالكاد عن ألياف 
الجوز المتدفقة» العارمة السيل» التى ولّدت درّامات. قفصرنا نخطو 
بخيلاء» ذهاباً وإياباً في البيرة شين بطول الحصيرة» كائلين المديح 
لعملناء مشيرين إلى أن ليس من السهل مد حصيرة ليف وتثبيتها بالمسامير 
بمعدة فارغة وبلا إفطارء فجعلنا السيّدة تسايدلر تتجرأ أخيراًء فوطات 
الحصيرة العذراء الجديدة» ووجدت طريقها إلى المطبخ» لتصِبٌ لنا القهوة 
وتفرقع لنا البيض في المقلاة. تناولنا الطعام في غرفتي» فانسحبت السيّدة 
تسايدلر لتلتحق في مكتب شركة مانسمانء لكننا تركنا باب الغرفة مفتوحاً» 
فأعاتاء وتحن تلولفه عحفيين تنبا خفيعاًء تزاقب [تجازنا الذي كان عيازة 
عن حصيرة ليف متدفقة نحونا. 

فلماذا كلّ هذه الكلمات من أجل بساط زهيد» لم تكن له في جميع 
الأحوال إلا قيمة تبادلية قبل إصلاح النقد؟ لقد سمع أوسكار هذا السؤال 
الوجيه؛ فأستبق الجواب بقوله: إنني التقيت في الليلة اللاحقة بالممرضة 
دوروتيًا للمرّة الأولى فوق تلك الحصيرة. 

كنت قد عدت إلى الدار فى وقت متأخرء حوالى منتصف الليل» 
متخماً بالبيرة والسجق النيء تأركاً كليب فى المديية القدينةاء يبحث عن 
عازف قيثارة. فعكرث في الواقع على 'ثقب المققام في فار تسايدئر» 
وعثرت على حصيرة الليف في الممرء متخطياً الباب الغائم المعتم 
فعثرت على غرفتي وعلى سريري» وحررت نفسي من ثيابي» لكنني لم 
أعثر على بيجامتى - كانت فى الغسيل عند ماريا -» بيد أننى عثرت على 
قطعة الحصيرة البالقة عسية رسيعين متتتمتراء العى اقتطنناها عن التساط 
الطويل؛ فوضعتها بمثابة سجادة للسريرء فوجدت طريقي إلى الفراش» 
لكنني لم أجد النوم. فليس هناك داع لأروي لكم كلّ ما فكر فيه أوسكار 


55 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


اليوم فصرت أعتقد بأنني عثرت على سبب أرقي آنذاك. فقبل ارتقائي 
السرير وقفت عاريٌّ القدمين على السججادة الجديدة؛ أي على قطعة حصيرة 
الليف. فأفضت ألياف جوز الهند بسرها لقدمىّ المجردتين» متوغلة فىّ عبر 
الجلد ثم اختلطت بدمي: وحتى بعدما استلقيت فترة طويلة في الفراش» 
وجدت نفسي أقف على حصيرة الليف» لذلك ذهب عنّي النوم» فليس 
هناك ما هو أشدّ إثارة و توليداً للأفكار وجلباً للسهاد من الوقوف بقدمين 
عاريتين على حصيرة من ليف جوز الهند. فوقف أوسكار واضطجع فترة 
طويلة عقب منتصف الليل» حتى الساعة الثالئة فجراً» مسهّداً على 
الستضيرة ا والقراكن عاة فتناهي إلى سمعه حينئذ صوت باب يفتح في 
الممر ثم أعقبه باب آخر. ففكرت في أن يكون كليب قد رجع إلى الدار 
بدون عازف قيثارة» متخماً بالسجق النيئ» لكنني علمت بأنه لم يكن كليب 
وه م ع لوي 
نلو طادت لقره لأف فعلا على الحصيرة : أمام سريري وليس في 
وخيمة . ال ا م الخمسة 
والسبعين سنتمتراً عبر باطن قدميّ بأصلها الممدود في الممر البالغ سبعة 
أمتار وثلاثة وأربعين سنتمترا. وبغض النظر عما إذا كنت شعرت بتعاطف 
مع قطعة الألياف المقتطعة» أو سمعت البابين ذ فى الممرء فخمنت عودة 
كليب» دون أن أعنيها بالتحديد» فإنني انحنيت» ثم التفطت زاويئين من 
حصيرة السرير؛ لأنني لم أعثر على بيجامتي عندما ذهبت إلى الفراش» 
ا ا راكد على اياف بل على الأرضية؛ 
اي ل ار وواحدا وعشرين ستتمتراء 
فستر عورته بمهارة. إلا أنه بات تحت رحمة ألياف جوز الهند من عظم 
الترقوة إلى الركبتين. تصاعدت حذة ذلك الشعور بعدما خرج أوسكار من 


/51” 
1_طماع1© :111 آنلا 1 


غرفته المعتمة خلف ردائه الليفيّ وأصبح في الممر المعتم» أي على 
حصيرة الليف . 

فلا العجب حين حئثت خطاي بفعل تشجيع البساطء متفادياً التأثير 
تحت قدمىّ» محاولاً إنقاذ نفسي» ساعياً للوصول مكان لا أثر فيه لليف 
جوز الهند بمثابة حصيرة ممدودة - أي أنني سعيت إلى المرحاض» 
فوجدته مظلماً كما الممر وغرفة أوسكارء ومع ذلك كان مشغولاً إذ أن 
صرخة أنثوية قصيرة أبلغتني بهذه الحقيقة» كذلك ارتطمت بجلدتي الليف 
بركبة إنسان جالس . ولأنني لم أبد رغبة في مغادرة المرحاض - لأن خطر 
بساط اليف كان مسدقا بى من الخلف: -خقد آرادت ثلك الجالسة أعامى 
أن تطردنى: #من أنت؟ وماذا تريد» أنصرف عنّي!» تناهي صوتها إلى 
أذني» لككنه لم يكن قن جميخ الأخوال'صوت الجدة تننايدلر..قيا لها من 
عبارة متوجعة شاكية: امن أز نت؟؟2 فتجرّأت على إطلاق دعابة على أمل 
التخفيف من الإحراج الذي رافق لقاءنا : «احزري يا دوروتيًا الممرضة!» 
لكنها لم ترد أن تحزرء بل نهضت ومدت يديها للإمساك بي في الظلام» 
وحاولت أن تخرجني من المرحاض وتدفع بي إلى بساط الممرء غير أنها 
ذهبت بيديها إلى الأعلى» متجاوزة رأسي إلى الفراغ» فخفضتهما إلى 
الأسفل» لكنها لم تمسك بي» إنما بالمريلة الليفية» إي بفرائي الليفي» ثم 
صرخت ثانية - فالنساء دائمأ ما يصرخن على الفور -» وقد خلطت بيني 
وبين شخص آخرء لأن الممرضة دوروتيًا بدأت ترتجف وتهمس: «يا 
إلهي ؛ إنه الشيطان!»» فاستدرجني ذلك إلى إطلاق كركرة خفيضة» دون 
أن أعنيّ بها شرًا. فحسبت كركرتي كركرةً الشيطان» لكن عبارة الشيطان 
لم تحظ بإعجابي» وبعدما سألتني مرّة أخرى بيأس وخوار: «من أنت؟» 
أجابها أوسكار: «أنا الشيطان وقد زار الممرضة دوروتيًا!» فهتفت إثر 
إجابتي: ايا إلهي» لكن لأى سبي؟1 كقلت» ايها نوري خا مهل: 
موظفاً الشيطان ملقّناً في أعماقي : «لأن الشيطان يعشق الممرضة دوروتيًا. ) 
فانطلقت الكلمات من فمها: كلاء ثم كلا؛ فأنا لا أريد هذا» وحاولت 
الهرب» بيد أنها تعثرّت بالألياف الشيطانية لمسوحي آالمنسوج من ليف 


548 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


جوز الهند - لابد أن قميص نومها كان رقيقاً للغاية - فتوغلت أصابعها 
العشرة النحيفة في الأحراش الغاوية؛ حيث أصابها الوهن والخوار. بلا 
شك أنه كان خواراً خفيفاً ذاك الذي جعل الممرضة دوروتيًا تهوي إلى 
الأمام؛ فتلقفت المرأة المتهاوية بوبريٌ الذي رفعته عالياً أمام جسدي» 
فأمسكت بها فترة طويلة أتاحت لي اتخاذ قرار يتناسب مع دوريّ 
الشيطانيّ» سامحاً لهاء أن تخرّ على ركبتيها بارتخاء خفيف, إلا أنني 
حرصت على أن لا تلامس ركبتها بلاط المرحاض البارد» إنما حصيرة 
الممرء فتركتها تنزلق إلى الخلف؛ متجهة برأسها إلى الغرب» أي نحو 
غرفة كليب» متمددة بموازاة الحصيرة» ثم غطيتها من الأعلى بالمادة 
الليفية نفسها؛ لأن ظهرها لامس الحصيرة بمقدار متر وستين سنتمترًء بيد 
أنه لم يكن بحوزتي ببوى جهينة وسبعين سنتمترأً» فوضعت طرفها على 
حنكها مباشرة والطرف الآخر على فخذهاء ثم وجدت نفسي مضطرًا إلى 
سحب الحصيرة إلى الأعلى بمقدار عشرة سنتمترات» فأطبقتها على فمهاء 
غير أن أنفها بقي طليقاً» بحيث أنها استطاعت التنفس بحريّة» فأخذت 
تلهث بشدّة بعدما ألقى أوسكار أيضاً بنفسه» ألقى بنفسه على بساط سريره 
السابق» فجعله يهترٌ بآلاف الألياف» دون أن يكون قد نشد في الواقع 
الالتصاق المباشر بالممرضة دوروتيّاء بل ترك ألياف جوز الهند تمارس 
تأثيرهاء فابتدأ مرّة أخرى المحاورة مع دوروتيًا التي ما لبئت تعاني من 
وطأة الوهن والضعف وتهمس: «يا إلهي» يا إلهي»» مستفسرة على الدوام 
عن أسم أوسكار وأصله» مرتعدة بين حصيرة الليف وبساط جوز الهند 
كلما أطلقت على نفسي اسم الشيطان؛ مصدراً الاسم كما الفحيح» ذاكراً 
الجحيم بكلمات مقتضبة» باعتباره مكان إقامتي» ممارسا ألعاب النط 
بمثابرة على بساط فراشى» دافعاً به إلى الاهتزاز؛ إذ أن ألياف جوز الهند 
مسبت السحرضة ووروقا شيورا لآ نكن اللغاضي عن بيقه اعون اللذفن 
منحه المسنحوق الفوّار لعشيقتي ماريا قبل أعوام» بيد أن المسحوق الفوّار 
بلي الصر موحي باح ,وشكل كاملء في حين الذي ميت ها ينكل 
ذريع مخجل على حصيرة الليف هذه. فلم أتمكن من إلقاء المرساة. فكل 


.”> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ما كان منتصباً صلداً ساعياً إلى غايته بعزم خلال زمن المسحوق الفوّار وما 
بعدهء جعل الرأس يطأطأ حزناً في ظلّ ألياف جوز الهندء صغيراء خاملاً 
متراخياًء بلا هدف» غير مستجيب لأي طلب» فلم يستجب لوسائل 
إقناعي الفكرية المحضء ولا لزفرات الممرضة دوروتيّاء التي أخذت 
تركس كاده وتئن بابعطاف: ال :يا قيطان. تمال1»* فتوجب عليّ أن 
أهدأ من روعها: «سيأتي الشيطان حالاًء نعم؛ الشيطان أوشك على 
الانتهاء»» مدمدماً بعبارات شيطانية انطوت على مبالغة» محاوراً في الوقت 
ذاته الشيطان الساكن فى أعماقى منذ تعميدي - والذي مازال ساكناً فيها - 
؛ مغلظاً له القول: لا تفسدها علينا يا شيطان! متوسلاً به: أرجوك يا 
شيطان» خلصني من هذه الفضيحة! أو أجامله بالقول: إنك عادةٌ لست 
هكذاء ففكر في الماضيء فكر في مارياء أو ذكر فيما هو أحسن. أي في 
أرملة غريفء؛ أو في الممازحات التي مارسناها سويًاً مع روزفيتا الرقيقة في 
باريس المبهجة؟ غير أنه ردّ عليّ بتذمّر وبلا خوف من التكرار: كن يلا 
شهوة يا أوسكار. إذا لم يشته الشيطان فإن الفضيلة تنتصر. فمن حقّ 
الشيطان أن تنعدم شهوته أيضا. وهكذا حرمني من مساعدته؛ مطلقاً هذه 
الحكمة أو تلكء» بيثما كنت أهءٌ خصيرة الليك بخركات متراغية شيعا 
فشيئاً. مؤذياً جلد الممرضة دوروتيًا المسكينة» بفعل الحكٌ» بحيث أنني 
قابلك ظماها «عالَ يااشبطان» أ :تعال1» فى التعير يقدف باس أسفل 
الألياف» لا مبرر له ولا معنى: مجان ا اتويب مسدسى غير المحشوّ نحو 
الهدف . نأرادت أن تعين شيطانهاء فأخرجت لاعديا حن تنعت البساط» 
وهمّت بتطويقيّ» بل أنها طوقتني؛ عائرةٌ على حدبتي» وعلى جلدي 
الإنسانيّ الدافئ العديم الألياف» مفتقدة الشيطان الذي طالبت به 
وانقطعت عن الوأوأة: «تعال يا شيطان؛ تعال!»؛ بل تنحنحت ثم طرحت 
سؤالها الأصلي بنبرة متغيّرة: «من أنت بحق السماءء وماذا تريد؟» 
فاضطررت إلى التنازل حينئذ» معترفاً بأنني أدعى أوسكار ماتسرات حسب 
الأوراق الرسمية؛ وأنني جارها وأحبهاء أي أحبٌ الممرضة دوروتيًا حبَاً 
0 الس 7 





1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وإذا ما ظنّ شامت بأن الممرضة دوروتيًا قذفتنى بقبضتيها وبلعنة 
فألقت بي على حصيرة الليف؛؟ فإن أوسكار يُبلغ هنا عر لكن بارتياح 
إلى حد ماء بأن الممرضة دوروتيًا حررت يديها من حدبتي على مهل» بل 
أقول بتردد متأمل يشبه التحسس الحزين غير المتناهي. كذلك كان بكاؤها 
ونشيجها اللذان ارتفعا على الفور تناهيا إلى سمعي باعتبارهما خاليين من 
الحذة» فبالكاد لاحظت كيف أنها أزاحت نفسها من تحتي ومن تحت 
الحصيرة» فانزلقت عنّي وجعلتني أنزلق بدوريّ» فابتلع بساط الممر صوت 
خطاها. سمعتها تسيرء ثم سمعت صوت ففتاح يدور في ثقبه» وبعد ذلك 
بقليل غمر الضوءء ومعه الحقيقة؛ غمرا المربعات الغائمة اللون أمام 
حجرتها من الداخل. فظلٌ أوسكار مضطجعاً؛ ثم غطى نفسه بالحصيرة 
التي مازالت تحتفظ بشيء من دفء اللعبة الشيطانية» بيد أن عينيٌ أصبحتا 
من حصّة المربعات المضاءة. وثمة ظل كان يسقط على الزجاج الغائم بين 
الحين والآخر. والآن فإنها ذهبت إلى خزانة الثياب» كما قلت في نفسي» 
ثم إلى دولاب الزينة. فقام أوسكار بمحاولة كلبيّة عديمة الاحترام» إذ 
زحفت بحصيرتي إلى الباب»؛ وبدأت أحكٌ الخشب» ثم قوّمت نفسي 
قليلًء ومددت يدين باحئتين متوسلتين» وجعلتهما تتجولان عبر الزجاجتين 
السفليتين» لكن الممرضة دوروتيًا لم تفتح الباب» فكانت تتنقل بالمرآة بلا 
كلل بين الخزانة والدولاب. فعلمت بما عقدت النيّة عليه؛ دون أن أعترف 
به: كانت الممرضة دوروتيًا تحزم أمتعتها هاربة؛ هاربة مني. فدفنت حتى 
أمنيتي الضعيفة برؤية وجهها المضاء كهربائياً أثناء مغادرتها الحجرة. في 
البده شاع الظلام خلف الزجاج الغائمء ثم سمعت المفتاح: فالباب 
المفتوح» فوقع الحذاء على حصيرة الليف - فهرعت نحوهاء مصطدماً 
بالحقيبة وبساقها الطويلة الجوربء فركلتني بحذائها الخشن الذي رأيته في 
خزانة ثيابهاء ركلتني بحذائها على صدريء ملقيةً بِيّ على الحصيرة» 
وحين استجمع أوسكار قواه. متوسلاً بها ايا دوروتيّاة انطبق باب الدارء 
مستقراً في قفله: لقد هجرتني امرأة. . . 

فأنتم» بل كل من يتفّهم معاناتي» سيقول الآن: اذهب إلى فراشك يا 


"0١ 
1 1_طماع1© :1ع ]آنلا‎ 


أوسكار. فما الذي تبحث عنه فى الممر بعد هذه القصّة المخجلة! إنها 
الراعة فجرك بوانت فاؤلكا ملق عان بحصيرة الليف عارياً» ملتحفاً ببساط 
على نحو اضطراريٌ» مخدشاً يديك وركبتيك» ملقى بقلب ينزف دماً 
وعضو يحرقك ألماًء وعارك يصرخ إلى السماوات. لقد أيقظت السيّد 
تسايدلر» فأيقظ بدوره وزوجته. فسيأتيان ويفتحان باب غرفة سكنهما 
ونومهماء وسيريانك. فامض إلى فراشكء» يا أوسكار» فقريبا ستعلن 
الساعة الخامسة! 

كنت أسديت آنذاك النصائح ذاتها إلى نفسي عندما اضطجعت على 
العبيرة ققيت ملق ارتستعمن المرده متناولا انتعماةة تيد 
الممرضة دوروتيًا. لكنني لم أتحسس سوى ألياف جوز الهند» بل شعرت 
ببعضها بين أسناني. حينئذ سقط شريط من الضوء على أوسكار: إذ فُتح 
باب غرفة سكن آل تسايدلر ونومهماء فتح بمقدار شىّ أطلّ منه رأس القنفذ 
وفوقه رأس السيّدة تسايدلر المليء ببكرات لف الشعر المعدنية. فحملقا 
فيّء ثم سعل الرجل وكركرت المرأة» ونادى عليّ» لكنني لم أجبه. 
فواصلت كركرتهاء فأمرها بالصمتء. غير أنها أرادت أن تعرف فيما إذا 
كنت أحتاج إلى شيء؛ فقال إن ذلك أمراً لا يخصهاء وقالت عن الدار 
بأنها دار محترمة» فهددني زوجها بالطرد» غير أنني صمتّء إذ أن الكيل 
لم يطفح بعد. في تلك اللحظة فتح تسايدلر الباب ثم أضاء الممرء فهرع 
كلاهما نحويٌ» بعيون صغيرة شريرة» يتطاير منها الشررء وقد عقد الرجل 
النيّة على أن لا يصبّ جام غضبه هذه المرّة على أقداح الخمر» فانتصب 
فوقي» فانتظر أوسكار غضب القنفذ - بيد أن تسايدلر لم يتحرر من 
غضبه؛ إذ أن أصواتاً تعالت من سلّم البناية» ولأن مفتاحاً مضطرباً أخذ 
يبحث عن باب الدار» حتى عثر عليه أخيراًء ولأن كليب دخل؛ جالباً معه 
شخصاً سكرانٌ مثله: شولهء عازف القيئارة الذي عثر عليه في آخر 
المطاف.فهدأ كلاهما من غضب تسايدلر وزوجته؛ ثم انحنيا على 
أوسكارء دون أن يطرحا أيّ سؤال» فأمسكا بي ثم حملاني إلى غرفتي 
ومعي قطعة البساط الشيطانية. ودفأني كليب بالتدليك» وأحضر عازف 


فلك 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


القيئارة ثيابي» فأعانني كلاهما على ارتداء ثيابي» ثم جففا دموعي. إِنّه 
النشيج . والصباح انبلج أمام النافذة . وثمة عصافير. وكليب: علق طبلي 
على رقبتي» وأخرج نايه الخشبيّ الصغير. نشيج. عازف القيثارة تنكب 
فيثارته . عصافير. صديقان أحاطا بي 2 وضعاتي بينهما» ثم أخرجا أوسكار 
المنتحب الذي لم يبد أيّ مقاومة من الدار إلى يوليشر شتراسه» حيث 
العصافير» فأنقذاه من تأثيرات حصيرة الليف؛ تهاديا بي عبر الشوارع 
الصباحية» مخترقين الحديقة الملكية نحو القبّة الفلكية حتى وصلنا ضفة 
نهر الراين الرماديّ الذاهب إلى هولندا والذي حمل على ظهره سفئاً رفرف 
عليها الغسيل. 

وجلسنا من السادسة صباحا حتى التاسعة ضحى في ذلك الصباح 
السبتمبريٌ المشبع بالضباب» جلسنا على الضفة اليمين : عازف الناي 
كليب وعازف القيثارة شوله» وعازف الإيقاع أوسكار» فعزفنا الموسيقى» 
متمرنين على تناسق الأنغام» ونحتسي من زجاجة خمر» ونرمق أشجار 
الحور في الضفة الأخرى من النهرء محمّلين السفن المشحونة بالفحم 
القادمة من دوسبورغ والتي كانت تشقٌ طريقها في الاتجاه المعاكس للتيار» 
حملناها موسيقى سريعة صاخبة» وموسيقى نهر المسسبي البطيئة الحزينة» 
ثم أخذنا نبحث عن اسم لفرقتنا التي أسسناها توًاً. وبعدما صبغ القليل من 
نهض أوسكار الذي دس طبله بينه وبين الليلة الماضية» فأخرج نقودا من 
جيب سترته؛ بمعنى الإفطار» وأعلن لصاحبيه اسم الفرقة المولودة حديثا: 
عممط1' وعانظ عمنطظ عط1' ثم ذهبنا لتفطر. 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


في قبو البصل 


مثلما أحببنا مروج الراين» فإن صاحب الحانة «فيرديناند شموه» أحبٌ 
أيضا فنة الراين اليمى بين دوسلدوزف واكايزرسفيرت 1 .وكا نرت 
مقطوعاتنا الموسيقية عند شتوكوم. أمّا شموه فكان؛ على النقيض من 
ذلك يمقّط الأحراشن والاحمة المحاذية للضفة بحفا عن الفضافير» 
حاملاً بندقية من العيار الخفيف. فهذه كانت هوايته التي يجد فيها راحته. 
وإذا ما شعر شموه بالامتعاض من حانته؛ فإنه كان يأمر زوجته الجالسة 
خلف مقود المرسيدس. فيسران بمحاذاة النهر؛ ثم يركنان العربة عند 
شتوكوم» فيسير على قدميه المفلطحين بعض الشيء» منكسا ماسورة 
بندقيته إلى الأسفل» ساحباً وراءه زوجته التي كانت ستبقى في العربة لو 


الأحراش . كنّا نعزف مقطوعات جاز قديمة مرحة» فى حين كان دويه 
نسم رين الالعدة» قيجدا سانيا ضح باللدرسيقى | شمو يلق 
الرصاص على العصافير. فعلّق شوله الذي كان يعرف» كما كليب» 
أصحاب الحانات كلّهم في المدينة القديمة؛ حالما ارتفع صوت الدويّ بين 
الأحراش الخضراء : 

«شموه يطلق النيران على العصافير . » 

ولأن شموه لم يعد حيّا يرزق؟ فإنني سأقدم له هنا نعياً: كان شموه 
رامياً جيّداً» ولعّله كان إنساناً جيّداً أيضاً؛ إذ أن شموءء حتى لو اضطادٍ 
العصافير» واحتفظ بالذخيرة الصغيرة العيار في جيبه سترته اليسار» قد 
امتلأ جيب سترته اليمين بطعام الطيور الذي لم يوزعه بين العصافير 


510 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بحركات يد سخيّة قبل إطلاق الرصاص على العصافير - لم يجندل شموه 
أكثر من اثني عشر عصفوراً في الأصيل الواحد -»: إنما بعد إطلاق 
الرصاص . 

وعندما كان شموه حيّا خاطبنا ذات صباح نوفمبريٌ بارد من العام 
التاسع والأربعين - كنا نتمرن منذ أسابيع على ضفة الراين -» لكن ليس 
بصوت خفيض» بل مرتفع حدّ المبالغة: «كيف يمكنني إطلاق الرصاص 
وأنتم تعملون موسيقى فتفرٌ الطيورً» فاعتذر كليب بالقول «أوه» ثم أبعد نايه 
عن فمه وكأنه أبعد بندقية قدمٌ بها تحية عسكرية: «حضرتك السيّد 
الموهوب موسيقياً الذي التزم بألحاننا الإيقاعية بدقة وهو يطلق النيران في 
الأحراش» فتقبّل جل احترامي يا سيّد شموه!» 

فغمر الفرح شموه لأن كليب سمّاه بالاسم؛ لكنه مع ذلك سأل كيف 
أن كليب عرف اسمه. فردّ عليه كليب باستنكار: «كل واحد يعرف شموه. 
فأنا اسمع الناس تقول: هذا هو شموه ذاهب» هذا هو شموه قادم. هل 
رأيتم شموه توَأء أين أصبح اليوم» شموه يصطاد العصافير .» 

وبعدما جعله كليب رجلا متعدد النواحي قدَّم لنا شموه سجائر وطلب 
ما أن نقدم أسماءناء وأعرب عن رغبته في سماع مقطوعة من برنامجنا 
الحافل» فقدمنا له مقطوعة جاز خفيفة» أشار على ضوثها إلى زوجته 
الجالسة بمعطف فرو على صخرة» معتكفة» تتأمل فيضان نهر الراين؛ 
أشار إليها بالمجىء. فجاءت بالفرو» فتوجب علينا أن نعزف المقطوعة 
نائية متظاهرين بأنناامن النكة الاساعية» ققالث صالعية القرادابعلانا 
انتهينا: «ما رأيك يا عزيزي فريدي» أليس هذا ما كنت تبحث عنه للقبو؟» 
فبدا أنه شاطرها الرأي» معتقداً مثلها بأنه كان يفت عنّا فعثر عليناء بيد أن 
رمى بضعة حصى صغيرة مسطحة على صفحة النهر» فتزحلقت بسرعة» ثم 
أمعن فكرة وحسب حسابه» قبل أن يتقدم بالعرض: موسيقى في قبو البصل 
من الساعة التاسعة مساءًٌ حتى الثانية ليلآء عشرة ماركات لكل فردٌ فى 
العيالء الو اتيم ,مغونا افر له التى ار سارعا تكلب افيف عفن لكى 
يقول شموه خمسة عشر - لكن شموه قال أربعة عشرء فاتفقنا. 


60 3 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بدا قبو البصلء إذا ما نظر إليه المرء من الشارع» شبيهاً بتلك 
الحانات الصغيرة الكثيرة التى لا تختلف قط عن الحانات القديمة سوى أن 
ابعازها كانت غالية: على العرد أن محف صن مين ظاة امتعارها فى 
الذيكون الداعاك غير المالرق» حك انها كالك غالا ها بن جنانات 
الفئّانين» أو في أسمائها التي لها وقع خفيف هادئ مثل «سقيفة المعكرونة 
المحشوة»؛ أو ذات النزعة الوجودية الغامضة مثل «المحّرم؛» أو التي 
حملت اسم «الفلفل» الحارق الناريٌّ» أو «قبو البصل» أيضاً. وقد رسّمت 
عبارة قبو لعل بود بحي الا إضافة إلى صورة بصلة معلقة فوق 
مشنقة من الحديد الصلب منمقة بالطريقة الألمانية القديمة فى الواجهة» 
سمت بسذاجة شديدة الإلحاح على رقعة لامعة الطلاء. فمة وجاجات 
مربعة مثبتة بالرصاص» خضراء مثل زجاجات البيرة» كانت تزجج النافذة 
الوحيدة. وانتصب البوّاب بجبّة صوف ريفيّة أمام بوّابة من حديد مطلية 
بالدهان الأحمر المقاوم للصدأ والتي يمكن أن تكون قد انطبقت على ملجأ 
للحماية من القصفٌ الجويّ أثناء الأعوام العصيبة. لم يكن يسمح لكل 
شخص بالدخول إلى القبو؛ فلاسيما في أيّام العطل» حين تتحوّل الأجور 
الأسبوعية إلى بيرة» يُمنع «أخوة» المدينة القديمة من دخول القبوء لأنه 
أسعاره ستكون غالية بالنسبة لهم. وكلّ من يسمح له بالدخول كان يعثر 
على خمس درجات من الخرسانة خلف الباب الأحمرء وإذا ما هبط 
الدرجات الخمس فإنه سيجد نفسه على دكّة بمتر مربع - ثمة ملصق 
معرض لبيكاسو جعل هذه الدكّة طريفة» جديرة بالمشاهدة - وإذا ما 
واصل الهبوط أربع درجات أخرى فإنه سيجد نفسه أمام مشجب الملابس» 
حيث علقت رقعة من الورق المقوّى تقول «رجاءً الدفع مؤخراً!»» أمّا 
الشاب الواقف خلف المشجب - غالباً ما يكون فتى ملتحياً من أكاديمية 
الفنون - فلم يستلم أبداً نقوداً مقدماً؛ لأن قبو البصل كان غالياً في الواقع» 
لكنه محترم بالقدر ذاته. وكان صاحب الحانة يستقبل شخصياً كلّ ضيف» 
بحركات حاجبين وإيماءات سريعة للحدٌ الأقصىء كما لو أنه يشرح لكل 
ضيف جديد مسرحية عن طقوس مقدسة شرحا تمهيديا. كان يدعى» كما 


2365 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


علمناء فيرديناند شموه؛ وكان يصطاد العصافير أحياناً» ويتمتع بحاسة 
التقَرّبٍ من تلك الفئة الاجتماعية التى تطوّرت بسرعة إلى حد ما فى 
دوسلدورف إثر إصلاح النقد وببطء في أماكن أخرى. 

كان قبو البصل في الواقع - وهنا يتلمس المرء مصداقية تلك الحانة 
الليلة المرغوبة - قبواً حقيقياً» بل قبواً رطباً إلى حدّ ماء يمكن مقارنته 
بخرطوم طويل رطب من الأسفل» تبلغ مساحته ثمانية عشر مترأً بمقدار 
أبرع مرّات» ويدفأ بمدفأتين حديديتين أصليتين أيضا لهما شكل أسطواني. 
بلا شك أن هذا القبو لم يبق في الواقع قبواًء إذ انتزع عنه السقف. ووسع 
إلى حدٌ الطابق الأرضي. وبذلك لم تعد نافذة القبو الوحيدة نافذة قبو 
بالمعنى الصحيح» إنما نافذة طابق أرضئّ سابق» مما خلّف أثراً طفيفاً في 
سمعة الحانة الليلة المحترمة الرائجة. رلوم تزجح الايد بحريعات 
الزجاج الصغيرة السميكة لأصبح النظر إلى الداخل ممكناً؛ ولآن المرء 
شيّد رواقاً في القبو الموسع إلى الأعلى؛. يمكن الصعود أليه عبر سلّم 
حلزونيّ ضيّق؛ فإن المرء يستطيع ربما أن يطلق صفة الحانة الليلية 
المحترمة على قبو البصل الذي لم يكن في الواقع قبواً أصيلاً - لكن لأي 
سبب عليه أن يبقى قبوا؟ 

لقد نسي أوسكار أن يروي بأن السلم الحلزونيّ لم يكن سلما حلزونيا 
بالمعنى الحرفي للعبارة» إنما سلّم حبال يشبه سلالم البواخر» حيث 
يستطيع المرء التشبث بحبليّ غسيل أصيلين على يمين السلم العموديٌ 
الخطير وشماله؛ فكان يترنح» مذكرا المرء برحلة بحريّة» رافعا من أسعار 
قبو البصل إلى الأعلى. وثمة مصابيح كانت تعمل بفحم الإضاءة مثل تلك 
التي يحملها عمّال المناجم أنارت القبو» متبرعة برائحة فحم الكربيد - مما 
أَدَى بدوره إلى رفع الأسعار مرّة أخرى -» من شأنها أن تنقل ضيف القبو 
المسدد الثمن إلى نفق منجم للبوتاسيوم يقع مسافة تسعمائة وخمسين متراً 
تحت الأرض: عمال مناجم عراة الصدور يعملون معاولهم في صخرة. 
فيفصدون متها وريد : فيحظر الكاشط الملح. فتعري رافعات المنجم. 
وتسدٌ المسالك؛» وبعيداً فى الخلف؛. حيث ينحرف النفق في اتجاه 


/1617" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


«فريدرشهال؟ رقم اثنين» ثمة ضوء يتأرجح » فذلك هو رئيس العمّال الذي 
جاء ليقول ١حظّاً‏ سعيداً!» ملّوحاً بمصباح الكربيد الشبيه تماماً بالمصابيح 
المعلّقة على جدران قبو البصل غير المعالجة و المكسوة بالجبس بشكل 
عابر» التي كانت تنير المكان وتبعث فيه رائحة وترفع من أسعارهء مشيعةٌ 
جوًا شديد الأصالة. أما مقاعد الجلوس غير المريحة التي كانت عبارة عن 
صناديق عادية» فقد كسيت بجوالات البصلء» بينما لمعت طاولات 
الخشب على العكس من ذلك نظيفة» ممسوحة؛ تغري الضيف القادم من 
المنجم بدخول حجرة فلاح وديعة آمنة مثلما يراها المرء في الأفلام 
أحيانا. فكان هذا كل شيء! وطاولة البار؟ لم تكن هناك طاولة بار! حضرة 
النادل؛ قائمة المأكولات رجاء! لم يكن هناك نادل ولا قائمة مأكولات» 
باستثنائناء نحن جماعة م106 .8096 عسصنطظ عط" الذين يمكن ذكرهم 
هناء إذ قبع كليب وشوله وأوسكار تحت السلّم الحلزوني الذي كان بمثابة 
سلّم باخرة؛ بعدما قدموا في الساعة التاسعة؛ فأخرجوا آلاتهم ثم بدءوا 
يعزفون الموسيقى حوالي الساعة العاشرة. وبما أننا أشرفنا الآن على 
الساعة التاسعة وخمس عشرة دقيقة» فإن الحديث عنّا سيأتى فيما بعد. 
فلابد ألا من النظر إلى أصابع شموه التي كان يمسك بها أحياناً بندقيةٌ من 
العيار الخفيف . 

وحالما يمتلاً قبو البصل بالزيائن - إذا امتلأ بمقدار النصف فيعتبر 
ممتلثاً بالكامل -؛ فإن شموهء صاحب الحانة» يلفٌ شاله الحريريّ الأزرق 
المخضرء والمطبوع؛ المطبوع عليه بصورة خاصة؛ وقد ذكرنا هذا لأن 
لف الشال انطوى على أهمية كبيرة. يمكن للمرء أن يطلق على النماذج 
المطبوعة على الشال تسمية البصل الذهبيّ الأصفرء فبعدما يتلفع شموه 
بهذا الشال يمكن القول بأن قبو البصل قد أفتتح. 

كان ضيوف القبو من التجّار والأطباء والمحامين والفئانين وأيضاً من 
الممثلين المسرحيين والصحفيين ورجال السينما والرياضيين المعروفين 
وكبار موظفيّ الحكومة الإقليمية وإدارة المدينة» باختصار: كل ما يسمّى 
اليوم بالمثقفين؛ فكانوا يجلسون بصحبة عقيلاتهم وصديقاتهم 


56 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وسكرتيراتهم وفناناتهم التطبيقيات» أو بصحبة صديقاتهم من الرجال 
أيضاًء يجلسون على وسائد من الريش» يتحدثون فيما بينهم بصوت 
خفيض» وبعناء إلى حد ماء وبانقباض طالما لم يرتد شموه الشال الذي 
طبعت عليه صورة البصل الذهبيّ الأصفرء محاولين الدخول في حديث» 
لكنهم كانوا يفشلون؛ فيواصلون الكلام»؛ بعيداً عن صلب المشكلة 
الحقيقة؛ على الرغم من نواياهم الصادقة» متطلعين إلى الترويح عن 
أنفسهم» وإلى التفريغ عن همومهم بصراحة. تواقين إلى إبقاء رؤوسهم 
خارج اللعبة بتلقائية» ليكشفوا الحقيقة الدامية والإنسان العاري - لكنهم 
عجزوا عن تحقيق ذلك. فاتضحت بين الحين والآخر ملامح مستقبل 
وظيفيّ زاهر ضاعت هباءً أو ملامح الحياة الزوجية المحطمة. فذلك السيّد 
القابع هناك برأسه الضخم الفطن ويديه الرقيقتين النحيفتين إلى حدّ ماء بدا 
متورطاً في مشاكل مع ابنه الذي لم يعجبه ماضي أبيه. أمّا السيّدتان 
المتلفعتان بالفراء» الوسيمتان تحت نور مصابيح الكربيد فقد فقدتا الإيمان 
أصلاًء لكن السؤال الذي بقيّ معلقاً هو: بأي شيء فقدتا إيمانهما؟ فمازلنا 
لآ تعلم شيعا عن ماضي السيد ذي الراس الضكمء إذ أن العلايث لم 
يتعرّض إلى الصعوبات التي سببها الأب لابنه بسبب الماضي؛ فأصبح 
الأمر - وهنا يعتذر أوسكار عن التشبيه - مثل وضع البيض: حيث يضغط 
المرء ويضغط . . . 

فكان المرء يضغط في قبو البصل بلا طائل؛ إلى أن يطل شموه. 
ضاحي النسأنة + يشالة المعقةذ» إطلالة قصييرة» مستفيلد غبارة العدقاد 
المبتهجة «آه؛ العمومية بكلمة شكرء قبل أن يختفي بضع دقائق وراء ستار 
في طرف القبو» حيث المرحاض والمخزنء» ليطل من جديد. لكن لماذا 
حيّت هذه «الآهه صاحب الحانة من جديد ببهجة أكثر من السابق» شبه 
متحررة» عندما قدم نفسه لضيوفه مرّة أخرى؟ كان صاحب حانة ليلية 
مرغوبة يختفي خلف ستار في طرف قبو البصل» فيلتقط حاجة ماء فيزجر 
بصوت قليل الارتفاع المرأة العاملة في المرحاض» حيث جلست هناك» 
تقرأ مجلة مصوّرة» ثم يظهر من جديد أمام الستارء فيحييه الضيوف كما لو 


50 
1_طماع1© :ع1 ]آنلا 1 


أنه مسيح مخلّص» أو صانع معجزات عظيم . فكان شموه يظهر بين ضيوفه 
حاملا على ذراعه سلة. مغطاة بمنديل ذي مربعات زرقاء صفراء. وفوق 
المنديل رقدت ألواح خشبيّة صغيرة على أشكال خنازير وأسماك. هذه 
الألواح النظيفة اللامعة كان شموهء صاحب الحانة» يوزعها على ضيوفه. 
فيوفق حينئذ في الانحناء وإطلاق المجاملات المفصحة عن أنه قد أمضى 
شبابه في بودابست أو فيينا؛ فكانت ابتسامته تشبه نسخة مصورة عن نسخة 
زنها رسيها اد ماعن القيشة الأغلة للعرنال زا عيذ [ن الشيوك كائرا 
يستلمون الألواح بجديّة؛ حتى أن البعض منهم يستبدلها بأخرى. فثمة من 
أحبّ المظهر الجانبي للخنزير؛ في حين آثر البعض - بالأخص عندما 
يتعلّق الأمر بسيّدة - السمكة الغامضة؛ آثرها على الخنزير العاديّ الأليف . 
ثم يبدءون ب بشم الألواح وزحزحتها وجذبهاء بينما كان شموه» صاحب 
الحانة» الذي قدم خدماته للضيوف في الرواق اا ينتظر حتى تستقر 
الألواح . 
حينئذ يهرع إلى إزاحة الغطاء - حيث انتظرته القلرب كلها - بطريقة 
لا تختلف عما يفعله الساحر: لكن ثمة غطاء آخر أطبق على السلّة» 
استقرت عليه سكاكين مطبخ من الصعب التعرّف عليها من خلال النظرة 
الأولى. ومثلما الحال من الألواح» فإن شموه كان يطوف بالسكاكين» بيد 
أنه صار يطوف على عجلء؛ مصعداً من حدٌ الإثارة التي كانت تسمح له 
برفع الأسعار» مطلقاً الكثير من عبارات المجاملة؛ بحيث أنه لم يتح لهم 
استبدال السكاكين» إذ أن جرعة معينة من العجلة» سرت في حركاته» 
فيهتف «كلّ شيء جاهزء انتباهء فهيًا بنا!»ء ثم ينتزع المنديل عن السلّة» 
ويمد يده ليقوم بالتوزيع» فيوزع ويفرّق» متحولا إلى سخيّ عطوف». 
يزود ضيوفه بما ملكت يده الندية ؛ فصار يفرّق عليهم البصل ومن ثم البصل 
الذي رآه المرء مجسّداً أصفر ذهبياً على شاله» بصلا عاديا نبات درنئ» لا 
يشبه بصيلات السوسن» بصلاً كاللي تكتريه بات البيوت» كالذي يعرسه 
الفلأح أو الفلآحة أو الخادمة لِيُجمع فيما بعدء بصلا مثلما يراه المرء 
مرسوماً بأمانة إلى هذا القدر أو ذاك في لوحات الحياة الصامتة «للأساتذة 


33 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الصغار» الهولنديين؛ فكان شموه يوزع هذه الأبصال أو ما يشبهها على 
ضيوفه إلى أن يصبح البصل بحوزة الجميع؛ حتى بات المرء لا يسمع 
سوى أزيز المدفئتين الأسطوانيتين وهسيس مصابيح الكربيد. هكذا كان 
الهدوء يسود عقب توزيع البصل - فيهتف فيرديناند شموه «تفضلوا! سيّداتي 
سادتي!» ثم يلقي بطرف شاله على كتفه الشمال مثلما يفعل المتزلج على 
الجليد قبل الانطلاق» مصدراً إشارة فى الوقت ذاته. فيبدأ المرء بتقشير 
البصل . تالز لمعيل ل سقه تور فيبدأ السادة والسبّدات يقشرون 
البصل بسكاكين المطبخ » منتزعين عنه جلده الأوّل فالثاني فالثالث فالأشقر 
فالأصفر الذهبيّ فالبنئ الغامق, أو بالأحرى جلده البصلى» فيقشرون حتى 
يصبع البصل زجانج) اعضو مضا رطا لرسا سائلاً» 15 رائحة بصليةة ثم 
يقطعونه على ألواح الفرم مثلما يقطع المرء البصل» بمهارة أو بغير مهارة, 
على الألواح التي لها أشكال الخنازير والأسماك» منهمكين فرماً في هذا 
الاتجاه أو ذاك» حتى تتدفق عصائره أو حتى تبلغ عصائره الهواء بوجودها 
فوق البصل نفسه - توجبٌ على السادة المسنين الذي لا يجيدون استعمال 
سكاكين المطبخ اتخاذ الحذر لثلا يحزّون أصابعهم؛ لكن البعض منهم حر 
أصابعه دون أن يعلم؛ في حين النساء أظهرن مهارة؛ ليس جميعهن» لكن 
أولئنك اللواتي يمارسن دور ربّات البيوت في منازلهن؛ اللواتي عرفن كيف 
يُفرم البصل من أجل قلي اللحم مع البطاطس أو تحضر الكبد مع التفّاح 
وحلقات البصل؛ بيد أن تلك الأطعمة لم تكن موجودة في قبو شموه» بل 
ليس هناك ما يؤكل أصلاء وكل من يرغب في تناول الطعام عليه أن يذهب 
إلى مكان آخرء إلى «فيشل» وليس إلى قبو البصل؛ حيث لا يفرم سوى 
البصل . لكن لِمّ كل هذه التفاصيل؟ لأن قبو البصل اسمه هكذاء ولأنه كان 
متميزاء ولأآن البصل» بل البصل المفروم؛ إذا ما نظر إليه المرء 
بدقة. . .كلاء لم يستطع ضيوف شموه يبصرون شيئأء أو أن بعضهم لم 
يعد يبصر قطء إذ أن الدموع سالت من أعين الضيوف» ليس لأن قلوبهم 
كان مترعة» إذ لا يجوز القول بأن العين يسيل دمعها على الفور إذا ما امتلأ 
القلب؛ لكن البعض لم يسفح الدمع أبدء خاصةً خلال عقود السنوات 


51 
1_طماع1© :1121 آنلا 1 


الأخيرة الغابرة» لذلك فإن قرئنا سيسمى فيما بعد بالقرن الناشف الدموع, 
على الرغم من أنه شهد الكثير من المآسي في كل مكان - ولهذا السبب 
الخالي من الدمع بالذات أصبح الناس المتمكنون يذهبون إلى قبو شموه. 
حيث يقدم لهم صاحب الحانة ألواح فرم - بهيئة خنزير أو سمكة - 
وسكاكين مطبخ مقابل ثمانين فنكا وبصلا عاديا من المشتل مقابل اثني عشر 
ماركا فيقطفوته آرياً آرباً حتى قر منه العصائر» فيسقق 4 يحقق مادًا؟ يحقق 
ما تعجز عنه مأساة العالم: الدمعة الإنسانية الكرويّة» فيبدأ البكاء. أخيراً 
يستطيع الناس البكاء مرّة أخرى. فيبكي الناس بأدب واسترسال حريّة. 
حينئذ تسم الدموع وتفيض». ثم يأتي المطر»ء ويسقط الندى. فتخطر 
صمّامات التصريف في ذهن أوسكار والتي يجب فتحها. تصدعات في 
السدّ بفعل فيضان عارم. فما هو اسم النهر الذي يفيض كل عام ولا تفعل 
الحكومة شيئاً إزاء الفيضان؟ بعد هذا المظهر الطبيعي يبدأ المرء الذي 
أجهش في البكاء بالتحدث لقاء اثني عشر ماركاً وثمانين فنكاً. وبترده 
وبدهشة من اللغة السجردة الازية يقنع شيرف القبو المجال لخيرائهم 
الجالسين على الوسائد غير المريحة المحشوة بالريش أن يستفسروا منهم إثر 
استمتاعهم بالبصل» فيقلبونهم مثلما يقلب المرء معطفا. لكن أوسكار 
الجاف الدمع القابع إلى جانب كليب وشوله تحت سلّم الدواجن الحلزوني 
كان يوّد التكنّم. بحيث أنه لا يود أن يورد هناء من بين كل الإيحاءات» 
ولوم الذات» والإقرار بالخطاياء وهتك الأسرار» والاعترافات» سوى 
حكاية الانسة «بيوخ» التي طالما فقدت سيّدها «فولمر»» فتحجر قلبها لهذا 
السبب ونشف الدمع في عينهاء حتى صارت تأتي دائماً إلى قبو شموه 
الباهظ الأسعار. 

قالت الآنسة بيوخ بعدما بكت بأنهما تعرّفا على بعضهما في الترام. 
كنت عائدة ساعتها من المحلّ - كانت تملك مكتبة ممتازة وتديرها أيضاً - 
فوجدت عربة الترام غاصّة بالركاب» فبدأ فيلي - أي السيّد فولمر - يدوس 
على قدمي اليمنى. فأصبحت عاجزة عن الوقوف» ومنذ النظرة الأولى 
أحببنا بعضنا. ولأنني لم أكن قادرة على السير فقد عرض عليّ ذراعه؛ 


3033 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فرافقني» أو بالأحرى حملني إلى البيت» ومنذ ذلك اليوم صار يعتني بظفر 
إصبعي الذي استحال لونه أزرق مسودّاً تحت وطأة قدمه. لكن ما عدا ذلك 
فهو لم يبخل علي بحبّه إلى أن سقط ظفر إصبع قدمي الكبير بحيث لم أنه 
لم يعد حجرة عثرة أمام نمو ظفر جديد. ومنذ اليوم الذي سقط فيه الظفر 
الأصمّ خفت حبّه لي» فأصبحنا نعاني من الانكماش . لكن فيلي تقدم لي 
آنذاك باقتراح رهيب» إذ كان متعلقاً بي بشدّة» إضافة إلى الكثير من الأمور 
المشتركة بيئنا: دعيني أدوس على الإصبع الكبير لقدمك اليسرى حتى 
يصبح أحمر أزرق ومن ثم أزرق مسوداً. فاستجبت لهء ففعل ما أراد 
فصرت أتمتع على الفور بحبّة الكامل» وبقيت استمتع به إلى أن سقط 
الظفر اليسار من إصبعي الكبير مثلما تسقط ورقة ذابلة» فعاش حبنا 
الكريت للنهزة الكائة., أنا الآن فات فلن يربق أن سق مجدةا على ظطقر 
إضيغن اليمين والذى :ثما للتوه غير أت لم امع له« يذلك. تقلت لد إذا 
كان حبّك كبيراً حقّاً فعليه أن يدوم أكثر من ظفر إصبع. لكنه لم يفهمني» 
فهجرني. بعد شهور التقينا في صالة الحفلات الموسيقية. أثناء الاستراحة 
حلسن إلى جات عباغترة يون ستوال أو جراب» لآن المقغد كان كتاغرة: 
عندما بدأت الجرقة الأناشيد تترنم في السيمفونية التاسعة مددت له قدمي 
اليمنى التى خلعت عنها الحذاء قبل لحظة»؛ فسحق عليها دون أن يشوّش 
على الحفلة الموسيقية: بعد سبعة أسابيع تخلّى عنّي فيلي مرّة أخرى. 
لكننا امتلكنا بعضنا مرتين لمدة بضعة أسابيع» إذ أنني قدمت له إصبعي 
قدميّ الكبيرين مرّتين» في البدء قدميّ اليسرى ثم اليمنى. واليوم فإن 
إصبعي أصبحا كسيحين» إذ أن الأظفار توقفت عن النمو. فأصبح فيلي 
يزورني بين الحين والآخرء ليجلس قبالتي على البساط ويحدّق في 
ضحيتيّ حبّنا الخاليتين من الأظفارء يحدّق بحزن» وبتعاطف معي ومع 
نفسه» لكن بلا حبّ أو دموع. أحياناً كنت أقول له: تعال يا فيلي؛ دعنا 
نذهب إلى قبو بصل شموه.ء لنبكي بكاءً صادقاء لكنه لم يأت معي إلى 
يومنا هذا. ا ع او و سي 

وأخيرا د إن أوسكار بف يفشي السرّ هنا ليرضي الفضوليين منكم - جاء 


و 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


السيّد فولمر الذي كان تاجراً لأجهزة المذياع» جاء إلى القبوء وأخذا 
ينتحبان معاًء كما أنهما قد تزرّجا قبل فترة قصيرة مثلما أبلغني كليب يوم 
الأمس أثناء زيارته لي. وعلى الرغم من مأساة الوجود الإنساني بدات 
تتضح على أكمل وجه إثر التلذذ بالبصل من يوم الثلاثاء حتى السبت - 
كان قبو البصل يقفل في يوم الأحد -؛ فإن يوم الاثنين يبقى مقتصراً على 
أولئك الضيوف الباكين بعنف. وإن كان خالياً من المأساوية؛ ففي يوم 
الاثنين تكون الأسعار زهيدة» بحيث أن شموه يوزّع البصل على الشباب 
بنصفٌ السعر. فحتى طلأآب أكاديمية الفنون» لاسيما أولئك الذين 
سيصبحون معلمين للرسم. كانوا ينفقون جزءاً من منحهم الدراسية على 
البصل. لكنني أسأل نفسي اليوم من أين كان طلاب الثانوية وطالباتها يأتون 
بالنقود لإنفاقها على البصل؟ 

كان الشبّان يبكون بطريقة مختلفة عن المسنين» فالشبّان لهم مشاكل 
مختلفة تماماًء ليس لها بالضرورة علاقة بهموم الامتحانات أو الشهادة 
الثانوية. بالطبع كان قبو البصل يشهد قصص الآباء والأبناء ومآسي 
الأمهات والبنات. لقد شعر أوسكار بالفرح لأن الشباب كانواء ومازالواء 
يبكون من أجل الحبّء وليس فقط من أجل ممارسة الحبٌّ. فغيرهارد 
وغودرون: كانا يجلسان في الأسفل أوّل الأمرء ثم بكيا معاً في الرواق. 
وكانت غودرون طويلة» قويّة البنية» تلعب كرّة اليدٌ. وتدرس الكيمياء. 
وتعقد شعرها إلى قفاها. فبدت جدباء رماديّة» ومع ذلك مشبعة بعاطفة 
الأمومة مثلما كان المرء يرى طوال أعوام ملصقات التنظيم النسائي قبل 
انتهاء الحرب» عندما تنظر غالباً إلى الأمام باستقامة نظرةً لا تشوبها شائبة. 
ومثلما كان جبينها لبنيّ الشكل منحنياً بنعومة ونقاوة؛ فإنها حملت تعاستها 
بوضوح على وجههاء فخلّفت لحية رجولية نبتت في الحنك الصلب 
المستديرء شاملة الخدّين معهاء بحيث أن المرأة التعيسة الحظّ كانت 
تضطر دوماً إلى إزالتها؛ خلفت آثاراً سيئة» إذ أن جلدها الناعم لم يتحمل 
شفرة الحلاقة. فأضحت غودرون تذرف الدمع بسبب النكد الملتهب 
احمراراًء المتقيّح المليء بالبثور الذي نبتت فيه اللحية النسائية. لقد قدم 


0 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


غيرهارد متأخراً إلى قبو البصل. ولم يكن غيرهارد وغودرون قد تعرّفا على 
بعضهما في الترام مثل السيّد فولمر والانسة بيوخ» إنما في القطارء حيث 
جلس قبالتها عندما رجعا معا بعد انقضاء العطلة الدراسية. فوقع غيرهارد 
في حبها مباشرة» على الرغم من لحيتهاء لكنها لم تجرؤ على حبّه بسبب 
هذه اللحية بالذات» بل أبدت إعجابها بحنكه الأملس مثل مؤخرة الطفل» 
مع أن مصيبته كمنت هناء فهذا الشاب كان أحصٌ اللحية» فجعله ذلك 
يستحي من الفتيات. ومع ذلك بادر غيرهارد بالتحدث إلى غودرونذ» 
وبعدما ترجلاً في محطة دوسلدورف الرئيسية» فأقاما على الأقل علاقة 
بينهما. ومنذ رحلة القطار تلك أصبحا يلتقيان كلّ يوم» فيتكلمان عن هذه 
المسألة أو تلك» متبادلين بعضاً من أفكارهماء بيد أنهما لن يأتيا قط على 
ذكر اللحية الناقصة أو اللحية النامية باطراد. كذلك رحم غيرهارد بغودرون 
فلم يهم بتقبيلها بسبب جلدها المعذب. فبقيت عفيفة في حبهاء على 
الرغم من أنهما لم يعرا أهمية للعمّة؛ إذ أنها كانت متمسّكة بالكيمياء أما 
هو فقد أراد أن يصبح طبيبا. حين نصحهما صديق مشترك بالذهاب إلى 
قبو البصل» ابتسما بازدراء» متشككين كما هم الأطباء والكيميائيون عادةً؛ 
لكنهما ذهبا أخيراًء لكي يجريا بعض الدراسات» مثلما أكٌدا لبعضهما. بيد 
أن أوسكار لم يرى شبّاناً يبكون بتلك الحرارة مثلهما. فصارا يأتيان 
باستمرار ٠‏ مقترين على أنفسهما ليوفرًا الماركات الستة؛ إضافة إلى 
الأربعين فنكأء ليتباكون على اللحية الناقصة أو على اللحية التى خربت 
جلدٌ الفتاة الناعم . أحاناً كانا يتجنبان قبو البصل يوم الاثنين» إلا أنهما 
يأتيان في يوم الائنين الذي يعقبه ليبوحان منتحبين؛ وهما يفركان البصل 
المفروم بأصابعهماء بأنهما وفرا الماركات الستة والأربعين فنكاً؛ وقد 
حاولا في غرفتهما الطلابية أن يفعلا الشيء ذاته بواسطة البصل الزهيد 
السعرء لكن التأثير لم يكن مثلما هو في قبو البصل» إذ أن المرء يحتاج 
إلى منصتين» فالبكاء وسبط المجتمع يكون أكثر سهولة. بلا شك أن المرء 
لا يتوصل إلى الشعور الجماعيّ الحقيقي إذا لم يبك زملاؤه من هذه الكلية 
أو تلكء. أو حتى طلاب الأكاديمية أو الثانويّة المنتحبين على اليمين وعلى 


116 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الشمال وفي أعلى الرواق. قفي حالة غيرهارد وغودرون فإنهما لم يسفحا 
دمعهما فحسب. بل شفيا شيئاً فشيئا. فربما اكتسح ماء العيون حياءهماء 
فاقتربا من بعضهما كما يقال» فبدأ يقبّل جلدها المنهك» وأصبحت تستمع 
بجلده الناعم» فتوقفا ذات يوم عن المجيء إلى قبو البصل» إذ أنهما لم 
يريا ضرورة فى المجىء. كان أوسكار قد التقى بهما بعد شهور عديدة فى 
كرتس أليه: فلم يتعوف غليهنا في الإدط! إذ حمل غيرهازه الناغم الجلد 
لحية حمراء شقراء متبخترة» بينما لم تظهر غودرون المحببة الجلد أكثر من 
زغب دقيق خفيف السمار فوق شفتها العلياء فبدا متناسقاً تماماً مع معالم 
وجههاء في حين لمع حنك غودرون وخذاها بنعومة خالية من النباتات. 
كان مظهرهما يشبه مظهر زوجين دارسين ار غودرون 
تخاطب أحفادها بعد خمسين عاماً: «حدث ذلك حين كان جدّكم بلا 
لحية؛» فيضيف غيرهارد: «حدث ذلك عندما كانت جذتكم تعاني من نمو 
في لحيتهاء فصرنا نذهب كل اثنين إلى قبو البصل.» 

ولعلكم ستسألون لماذا بقي الموسيقيون الثلاثة جالسين تحت سلّم 
البواخر أو سلّم الدواجن؟ فهل أن محل البصل سيكون بحاجة إلى 
الموسيقى الحقيقية الموظفة مشي سن م البكاء والعويل 
وطقطقة الأسنان؟ فكنا نهرع إلى آلاتنا الموسيقية حالما يفرغ الضيوف من 
النحيب والبوح»؛ فنزودهم بهمزة الوصل» 500 في الأحاديث اليومية؛ 
مسهلين عليهم عملية الخروج من قبو البصل؛ لكي يحل ضيوف جدد ني 
محلهم. كان كليب وشوله وأوسكار محصنين ضد البصل. فضلاً عن أن 
بندا من بنود عقد العمل مع شموه حرّم علينا نعمة الاستمتاع بالبصل 
بالطريقة ذاتها التي كان الضيوف يستمتعون بهاء ثم أننا لم نكن في الواقع 
بحاجة إلى البصل. فشوله؛ عازف القيثارة» لم يكن لديه أي باعث 
للشكوى. فكان المرء يراه سعيداً دائما مرتاحاً. حتى لو أنقطع وتران تحت 
أصابعه أثناء عزف موسيقى الجاز الخفيفة على آلته البانجو. أمَا صديقى 
كانت فإ معبلط حا الكاء والعيطك عاذالت بالقسة لذ عير واضبيفة إلى 
يومنا هذاء فكان يجد البكاء طريفاً مضحكا. إنني لم أره مرّةٌ يضحك من 


111 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


كل قلبه مثلما فعل أثناء تشييع خالته التي كانت تغسل له قمصانه وجواربه. 
لكن كيف بدا الأمر مع أوسكار؟ كان أوسكار يمتلك في الواقع أسباباً كافية 
للبكاء. ألم يكن حرياً به أن يكتسح الممرضة دورونيًا في ليلة طويلة ضائعة 
وعلى حصيرة ليف أطول منها؟ وماريا؟ ألم تشكلّ له باعثاً للشكوى؟ ألم 
يكن ربٌ عملهاء شتنتسل» يسرح ويمرح في بيتها الواقع عند بلكه؟ ألم 
يخاطب ولدي كورت تاجرٌ الأطعمة الفاخرة الذي كان يعمل عملا إضافياً 
في الحفلات التنكرية بلقب «عمي شتنتسل؛ ومن ثم ابابا شتنتسل؟؛ 
وخلف ماريا ألا ترقد تحت الرمال البعيدة المغرية لمقبرة سازبه أو تحت 
طين مقبرة برنتاو؟ : أمّي المسكينة والأحمق يان برونسكي والطاهي 
ماتسراتك الذئ كان يحيل المشاعر إلى حساء؟ > لقد كان ريا بى أن 
اتتحب على هؤلاء كلّهم. بيد أن أوسكار كان ينتمي إلى أولئك السعداء 
القليلين الذين يسفحون الدموع بلا بصل. فكان طبلي يعنيني على ذلك» 
فبضعة إيقاعات محددة تجعل أوسكار يذرف دمعه الذي لم يكن أسوأء أو 
أجود من الدموع الغالية لقبو البصل . 

كذلك شموه صاحب الحانة؛ فهو لم يضع يده على البصل أبدأء إذ 
أن العصافير التي يطلق عليها نيرانه في أوقات فراغه وهي في الأحراش 
والأجمة كانت تمثّل له تعويضاً تام عن البكاء. لكن أما كان الدمع كثيراً ما 
يترقرق في مآقي شموه حالما يجندل العصافير الإثني عشر فيصمّها على 
الجريدة فتبدو أحياناً دافئة الريش» ثم يقوم بنشر طعام الطيور على حصى 
الضفاف ومروج الراين وهو مستغرق في البكاء؟ فثمة إمكانية ثانية للتنفيس 
عن كربه قدمها له محل البصل. فكان من عادته أن يزجر عاملة المرحاض 
شرٌ زجر مرّة في الأسبوع» مطلقأ عليها صفات» قديمة في الغالب» من 
قبيل: قحبة؛ داعرة» متهتكة» لعينة» مشؤومة! ثم كنا نسمع شموه يزعق 
بها «اذهبي عنّىّ! اغربي عن وجهي يا كريهة» فيطرد عاملة المرحاض فوراًء 
ويعيّن عاملة أخرى بدلهاء. بيد أنه سرعان ما يدخل في مشكلات معها بعد 
مذة قصيرة.» وبفعل عدم توفر الكثير من عاملات المراحيض فإنه كان 
يسلم المهمة للنساء اللواتي طردهن مرّة أو مرّات عديدة. إلا أن عاملات 


/11 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


المراحيض. اللواتي لم يفقهن القسم الأعظم من شتائم شموه» كنّ يرجعن 
بسرور إلى قبو البصل؛ لأنهم كنّ يتقاضين أجورا جيّدة؛ إذ البكاء هنا كان 
يحثٌ الناس إلى زيارة المرحاض الصموت أكثر من الحانات الأخرى. 
فضلاً عن أن الإنسان الباكى يكون عادةٌ أكفر كرماً من الإتسان الناشف 
العنينه بالاعض التاته ذرى الرجرةةالمشفة اللناضة المتورية الذيق كاتا 
ينسحبون «إلى الخلف»», حيث يجزلوا العطاء للعاملات. ثم أن عاملات 
المراحيض كنّ يبعن لضيوف القبو مناديل الجيب المعروفة» المكتوب 
عليها بشكل قطريّ عبارة «في قبو البصل». كان منظر تلك المناديل طريفاً؛ 
فهي لم تستخدم لتجفيف الدموع فحسب بل بمثابة مناديل للرأس. فأصبح 
السادة الضيوف يحيلون المربعات الملوّنة إلى بيارق مثلثة ثم يعلقونها في 
النوافذ الخلفية لسيّاراتهم»؛ ويحملون معهم قبو بصل شموه في رحلاتهم 
إلى باريس أو «الشاطئ الأزرق» أو روما أو «رافينا؛ أو «ريميني» أو حتى 
إلى أسبانيا البعيدة . 

وثمة مهئّة أخرى وقعت على كاهلنا نحن الموسيقيين : أحياناً كان 
بعض الضيوف يفرم بصلتين واحدة تلو الأخرى مباشرة» فيحدث ثوران في 
قبو البصل يمكن أن ينتهى ببساطة إلى حالة من المجون والعربدة. فمن 
ناعية لو يكن اشموه يحت الاتقاوات فكانة بأمرنا حالما يخلع بعض السادة 
رباطه وتعبث بعض النسوة بثيابها بعزف الموسيقى بالتصدي لبوادر 
الخلاعة؛ لكن من ناحية ثانية فإن شموه نفسه هو الذي كان يمهد كل مرّة 
طريق المجون إلى حدّ معين عندما يزوّد الضيوف الميّالين بصورة خاصة 
إلى الخلاعة ببصلة ثانية إثر البصلة الأولى مباشرة. غير أن أكبر حالة 
انفلات شهدها قبو البصل» على حدّ علميء كانت تلك التي خلّفت 
بصمات واضحة على نفسية أوسكار» وإن لم تشكل نقطة تحوّل جذرية في 
حياته. كانت السيّدة بيلي» عقيلة شموه الهائمة حبا بالحياة» قليلة التردد 
على قبو البصل» وإن أتت» فبصحبة أصدقاء لم يكن شموه يحبّ رؤيتهم. 
ذات مساء جاءت بصحبة «ووده؛ الناقد الموسيقى والمهندس المعماري 
ومدخخن الغليون فاكرلاي. كان هذان السيّدان 5 زبائن القبو الدائمين» 


م 53 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لكنهما حملا هما مفجرا بما لا يطاق» فكان ووده ينكى لأسبات ديقة؛ 
لأنه إراد أن بطق تديعيه |ق الا غترة وريم 22 يدينه للمكة الغائيةة بتها 
كان فاكرلاي يبكي حسرة على وظيفة أستاذ رفضها في سئوات العشرينات 
من أجل امرأة دتماركية غريبة الأطوانء ببد أن الدتماركبة اختارت رجلا 
أمريكياً جنوبياً» أنجبت منه ستة أطفال» فشعر فاكرلاي بالإهانة» مما جعل 
غليونه ينطفىئ كل مرّة من جديد. كان ووده الخبيث بعض الشيء هو الذي 
أقنع عقلية شموه بفرم رأس بصل» ففعلت ما نصحها به» فسالت دموعها 
وبدأت تفرغ ما في جعبتهاء فعرّت شموه»ء صاحب الحانة» تعرية تامة؛ 
راوية قصصاً يحجم أوسكار عن ذكرها حشمةً وأدباً» فاحتاج الأمر إلى 
رجال أشذاء حين همّ شموه بالهجوم على عقيلته؛ إذ أن سكاكين المطابخ 
كانت منتشرة على الطاولات» فأستوقف الرجل الغاضب حتى اختفت بيلي 
الطائشة مع صاحبيها ووده وفاكرلاي. وبدا شموه منفعلاً مبهوتاً» وقد 
لمحت ذلك عبر يديه المحلقتين المنشغلتين بتسوية شال البصل بلا 
انقطاع . ثم اختفى عدّة مرّات وراء الستارة» حيث زجر عاملة المرحاض» 
وعاد أخيرا يثلة ملآنة معلناً للضيوف بتشنج ومبالغة بأنه» شموه؛ وصل 
إلى حالة من السخاء»؛ وسيتبرع مجاناً بوجبة من البصل» وقد قام فعلاً 
بتوزيعها على الفور. فتطلع إليه حينئذ حتى كليب نفسه الذي كان يستمتع 
برؤية أي مشهد إنسانيّ محرج كما لو أنه يستمتع بدعابة ممتازة» فدفعه 
ذلك إلى التأمل؛ بل إلى حالة من التوترء فأمسك بنايه متأهيا. لقد كنا 
نعلم بحجم الخطورة التي يترتب عنها فسح المجال أمام المجتمع المرهف 
المشاعر المهذب للبكاء المنفلت مرتين متتاليتين. 

لكنّ شموه الذي رآنا متأهبين لعزف الموسيقى منعنا من العزف» 
فبدأت سكاكين المطابخ تمارس عملية الفرم على الطاولات» حيث أزيحت 
القشور الأولى الجميلة الوردية وأبعدت غفلة إلى الجانب» فسقط لحم 
البصل المزجج بشرائحه الشاحبة الاخضرار تحت أنصال السكاكين. ومما 
أثار الدهشة هو أن النساء لم يبدأن البكاءء بل أن السادة الذي كانوا في 
أفضل أعمارهم مثل صاحب المطحنة الكبيرة وصاحب الفندق مع صديقه 


31 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


المتزين بأصباغ خفيفة والوكيل العام المنتمي إلى طبقة النبلاء» إضافة إلى 
طاولة مليئة برجال صناعة الملابس الرجالية المتواجدين في المدينة بمناسبة 
اجتماع مجلس الأدازة» :والمففل الأسلع الذي كا تسميه الغشاض؟ لانه 
كان يصرٌ على أسنانه أثناء البكاء؛ هم الذين سالت دموعهمء قبل أن تهب 
السيّدات لإعانتهم على النحيب. إلا أن السيّدات والسادة لم يستبد بهم 
البكاء المنقذ الذي تولده البصلة الأولى» بل كانت تداهمهم نوبات حادة من 
النحيب والبكاء : فيصرٌ العضّاض على نواجذه بشكل رهيب» عارضا نفسة 
باعتباره ممثلاً قادراً على جعل جمهور المسرح يصّرون على أسنانهم» . 
ويأخذ صاحب المطحنة الكبيرة ذو الرأس الأشيب المعتنى به يهوي برأسم. 
على الطاولة بين الحين والآخرء في حين يخلط صاحب الفندق نحيبه 
تعيب صاحيه الرشنيق القزامة افيعلق شمرة الواقف عن السلم شاله 
ويراقب الجمع المنفلت إلى حدّ ما بتشنج لا يخلو من المتعة؛ ثم تمزّق 
سيّدة عجوز بلوزتها أمام زوج ابنتها. فجأة يقف صاحب صاحب الفندق: 
الذي تجلت قبل حين سماته الشاذة بعض الشيء » يقف على هذه الطاولة 
زمن ثم على الطارلة التي يدها بصدو بتن طبيعى عاره فيرقص مثلما 
يرقص الناس في المشرقء معلناً عن بدء الحفلة الماجنة التي كانت تبدأ. 
عنيفة في الواقع» إلا أنها لا تستحق الوصف لمعل هيج بعالم الإلهام. 
والابتكار أو بسبب سطحيتهما المبتسرة. فلم يخب ظن شموه وحدهء إنما. 
كان أوسكار يرفع حاجبيه من فرط الملل . فتّمة مشاهد تعرّ ظريفة» وكالة: 
بعض السادة يتلفع بسراويل النساء الداخلية» ثم يهجم شعب النساء على 
الأربطة الرجالية وحمّالات السراويل» وكان بعض الأزواج يختفي أسفل. 
هذه الطاولة أو تلك. ويمكن في هذا السياق ذكر العضّاض الذي مرّق. 
بأسئانه مشّد ثديين امرأة» ثم لاكهء بل ابتلع جزءاً منه . 1 
ولعّل هذا الصخب المرعبء» أي هتافات «الياهوووه؛ و«الأوهاهاء: 
التي لم تختف وراءها أي غاية تقريباً» حدا بشموه الخائب الظن إلى 
التخليّ عن مكانه عند السلّمء ربما خشية من الشرطة. 0 
قرفصنا أسفل سلّم الدواجن» فدفع كليب أوَلاً ثم دفعني بيده وفح قائلا:: 


١ 1‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


«موسيقى! هيا اعزفوا! موسيقى لكي ننتهي من التكلّف والفخفخة!» 
أنه لم يعد قادراً على تناول نايه. أمَا شوله الذي كان يري في كليب أستاذاً 
له فقد أخذ يقلّد كل ما قام به كليب؛ بما فيه القهقهة. فلم يبق سوى 
أوسكار - وعليّ كان شموه يتكل. فاستللت طبل الصفيح من تحت 
المقعدء ثم أشعلت لنفسي سيجارة» وبدأت أطبل» متفاهماً مع الطبل بلا 
خطة؛ متناسياً جميع أصناف موسيقى الحانات الروتيئية. فلم يعزف 
أوسكار موسيقى الجازء كما أنني لم أحبٌ أن يراني الناس عازف إيقاع 
سريعاً متعجلا. وحتى لو بدوت طبالا ضليعاً؛ فإنني لم أكن موسيقي جاز 
من الصميم. فكنت أحبّ الجاز مثلما أحبّ موسيقى الفالس القادمة من 
فييناء وقادراً على عزف هذين النمطين من الموسيقى» لكنني لم أفعل. 
عندما طلب متي شموه إنزال طبلي إلى الحلبة؛ فإنني لم أعزف ما كنت 
قادراً على عزفه» إنما عزفت ما عرفه بقلبى؛ فنجحتٌ فى دسٌ المضربين 
بيد أوسكار ذي الأعوام الثلاثة زماناء فطبّت دروباً قديمة جيئة وذهاباً» 
كاشفاً عن العالم من زاوية نظر الطفل ذي الأعوام الثلاثة» رابطاً مجتمع ما 
بعد الحرب العاجز عن ممارسة الخلاعة والمجون الحقيقيين باللجام أوّل 
الأمرء بمعنى أنني قدته معي في شارع بوزادوفسكي» في روضة أطفال 
العمّة كاورء فأخذت المجتمعين بعيداًء إلى أن تهدلت فكوكهم السفلية» 
وصاروا يمسكون بأيديٌ بعضهم منتظرين المغرر بهم. فغادرت موضعي 
أسفل سلّم الدواجن؛ وأصبحت في المقدمة فقدمت للسيّدات والسادة في 
البدء نموذجاً صغيراً من أنشودة «اخبزء اخبز الكعك», ثم أدخلت الفزع 
العظيم في قلوبهم, بعدما حسبت المرح الطفولي الذي ران على وجوههم 
نجاحاء أردفت بالتطبيل أنشودة: «هل حضرت الطاهية السوداء؟» التى 
كانت تخيفني أحياناً في الماضي ومازالت تخيفني اليوم أكثر فأكثرء فتركتها 
تهدر صاخبة هائلة الجسد». لا يحيط بها البصرء سوداء كالفحم» متوصلاً 
إلى ما توصل إليه شموه بالبصل: أي أننى جعلت السيّدات والسادة 
ينتحبون كالأطفال» بدموع تسح ساخنة) ملؤهم الخوف» متوسلين بي 


18 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الرحمة وهم يرتعشون» فطبلت لكي أهدأ خواطرهم» ولكي أساعدهم 
أيضاً على ارتداء ثيابهم وسراويلهم الداخلية المنسوجة من القطيفة 
والحرير: «خضراءء خضراءء خضراء هي ثيابي كلها أو #حمراءء 
حمراء؛ حمراء هي ثيابي كلّها؛ وكذلك «صفراءء صفراءء صفراء. . .2 
فأتيت على الألوان جميعها وأطيافهاء إلى أن وجدت نفسي أقف في 
مواجهة مجتمع ذي كساء مهندم أنيق» فصففت أطفال الروضة في موكب 
منتظم وقدتهم عبر قبو البصل كما لو أنه شارع يشكنتال» كما لو أنهم 
سيتسلقون أيربسبيرغ» ثم طفت بهم حول تمثال غوتنبيرغ الموحش 
المخيف, كما لو أن زهور الربيع الحقيقية زهت في مروج يوحتّاء 
فاستطاع السادة والسيّدات قطفها بفرح طفولي. رجه للحاضرين 
جميعهم؛ ومن ضمنهم شموه صحاب الحانة» أن يخلفوا ذكرى في ذلك 
حول مساء روضة الأطفال الذي انقضى باللهوء فسهلت عليهم المهمة» 
مستنطقاً طبلي - كنا وصلنا إلى الخرطوم الشيطاني المظلم؛ حيث جمعنا 
ثمر الزان - الآن بإمكانكم أن تفعلونها أيها الأطفال: فقضوا حاجتهم 
الطفولية» فتبولوا كلهم؛ السادة والسيّدات تبؤلوا» وشموهء صاحب 
الحانة» تبول؛ وصاحباي كليب وشوله تبؤلاء وحتى عاملة المرحاض 
البعيدة تبؤلت» مصدرين صوت سقوط البول «بسبسبسبس»» فبللوا 
سراويلهم؛ ثم قبعوا ينصتون إلى أنفسهم. وبعدما تلاشى صوت الموسيقى 
- رافق أوسكار فرقة الأطفال الموسيقية مخففاً من حدّة طبله - ثم انتقلت 
بضربة مباشرة عملاقة إلى مرح طاغ. فأرشد المجتمع المتهلل غبطة؛ 
المكركر» المثرثر بفم طفوليّ أحمق إلى مشجب الملابس في البدء؛ حيث 
زود طالب ملتح ضجر ضيوف شموه الصبيانيين بالمعاطف؛ أرشدتهم عبر 
أنشودة : 

زجاج؛ زجاج» زجيّج». 

بيرة بلا سكرء 

والسيدة هوله تفتح الشبّاك 

وتعزف على البيانو. . . 


08 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ورافقت السيّدات والسادة بقرع لحن الأغنية المحببة «من يحبٌ رؤية 
الغسّالات المجتهدات؟؟» حتى سلم الخرسانة» إلى الخارج» مروراً بالبّواب 
ذي الجبة الصوف. فتركت السيّدات والسادة الذين واصلوا ممارسة العبث 
الصبيانيَ وقتاأ طويلاً في المديئة القديمة تحت سماء الربيع الباردة الخرافية 
كما لو أنها قد وصيّ بها توصية في العام الخمسين» ؛ لكنهم لم يجدوا 
طريقهم إلى بيوتهم» حتى أعانتهم الشرطة على تذكر أعمارهم ومتربتهم 
الاجتماعية وأرقام هواتفهم. ولكنني عثرت على أوسكار مقهقهاً؛ مداعباً 
طبله» متخلفاً في القبوء حيث واصل شموه التصفيق» ٠‏ بسروال مبلول 
وقدمين متعاكستين كعلامة الضرب, واقفاً إلى جانب سلّم الدواجن. فبدا 
كما لو أنه شعر بالارتياح أيضاً لروضة العمّة كاور مثل شعوره وهو يطلق 
الرصاص على العصافير في مروج الراين بصفته شموه البالغ . 


و 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


على ساتر الأطلسي» 
أو المخابئ التي لا تستطيع التحرر من خرسانتها 


لقد أردت في الواقع مساعدة شموه صاحب قبو البصل . لكنه لم يغفر 
لي عزفي المنفرد على الطبل الذي أحال ضيوفه المتمكنين من الدفع بسخاء 
إلى أطفال يضجون باللغط. مرحين لا يعكر صفوهم شيء» متبولين على 
أنفسهم» وباكين لهذا السبب» لكن بدون بصل. فحاول أوسكار أن يتفهم 
موقفه. أفلا يخشى من منافستي له بعد أن بات الضيوف يزيحون دائماً 
البصل السحيق القدم المسيل للدموع إلى الجانب» ليطالبوا بأوسكار 
وطبلهء ليطالبوا بي أنا الذي استحضرت طفولة كل ضيف مهما بلغ سنّه؟ 
وحين كانت إجراءات الطرد تقتصر على عاملات المراحيض حتى ذلك 
الوقت؛ فإن شموه طردناء نحن., فرقته الموسيقية» وعين بدلنا عازف 
كمان واقف يمكن أن يحسبه المرء غجرياًء مع شيء من الاعتذار. 

لكن بعدما آثر عدد كبير من أفضل الضيوف الابتعاد عن قبو البصل إثر 
طردنا وجد شموه نفسه مضطراً عقب أسابيع قليلة إلى القبرل بحل وسط 
يقوم على: أن يعزف صاحب الكمان ثلاث مرّات في الأسبوع» ونعزف 
نحن ثلاث مرّات أسبوعياً» فطالبنا بأجرة مقطوعة بلغت عشرين ماركاء 
إضافة إلى البقشيش الذي كان ينهال علينا بكثرة - ففتح أوسكار دفتر توفير 
في المصرف. وفرح بما سيدرّه عليه من فائدة نقدية. فعنّ لهذا الدفتر أن 
يصبح عوناً لي أيَام الشدّة التي داهمتني بعد مدّة قصيرة؛ إذ أن الموت جاء. 
فانتشل ما فيرديناند شموه» صاحب الحانة» إضافة إلى عملنا ورزقنا. 

لقد ذكرت سلفاً بأن شموه كان يصطاد العصافير» وأحيائاً كان 


0010 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


يصطحبنا معه في سيارته المرسيدسء» متيحاً لنا فرصة رؤبته وهو يطلق النار 
على العصافير. فعلى الرغم من المشادات التي نشبت أحياناً بسبب طبلي 
والتي عاني منها كليب وشموه اللذان كانا يقفان دائماً إلى جانبي؛ فإن 
العلاقة بين شموه وموسيقييه كانت علاقة ودّية» إلى أن جاء الموت كما 
ذكرت. فركبنا في السّيارة؛ حيث جلست عقلية شموه خلف المقود 
كعادتهاء وجلس كليب إلى جوارهاء بينما توسط شموه أوسكار وشوله. 
كان شموه يضع بندقيته ذات العيار الخفيف على ركبتيه؛ ويتحسسها بين 
الحين والآخر. فسرنا حتى أصبحنا على مقربة من كايزرسفيرت. ثمة 
خلفية من الأشجار على ضفتي نهر الراين. لقد بقيت عقيلة في السيّارة 
تتصفح جريدة.. كان كليب قد اشترى قبل قليل زبيباًء فصار يتناول منه 
بانتظام إلى حدّ ما. أمّا شوله الذي درس فرعاً ما في الجامعة قبل أن صبح 
عازف قيثارة فقد أجاد إلقاء القصائد حول نهر الراين عن ظهر قلب. 
وعرض الراين نفسه من ناحية شعرية أيضأء إذ جرف معهء إضافة إلى 
القوارب المجرورة المألوفة؛ أوراق خريفية متراقصة في اتجاه ادوسبورغ 6 
على الرغم من أن الفصل كان صيفاً حسب التقويم؛ ولو لم تقل بندقية 
شموه الخفيفة العيار عبارتها الصغيرة بين الحين والآخر» لأصبح ممكناً 
نعت المساء الذي أمضيناه قرب اكابزرسشرعة ناعفاره سناء آمنا سلديًا: 

وبعدما انتهى كليب من زبيبه» ومسح أصابعه في الحشائش» فرغ 
شموه أيضاً من عمله» فألقى إلى جانب كرات الريش الإحدى عشرة 
الباردة الممدة على ورق جريدة بالعصفور الثاني عشر الذي مازال يرتعش 
حسب تعبير شموه نفسه. حين لم الصيّاد غنيمته - كان شموه يحمل معه 
ما يصطاده إلى البيت لأسباب لا يعلم بها أحد - حط عصفور على جذع 
ملقى به على الشاطئ بالقرب منّاء وقد فعل ذلك بشكل ملفت للأنظار؛ 
كان عصفوراً رمادياً يعتبر نموذجاً مثالياً بالنسبة لشموه الذي لم يستطع 
مقاومة رغبة الاستحواذ عليه؛ فأطلق شموه الرصاص على العصفور الثالث 
عشر؛ شموه الذي لم يجندل أكثر من اثني عشر عصفوراً أبداًء وما كان له 
أن يفعل ذلك . 


73 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وبعدما مهد العصفور الثالث عشر إلى جانب الإثني عشرء عدنا 
أدراجناء فوجدنا عقيلة شموه غافية في المرسيدس ل وكان شموه 
أوّل من ركب في الأمامء فتبعه شوله ثم كليب في الخلف. وكان بإمكاني 
الصعود معهمء لكنني لم أصعدء فقلت بأنني أحبٌ التجوال قليلا 
وسأستقل الترام» فلا داعي أن يضعوني في نظر الاعتبارء فانطلقوا في 
اتجاه دوسلدورف من دون أوسكار الذي لم يركب السيّارة عن حكمة 
وتبصّر. فتبعت مسارهم على مهلء لكنني لم أحتج إلى المضي بعيدأ 
فئّمة تحويلة بسبب أعمال طرق» فكانت التحويلة مرّت بمحاذاة حفرة 
حصى. وفي حفرة الحصى هذه الواقعة على عمق سبعة أمتار تحت 
مستوى الشارع رقدت سيارة المرسيدس السوداء وعجلاتها مقلوبة إلى 
الأعلى. فقام عمال حفرة الحصى بسحب الجرحى الثلاثة ومعهم جنّة 
شموه» عندما كانت سيارة الإسعاف في الطريق. لقد نزلت في الحفرة» 
فامتلاأً حذائي بالحصى الصغيرة» واعتنيت قليلاً بالجرحى ولم أقل لهم بأن 
شموه مات عندما طرحوا الأسئلة على الرغم من جراحهم. كان شموه 
ينظر بجمود ودهشة إلى السماء التي أطبقت الغيوم على ثلاثة أرباعها. 
وكانت الجريدة التي لت بها غنيمة مسائه قد قذفت إلى الخارج بفعل 
الصدمة؛ فأحصيت اثني عشر عصفوراًء ولم أعثر على العصفور الثالث 
عشرء لكنني بقيت أبحث عنه حتى بعدما مررت سيارة الإسعاف عبر حفرة 
المي و ” 

كانت إصابات عقيلة شموه وكليب وشوله إصابات خفيفة» عبارة عن 
كدمات وبعض الكسور في الضلوع. وحين قمت فيما بعد بزيارة كليب في 
المستشفى وسألته عن سبب الحادث روى لي قصّة غريبة فقال: أثناء 
مرورهم بحفرة الحصى وهم يسيرون ببطء بتأثير شارع التحويلة» خرج 
مائة» بل مئات من العصافير» منطلقة من الأجمة والأحراش وأشجار 
الفاكهة» فألقت بظلها على سيارة المرسيدس» واصطدمت بالزجاجة 
الأمامية» فأرعبت عقيلة شموه؛ فتسببت بموت شموه صاحب الحانة عبر 
قوتها العصفورية وحدها. 

/0006 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وبغض النظر عما إذا سيأخذ المرء بحكاية شموه أم يتجاهلهاء فإن 
أوسكار بقي متشككاًء لاسيما أنه لم يقم بإحصاء العصافير في المقبرة 
الجنوبية»؛ حيث دفن شموه؛ مثلما كان يفعل قبل أعوام حين كان يقف بين 
القبور بصفته خطاطاً نححات حجر. لكنني. مقابل ذلك» أبصرت النححات 
كورنيف في حقل تسعة عندما خطوت وسط موكب التشييع» معتمراً قبعة 
أسطواتية مغارة.. رآيعة ومعه مساعدا لا أغرقه ينتعان لوحا من العدخر 
البركاني مخصصاً لقبر مزدوج . عندما مرّ التابوت الذي وضرانه شكرة 
فتعمولا إلى تحقل عشرة الممهد خديناء رفع كورنيف طافيته عملا بلوائح 
المقبرة» لكنه لم يتعرّف علي ثانية» ربما بسبب القبعة الأسطوانية» فرأيته 
يحك قفاه» مما يحمل على الاعتقاد بأن ثمة دمامل جديدة نضجت أو 
تجاوزت مرحلة النضوج . 
فيا لتشييع الجنائز! لقد أخذت بيدكم عبر العديد من المقابر» وذكرت 
في موضع بأن الجنائز تذكر بالجنائز - لذلك سيحجم أوسكار عن ذكر 
تفاصيل دفن شموه أو التعرض إلى أفكاره المصوبة نحو الماضي - أن 
شموه دفن تحت التراب حسب الأصول دون أن يحدث شيء غير مألوف 
و ينح م يو سه «دوش» كلمني بعد 
سيم التشبيع التي أذّاها المرء بغير ما كلفة؛ لأن عقيلة شموه كانت راقدة 
في لج 
وقد أدار الدكتور دوش وكالة للحفلات الموسيقية» لكنه ليس 
صاحبها. فضلاً عن أن الدكتور دوش قدّم نفسه باعتباره ضيفاً سابقاً من 
ضيوف قبو البصل» مع أنني لم أكن لاحظته من قبل» غير أنه كان حاضراً 
عندما أحلت ضيوف شموه إلى أطفال صغار سعداء لاغطين. نعم» حتى 
الدكتور دوش وجد طريقه إلى طفولته الهانئة تحت تأثير طبلي الصفيح 
مثلما أسرٌ لى» والآن فإنه يريد أن يجعلنى: ومعى «حيلتى البارعة» كما 
سماهاغ عشهوراً مرا الققارا وانسنا. فهر حول بآن عرد طق عقداً: 
عقداً هائلاًء يمكن أن أوقع عليه فورا. ثم سحب ورقة أمام محرقة 
الجنث. حيث وقف شوغر ليو الذي أطلق على نفسه اسم زابر فيللم في 


لاا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


دوسلدورف» بققّاره الأبيض» منتظراً موكب التشييع ؛ كان من شأن الورقة 
أن تلزمني» بصفتي أوسكار الطبّال» بتقديم عروض فردية أمام الدور 
الكبيرة والوقوف وحيداً على منصّة يجلس أمامها ألفان أو ثلاثة آلاف 
شخص . فبانت علامات اليأس والأسف على دوش؛ لأنني لم أوقع العقد 
حالاء متعذراً يوفاة شموه» وقلت إنني لا أريد العثور على ربّ عمل جديد 
في المقبرة»؛ حيث دفن شموه الذي كان شديد القرب مني في حياته؛ لكنني 
سأفكر في الموضوع» وربما سأقوم برحلة قصيرة» ثم آني إلى زيارته؛ أي 
إلى زيارة السيّد الدكتور دوش» لأوقع عند الضرورة على ما أسماه بعقد 
عمل . 

وعلى الرغم من أن أوسكار لم يوقع العقد فوراًء إلا أنه وجد نفسه 
مضطراً بحكم وضعه المالي الحرج إلى القبول بمبلغ سلفاً فدسّه في جيبه 
حالما قدمه له دوش في مظروف احتوى أيضاً على بطاقة عنوانه» وبسريّة 
تامة» خارج المقبرة؛ حيث ركنّ سيارته. فقمت بالرحلة» بل أنني عثرت 
على رفيق لرحلتي. كنت وددت في الواقع القيام بالرحلة برفقة كليب, 
لكن كليب كان راقداً في المستشفىء عاجزاً عن الضحك؛ لأن أربعة من 
أضلاعه انكسرت. وتمنيت أن تكون ماريا رفيقة رحلتي» فالعطلة الصيفية 
لم تنته بعدء بحيث يمكن أن نأخذ كررت معناء غير أنها بدت منشغلة 
برب عملهاء شتنتسل» الذي أتاح لكورت مناداته بلقب «بابا شتنتسل». 
وهكذا رحلت بصحبة الرسّام لانكس. إنكم قد عرفتم لانكس بصفته 
رئيس العرفاء لانكس» وكذلك بصفته خطيباً وقتياً لربّة الفنّ أولا. حين 
زرت الرسّام لانكس في ستاردر شتراسه؛ حيث مرسمه؛ حاملاً في جيبي 
السلفة الأوّلية ودفتر التوفير» تمنيت أن أجد في حضرته زميلتي السابقة 
أولاء إذ أنني أردت القيام بالرحلة مع أولا. فوجدتها هناك في حضرة 
الرسّام. وفي الباب اعترفت لي بأنهما عقدا خطوبتهما قبل أربعة عشر 
يومأء إذ أن الأمور مع «هانس كراغس» لم تسر على ما يرام ففسخت 
الخطوبة معه. فهل كنت أعرف هانس كراغس؟ 

إلا أن أوسكار لم يتعرّف على خطيب« أول! الأخيرء فأعرب عن 


1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أسفه الشديد» ثم تقدم بعرضه السخي المتعلق بالرحلة؛» وتوجب عليه أن 
يشهد بأن الرسّام لانكس الذي ألتحق بهما قد نصّب نفسه رفيقاً لرحلة 
أوسكار المزمعة قبل أن تلبى أولا الدعوة؛ فوجه لانكس صفعة مدويّة 
لأرلا الطويلة النافين ‏ لأنها لم فحت البقاء في الذارة فسالت الدموع من 
مآقيها. فلماذا لم يبد أوسكار أدنى مقاومة؟ ولماذا لم يقف إلى جانب ربّة 
الفنَ التي أراد أن يرحل معها؟ فبقدر ما تخيّلت جمال الرحلة التي كنت 
سأقوم بها إلى جانب أولا الرشيقة القوام ذات الزغب الأشقر؛ فإنني 
تخوفت في الوقت ذاته من معاشرة ربّة فنّ عن كثب. فعلى المرء أن يضع 
مسافة بينه وبين ربات الفنْ» كما قلت في نفسيء وإلا ستصبح قبلة ربة 
الفنّ بديهية كالخبز والماء. فمن الأفضل لي أن أسافر برفقة الرسّام الذي 
يصفع ربّة فنّه كلما همّت بتقبيله. ولم نخض جدالا واسعاً حول هدف 
الرحلة» إذ أننا لم نضع في الحسبان سوى منطقة النورماندي» حيث رغبنا 
في زيارة المخابئ الواقعة بين كين وكابورغ؛ أي المكان الذي تعرفنا فيه 
على بعضنا أثناء الحرب. كانت الصعوبة الوحيدة التي واجهناها هي 
الحصول على تأشيرة الدخول» لكن أوسكار غير مستعد أن يضيع الآن 
حرفاً واحداً على قصص تأشيرات الدخول. 

كان «لانكس» إنساناً بخيلاً» فهو بقدر ما كان سخيّا في التعامل مع 
الألوان الرخيصة التى غنمها بالشحاذة ليبددها على قماش اللوحات ذي 
القواعد اللونية السيثة: فإنه كان يتصرّف بتقتير شديد مع النقود الورقية 
والمعدنية. فكان لا يشتري السجائر أبداًء لكنه يدخن بلا انقطاع. ولكي 
أوضح المنظومة التي يقوم عليها بخله أورد هنا بعض التفاصيل: حالما 
اداع ب ا ا وي ا 0 
سرواله اليسار» فيعرّض القطعة النقدية الصغيرة إلى الهواء لحظة؛ ثم 
يدسها في جيبه اليمين» حيث تتراكم القطع النقدية من فئة العشرة فلوس 
بكثرة أو بقلّة حسب مواقيت اليوم. ا 0 
ذات مرّة بعدما راق مزاجه: «إنني أدخن يومياً ما يعادل ماركين إثنين 
تقريباً!» فالأرض الخراب التي اشتراها لانكس قبل حوالي العام في منطقة 


74 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


«فيرستن» يعود الفضل في شرائها إلى سجائر معارفه القريبين والبعيدين» أو 
بعبارة أدقٌ: حصل عليها بالتدخين . 

وبرفقة لانكس هذا سافر أوسكار إلى النورماندي. فاستقلينا قطاراً 
سريعاً؛ فى حين فضّل لانكس السفر مجاناً بواسطة السيارات الذاهبة فى 
الاتجاه نفسهء بيد أنه رضخ طائعاً بعدما دفعت الأجرة ودعوته 16 
أخذنا الحافلة من كين إلى «كابورغ؟, فمررنا بأشجار حور أحاطت لها من 
الخلف مروج مسوّرة بالشجيرات» حيث منحت الأبقار الكالحة البياض 
الأراضى الزراعية منظر إعلانات الحلوى المخلوطة بالحليب. إذ كان من 
عبن المتيرج به إظهار الخراب الكبير الذي خلفته الحرب والذي عم 
القرى جميعها بما فيها قرية بافا» حيث فقدت صاحبتي روزفيتا» ورسمه 
على ورق الإعلانات الصقيل» بحيث بدت القرى غير جديرة بالرؤية. ومن 
كابورغ سرنا بمحاذاة الساحل في اتجاه مصب نهر أورن. كان الجو غير 
ممطر. وبالقرب من «لو-أوم؛ قال لانكس: «ها أننا قد وصلنا ديارنا يا 
فتى! فاعطني سيجارة من فضلك!» وبينما نقل قطعته النقدية من جيب إلى 
آخر أشار برأسه الممدود إلى الأمام كرأس الذئب نحو المخابئ العديدة 
الناجية من الخراب» القابعة فى الكثبان. فأمسك بذراعيه الطويلتين مخلاته 
وحامل الوسم المتتقل» إضافة إلى دزينة الأوتاد في يسراة ثم هسكن 
بيمناه وسحبني عبر الخرسانة المسلحة» وقد تألفت أمتعة أوسكار من 
حقيبة صغيرة والطبل . 

وفي اليوم الثالث من إقامتنا على ساحل الأطلسي - كنا نفضنا الرمل 
الذي أتت به الرياح داخل مخبأ دورا رقم سبعة» وأزلنا الآثار البشعة التي 
خلّفها العشّاق الباحثين عن مأوى» فأصبح المكان صالحاً للسكن بفضل 
صندوق خشبيّ وبفضل مشمّعات النوم السفريّة - جلب لانكس سمكة قُدَ 
ضخمة من الساحل؛ أعطاها له الصيّادون بعدما لوّن قاربهم» فأتحفوه بها. 
ولأننا مازلنا نطلق على المخبأ اسم دورا فليس من العجب أن يسرح 
أوسكار بأفكاره إلى الممرضة دوروتيًا وهو ينظف السمكة . فتلطخت يداه 
بكبد السمكة وثربهاء ثم أزلت الأصداف بمواجهة الشمسء فاستغل 


4 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لانكس الفرصة ليرسم لوحة عاجلة بالألوان المائية. كنا اتخذنا مقعداً 
خلف المخبأء متقين الريح» وقد انتصبت الشمس على رأسها فوق قبّة 
المخبأ الإسمنتية. فبدأت أحشو السمك بفصوص الثوم. وملأت أحشاء 
السمكة بالبصل والجبن والزعتر بعد أن كانت ممتلئة بالثرب والكبد؛ 
لكنني لم أرم الثرب والكبد» بل حشوت هاتين القطعتين الشهيتين في 
حلقوم السمكة وثبتهما بحبّة ليمون»ء فأخذ لانكس يتشممء ثم هرع إلى 
دورا رقم أربعة وثلاثة وما بعدهما من المخابئ البعيدة» مسكوناً بهاجس 
الأسضلات وعاد تاملا الراسا حفبية وورق كرتوة كان قن امخكدت 
لأغراض الرسم فيما مضىء ثم ألقم النارٌ الخشب. 

فأمضينا النهار كله نتجاذب أطراف الحديث» بلا عناء أو مشِقّة» 
مستأنسين بالنار؛ إذ أن الشاطئ كان يقذف كل خطوتين بالخشب العائم 
الجاف الخفيف كالريش وبالظلال المتناوبة. كنت ألقيت بجزء من مشبك 
شرفة حديديٌ خلعه لانكس من إحدى الفيلات المهجورة على ساحل 
المحيط ؛ ألقيته على الجمر المتوهج» ثم دهنت السمكة بزيت الزيتون 
ومددتها على المشواة الساخنة المدهونة أيقياء وعصرت عليها الليمون 
وهي تئر بفعل الوهج» تارك إيّاها تنضج على مهل - على المرء يتعجل 
في شي السمك. ثم ركبّنا طاولتنا من بضع جرادل فارغة وغطيناها بورق 
مقوّى بالقطران عريض مطويء وكنًا جلبنا معنا أشواك وأطباق من 
الصفيح. ولكي ألهي لانكس الجائع كجوع النورس إلى الرمّة والذي كان 
يجسٌ السمكة الناضجة على مهل فقد أحضرت طبلي من المخبأ. فوسدته 
على رمل المحيط ٠‏ وأخذت أقرعه بإيقاعات متغيّرة في مواجهة الريح. 
مستدرجاً أصوات تلاطم الأمواج وطلائع المدّ: فأضحى مسرح بيبرا 
الميداني يستطلع الخرسانة» من بلد الكاشوبيين إلى النورماندي. فيلكس 
و«كيتي»؛ لاعبا الجمباز» يطويان جسديهما على المخبأ ويمدانهما من 
جديد؛ ثم ينشدان في مواجهة الريح قصيدة مثلما يقرع أوسكار طبله أمام 
الريح» بلازمة مكررة أعلنت إبان الحرب عن قدوم عصر وشيك مريح غاية 
الراحة: «.. . والجمعة سمكاً وبيضاً مقليّاً. فهانحن نقترب من عصر 


١م"‏ 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


البرجوازية» هكذا أنشد كيتي بلهجته السكسونية» وبيبراء أستاذي الحكيم؛ 
النقيب فى كتيبة الدعاية يهرّ رأسه استحساناء وروزفيتا صاحبتى القادمة من 
البحر المتوسط ترفع سلّة الطعام قينا المائده على الإسكت» فرقيها 
رقم سبعة» ورئيس العرفاء يأكل الخبز الأبيض ويشرب الحليب المخلوط 
يتسكرق اليكو لانة ورين سكاكر اللقيت يبرا .+ . 

ثم هتف بي الرسّام لانكس فانتزعني من أفكاري: «أه يا أوسكار! آه 
لو أنني أستطيع التطبيل مثلك! فناولني سيجارة من فضلك!4 فتركت 
التطبيل وزودت رفيق رحلتي بسيجارة» ثم تفحصت السمكة فوجدتها 
جيّدة: إذ انتفخت عيناها بوداعة» بيضاوين مرتخيتين» فعصرت آخر حبّة 
ليمون ببطءء ودون تجاهل أي موضعء على جلد سمكة القدٌ الذي أصبح 
بعضه بنيّاً وبعضه الآخر مفرقعاً. فتهف لانكس: «إنني بدأت أشعر 
بالجوع!» ثم كشف عن أسنانه الطويلة المدببة الصفراء ولطم صدره 
بقبضتيه» على طريقة القرودء أسفل قميصه ذي المربعات. فمنحته فرصة 
للتأمل بسؤالي: «رأس أم ذيل؟» ثم زحزحت السمكة على ورق برشمان 
غطينا به المقوّى المطلي بالقار بمثابة شرشف. فأطفأ لانكس سيجارته؛ 
محتفظاً بعقبهاء وقال: «بماذا تنصحنى؟» فقلت: «بصفتى صديقاً لك أقول 
للقغة الديل» آنا بصفى طاف] فاتصعاك بالراس : لكن اتن لمك 
الى كانه امن اك معي اليك يرل الآنة ياست لانكس خبل الدبلة 
فعلى الأقل ستعرف ماذا وقع في يدك . أما بالنسبة لأبي فقد نصحه الطبيب 
على العكس من ذلك. . .» فشكك لانكس بكلامى: ١لا‏ علاقة لى بما 
يقوله الأطبّاء . ) ْ : 

«كان الدكتور هولاتس ينصح أبي دائماً بأن لا يأكل من القدّ أو 
(الدورش) مثلما نسميه فى لغتنا المحلية إلا الرأس .4 

تاجات لاتكنى سعكلظا بشكه: وإذاً ساعد القيل : الأنلقا قري أن 

لفيا أحنن لأونتكاز: لأ افر فقن الاين 

«إذا سأغهار الرأس+ مادمك متليقاً له.» 


8 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فأردت أن أنهي الحوار بقولي: «إنك عقّدتها على نفسك يا لانكس. 
الرأس لك والذيل لى.» 

«أه يا غلام لقد غلبتك؟ وإلا؟» 

فأقرٌ أوسكار بأن لانكس غلبه» إذ علمت بأنه سوف لا يتلذذ بالسمكة 
إلا بعد أن يتيقن وهو يلتهمها من أنه غلبني حمَّاً فأطلقت عليه عبارات من 
قبيل الكلب المكار المسعور المحظوظ ابن المتظوظ - ثم هجمنا على 
سمكة القد. 

لقد تناول الرأس بينما عصرت أنا ما تبقّى من الليمون على قطعة 
الذيل البيضاء المتفتتة التي تحللت منها فصوص الثوم ذائبة كالزبد. فأخذ 
يحشر عظام السمك بين أسنانه ويتطلع إليّ وإلى قطعة الذيل: «دعني 
أجرب ذيلك.؟ فهززت له رأسي موافقةً» فجب» لكنه بقي متردداً إلى أن 
جرب أوسكار من قطعته. فطمأنه مرّة أخرى: بأنه حصل فعلاً على الجزء 
الأفضل من السمكة. 

وشنويا نذا فرنسا حي فتأسفت لذلك» لأنني وددت أن أرى نبيذاً 
أبيض في فنجانيّ القهوة. فبدد لانكس ظنوني حين تذكر بأنهم كانوا 
يشربون النبيذ الأحمر وحده في دورا رقم سبعة عندما كان رئيساً للعرفاء» 
إلى أن وقع الاجتياح: «يا صاحبي كانت رؤوستنا معبئة عندما وقع الإنزال. 
فلم يلحظ كوفالسكي ولا شيرباخ ولا لويتهولد الصغير» المدفونون كلهم 
في نفس المقبرة خلف كابورغ؛ لم يلحظوا شيئاً عندما نشبت المعركة هنا. 
الإنجليز هناك في «أرومانش» وفي قاطعنا زحفت جموع حاشدة من 
الكنديين. وقبل أن نثبّت حمّالات سروالينا أصبحوا أمامنا وقالوا: 110 
؟ناما 3:6 » ثم طعن لانكس الهواء بشوكته وبصق العظام وأضاف: «اليوم 
رأيت هيرتسوغ في كابورغ» رأيت هيرتسوغ المعتوه الذي تعرفت عليه أنت 
أثناء تفقدكم الملجأ. وكان برتبة ملازم أوّل.» 

وبالتأكيد أن أوسكار مازال يتذكر الملازم الأوّل هيرتسوغء فحكى لي 
لانكس وهو يلوك السمك بأن هيرتسوغ يسافر كل عام إلى كابورغ؛ حاملاً 
معه الخرائط وأجهزة القياس؛ لأن المخابئ طردت النوم من عينيه؛ كما أنه 


ان 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


سيمرٌ عليناء في دورا سبعة» ليتخذ القياسات. وبينما كنّا منهمكين بالسمكة 
التي برزت عظامها الضخمة وإذا بالملازم الأول هيرتسوغ يطل علينا 
بسروال قصير كاكيّ اللون» وحذاء رياضيّ وقد انتفخت بطتا ساقيه 
الغليظتين وبرز شعر بنيّ أشيب عبر قميص القطن. بالطبع بقينا جالسين. 
فقدمني لانكس باعتباري صديقه وزميله أوسكار ومنح هيرتسوغ صفة 
ملازم أوّل سابقا. وعلى الفور أخذ الملازم الأوّل السابق بتفخص دورا 
سبعة» مبتدثاً بالإسمنت من الخارج» فسمح له لانكس بذلك. وصار يملا 
جداول» حاملاً معه منظاراً يشبه المقصّ أزعج به منظر الطبيعة والمدّ 
الزاحف. ثم صار يتحسس كوّات الرماية في دورا ستة» بجوارنا مباشرة؛ 
يتحسسها برقّة كما لو أنه أراد أن يفعل شيئاً جيّداً لعقيلته. حين همّ بتفتيش 
دورا سبعة» مكان اصطيافناء من الداخل» نهره لانكس: فيا رجل» يا 
هيرتسوغ, لا أعرف ماذا تريد! تدعك الإسمنت وتتحسسه! لقد أصبح في 
عداد الماضي ما كان حاضراً آنذاك .» 

كانت عبارة «في عداد الماضي» من العبارات المحببة للانكس» فصار 
يقسَّم العالم في حاضر وفي عداد الماضي. بيد أن الملازم الأوّل سابقاً لم 
ير أن الأمر بات في عداد الماضي» بل وجد أن الحساب لم يحسم بعد 
وأن المرء عليه أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ» وأنه يريد أن يستطلع 
دورا سبعة من الداخل: «هل فهمتني يا لانكس!» وحينئذ قذف هيرتسوغ 
بظله على طاولتنا وسمكتناء متجاهلاً رغبتناء فتوغل في المخبأ الذي زيّنت 
يد رئيس العرفاء لانكس الفنيّة مدخله بالزخارف. لكن هيرتسوغ لم يستطع 
تجاوز طاولتنا. فرفع لانكس قبضته المسلحة بالشوكة إلى الأعلى» وقذف 
بالملازم الأوّل سابقاً إلى رمل البحرء دون الاستعانة بشوكته؛ ثم نهض 
لانكس وهو يهرّ رأسه أسفاً على انقطاع وجبة الطعام. فأمسك بتلابيب 
هيرتسوغ؛ طاويا قميصه القطني إلى صدرهء وجرجره بعيداء مخلفا وراءه 
أثراً متتظماًء وألقى به خلف كثيب رمل؛ بحيث لم نعد نراه» إلا أننا بقينا 
نسمعه . سمعناه يجمع أدوات قياسه التي رماها لانكس خلفه» ثم ابتعد 
وهو يكيل الشتائم»؛ مستحضرا جميع الأرواح التاريخية التي حسبها لانكس 


:58 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


في عداد الماضي قبل حين. «لم يكن هيرتسوغ غير محقٌّ تماماء حتى لو 
أصبح معتوهاء فلو أننا لم نسكر إلى حدّ الثمالة حين نشبت المعركة» فلما 
عرف أحد ما الذي سيؤول إليه مصير الكنديين يومئذ.» 

فهززت رأسي بالإيجاب لأنني عثرت يوم الأمس. أثناء الجزرء على 
زرٌ قيافة عسكرية كندية» وجدته ينطق بوضوح بين القواقع وبقايا 
السلطعون. فدسٌ أوسكار الزرٌ في محفظته» شاعراً بالسعادة كما لو أنه 
عثر على قطعة نقدية نادرة من مخلفات الشعب «الإتروسكي» المنقرض. 

لكن زيارة الملازم الأول هيرتسوغء» مهما بدت قصيرة» نبشت 
الذكريات القديمة: «ألا تتذكر يا لانكس يوم تفقدت فرقة مسرح بيبرا 
الميداني مخبأكم الإسمنتي» وتناولنا إفطارنا في المخبأء حين هبّت الريح 
مثل هبوبها اليوم» ثم ظهرت فجأة ستّ أو سبع راهبات يفتشن عن 
السلطعون؛ فتوجب عليك إخلاء الشاطئ» امتثالا لأمر عسكريٌ» فنفذته 
ببندقيتك الأوتوماتيكية القاتلة؟) 

فتذكر لانكس هذه الواقعة» وأخذ يمصمص العظامء بل أنه كان 
يحفظ أسماءهن» فصار يعددها: الأخت الراهبة شولاستيكاء الأخت 
الراهبة آغنيتاء ثم وصف لي المرأة الحديثة الرهبنة بقوله إنها كانت ذات 
وجه ورديّ أحاط به السواد» ورسمها لي بوضوح بحيث أنها طغت على 
صورة الممرضة دوروتيًا الدنيوية الحاضرة في ذهني على الدوام» وإن لم 
تطمس معالمها. ومما ضاعف من حدّ التخيّل هو أن راهبة شابة أقبلت 
تهفهف نحونا عبر الكثبان» قادمة من اتجاه كابورغ. بعد مضي دقائق على 
وصف لانكس - لم يكن المشهد مفاجثاً لي بما يكفي لأحسبه في عداد 
المعجزات - فبدت وردية الوجه؛ أحاط بها السواد من كل جانب بما لا 
وان التقطوه. ... 

وقد حملت مظلة سوداء مثل تلك التي يحملها المسنون» لتتقي بها 
الشمس» وحول عينيها استدارت دارئةٌ من البلاستك مثل واقيات العيون 
التي يضعها المخرجون السينمائيون المجتهدون في هوليود. ثمة شخص ما 
نادى عليها من ناحية الكثبان. بدا أن هناك الكثير من الأخوات الراهبات» 


1" 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


فنودي عليها: «الأخت آغنيتا!» أو: «يا أخت آغنيتاء أين أنت؟2 فأجابت 
الأخت آغنيتاء الفتاة الشابة التي أشرفت على سمكة القدّ التي بانت 
أضلاعها جليةً: «أنا هنا يا أخت شولاستيكا. فهنا الريح ساكنة». فابتسم 
لانكس ابتسامة صفراء رهز جمجفته الذئية بارتياح كما لو أنه أوصى بهذا 
الزحف الكاثوليكي توصيةً» بحيث لم يعد هناك ما يباغته. فرمقتنا الراهبة 
الفتية بنظرة» ثم وقفت يساراًء إلى جانب المخبأء فأطلق وجهها الوردي 
الذي ضمّ منخرين مستديرين عبارة «أوه!»؛ أطلقها من بين أسنان بارزة 
قليلاً إلى الأمام لكنها كانت سليمة باستثناء البروز. 

وأدار لانكس عنئقه ورأسه دون أن يحرك جذعه: انلعم أيتها الأحت 
الراهبة» هل أنت تقومين بنزهة قصيرة؟» 

فجاءت إجابتها سريعة: (إننا نذهب إلى البحر مرّة واحدة في العام. 
لكننى أرى البحر للمرّة الأولى. إنه واسع جذا.» 

فلم يعد بمقدورنا الاعتراض على هذا القول» وأصبح وصف البحر 
هذا بالنسبة لي الوصف الصادق الوحيد إلى اليوم. وحاول لانكس أن 
يمارس دور الضيافة» فنقر بأصابعه على حصتي من السمكة» متقدما 
بعرضه: «جربى يا أخت؛ لقمة صغيرة من السمكة؟ فمازالت ساخنة!) 

لقد أصابتني لغته الفرنسية غير المتكلفة بالدهشة» فحاول أوسكار 
بدوره التحدث باللغة الأجنبية : «لا تشعري بالحياء يا أحت» فاليوم يوم 
جمعة . )١‏ 

بيد أن هذا التلميح إلى قواعد جمعيتها الدينية الصارمة لم يدفع الفتاة 
المستترة بمسوح الرهبنة على نحو بارع إلى المساهمة بوليمتناء لكن 
الفضول دفعها إلى السؤال: «هل تسكنان دائما هنا؟؟ ثم قالت إنها تجد 
مخبئنا لطيفاً وغريباً بعض الشيء. فزحفت إلى وسط الصورة - للأسف 
الشديد - رئيسة الراهبات ومعها خمس من الراهبات» وقد حملن مظلات 
سوداء وشماس خضراء مثل تلك التي يحملها المراسلون الصحفيون؛ عبن 
مشط الكثبان الرملية؛ فولّت آغنيتا هاربة؛ وحسبما سمح لي سيل الكلام 
الذي سرحت الرياح الشرقية شعره بالفهم؟ فإن آغنيتا قد أشبعت سباباً قبل 


الا 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أن يضمنها في وسطهن. فأخذ لانكس يحلمء؛ واضعاً الشوكة في فمه 
بالمقلوب» مثبتاً بصره في المجموعة المهفهفة على الرمال: «إن أولئك 
لسن براهبات» إنما سفن شراعية.» 

فلفت نظره إلى أن «السفن الشراعية تكون بيضاء.» 

«الكن هذه سفن شراعية سوداء.» ومن الصعب في الواقعم خورض 
جدال مع لانكس . «فتلك التي في جناح اليسار هي سفينة القيادة. آغنيتا 
التي هي طرّاد سريع. رياح إقلاع مواتية: خط إبحار: من شراع الصارية 
الأمامية إلى القائم الكوثلي» فالصارية الوسطى فالصارية الأفقية فالأمامية» 
الأشرعة كلّها مرفوعة» فهيّا إلى الأفق نحو إنجلترا. فتخيّل هذا المشهد: 
الإنجليز يفيقون في الصباح المبكرء ويتطلعون من النوافذ» فماذا يرون 
أمامهم: خمسة وعشرين ألفاً من الراهبات» مرفوعة أشرعتها إلى أطراف 
الصواري» فتطلق المدافع المنصوبة في جانب السفينة. . .2 فأعنته في 
الصياغة : «معلنة بداية حرب دينية جديدة!» إذ لابد أن يكون اسم سفينة 
القيادة ماري ستيوارت أو ديفاليرا أو بالأحرى (دون خوان). أسطول جديد 
سريع التحرّك يثأر من الإنجليز لهزيمة الطرف الأغرّء فيرفع شعار «الموت 
للبيورتانيين المتزمتين!» حين يبدو خزين الإنجليز خالياً هذه المرّة من 
الأميرال نلسون. الهجوم يمكن أن يشنّ فوراً بحيث لم تعد إنجلترا جزيرة! 

لقد تحوّل النقاش إلى نقاش سياسىّ فى نظر لانكس فأعلن: «الآن 
ستقلع» الراهبات.» 0 

فصححت له العبارة: ابل سيبحرن!») 

وبغض النظر عما إذا كنّ سيقلعن أو يبحرن» فقد ابتعدن في اتجاه 
كابورغ» واضعات المظلآت المطرية بينهن وبين الشمس. فلم تتخلف 
منهن سوى واحدة» بينما أجهدت بقية الأسطول - لكي أبقى في الصورة 
- نفسها متجهة ببطء؛ متقاطعة مع الريح» نحو فندق الساحل المحترق 
الذي شكل خلفية المشهد.. 

فقال لانكس متمسكاً بلعّة البخارة: «إنها لم تستطع رفع مرساتها. 
أليست هذه هي الطرّاد السريع» آغنيتا؟» 


لا" 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وبصرف النظر عن الطرّاد أو الفرقاطة فإنها كانت الأخت الحديثة 
الرهبنة آغنيتا التي بدأت تجمع القواقع ثم ترمي بهاء مقتربة منّا. 

فسألها لانكس على الرغم من أنه رأى بالضبط ما فعلت: «ما هذا 
الذي تجمعينه يا أخت آغنيتا؟؛ 

«قواقع!» لفظت المفردة بصورة خاصة ثم انحنت. 

«هل يسمح لك بذلك؟ فهذه من مخلفات الدنيًا!» 

لكنني اتخذت موقف الدفاع عن الراهبة آغنيتا: «إنك مخطئ يا 
لانكس» فالقواقع ليست من مخلفات الدنيا.» 

«إذاً فهي من مخلّفات الشواطئ؛ إنها على أيّ حال مخلفات لا يجوز 
أن تمتلكها الراهبات. فهناك لاشيء سوى الفقر فالفقر ومن ثم الفقر. 
أليس صحيحاً يا أخت؟؛ 

فابتسمت الراهبة آغنيتاء مفرجة عن أسنانها البارزة: «إنني لا أجمع 
إلا القليل من القواقع. وهي مخصصة لروضة الأطفال. فالصغار يلهون بها 
بمتعة» كما أنهم لم يروا البحر قط .6 

وقفت آغنيتا أمام مدخل المخبأ ورمقت باطنه بنظرة رهبانية. فسألتها 
بصيغة انطوت على مداهنة: ١ما‏ هو رأيك ببيتنا؟» بيد أن لانكس كان أكثر 
مباشرة: «تفضلي استطلعي منزلنا الفخم. فالمعانية لا تكلّف شيئاً يا 
أخحت!» 

فنيشت الأرض بحذائها المدبب المشدودة أسفل ثوبها الطويل. 
المتين» بل صارت تحث رمال البحر أحياناً فتحملها وتذروها على . 
سمكتنا. ثم تفحصتنا بشيء من الارتباك وبعينين بنيتين فاتحتين صافيتين , 
وتفحصت الطاولة المنتصبة بيئناء فقالت بما من شأنه حئّنا على ؛ 
الاعتراض: «لكن هذا غير ممكن.» فأزاح الرسّام الصعوبات كلها من 
الطريق بقوله: ما هذا الكلام يا أخت!» ثم نهض: «المخبأ مطل على: 
مشهد رائع» بحيث يستطيع الناظر رؤية الساحل بكامله من خلال كوات! 
الرماية .» وبدت متمسكة بترددها وقد امتلأ حذاؤها بالرمل بالتأكيد» فبسط. 
لانكس يده نحو مدخل المخبأ حيث ألقت مزخرفاته ظلاً زخرفيًاً كثيفا 


184" 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


«إنه نظيف من الداخل!؛ لعل حركة الرسّام المرحبة هي التي قادت الراهبة 
إلى داخل المخبأ. ثم جاءت العبارة الحاسمة: «مجرد لحظة قصيرة.» 
فمرقت الراهبة بخمّة إلى الداخل من أمام لانكس الذي مسح يديه بسرواله 
- بحركة مألوفة لدى الرسّامين - وقال لى مهدداً قبل أن يختفى: «إيّاك أن 
تأكل حصتي من السمكة. !) ْ ١‏ 

غير أن أوسكار أكل ما يكفى من السمكء» فانسحب من الطاولة» 
وأسلم نفسه للريح المتخمة تالوماك وصخب المدّ السرمدي الجبّار. 
وأدنيت بقدمي الطبل وبدأت أقرعه بحثاً عن مخرج من منظر الإسمنت 
وعالم المخابئ ومن هذه الخضرة التي يطلق عليها هليون رومل. فحاولت 
مع الحبّ في البدء؛ لكن بقليل من النجاح: لقد أحبيت زماناً ممرضة. 
نعم ممرضة مستشفى أكثر منها راهبة. سكنت في دار تسايدلر خلف باب 
غائم الزجاج. كانت رائعة الجمال» بيد أنني لم أرها قطء إذ كان هناك 
بساط من الليف وقف حائلاً بيننا. كان الظلام يعمّ ممر تسايدلر» 
فتحسست حصيرة الليف أكثر مما تحسست جسد دوروتيًا. وبعدما انتهيت 
على عجل من موضوعة حصيرة الليف حاولت التحرر إيقاعيًاً من حبيّ 
القديم لمارياء لأغرس على الفور نباتاً متسلقاً سريع النمو أمام الخرسانة. 
فحلت الممرضة دوروتيًا ثانية التي حالت دون حبّي لماريا: فهبت من 
البحر رائحة حامض الفينول» ولوّحت النوارس بزيّ الممرضات» وبان 
ضياء الشمس لي مثل دبّوس الصليب الأحمر. وكان أوسكار في الواقع 
فرحاً حين عُكر صفوه أثناء التطبيل. إذ عادت رئيسة الراهبات الأخت 
شولاستيكا برفقة الراهبات الخمس وقد بدا عليهن التعب وهن يحملن 
المظلات على نحو مائل يائس: «أما رأيت راهبة شابة» صاحبتنا متدربة 
الرهبنة الفتية؟ الصبية مازالت صغيرة» فهي ترى البحر للمرّة الأولى. 
ولابد انها ضلت طرينية: افأين انك يا أت أغنفاء 

لم يبق أمامي سوى أن أرسل الرهط الذي نفخته الريح من الخلف 
هذه المرّة في اتجاه مصب نهر أورن وأرومانش وبورت ونستون حيث أقام 
الإنجليز ميناءهم مرغمين البحر. كان من الصعب على مخبئنا استيعابهن . 


544 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لقد داعبتني طوال لحظة فكرة إتحاف الرسّام لانكس بزيارتهن المفاجئة» 
إلا أن الصداقة والضجر والخبث معاً أمرتني برفع سبابتي نحو مصبٌ 
أورن. فانصاعت الراهبات لسبابتى» فتحولن إلى ستة ثقوب سوداء مهفهفة 
تزذاة ضغراً على رؤوسن الكثبان» وبات نداء «يا أخت آغنيتاء يا أخت 
آغنيتا» الذي أطلقته الراهبات يخفت شيئاً فشيئاً حتى تلاشى في الرمال. 
ذكان لاك ارلا عن عدن المفياة اققاء بحركة رسام تموشيية: [ذ تيع 
يديه بسرواله» ثم استرخى تحت الشمس» طالبا مي سيجارة؛ فدسها في 
جيب قميصه» ليهجم على السمكة الباردة» ملمحاً إلى أن ما قام به «يجعل 
الإنسان جائعاً»» فسلب حصتي من الذيل. 

فشكوت للانكس من أنها «لاشك تشعر بالتعاسة الآن؛؛ مستمتعاً 
بكلمة تعاسة: 

«لكن لماذا؟ ليس هناك أيّ داع للتعاسة.» 

لم يكن لانكس يتصور بأنه يمكن أن يجلب التعاسة بطريقة تصرفه مع 
الناسن: 
فسألته» قاصداً شيئاً آخر: «وما الذي تفعله الآن؟؛ 
فأوضح لي بشوكة السمك قائلاً: «إنها تخيط . لأن ثوبها تمرّق قليلاً» 
وهي الآن تخيط الفتق.» 

وغادرت الخيّاطة المخبأء ففتحت مظلتها المطرية على الفور» 
وترنمت بخفّة وبجهد مثلما ظننت: «المشهد يبدو رائعاً فعلاً من خلال 
مخبأكم» حيث يمكن مشاهدة الشاطئ كله والبحر.» ثم وقفت أمام حطام 
سمكتنا. «هل تسمحان لي؟» فهززنا رأسينا بالموافقة في وقت واحدء 
وساعدتها بقولي: «إن هواء البحر يولّد الجوع.» فهرّت رأسها أيضاء ثم 
مدت يديها المحمرتين المتشققتين المذكرتين بالعمل الشاق فى الدير إلى 
سمكتناء ورفعتهما إلى فمهاء وأخذت تأكل بجديّة وبجهدء ممعنة الفكرء 
كما لو أنها لاكت مع السمك شيئاً آخرء تلذذت بطعمه قبل تناولها 
السمك. أخذت أتطلع أسفل قلنسوتها. لقد نسيت مظلّة المراسلين 
الخضراء في المخبأ. ثمة قطرات عرق متساوية الحجم اصطفت على 


396 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


جبينها الناعم ذي الإيحاء القدسي» مشكلةً حدّاً أبيض متصلبا. ثم طلب 
لانكس سيجارة ثانية على الرغم من أنه لم يدخن الأولى» فرميت عليه 
بعلبة السجائر كلها. بيئما دس ثلاثة من عيدان التبغ في جيب قميصه» 
ولصق الرابع بين شفتيه» التفتت الراهبة» فألقت بالمظلة بعيداًء وانطلقت 
راكضة - الآن فقط لاحظت بأنها كانت حافية القدمين - فاجتازت الكثبان 
حتى اختفت في اتجاه البحر المتلاطم. فقال لانكس بتكهن: «دعها 
تركض . فإنها إمَا ستأتي أو لا تأتي.» غير أنني لم أحتفظ بالهدوء إلا فترة 
قصيرة راقبت خلالها سيجارة الرسّام» ثم تسلقت المخبأ وشملت ببصري 
الساحل الذي اقترب بفعل المدّ. أراد لانكس أن يعرف متى شيئاً بسؤاله: 
9ه تقلت : «إنها تتم كثيابها:» اقلم ينتطع لاتكسن استدراجي لقول 
المزيد. «لعلها رغبت في السباحة لكي تبرّد نفسها.» لقد وصلت المياه 
إلى ركبتيهاء ثم غاصت الراهبة شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح ظهرها مستديرا. 
بدا كما لو أن مياه نهاية أغسطس التي لم تكن دافئة لم تخفهاء فأخذت 
تعوم بمهارة» وهي تمارس شْنّى أساليب السباحة» وباتت تشقّ الموج 
غائصة . 

الدعها تعوم» وانزل أخيراً من المخبأ!» 

فنظرت إلى الأسفل فرأيت لانكس مضطجعاً ويدححن. وبدت عظام 
سمكة القدٌ اللامعة تشمّ بيضاءء مهيمنة على الطاولة تحت الشمس. حين 
قفزت من الخرسانة فتح لانكس عيني الرسّام» عينيه» وقال: «ستكون 
لوحة رائعة: راهبات مغمورات فى المياه. أو: راهبات أثناء المد.» 
فزعقت به: ايا لك من إنسان قاسي القلبء» فماذا لو غرقت؟؛ 

فأغمض لانكس عينيه: «حينئذ سيكون عنوان اللوحة: راهبات 
غريقات .) 

«وإذا ما رجعت وهوت أمام قدميك؟؛ 

هنا أطلق لانكس حكمه بعينين مفتوحتين: «إذا سيطلق على اللوحة 
عنوان راهبة متهاوية.» 

وكان لانكس لا يعرف سوى إما وإلاء الرأس والذيل» الغريقة 


596١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


والمتهاوية . فأخذ مئّي سجائري وألقى بالملازم الأرّل على الرمل؛ وأكل 
من حصتي من السمكء وأطلع طفلة منذورة للسماء على داخل المخبأء 
ورسم لوحات في الهواء» بقدم خشنة مفلطحة» بينما عامت الراهبة في 
البحر المفتوح حتى غمرتها المياه. ثم أعطى اللوحات أحجاماً وعنوانين: 
راهبات مغمورات في المياه. راهبات أثناء المد. راهبات غريقات. 
راهبات متهاويات. خمس وعشرون ألف راهبة. حجم أفقي: راهبات 
على مستوى الطرف الأغر. حجم عمودي: راهبات ينتصرن على اللورد 
نلسون. راهبات في الاتجاه المعاكس للريح . راهبات وسط ريح الإقلاع. 
راهبات يتقاطعن مع الريح. ثمة سواد؛ الكثير من السوادء والكثير من 
البياض المحطم والأزرق؛ ملقى على الجليد: الاجتياح» أو: غامض» 
بربريّ» مضجر - عنوانه الإسمنتي القديم من زمن الحرب. تلك اللوحات 
كلّهاء بأحجامها الأفقية والعمودي؛ رسمها الرسّام لانكس بعدما رجعنا إلى 
منطقة سهل الراين؛ حيث أنجز سلسلة من لوحات الراهبات» بل عثر على 
تاجر تحف كان مولعاً بصور الراهبات؛ فعرض ثلاثا وأربعين من صور 
الراهبات»؛ وباع سبع عشرة منها لهواة تجميع اللوحات ورجال الصناعة 
والمتاحف؛ ولرجل أمريكي أيضاًء ثم أجبر لانكس النقّاد على عقد 
المقارنات بينه وبين بيكاسوء ودفعنى بنجاحهء أنا أوسكارء إلى البحث 
عن بطاقة عنوان مدير المؤسسة التجارية الدكتور دوش» إذ لم يكن فنّه 
وحده يصرخ بغية الحصول القوتء إنما فنّي أيضاً: فكان الأمر يقتضي 
تحويل خبرات الطبّال أوسكار ذي الأعوام الثلاثة أثناء الحرب وما قبلها 
إلى ذهب فترة ما بعد الحرب» ذلك الذهب الخالص ذي الرنين» بواسطة 


طبل الصفيح . 


اح 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


البنصر 


«نه؟» قال تسايدلر وأضاف «يبدو أنكما لا تنويان على العمل.؟ لقد 
أزعجه أن يرى أوسكار وكليب جالسين إِمّا في غرفة أوسكار أو في غرفة 
كليب» دون أن يفعلا شيئاً. كنت سددت في الواقع إيجار شهر أكتوبر 
لكلا الغرفتين بما بقي من النقود التى سلّمني إيَاها الدكتور دوش بمثابة 
دفعة أولى أثناء دفن شموه» لكن شهر نوفمبر توعدنا بأن يكون» من ناحية 
مالية أيضاًء شهراً كدرا سوداويّاء على الرغم من أننا تلقينا عروضاً كافية. 
فأصبح ممكناً أن نعزف الجاز في هذا المرقص أو تلك الحانة» بيد أن 
أوسكار لم يعد راغباً في عزف الجازء فأخذنا نتشاجر أنا وكليب الذي قال 
بأن تعاملي مع طبل الصفيح ليس له أيّ علاقة بموسيقى الجاز. لكنني لم 
اعترض على قوله. ثم نعتني بالخائن لقضية موسيقى الجاز. وبعدما عثر 
كليب مطلع نوفمبر على عازف إيقاع جديد يدعى بوبي في حانة #وحيد 
القرن»؛ أي أنه عثر على رجل كفء ومن خلاله على عمل في المدينة 
القديمة: عيرنا تكلم مع بعضنا من جدية يعنتها أصدتاد» عض الو يدا 
كليب آنذاك يتكلم عن الحزب الشيوعي الألماني أكثر بكثير مما كان يفكر. 
فلم يبق مفتوحاً أمامي سوى باب وكالة حفلات الدكتور دوش» إذ أنني لم 
أستطع الرجوع إلى مارياء بل لم أكن راغباً في الرجوع إليهاء لاسيما أن 
مبجلها شتنتسل أراد أن يطلّق امرأته لكي يجعل من ماريا بعد الطلاق ماريا 
شتنتسل. فكنت أحفر بين الجين والآخر خطوط شواهد لدي كورنيف في 
درب الرجاءء وأزور كذلك الأكاديمية» تاركاً الفئّانين الشباب المجتهدين 
يسودونني ويجردونني» وأصبحت أتردد كثيراً على ريّة الفنّ أولاء دون 


157 


1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الراهبات الباهظة الثمن» بل أنه امتنع حتى عن ضرب ريّة الفنَ أولا. كانت 
بطاقة عنوان الدكتور دوش ورقم هاتفه راقدة بهذدوء وبإلحاح معاً على 
طاولتي قرب حوض الاستحمام. ذات يوم » بعدما مزقتها ورميتها؟ لأنني 
لم أكن راغباً في التعامل مع الدكتور دوشء» اكتشفت» وبرعبء بأنني 
كنت أحفظ رقم وكالة الحفلات وعنوانها عن ظهر قلب» بحيث أنني كنت 
نازر على إلعنه كقضيدة» ففغلت ذلك غلذنة د وفارق اخرم عي 
رأضرت القرص طابا ا 59 بالدكتور دورش في الطرف الآخر ء من 
الجهازء فتصرف كما لو أنه كان ينتظر مكالمتي كل ساعة؛ وترجى مني 
المجيء إلى الوكالة في عصر اليوم ذاته» إذ أنه أراد أن يقدمني للرئيس: 
الرئيس ينتظر السيّد ماتسرات. 

كانت وكالة الحفلات «فست» تقع في الطابق الثامن من عمارة مكاتب 
حديثة البناء. وقبل أن أستقل المصعد سألت نفسى فيما إذا كانت قضية 
«فست» فلابد أن تكون هناك وكالة أخرى باسم «أوست» في عمارة مشابهة . 
بيد أن اختيار الاسم بدا لي موفقاًء إذ أنني أعطيت الأفضلية لوكالة #فست» 
حالما غادرت المصعد في الطابق الثامن» شاعراً بأنني سرت في الطريق 
الصحيح. سجّاد فاخرء نحاس كثير» إضاءة غير مباشرة» كلّ شيء عازل 
للصوت» تناسق بين باب وباب» سكرتيرات طويلات السيقان حملن إلىّ 
رائحة سيجار رئيسهن» فأوشكت على الهرب من مكاتب وكالة افست). 
واستقبلني الدكتور دوش بذراعين مشرعتين» ففرح أوسكار لأن دوش لم 
يضمه إليه . وصمتت آلة الطابعة التي اشتغلت عليها فتاة ببلوزة خضراء حين 
بقدومي . فأخذ أوسكار مكاناً في السدس الأمامي من مقعد أحمر إنجليزي 
منججد. وبعد حين انفتح مصراع باب» فحبست آلة الكتابة أنفاسهاء 


51845 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


فجذبتني قوّة امتصاص من المقعدء ثم قفلت الأبواب من خلفي. ثمة 
سجادة امتدت في قاعة مضاءه» فحملتني السجادة معهاء حتى أنبأتني قطعة 
أثاث معدنية بأن: أوسكار وقف الآن أمام مكتب الرئيس» فكم قنطاراً بلغ 
وزنه؟ رفعت عينيّ الزرقاوين؛ أبحث عن الرئيس خلف سطح من خشب 
الوط خال؛ غير متناه» فعثرت على أستاذي وصديقي بيبرا المشلول الذي 
لم يتحرك فيه سوى عينيه وأطراف أصابعه؛ جالساً في كرسيّ متحرّك؛ قابل 
للرفع والخفض. مثل كرسيّ طبيب الأسنان. 

بلى! كان هناك صوته أيضاً! فنطق منه شىء ها: «اهاتحن نرئ يعضنا 
ثانية» يا سيّد ماتسرات . ألم أقل لك منذ أعوام عندما كنت تفضل مواجهة 
العالم مثل طفل في الثالثة: بأن أمثالنا لا يضيعون؟! لكنني ألاحظ بكل 
أسف بأن تفاصيل جسدك تغيّرت كثيراً بشكل غير عقلاني» وغير مفيد. 
ألم يكن طول قامتك آنذاك أربعة وتسعين ستتمتراً؟» فهززت رأسي موافقة؛ 
وأوشكت على البكاء. كانت صورة الزينة الوحيدة المعلقة على الحائط, 
خلف الكرسىّ المتحرك للأستاذ - الكرسيى الذي كان يصدر وشوشة 
منتظمة ويدار بمحرّك كهربائي «افل لوسة تيفية بالبصث الطبيعي 
لصاحبتي روزفيتا راغونا العظيمة» موضوعة في إطار باروكيّ الطراز. 
ودون أن يتعقب بيبرا بصريء» قال بفم جامد إلى حدّ ماء عالماً باتجاه 
بصري: «نعم! إنها روزفيتا الطيبة! فهل يا ترى سيعجبها أوسكار الجديد؟ 
لا أظنْ ذلك. كانت لها علاقة بأوسكار آخرء مكتنزء ذي أعوام ثلاثة» 
متأجج حبّاً فوق ذلك كلّهء فكانت تعبده مثلما أخبرتني ذات مرّة أكثر مما 
أباحت لي . لكنه امتنع ذات يوم من أن يجلب لها القهوة» فجلبتها بنفسهاء 
ودفعت حياتها ثمنا. وحسب علمى فإن هذه ليس عملية القتل الأولى التى 
نفذها أوسكار المكتنز الجسم. ألم يكن هو الذي قاد أمّه إلى القبر بطبله؟» 
فأخذت أهزز رأس» وأحمد الله لأننى كنت قادراً على البكاء» فصوبت 
عينيٌ في اتجاه روزفيتا. غير أن بيبرا عاجلني بالضربة الثانية: «وكيف كان 
الأمر مع موظف البريد يان بروتسكي الذي نحت أوسكار ذو الأعوام 
الثلاثة أن يطلق عليه لقب أبي المفترض؟ لقد سلمه إلى الزبانية» فأطلقوا 


5316" 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الرصاص على صدره. ربما تستطيع يا سيّد أوسكار ماتسرات» يا من 
تجرّأت على الظهور بمظهر جديد» أن تحيطني علماً بما جرى للوالد 
الثاني المفترض لطبّال الصفيح ذي الأعوام الثلاثة» أعني تاجر بضائع 
المستعمرات ماتسرات؟؟» فاعترفت بعملية القتل هذه ابغياء سلما الت 
تحررت من هاتسرات» فوصفت موته اختناقاً الذي كان من صنعي أناء إذ 
لم أجد ضرورة للاختباء وراء البندقية الروسية الأوتوماتيكية» إنما قلت: 
«كنت أنا الفاعل. يا أستاذ بيبرا. لقد قمت بذلك وتسببت فى موته؛ بل 
أنتي لم أكن بريئاً من حادث الموت نفسه - فأطلب المغفرة!» . 

وهنا ضحك بيبراء لا أعرف كيف ضحكء. لكن كرسيه صار 
يرتجف» وأخذت الريح تعيث بشعره القزميّ الأشيب فوق وجهه المليء 
بمئات الآلاف من التجاعيد الدقيقة. توسلت به بإلحاح» ملتمساأً منه 
المغفرة؛ مطلياً صوتي بشيء من الحلاوة» كنت أعرف مقدار تأثيرهاء 
لاطماً وجهى بيدي اللتين كنت اعرف أنهما جميلتان ومؤثرتان معاً: 
«المغفرة يا عزيزي أستاذ بيبرا! المغفرة!» 

فضغط بيبرا الذي لعب دور القاضي أمامي بشكل ممتاز على زر فوق 
لوحة تحويل كهربائيٌّ ذات لون عاجيّ مثبتة بين ركبتيه ويديه. فأتى البساط 
الممدود ورائي بالفتاة ذات البلوزة الخضراء» حاملة إضبارة» فبسطتها على 
لوح البلوط الذي بلغ ارتفاعه مستوى عظم ترقوتي» والمرتكز على قضيب 
فولاذيٌ ملنو لم يتح لي رؤية ما بسطته الفتاة الخضراء البلوزة. ثم ناولتني 
قلم حبر: إذ لابد من شراء رحمة بيبرا بتوقع. 

ومع ذلك أقدمت على طرح أسئلة في اتجاه الكرسيّ المتحرك» فكان 
من الصعب عليّ أن أضع إمضائي بلا روية في ذلك الموضع الذي عينه لي 
أظفر مصبوغ. لكنني سمعت بيبرا يقول: «إن هذا عقد عمل» يحتاج إلى 
اسمك الكامل. فأكتب أوسكار ماتسرات» لكي نعرف مع من ستكون 
علاقتنا في المستقبل.» وحالما وقعّت العقد تضاعفت وشوشة المحرّك 
الكهربائي خمس مرّات» فانتزعت بصري من قلم الحبرء ورأيت كيف 
أصبح الكرسيّ السريع الحركة صغيراً أثناء السير على الأرضية المكسوة 


52045 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


بالخشبء ثم انطوى» مختفياً خلف باب جانبي. ولعلّ البعض سيعتقد بأن 
ذلك العقد المحرر بنسختين» الذي وقعت عليه مرتين» قد اشترى روحي» 
أو ألزم أوسكار بالقيام بأعمال شنيعة مرعبة؛ كلا ثم كلاً! فحين تدارست 
بنود العقد بمساعدة الدكتور دوش في غرفة الاستقبال» فهمت بدون جهد 
كبير بأن مهمة أوسكار كانت تقوم على الظهور بطبله أمام الجمهورء مثلما 
فعلت في سن الثالثة؛ وفي قبو شموه. وتكمّلت وكالة إقامة الحفلات 
بتحضر جولاتي الموسيقية»؛ على أن تقرع طبل الإعلان قبل أن يظهر 
«أوسكار الطبّال»؛ على المنصة. 

أثناء حملة الإعلانات أصبحت أعيش من دفعة المال السخية الثانية 
التي منحتني إيّاها وكالة «فست». كنت أزور عمارة المكاتب بين الحين 
والآخرء حيث أقدم نفسي للصحفيين» تاركاً إياهم يلتقطون صوراً لي 
حتى أنني ضللت طريقي ذات مرّة في ذلك الصندوق العمودي ذي الرائحة 
الموخدة والمنظر الموخد؛ والذي كان ملمسه يشبه ملمس شىء بذيء» 
غاية البذاة» يسيك آنه كلف بوقاءمطاطة عازل» قازل للمد بلا تهاية: 
كان الدكتور بوش والفتاة ذاث البلوزة الخضراء يعاملانني على أحسن 

جه؛ لكنني لم أعد أرى الأستاذ بيبرا. فأصبحت في الحقيقة قادراً على 
م الموسيقية الأولى» بيد أنني آثرت البقاء 
لدى تسايدلر بسبب كليب» وحار التصالح مع صديقي الذي عاب عليّ 
تعاملي مع رجال الأعمال» دون أن أذعن له؛ كذلك لم أعد أذهب إلى 
المدينة القديمة» أو أشرب البيرة» ولم أعد آكل السجق النيئ مع البصل» 
إنما صرت أتناول طعامي في مطاعم محطات القطارات» حيث أحضر 
نفسي لرحلات القطار المقبلة. 

إن أوسكار لم يجد هنا متسعاً من المجال ليسهب في عرض 
نجاحاته» فقبل بداية جولتي الموسيقية بأسبوع واحد ظهرت أولى 
الملصقات المؤثرة حدٌ الأذى» المعلنة عن عروضيء كما لو أنها أعلنت 
عن ظهور ساحر أو شفيع يشفي الناس بالصلاة أو مسيح. فغزوت في البدء 
المدن الواقعة في منطقة الرور» حيث كانت الصالات التي أقدم فيها 


/61” 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


عروضي تستوعب ألفاً وخمسمائة أو ألفيّ شخص و أكثر حتى. فكندت 
أتربع بمفردي على المنصّة أمام 0 حيث يسلط علي 
كشاف ضوئي. فصرت ارتدي بذلة سهرة 5 طويلة السترة . وعندما بدأت 
أطبل لم يصبح لي أتباع من هواة الجاز الشباب» فكان يسمعني الأشخاص 
البالغون الذين هم في سنّ الخامسة والأربعين فما فوق» فيتعلقون بي. 
لكى أتوخى الدقّة فعلىّ القول بأن فئة الخمسة والأربعين إلى الخمسة 
والخمسين شكلت تقريبا ربع جمهوري. فكان هؤلاء أضيكر الجعيور هنا 
وكانت الفئة التي تبدأ من الخامسة والخمسين إلى الستين تمثل الربع الآخر 
من الجمهور. بينما شكل الشيوخ والعجائز النصف من مستمعي 
موسيقاي . أصبحت أخاطب الطاعنين فى السنّ» فكانوا يجاوبوننى »2 فلم 
يلوذوا بالصمت حين أنطق طبلي ذا الأعوام الثلاثة» مبتهجين» لكن ليس 
بلغة المسنين» إنما كانوا يناغون ويوأوءون كالأطفال الصغار: «راشوء 
راشوء راشو؛ إذا ما قرع لهم أرسكار على طبله نبذة عن حياة راسبوتين 
المدهشة. بيد أنني حققت نجاحا أكبر من نجاحي براسبوتين الذي كان 
يتطلب جهداً بالنسبة للكثير من المستمعين» من خلال مواضيع خالية من 
الأحداث الرئيسية؛ بل وصفت أوضاعا ماء أعطيتها عنوانين من قبيل: 
الأسنان اللبنية الأولى - والسعال الديكى المرير - والجوارب الصوفية 
الطويلة تخربش وتحكُ - زمن يحلم بالنار» يعم الفراشن . فأثارت هذه 
العنوانين ن إعجاب المسنين» كانذمجؤا فيها تماماً» معانين تحت وطأة بروز 
الأسنان اللبنية» فاخحذ آلفان من الطاعتين فى السَنٌّ يسعلون سعالاً مرير؛ 
لأنني نشرت السعال الذيكن بين مفرنهب: وصاروا يحكون جلودهم 
عندما ألبستم السراويل الداخلية الطويلة» بل أضحى بعض الشيوخ 
والعجائز يتبولون في سراويلهم الداحلية ومقاعدهم المنجدة ؛ لأننى جعلت 
الأطفال الصغار يحلمون بالحرائق المدمّرة. لم أعد أعرف في أي مدينة 
حدث ما سأرويه الآن» فهل حدث ذلك في «فوبرتال» أم في ابوخوم؛ أم 
في «ركلنغهاوزن»: كنت عزفت أمام عمّال المناجم الكبار السنّء وقد 
دعمت النقابة الحفل» فظننت بأن الزملاء القدماء الذين اشتغلوا أعواماً 


4 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


طويلة في استخراج الفحم الأسود سيتحملون القليل من الرعب الأسود. 
فطبّل أوسكار أنشودة «الطاهية السوداء»؛ فشهد أوسكار بأن العمّال الألف 
والخمسمائة المتغلبين على هواء المناجم المخلوط بالغاز والمناجم 
المغمورة بالمياء والإضراباك والبطالة أطلقوا ضراخا مفرعاً سيب الطاهية 
الشريرة السوداء؛ ذهب ضحيته - أننى أذكر الحكاية لهذا السبب بالذات - 
بضع زجاجات نوافذ خلف الستائر المتينة لقاعة الاحتفالات. فعبر هذا 
الطريق الملتوي استعدت صوتي القاتل الزجاج» بيد أنني استفدت منه 
باقتصاد» خشية أن افسد عليّ تجارتي؛ لأن جولاتي الموسيقية كانت 
تجارة. فبعدما رجعت وتحاسبت مع الدكتور فوشي اكتقفت بأن طبلي 
كان منجماً من ذهب. ودون أن أسأل عن الأستاذ بيبرا - لقد انقطع أملي 
برؤيته ثانية -» أبلغني الدكتور دوش بأن بيبرا ينتظرني . 

فتمٌ لقائي بالأستاذ على نحو مغاير عن اللقاء الأرّل» إذ لم يقف 
أوسكار أمام الأثاث الحديديّ» إنما رأى كرسيّاً متحرّكاً بواسطة الكهرباء» 
هما على عنقاشة القصيقثالة كريلة الاشعاق. جنا مانفين فثرة 
طويلة؛ نستمع إلى البيانات والتقارير الصحفية المتعلقة بفنٌ التطبيل 
الأوسكاريّ التي سجلها على أشرطة مسجلة» فأسمعنا إيّاها الآن. بيبرا بدا 
مرتاحاً لها. بينما بدت لي ثرثرة أصحاب الجرائد مثيرة للحرج بعض 
الشيء؛ لأنهم مارسوا معي أسلوب التقديس» حاسبين لطبلي نجاحه في 
شفاء الناس من العلل» قائلين بأنه يعالج فقدان الذاكرة» ثم برز وقتها 
مصطلح «الأوسكارية» للمرّة الأولى» سرعان ما تحوّل إلى شعار. وقدمت 
لي الفتاة ذات البلوزة فنجاناً من الشاي؛ ووضعت على لسان الأستاذ 
قرصين» فتجاذبنا أطراف الحديث. بيبرا ترقف عن توجيه التهم إليّ. 
أخذنا نتكلم مثلما كنا نفعل قبل أعوام في مقهى الفصول الأربعة» فلم 
تنقصنا إلا السنيورة روزفيتا. بعدما لاحظت بأن الأستاذ بيبرا غفا أثناء 
استطرادي الطويل النفس الذي تناول الماضي الأوسكاريٌّ؛ عبثت حوالي 
ربع ساعة بمقعدي الكهربائيّ المتحرك» فجعلته يوشوشء» منطلقاً سريعاً 
على الأرضية الخشبية» وملت به إلى اليسار ثم إلى اليمين» وتركته يتضخم 


354 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


وينكمش» فكلفني الانفصال عن قطعة الأثاث العملية المتعددة النواحي 
جهداً بالغاً بعدما عرضت نفسها باعتبارها آفةَ غير خطرة بإمكانياتها 
اللانهائية . 

جولتي الموسيقية الثانية وقعت في عيد البشارة. فكيّفت برنامجي 
ميك كلك المدايدة» التلقيث: اياف الاعينات نموا المنعات الكائر لكي 
والبروتستانتية» فتسنى لي تحويل الآثمين الهرمين المتحجرين من كثرة 
الغليان إلى أطفال صغار رقيقين» يرتلون أناشيد عيد البشارة بكل رهافة. 
فرتل ألفان وخمسمائة رجل : «يا يسوعء إنني أحيا وأموت من أجلك»». 
أولئك الرجال الذين لم يتوقع المرء أنهم سيظهرون هذا القدر من الإيمان 
الدينيٌ المتحمّس وهم في أرذل العمر. وفي الجولة الموسيقية الثالثة 
تصرفت بما يقتضي الغرض» وقد جاءت متزامنة مع فترة الاحتفالاات 
التنكريّة. بحيث أن أيّ حفلة أطفال تنكريّة أخرى» لم تحقق البهجة 
والصفاء مثلما حققته عروضي الموسيقية التي أحالت كل جدةٌ مترنحة إلى 
عرو اناطع طريق ساذجة هزلية وحوّلت كلّ جدّ متخلخل إلى زعيم 
عصابة من قطاع الطرق يرمي بسهامه في جميع الاتجاهات. عقب انتهاء 
الكرنفال وفعت عقوداً مع شركة لإنتاج الأسطوانات. فقمت بتسجيل 
أعمالي الموسيقية في استوديوهات عازلة للصوت» حيث واجهت صعوبة 
في البدء بفعل الجرّ المجدب الباردء فتركتهم يلصقون صوراً هائلة الحجم 
على جدران الأستوديوء تمثّل شيوخاً وعجائزء تشبه أولئك المسنين الذين 
يجدهم المرء في دور العجزة أو على مصاطب المتتّزهات العامة؛ فطبّلت 
بفاعلية تضاهى الفاعلية التى كنت أظهرها أثناء عروضى فى قاعات 
الاحتفالات الدافئة بالناس. وكانت الأسطوانات تباع كما يباع الخبز 
الحار: فأصبح أوسكار ثريًا. لكن هل تخليّت عن غرفة الحمّام السابقة 
البائسة في دار تسايدلر؟ كلاً؛ لم أتخل عنها. فلماذا؟ بسبب صديقي 
كليب» ويسبب الحجرة الفارغة خلف الباب الغائم الزجاج» التي تنفست 
فيها الممرضة دوروتيًا. فما الذي فعله أوسكار بالمال الوفير؟ لقد تقدم 
بعرض إلى مارياء ماريته . 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


فقلت لماريا: إذا ما هجرت شتنتسل» ليس بمعنى أن ترفضي الزواج 
منه» بل تطردينه طرداً بكلّ بساطة» فسأشتري لك متجراً للأطعمة الفاخرة 
مجهزاً على الطراز الحديث وفي موقع تجاريّ ممتاز» إذ أنك يا عزيزتي 
ماريا لم تُخلقي من أجل رجل وضيع يدعى السيّد شتنتسل. وفعلاً لم 
يخب ظنّي في مارياء فتخلّت عن شتنتسل» وأقامت بإمكانياتي المالية 
متجراً للأطعمة الفاخرة من الدرجة الأولى في شارع فريدرش» وقد فتح 
قبل أسبوع - مثلما ابلغني ماريا بفرح لم يخلو من الاعتراف بالجميل - في 
منطقة أوبركاسل فرع لهذا المتجر الذي تأسس قبل ثلاثة أعوام . 

فهل رجعت من جولتى السابعة أو الثامنة؟ لقد حدث ذلك فى شهر 
بؤليو/ تتوز الشلاية الحز. كنت 'أشرت إلى مسثازة أجرة عل محظة 
القطارات» وذهبت إلى عمارة المكاتب» حيث وجدت هواة تجميع 
التواقيع المزعجين ينتظرونني مثلما انتظروني عند المحطة - حشد من 
المتقاعدين والجدّات الذين كان حرياً بهم الاعتناء بأحفادهم. وعلى الفور 
سجلت حضوري لدى الرئيس» ثم سرت عبر الأبواب المشرعة» فوق 
السجادة المؤدية إلى قطعة الأثاث الحديدية؛ بيد أن الأستاذ لم يكن جالساً 
خلف المكتبء ولم أجد كرسيّاً متحركاً ينتظرني» بل ابتسامة الدكتور 
دوش. 

كان بيبرا قد فارق الحياة. لقد غاب أستاذ بيبرا منذ أسابيع. وبناء 
على رغبته لم يبلغني أحد بما آل إليه وضعه من سوء. غير أن جولاتي 
الموسيقية لم تتوقف. حتى بعد موته. وبعدما قُضْت التركة ورئت ثروة 
طائلة» إضافة إلى اللوحة النصفية لروزفيتاء ومع ذلك منيت بخسائر مالية 
فادحة؛ لأنني ألغيت دون سابق إنذار جولتين تعاقدت عليهماء واحدة في 
جنوب ألمانيا والأخرى في سويسراء فغرّمت بسبب إخلالي بالعقد. 
وبغض النظر عن آلاف الماركات التي خسرتها فقد مُجعت بموت بيبرا زمناً 
طويلاًء فقفلت الباب على طبلي واعتصمت في الغرفة. إضافة إلى أن 
صديقي كليب تزوّج خلال تلك الأسابيع» محيلاً بائعة السجائر الحمراء 
الشعر إلى عقيلة له» بعدما أهدى لها ذات مرّة صورة» فأخلى غرفته وانتقل 


7١ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


إلى ستوكهولم» فبقى أوسكار المستأجر الوحيد في دار تسايدلر. وطرأ 
على علاقتي بالقنفذ شيء من التغيير» فبعدما أخذت الجرائد كلها تنشر 
اسمي على صفحاتها الأولى» صار يعاملني باحترام» بل أعارني أيضا 
مفتاح حجرة الممرضة دوروتيًا الخالية» لقاء بعض النقود» وفي آخر 

لقد سار حزني في طريقه المعتاد» ثم فتحت بابي الغرفتين» منتقلاً 
عبر حصيرة الليف من غرفة الحمّام التي احتوتني إلى غرفة دوروتيّا. حيث 
أفعنت النظر فى خخزانة الفيات الفارغة: ساخرا من نفسى بين المرآة 
ودولاب الزينة» فأصابتنى حالة يأس عند السرير الثقيل الخالى من 
الوسائد؛ ثم لجأت إلى الممر ناشداً الخلاص» فهربت من حصيرة الليف 
فدخلت غرفتي» لكنني لم أطق البقاء فيها. فثمة رجل قدم من شرق 
بروسيا بعدما فقد أملاكه فى مقاطعة مازورن» كان يتمتع بحسٌ تجاري»؛ 
فأفتتح محلا بالقرب من يوليشر شتراسه أطلق عليه بكل بساطة اسم 
(مؤسسة تأجير الكلاب؛, واضعاً في حسابه ربما زبونا في هيئة إنسان 
وحيد معزول. فاستعرت منه لوكس » وهو كلب رعاة قويّ» قليل السمنة» 
أسود لامع. فكنت أذهب معه للنزهة» بدلا من إنهاك نفسي بالتردد جيئة 
وذهاباً بين غرفتي» غرفة الحمّام» والخزانة الفارغة للممرضة دوروتيًا في 
دار تسايدلر. 

فكان الكلب يأخذني دائماً إلى نهر الراين» فينبح هناك على السفن» 
ثم صار لوكس يقودني دائماً إلى منطقة رات» أي إلى غابة «غرافنبيرغ»» 
حيث كان ينبح على العشّاق. في نهاية يوليو أخذني الكلب لوكس إلى 
الريفيّ القرويٌ عبر عدد من المنشآت الصناعية» ومعمل كبير لإنتاج 
الزجاج . كانت هناك حدائق صغيرة مجاورة لبعضها تقع مباشرة خلف 
غيرسهايم» وبين الحدائق» أو جوارهاء أو خلفها ثمَة مرعى مسيج» 
بأن اليوم الذي قادني به لوكس إلى غيرسهايم ومن ثم إلى المنطقة الواقعة 


0 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


ننه دول القتوفان والحدائق الضغيرة كان نوما قائتل؟ بعدما خلقنا أخر 
بيوت الضاحية أطلقت الكلب من القيد» لكنه بقى عند قدمى. لقد كان 
كلا قينا علا افق التروة إذا لسعب أن ركرة علطا لأمتاك يليه 
بصفته كلب تأجير. وبعبارة أخرى كان لوكس يطيعني» قلم تكن له أبداً 
طباع فصيلة «الداكل» القصيرة القوائم. بيد أنني رأيته يبالغ في الطاعة 
الكلبية؛ لأنني وددت أن أره ينطء فصرت أركله لكي يقفزء لكنه كان 
يتسكع بتأنيب ضميرء ثم يدير رقبته السوداء الناعمة نحوي» ويرمقني 
بعينيه المخلصتين بالمعنى الحرفيّ للكلمة. 
كنت أخاطبه بقولي : «ابتعد يا لوكس انصرف عنّي!؛ فيرضخ لأمري 
مرّة أخرى؛ لكن مجرد فترة قصيرة» فبدا الأمر مريحاً جدّاً في نظري حين 
ابتعد عنّى وقتأ طويلاًء مختفياً في حقل الغلال» المتمايل حسبما اشتهت 
الريح باعتباره حقل شوفان؛ كلا بل كان متمايلاً-ساكتاً ينذر بالرعد. 
فكرت في أن لوكس أخذ يطارد أرنباً» أو ربما شعر بالحاجة إلى 
ابقل تر ان البعاء علا كلا آراف أوستكار أن بيقن سانا بل كلب 
فترة طويلة. فلم أعر اهتماماً للمكان» ولم تفلح الحدائق الصغيرة أو 
غيرسهايم أو المدينة التي لفها الضباب خلف غيرسهايم في استدراج 
بصري إليها. جلست على بكرة أسلاك صدئة» يجب أن أسميها الآن بكرة 
تطبيل» إذ حالما جلس أوسكار على الصدأ بدأ يطبل بكاحليه على بكرة 
التطبيل التي لفحتني حرارتها. وشعرت بالضيق من بذلتي التي لم تكن 
صيفية بما يكفي. لوكس بقي مختفياًء بعيداً عتي. بلا شك أن بكرة 
التطبيل لم تعرضني عن طبل الصفيح؛ لكن؛ على أية حال؛ انزلقت إلى 
الوراء» فالتقطت عودين جافين بعدما رداك ني محيلني عير الاغزاء 
الأخيرة المليئة بأجواء المستشفيات» وقلت في نفسي: انتظر الآن يا 
أوسكار. دعنا نرى من أنت» ومن أين أتيت. حينئذ شعّت اللمبتان اللتان 
بلغت قوتهما ستين واطاً.في ساعة ولادتي؛ حين رفرفت فراشة بجناحيها 
بين اللمبتين» ومن بعيد حرّك الإعصار قطع الأثاث الكبيرة؛ وسمعت 
باصرات بكل» » ثم أعقبته أمّي. لقد وعدني بالمتجرء بينما وعدتني أمّي 


07٠ 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


بلعبة أطفال» وأنني إذا ما بلغت الثالثة فسأحصل على طبل صفيح». فحاول 
أوسكار أن يتجاوز الأعوام الثلاثة بأقصى سرعة: فكنت آكل وأشرب وأتقيّأ 
وأنموء وتركتهم يزنونني ويلفونني ويقمطونني ويغسلونني ويمشطون شعري 
ويذرون جسمي بالمساحيق البيضاء ويطعمونني ضد الأمراض ويتعجبون 
مني ويسمونني باسمي» فكنت أبتسم حسب الرغبة وأتهلل فرحاً حسب 
الطلب وأنام في الوقت المناسب لأصحو في الموعد المحددء فيتخذ 
وجهي أثناء النوم ملامح الوجه الذي يطلق عليه الكبار وجه الملاك. وكثيراً 
ما أصبت بالإسهال والرشح والسعال الديكي الذي احتفظت به فترة طويلة» 
ولم أتخل عنه إلا بعدما أدركت إيقاعه المعمّد في معصميّ؛ فمعزوفة 
«السعال الديكيّ» تنتمي كما نعلم إلى برنامجي الفئي» وإذا ما قرع أوسكار 
السعال الديكيّ على طبله أمام ألفين من الشيوخ والعجائز فإنهم يسعلون 
دفعة واحدةٌ شيوخاً وعجائز. وبدأ لوكس يعوص أمامي ويمسح جسمه 
بركبتى ؛ هذا الكلب الذي أعرته من مؤسسة تأجير الكلاب حسبما أملت 
على عزلتي! لكنه نهض فجأة على قوائمه الأربع وأخذ يهرٌ ذيله وبنظر كما 
يفعل الكلب» حاملاً بين خطمه المزبد الذي سال لعابه : عوداً أو جيرا أو 
كل ما بدا ذا قيمة من وجهة نظر الكلب. وعلى مهل تنصّل عنْي زمني 
المبكر البالغ الأهمية» فخف ألم اللهاة الذي أنشبه ظهور الأسنان اللبنية 
الأولى» فاتكأت متعباً إلى الوراء: رجلا ذا حدبة حسن الهندام» بثياب غير 
ملائمة تماما للطقس وبساعة يدوية وبطاقة الهوية الشخصية ورزمة من 
الأوراق المالية في محفظتي . ثم حشرت سيجارة بين شفتيٌ» مشعلاً عود 
الثقاب» تاركا التبغ يشيع طعم الطفولة الجليّ في تجويف فمي. 

ولوكس نفسه؟ لقد كان يفرك جسمه بى» فركلته» ونفخت عليه دخان 
سيجارتي» فلم يستسغ ذلك؛ لكنه بقي يحلكٌ جسمه بي . فلعقني بصره 
حتى صرت أفتش في أسلاك التلغراف عن طائر السنونوء إذ أننى أردت 
اشخدام السغونو كوسيلة ماد لإلبحاح الكلب: لكن لم يكن هناك أثز 
للسنونوء فضلاً عن أن لوكس لم يرضخ للزجر. ثم دس خطمه بين فردتي 
سروالي» وبدأ ينطح الموضع الحسّاس بثقة كما لو أن معير الكلاب قد 


ءز ى[”,> 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


روّضه على هذا الفعل. فأصابه كعب حذائى مرتين» فابتعد مسافة» مرتجفاً 
بقوائمه الأربع» مقدماً لي بخطمه العود أو الحجر بإصرارء كما لو لم يقدم 
لي عوداً أو حجراًء إنما محفظة نقودي التي تحسست موضعها في السترة 
أو الساعة التي تككت فوق معصمي بوضوح. لها الذى ميركه بشمةة روما 
هذا الذي بدا ضرورياًء جديراً بالرؤية؟ فمددت يدي بين قواطعه الساخنة» 
وأمسكت بما مددت يدي من أجله. فعرفت ما مسكت بهء وفعلت كما لو 
أنني بحثت عن مفردة يمكن أن تصف هذه اللّقطة التي أتى بها لوكس من 
حقل الشوفان. 

ثمّة أعضاء في جسد الإنسان تتحلل؛ مبتعدة عن المركز» بحيث 
يمكن تأملها بدقة وبساطة. كانت اللّقطة بنصرأء أي بنصر أنثى . فكان 
إصبع أنئى أحاط به خاتم جميل» وقد قُطع من بين عظم اليد الوسطى 
وعقدة الإصبع الأولى» أي مسافة سنتمترين تقريباً عن الخاتم؛ فحافظ 
القطع 37 النظيف المقروء بوضوح؛ حافظ على وتر العضلة الباسطة . 
تكان إضيعا راغا مرا أنا الحجر الكريم الذي طَعّم به الخاتم» المثّت 
بستة مخالب فقد أسميته فوراً زبرجداً قبل أن تتأكد صحّة هذه التسمية فيما 
بعد. وفيما يتلق بالخاتم فقد بدا في موضعه رقيقاً بالياً حدّ الهشاشة؛ مما 
حدا بي إلى تقييمه باعتباره قطعة ميراث. وعلى الرغم من القذارة؛ أو 
بالأحرى الطين الذي رسم قوساً تحت الظفر كما لو أن الإصبع أراد أن 
ينكش الأرض أو يحفرها؛ فإن شكل الإصبع وموقعه ولدا انطباعاً بأن 
صاحبته كانت تعتني بنفسها. ماعدا ذلك بدا الإصبع بارداً بعدما انتزعته من 
خطم الكلب النابض بحرارة الحياة؛ كذلك منح شحوبه الممتقع البرودةً 

كان أوسكار يحمل منذ أشهر منديلاً مثلئاً أطل هن جيب سثرتة 
العلويٌ مثل المناديل الذي يضعها المختالون. فسحبت قطعة الحرير تلك» 
وفرشتها ثم وضعت عليها الإصبع» ولاحظت بأن خطوطاً برزت في الجهة 
الداحلية للوصبع » ممتدة حتى العقدة الثالئة منه» أفصحت عن مثابرة 
الرصبع واجتهاده وتجلّده الطموح. وبعدما لففت الإصبع بالمنديل» 


و76 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


نهضت من بكرة الأسلاك وربتٌ على رقبة الكلب لوكس وهممت 
بالانصراف برفقة المنديل والإصبع المحفوظ فيه» قاصداً الذهاب إلى 
غيرسهايم ومن ثم إلى بيتي ) حاملاً في رأسي هذه الفكرة أو تلك عن ما 
يمكن أن أفعله بهذه اللقطة» فوصلت إلى أقرب سياج لحديقة صغيرة - 
هنا خاطبني فيتلار الذي اضطجع على فرع شجرة تفّاح حيث راقبني 
والكلب الذي أعاد لى ما رميته له. 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الترام الأخير أو عبادة البرطمان 


كان صوته وحده كافياً: تلك الغنّة المتعجرفة الحادة الارتفاع. لقد 
اضطجع على فرع شجرة التفاح وقال: «إنك تملك كلبا بارعا يا سيّدي!» 
فأجبته بشيء من الاضطراب: «ما الذي تفعله فوق شجرة التفاح؟» 
فانكمش بتمئّع ودلال ثم تمطى بجذعه الطويل: (إنه تفّاح للطبخ ليس إلاء 
فأرجوك أن لا تخشى منه.» 

حينئذ توجب على أن أنهره: «ما الذي يعنيه لى تفّاحك؟ وما هذا 
الذي أخشاه؟؛ ْ ْ 

فقال بلسان ممطوط : «يمكنك أن تحسبنى أفعى الجنّة» فقد كان هناك 
أيضاً تفّاح للطبخ.» 1 

لكنني أجبته باستياء: «يا لها من ثرثرة مجازية!» 

فقال بدهاء: «هل تعتقد بأن تفاح المائدة وحده جدير بالمعصية؟؛ 

وعند ذلك الحد هممت بالذهابء إذ بدا لي في تلك اللحظة بأنه لم 
يكن هناك ما هو أكثر إزعاجاً من خوض جدال حول أصناف فواكه الجنّة. 
لكنه أصبح مباشراً معىّ» فقفز بخفّة من فرع الشجرة وانتصب أمام السياج 
بجذعه الفارع المتمايل: «ما هو هذا الذي جلبه لك كلبك من حقل 
الشوفان؟» 

فيا ليتني لم أجبه بقولي إنه «جلب لي حجراً؟؛ 

فتحولت إجابتي إلى استجواب: «ومع ذلك تدس الحجر في 
الحقيية؟» 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لإنني أحمل الحجر في حقيبتي بكل سرور.؛ 

«لكن ما جلبه لك الكلب بدا لي مثل قطعة على أبعد تقدير.» 

ومع ذلك أبقى مصرًاً على الحجرء حتى لو كان ما حمله لي عبارة 
عن قطعة» أو يمكن أن يكون قطعة عشرات المرّات.» 

«إذاً فهر قطعة؟) 

١لا‏ مانع لدي إذا كان قطعة أو حجراً أو تفَاحاً للطبخ أو للمائدة. . .؛ 

«هل هو قطعة متحركة؟ا 

(إن الكلب يريد الرجوع؛ فسأذهب!' 

«أهو قطعة لحمية اللون؟؛ 

«من الأفضل لك أن تنتبه إلى تففاحك! - فهيا بنا يا لوكس!» 

«أهو قطعة متحركة مطوقة بخاتم وذات لون لحميّ؟؛ 

«ما الذي تريده مئي؟ لقد أتيت لأتنزه» فاستأجرت كلباً!» 

«إذاً مثلما ترى» فإنني أريد أيضاً أن استعير شيئاًء فهل تسمح لي 
لحظة بتمرير الخاتم الجميل على إصبعي الصغير» ذلك الخاتم الذي لمع 
على قطعتها مما جعل القطعة تصبح بنصراً؟ - وفيتلار هو اسمي» غوتفريد 
فون فيتلار. وأنا آخر من ينتمي إلى هذا النسب.» 

وهكذا تعرفت على فيتلار» وصادقته منذ ذلك اليوم ومازلت اعتبره 
صديقي إلى اليوم» لذلك قلت له قبل بضعة أيَام - كان يأتي لزيارتي -: 
«إنني سعيد يا عزيزي فيتلار» لأنك أبلغت الشرطة بنفسك آنذاك» وليس 
أحداً آخر مجهولا. ؛ 

وإذا كانت هناك ملائكة فإن مظهرها سيبدو بالتأكيد مثل مظهر النبيل 
فيتلار: كان فارع الطول؛ حيويّاء قابلاً للطىّ» يميل إلى معانقة أشد أعمدة 
الكهرباء جدباً وعقماً أكثر من ميله إلى معانقة فتاة ناعمة» توّاقة للعناق. 
فلم يكن من السهل التعرّف على طبيعة فيتلار حالاًء إذ أنه إذا ما أظهر 
عائيا مغيداً من ااتخصيعة» حت الجو الميخط بده لمكن أن يعسول إلى 
خيط أو فرّاعة طيور أو حامل شمّاعة أو إلى فرع شجرة أفقيّ . لذلك فإنه 


م4ب؟ 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


لم يلفت انتباهي عندما جلست على بكرة الأسلاك بينما اضطجع هو فوق 
شجرة التفاح. حتى الكلب نفسه لم ينبح عليه» لأن الكلاب لا تستطيع 
شم الملاك ولا رؤيته» ناهيك عن النباح عليه . 

وقد توسلت به يوم أمس الأوّل: «كن لطيفاً ياعزيزي رابعت لي 
نسخة عن الشكوى التي تقدمت بها إلى القضاء قبل عامين تقريباء فتسببت 
في محاكمتي.؟ 0 

وهذه هي النسخة المصورة التي سأدعها الآن تتكلم بعدما قدمت 
أفادتها إلى القضاء : 

أناء غوتفريد فون فيتلار» كنت في ذلك اليوم مضطجعاً على فرع 
شجرة تفاح تحمل كل عام الكثير من تفاح الطبخ في حديقة والدتي» أي 
بما يكفي لتعبئة ستة برطمانات من التفاح المغلي. وكنت مضطجعاً على 
الفرع إلى الجانب» مثبتاً عظم حوضي اليسار في النقطة المنخفضة من 
الفرع التي علاها الطحلب قليلاء وقد انتجهت قدماي نحو معمل الزجاج 
في غيرسهايم. فتطلعت - إلى أين تطلعت؟ - تطلعت إلى الأمام. منتظراً 
أن يحدث شيء ما في مجال بصري. فوقع المتهم» الذي أصبح صديقي 
اليوم؛ في مجال بصري. وكان هناك كلب يرافقه» فأخذ يطوف حوله. 
وتصرّف كما يتصرّف أي كلب» وحسبما أسرٌ لي المتهم فيما بعد فإن هذا 
الكلب» لوكسء» هو من فصيلة كلاب الرعاة» يمكن أن يستأجره المرء 
قرب اروخوسكيرشه؛ من مؤسسة لتأجير الكلاب. 

لقد جلس المتهم على بكرة الأسلاك الفارغة الملقاة منذ نهاية الحرب 
قبالة حديقة والدتي أليسا فون فيتلار. وكما يعلم القضاء الموقر فإن المرء 
يمكن أن يصف جسد المتهم بالجسد الصغير والمشوّه أيضا. فذلك ما 
لفت انتباهي. بيد أن ما أثار اهتمامي بشكل خاص هو تصرّف هذا السيّد 
الصغير المتأنق. فقد كان يطبل بغصنين ذاويين على الحديد الصدئ لبكرة 
الأسلاك. إذا ما وضعنا في نظر الاعتبار بأن المتهم يحترف مهنة التطبيل» 
وكما أتضح فإنه يمارس هذه المهنة أينما حل» فضلاً عن بكرة التطبيل - 


",> 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


ليس من العبث أن يطلق عليها اسم طبلة الأسلاك - كانت تغري حتى 
الهواة بالتطبيل» فلابد من القول بأن: المتهم أوسكار ماتسرات أحتل في 
ذلك اليوم القائظ المصحوب بالبرق والرعد مقعده على طبلة الأسلاك 
الملقاة قبالة حديقة السيّدة أليسا فون فيتلار» فأخرج أصواتا إيقاعية منتظمة 
بواسطة غصني صفصاف ذاويين متفاوتيّ الحجم. وأضيف إلى أقوالي بأن 
الكلب لوكس اختفى وقتاً طويلاً في حقل شوفان معدّ للحصاد. إذا ما 
سألني أحد عن وقت الحدث فلا يمكنني الإجابة على هذا السؤال؛ لأنني 
إذا ما اضطجعت على فرع شجرة تّاحنا أفقد أي معنى للزمن: مهما طال 
أو قصر. وإذا ما ذكرت بأن الكلب اختفى وقتاً طويلاء فذلك يعني بأنني 
افتقدت الكلبء إذ أنه أثار إعجابى بفرائه الأسود وأذنيه العر تكن بيد 
أن المتهم - مثلما أستطيع القول - لم يفتقد الكلب. 

وبعدما رجع الكلب لوكس من حقل الشوفان المعدّ للحصاد حمل في 
قبطي كينا ما لسن رفس الى حراط وا سمه الحلا تر ال 1 زنك 
فكرت في عود نبات» أكثر من تفكيري في أنه قد يكون حجراً أو علبة 
صفيح . حالجا أضيع المكهى الدليل الماذى التعريسة ن عطل الكلبه 
أدركت على الفور طبيعة ذلك الشيء. منذ تلك اللحظة» أي أثناء ما أخذ 
الكلب يثرك خطيه المكلئ بالئزة البسرى لسزوال المتهى - سب 
اعتقادي - حتى النقطة التى لا يمكن تحديدها بدقة للأسف الشديد. أي 
بعدما أدخل المتهم يده في خطم الكلبء مدفوعاً بنزعة الاستيلاء» مضت 
عدة دقائق إذا ما توخيت الحذر هنا. ومهما أجهد الكلب نفسه لكى يثير 
العاء بنقدة الستعاجرة فإة سيده وال النطيل بأ كلل وبأسلوت ركيت 
راسخ» ومع ذلك لا يمكن أدراك كنههء مثلما يطبل الأطفال. لما لجأ 
الكلب إلى أسلوب غير مهذّب وصار يدس خطمه المبلول بين بساقيّ 
المتهم. خفض المذكور غصنيّ الصفصاف ثم ركل الكلب - إنني أتذكر 
ذلك جتدات قدي اليمنى . فابتعد» منحرفاً على شكل نصف قوس» كم 
اقترب مرّة أخرى بطريقة خانعة» مرتجفاًء مقدماً خطمه الممتلئ. فمد” 
المتهم يده اليسرى دون أن ينهض بين أنياب الكلب لوكس الذي تراجع” 


للا ُ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بضعة أمتار إلى الخلف بعدما تحرر من لقيته. بيد أن المتهم ظلّ جالساًء 
ممسكاً باللّقطة» ثم ضع يده» وفتحتها مرّة ثانية» ثم ضمها وبسطها حتى 
لمع شيء ما في اللقطة. بعدما أمعن المتهم بصره فيهاء رفعها بسبابته 
وإبهامه إلى مستوى نظره بشكل عمودي. 

حينئذ أطلقت على اللقطة اسم الإصبع» ثم وسعت من المصطلح 
بسبب اللمعان» وقلت إنه بنصرء خالقاً بذلك واحدة من أكثر المحاكم 
القضائية إثارة عقب الحرب العالمية: لذلك أصبحت. أنا غوتفريد فون 
فيتلار» واحداً من أهم الشهود في قضية البنصر. ولأن المتهم احتفظ 
بالهدوء فقد احتفظت أنا أيضاً بالهدوء. بل إِنَّ هدوءه أشركني معه. 
وعالما'لك الصيم الإصَيم بعدازة في معديله الذي أطل مرق جيب تتعزيه 
العلويٌّ مزهوًاً بخيلاء أوّل الأمر شعرت بتعاطف مع الرجل الجالس على 
طبلة الأسلاك: فكرت في أنه إنسان منظمء فعليك أن تتعرف عليه. وناديته 
حين ذهب مع كلبه المعار في اتجاه غيرسهايم» لكنه أظهر امتعاضاً في 
البدء؛ بل غطرسة. فأنا لم أفقه إلى اليوم لماذا أراد المنادى عليه أن يرى 
فيّ رمزاً للأفعى لمجرد أنني تمددت فوق شجرة التفّاح» فضلاً عن أنه أتهم 
تفاح والدتي المخصص للطبخ. قائلاً إنه بالتأكيد من النوع الفردوسيّ. 

لعل من عادات الشرير تفضيل الانبطاح على فروع الأشجار» غير أن 
ما دفعني إلى زيارة المضجع فوق شجرة التفاح بضع مرّات في الأسبوع لم 
يكن سوى الضجر الذي يجتاحني عادةٌ» فلعل الضجر هو الشرّ القائم 
بذاته. لكن ما الذي حدا بالمتهم إلى القدوم حتى أطراف مدينة 
دوسلدورف؟ إنها العزلة» مثلما اعترف لي فيما بعد, العزلة هي التي 
حرضته على المجيء. لكن أليست العزلة هي الاسم الشخصيّ الأوّل 
للضجر؟ إنني أطرح هذه التأملات لكي أشرح الأمر للمتهم» وليس لكي 
أحمله ذنبا. كان أسلوبه الشرير» أي تطبيله الذي أطلق الشرّ إيقاعياًء 
فجعله يحظى بتعاطفى» هو الذي حتّنى على مخاطبته وإقامة علاقة صداقة 
بغه.. حكن الدغوة نفسها الى 'قادتنا إلى ناح القضباء الموثر يضف قاهداً 
وبصفته متهماً كانت عبارة عن لعبة اختلقناهاء بل وسيلة للتسرية عن 


١1لا‏ 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ضجرنا وعزلتنا وتغذيتهما. وبناءً على طلبي الوديٌ وضع المتهم» وبعد 
تردد» خاتم البنصرء الذي كان سهل الخلعء في الإصبع الصغير ليدي 
اليسرى. فبدا ملائماً؛ أشاع في نفسي الفرح. بالطبع كنت غادرت فرع 
الشجرة الممهد قبل أن أجرّب الخاتم. فوقفنا على جانبيّ السياج» وتبادلنا 
الأسماءء متحدثين بلطف, بعدما أتينا على ذكر بعض المواضيع السياسية» 
ثم أعطاني الخاتم» بينما احتفظ بالإصبع لنفسه بعناية فائقة. كنا متفقين في 
الرأي على أن الإصبع إصبع امرأة. عندما وضعت الخاتم في يدي معرضاً 
ياه إلى الضوءء بدأ المتهم يقرع بيده اليسرى الطليقة السياج» مصدراً 
إيقاعات راقصة مرحة خالية من الهم. إلا أن ألواح الخشب التي سوّرت 
حديقة والدتي كانت ذات طبيعة هشّة متداعية» فلم تستجب لرغبة التطبيل 
التي انتابت المتهم إلا على شكل خشخشة وذبذبة خشبية. لم أعد أعلم 
كم وقفناء نتفاهم بأعيننا. فعثرنا على أنفسنا عبر لعبة بريئة بعدما تعالت 
أصوات محركات طائرة متوسطة الارتفاع. ربما أرادت الطائرة الهبوط في 
لوهاوزن. لقد بدا لنا من المهم أن نعرف فيما إذا ستهبط الطائرة بمحركين 
أم بأربعة» لكننا لم ننقطع عن النظر إلى بعضناء ولم نأت على ذكر 
الطائرة»؛ مطلقين على تلك اللعبة فيما بعد حين وجدنا فرصة مناسبة 
لممارستهاء اسم (زهد شوغر ليو)؛ لأن المتهم كان له صديق قبل أعوام 
حمل اسم شوغر ليو وكان يمارس اللعبة ذاتها في المقابر بصورة خاصة. 
وحالما عثرت الطائرة على مدرج الهبوط - لم أستطع فيما إذا كانت 
بمحركين أم بأربعة - أعدت له الخاتم» فوضعه المتهم في البنصرء 
مستخدماً منديله من جديد كمادة تغليف» وطلب مني أن أرافقه في طريقه. 

حدث ذلك في السابع من يوليو من العام .190١‏ وفي غيرسهايم لم 
نستقل القطار من المحطة الأخيرة للترام» إنما أخذنا سيّارة أجرة. وأتيحت 
للمتهم العديد من الفرص فيما بعد ليتصرف معي بسخاء. كنا ذهبنا إلى, 
المدينة» وتركنا سيّارة الأجرة تنتظر أمام مؤسسة تأجير الكلاب في 
«روخوسكيرشه». حيث سلمنا الكلب لوكسء وعدنا إلى التاكسي التي' 
اخترقت بنا المدينة عبر #بلك؟ و«أبوربلك» حتى مقبرة فيرستن» فدفغ: 


97 7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


انيد عاتسرات: أكثر من اث .عشر ماركا آجرة للتاكسي» قم قتا بزيارة 
مشغل شواهد النحّات كورنيف. وكان المشغل شديد القذارة» فشعرت 
بالارتياح عندما أنجز النحّات مهمة صاحبي خلال ساعة. أثناء ما وصف 
لي الصديق أدوات المشغل وأنواع الصخور بأسلوب معقد وبشغف كان 
السيّد كورنيف» الذي لم يذكر الإصبع بحرف واحدء قد صب قالبا من 
الجبس للإصبع بدون الخاتم. فراقبته بطرف عيني خلال عمله» بيد أنه 
أخضع الإصبع لبعض المعالجة؛ ذلك يعني أنه دهنه بالشحمء ومرر خيطاً 
متيناً على المقطع الجانبي للإصبع» ثم صبّ عليه الجبس وصار يورّع 
الشكل بالخيط قبل أن يجفٌ الجبس. إن صبّ قوالب الجبس لم يكن أمراً 
جديداً علىّ في الواقع؛ لأن مهنتي هي تصميم الديكورات»؛ بيد أن الإصبع 
أتخذ طابعاً غير جماليَ حالما أمسك به النحات» ولم يفقد تلك الصفة غير 
الجمالية إلا بعد أن أخذ المتهم الإصبمٌ بيده إثر إنجاز قالب الصبّء لينظفه 
من الشحم ويلفّه في منديله. ثم سدد صديقي أجور النحّات الذي رفض 
في البدء أن يتقبل المبلغ لأنه نظر إلى السيّد ماتسرات بصفته زميلاً في 
المهنة» وقد ذكر أيضاً بأن السيّد أوسكار كان يفرك له دمامله في السابق 
ولم يطلب منه مقابلا لقاء ذلك. بعدما تجمّد الجبس فكك النححات 
القالب» وسكب في القالب الأصلي ما كان ينقصه من الصبّء ووعدنا بأنه 
سينجز في الأيام المقبلة بظبعة أشكال من الجيس للقالب» ثم .رافقنا عير 
معرض شواهده حتى طريق الرجاء. 

وثمة رخلة قاتبة فى سبارة الآأجرة أخذتنا إلى مشطة القطاراث 
الرئيسية؛ حيث دعاني المتهم إلى تناول طعام عشاء متعدد الوجبات في 
مطعم المحطة المرتب ترتيبا جيّدا. كان السيّد ماتسرات يتحدث إلى عمّال 
المطعم بودٌ ومن غير كلفة؛ مما حملني إلى الظنْ بأنه من زبائن المطعم 
الدائمين. تناولنا شرائح من لحم صدر الثور مع الفجل الطازج وسمكاً من 

نهر الراين وختمنا الطعام بالجبن ثم احتسى كل منا زجاجة صغيرة من 
النبيذ الخفيف. حين أتينا على ذكر الإصبع من جديدء مقدماً نصيحتي 
للمتهم بأن ينظر إلى الإصبع باعتباره ملك الآخرين» وعليه أن يسلّمه 


الا 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


لاسيما أنه يمتلك الآن نسخة من الجبس عنه» أوضح لي المتهم بثقة 
وإصرار بأنه يعتبر نفسه المالك الشرعي للإصبع» إذ أنه كان موعوداً 
بالتصرل على [صيع كيلا علد يار الثالغة» حتى وأن جاء الوعد مشفْراً 
من خلال عبارة مضرب التطبيل؛ ثم ذكر ندب هربرت تروجنسكي 
المنتشرة ايو 0 والتي تنبأت له بالحصول 
على البنصر؛ إضافة إلى خرطوشة فارغة عُثر عليها في مقبرة سازيه وكان 
لها حجم البنصر وأهميته المستقبلية. 

وإذا كنت قد سخرت في البدء من حجج صديقي الذي كسبت 
صداقته حديثاً فلابد من الاعتراف بأن الإنسان المتفتح والرحب الصدر 
سيفهم دون جهد تعاقب: مضرب التطبيل فالندبة» فالخرطوشة الفارغة» 
ومن بعدها البنصر. وثمة سيّارة أجرة ثالثة أقلتني إلى داري بعد العشاء. 
فاتفقنا على موعدء وحين قمت بزيارة المتهم في اليوم الثالث حسب 
الموعد كان قد أحضر لي مفاجأة. فأطلعني أرّل الأمر على بيته» أي على 
غرفته» إذ أن السيّد ماتسرات يسكن بالإيجار. فكان قد استأجر فى البدء 
حجرة حمام في السابق» ضيّقة للغاية» وبعدما جلب له فن التطبيل جاهاً 
وثراءً صار يدفع إيجار الحجرة العديمة النوافذ التي أطلق عليها اسم حجرة 
الممرضة دوروتيّاء بل أنه لم يتهيب من تسديد كفارة عن الغرفة الثالثة التي 
قطنها سابقاً سيّد موسيقي زميل للمتهم يدعى مونتسر؛ إذ أن صاحب الدار 
السيّد تسايدلر الذي علم بثراء السيّد ماتسرات قد رفع الإيجار إلى الأعلى 
بوقاحة تامة. 

وفي حجرة الممرضة دوروتيًا المزعومة أحضر لي المتهم المفاجأة 
وقد انتتصب برطمان على لوح مرمر لدولاب غسيل مزوّد بمرآة» كان له 
حجم البرطمانات التي تحفظ فيها والدتي أليسا فون فيتلار التفّاح 
المهروس . بيد أن هذا البرطمان حفظ البنصر العائم في محلول الكحول. 
وبفخر أطلعني المتهم على عدد من الكتب العلمية الضخمة التي اهتدى بها 
أثناء عملية الحفظ . فتصفحت تلك المجلّدات بشكل عابر» ولم أتوقف 
عند الرسوم الإيضاحية» لكنني اعترف بأن المتهم نجح في الاحتفاظ بمنظر 


71 
1_طماع1© :-1ع1]آنلا 1 


الإصبع سليماء كذلك بدأ البرطمان جملا يعوا أمام المرآة ومثيراً من 
ناحية الديكور. مثلما أكدّت على الدوام بصفتي مصمم ديكور. وبعدما 
لاحظ المتهم بأنني ألفت رؤية البرطمان» أسرٌ لي بأنه يتعبد أحياناً أمام هذه 
العلبة الزجاجية. بفضول وبشيء من الجسارة رجوته أن يعرض حالا 
نموذجاً من صلاته؛ فطلب مني أن أقدم له خدمة مقابلة» ثم زوّدني بورق 
وقلم رصاص» طالبا مني تدوين صلاته» وكذلك طرح أسئلة تتعلق 
بالإصبع» إذ أنه سيجيب مصلياً بما أوتي من علم . 

وفيما يلي أدرج؛ بصفتي شاهداًء كلمات المتهم وأسئلتي وإجاباته - 
عبادة البرطمان: إنني أصلّي. من أنا؟ أوسكار أم أنا؟ إنني متدين» بل إِنَّ 
أوسكار مشتت الذهن. وخشوع بلا انقطاع. لكن بدون خوف من 
التكرار. إنما أنا بفطنة وتبصّر. لأنني بلا ذاكرة. فأوسكار بفطنة وتبصّر 
أيضاء لأنه ملىء بالذكريات: بارة وساخن ودافرع أنا:. ومذنت عتد إعادة 
السؤال. وبريء بدون السؤال. مذنب لأنني؛ أصبحت مذنباً على الرغم 
من برّأت ساحتى من» فتدحرجت على» وتغلبتٌ على الصعوبات» 
وبكيت ل بكيت أمام بكيت بلاء وكفرت نطقاً» فصمتٌ تجديفاً, لا 
زجاج البرطمان. ماذا حفظ البرطمان؟ البرطمان برطم في داخله إصبعا. 
أي إصبع؟ البنصر. لمن؟ أشقر. من هو الأشقر. متوسط القامة. أيبلغ 
طوله مترا وثلاثة وستين سنتمترا؟ أي علامات فارقة؟ إِنّه خال. اين؟ في 
باطن العضد. يمنياً يسارأ؟ يميئاً. أي بنصر؟ اليسار. مخطوبة؟ نعمء لكنها 
عزباء. العقيدة؟ بروتستانتية. باكر؟ باكر. متى ولدت؟ لا أعلم. متى؟ في 
هانوفر. متى؟ في ديسمبر/ كانون الأوّل. برج القوس أم الجدي؟ 
القوس . طبعها؟ خائمة . سليمة الطوية؟ مثابرة» لكن مهذارة. متبصرة؟ 
مقخصدة؛ رزيئةء طلقة المحيًّا أيضاً. خجولة؟ ذوّاقة» صادقة» ومتزمتة. 
شاحية» تحلم دائماً بالرحلات. تحيض بلا انتظام ' خاملة» تعاني بسرور. 
وتتحدث عن معاناتهاء فقيرة الفكرء سلبية» تترك الأمور تسير كما تشاء» 


هالا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


تصغي بانتباه» تهرّ رأسها موافقة» تشبك ذراعيهاء وتخفض أجفانها عند 
الكلام» وتفتح عينيها بسعة إذا ما خاطبها أحدء لون رمادي فاتح بنيّ قريب 
من الحدقة» استلمت خاتماً هدية من رئيسها المتزوج؛ فرفضته في البدء» 
ثم تقبلته؛ حدث فظيعء كثير الليف؛ الشيطان» يعلم الكثير» فرحلت» 
انتقلت؛ ثم عادت ثانية» لم تستطع التخلي عن الأمرء إضافة إلى الغيرة 
غير المبررة» المرض لم تتسبب بهء الموت لم تتسبب به بلى؛ كلاء لم 
تكن راغبة» قطفت زهور حقل حبوبء» ثم جاءت؛ كلاء بل كانت ترافقها 
منذ البداية» لم أعد قادراً. . .آمين؟ آمين. 

وإنني» غوتفريد فون فيتلار» أضيف هذه الصلاة المدونة إلى إفادتي 
أمام القضاءء لأنّ هذه المعلومات المتعلقة بصاحبة الخاتم» وإن جاءت 
مضطربة عصيّة على القراءة» تتطابق إلى حدذ بعيد مع المعلومات المتوفرة 
لدى. القضاء بخصوص القتيلة الممرضة دوروتيًا كونغيتر. إن مهمتي لا 
تقوم على الطعن بإفادة المتهم بأنه لم يقتل الممرضة ولم يقابلها وجها 
لوجه. فمن الجدير بالملاحظة» وهذه القرينة تأتي لصالح المتهمء هو 
الخشوع الذي رسخ في ذهني إلى اليوم والذي أظهره صديقي عندما ركع 
أمام البرطمان الموضوع على كرسيّ ثم اشتغل على طبله الذي حشره بين 
ركبتيه . 

لقد أتيحت أمامي فرص عديدة طوال أكثر من عام لرؤية المتهم يصلّي 
ويطبل؛ إذ أنه جعلني مرافقه لقاء راتب سخيّ» فصار يصطحبني معه في 
جولاته الموسيقية التي انقطع عنها فترة طويلة ثم عاد إليها من جديد بعد 
العثور على البنصر بمدّة قصيرة. فتجولنا في غرب ألمانيا برمته» وتلقينا 
دعوات إلى المنطقة الشرقية» بل إلى الخارج. بيد أن السيّد ماتسرات آثر 
البقاء ضمن حدود البلد؛ غير راغب في الانخراط بصخب الرحلات 
الموسيقية المألوفة وزحامها على حدٌ تعبيره. لم يكن يصلي أبداء أو يطبل 
للبرطمان قبل عرضه الفتّى. لكن بعد انتهاء الحفل وبعد تناول العشاء 
المتعدد الوجبات ننسحب إلى غرفته في الفندق» حيث كان يطبل ويصلّي 
وأنا أطرح عليه الأسئلة وأدون إجاباته ثم نقارن معاً هذه الصلأة بصلوات 


كآال/ا 
1_طماع1© :11 آنلا 1 


الأيّام والأسابيع الماضية. كانت هناك في الواقع صلوات طويلة وأخرى 
قصيرة. وأضحت الكلمات تصطدم ببعضها بحدّة» لتنساب في اليوم القادم 
بقدوء توعا ما وعلل يسبب طولها: ريع ذلك نإ االعارات سميدها التي 
أقدمها الآن إلى القضاء الموقّر لم تورد شيئاً أكثر مما جاء ذ فى المحضر 
الذي أرفقته بإفادتي. وأثناء عام الرحلات ذلك استطعت التعرف بشكل 
عابر بين جولة موسيقية وأخرى على بعض أصحاب السيّد ماتسرات 
ومعارفه. فقدّم لي رابْته السيّدة ماريا ماتسرات الذي كان المتهم يكنّ لها 
جلّ الاحترام» لكن بتحفّظ. في ذلك اليوم سلّم عليّ أيضاً كررت 
ماتسرات» الأخ غير الشقيق للمتهم. وهو تلميذ مدرسة إعدادية في الحادية 
عشرة من غمرة كنديد التهذيب» كذلك ولدت السكدة اوه كوسعرء 
شقيقة السيّدة ماريا ماتسرات» انطباعاً إيجابيا. ومثلما اعترف لي المتهم 
فإن علاقاته العائلية خلال الأعوام الأولى التي أعقبت الحرب كانت أكثر 
من مضطربة. لكن بعدما قام السيّد ماتسرات بتجهيز محلّ للأطعمة الفاخرة 
لزوجة أبيه» كان يعرض أيضاً الثمار المستوردة من بلدان الجنوب» وصار 
يدعمه بإمكاناته المادية كلّما تعرض المحلّ لصعوبات» توطدت أواصر 
العلاقة بين الرابّة والربيب. 

لقد عرّفني السيّد ماتسرات على طائفة من زملائه السابقين الذين كان 
أغلبهم من عازفي الجاز. وعلى الرغم مما رأيته من بشاشة وخفة روح 
انطوت عليهما شخصية السيّد مونتسر الذي اعتاد المتهم أن يناديه باسم 
كليب» لكنني إلى اليوم لم أجد الشجاعة والإرادة الكافيتين للاهتمام بتلك 
العلاقة. وحتى بعدما استغنيت عن مهنة تصميم الديكورات بفضل كرم 
المتهمء بيد أنني صرت أقوم» حبّاً بالمهنة» بتزيين بعض الوجهات 
التجارية حالما نعود من جولتنا الموسيقية. وقد أبدى المتهم نفسه اهتماما 
طيّباً بحرفتي» فكان كثيراً ما يقف وسط الشارع في ساعة متأخرة من 
المساء» فلا يكلّ من لعب دور المشاهد لفئي المتواضع. أحياناً كنا نقوم 
بجولة صغيرة فى دوسلدورف المساء بعد الانتهاء من العمل» متجنبين 
العروق بالمدينة القديبة لأنا البعهم لم يطن.روية وجاج التوافك العفبت 


/اا؟ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


بالرصاص ولا لافتات الحانات الألمانية القديمة. فقادتنا إحدى الجولات 
- وهنا أصل إلى الجزء الأخير من إفادتي - بعد منتصف الليل» عبر حيّ 
أوبرّات» إلى مستودع عربات الترام. فوقفنا متلاصقين بألفة» نراقب آخر 
عربة ترام تدخل المستودع. فيا له من مشهد رائع! كان المدينة مظلمة من 
حولنا. ومن بعيد تعالت عربدة عامل بناء مخمورهء إذ أن اليوم كان يوم 
جمعة. ماعدا ذلك ساد السكونء لأنّ عربات الترام الأخيرة الداخلة إلى 
المستودع لم تولد صخبا حتى لو استنطقت السكك المنحية ومعها 
الأجراس. كانت العربات تصطف فوراً في المستودع» بيد أن هناك بعض 
العربات التى وقفت بالطول والعرض» فارغة فوق السككء» لكن مضاءة 
على نحو احتفالي. فمن ذا الذي أتى بالفكرة؟ لقد كانت فكرتنا نحن» 
فقلت: «والآن ما رأيك يا صديقي العزيز؟» فهرّ السيّد ماتسرات رأسه 
موافقاًء ثم ركبنا بلا عجلة» ووضعت نفسي في موضع القيادة» وحالاً 
وجدت نفسي عارفاً بالأمرء فسرت على مهل وأخذت أرفع من السرعة 
شيئاً فشيئاً؛ كاشفاً عن أنني سائق ترام قدير» حتى أن السيّد ماتسرات قابل 
ذلك بجزيل العبارة - بعدما تركنا ضياء المستودع خلفنا -: «بالتأكيد إنك 
كاثوليكي معمد يا غوتفريد» وإلا لما استطعت قيادة الترام. ) 

كانت الأعمال الصغيرة التي أقوم بها بين الحين والآخر تجلب لي 
فرحاً جمًا. بدا أن أحداً لم يلحظ تحركنا بالترام من المستودعء إذ لم 
يتعقبنا أحد. وكان من الممكن إيقاف عربتنا ببساطة من خلال قطع التيّار 
الكهربائي الرئيسي. قدت المركبة في اتجاه فلنغرن» فاخترقها من الوسط. 
وفكرت فيما إذا علي الاتحراف نسار فقق «هانيل»؛ لأسير فى اتنجاه 
ارات ومن ثم #رانتكن)؛ تطلب متي الستد ماشرات أن سير في طريق 
اغرافنبيرغ» غيرسهايم. وعلى الرغم من أنني خشيت الصعود أسفل «قلعة 
السباع»؛ حيث حانة الرقصء لكنني لبّيت رغبة المتهم» مذللاً صعوبة 
الصعودء متجاوزاً قلعة السباع» حينئذ توجب علي إيقاف العربة» إذ أن 
ثلائة رجال وقفوا على السكة؛ فأجبروني على الوقوف جبراً أكثر مما كان 
التماساً . 


7١18 
1 1_طماع1© :11 ]آنلا‎ 


كان السيّد ماتسرات انسحب إلى داخل العربة بعدما تجاوزنا هانيل 
بمسافة قصيرة» لكي يدخن سيجارة»؛ فاضطررت بصفتي سائق الترام إلى 
الهتاف: «اصعدوا رجاءً!؛ كنت انتبهت إلى أن الرجل الثالث الحاسر 
الرأس الذي وضعه الرجلان الآخران اللذان اعتمرا قبعتين خضراوين 
بشريط أسود في وسطهما بدا مرتبكاً في الصعود أو ضعيف البصر؛ لأنه 
أخطا سَلّم العربة أكثر من مدّة..فاعاتة مرافقاء» آى خارساهة غلى الركورت 
من مكان القيادة» لكن بطريقة فظة للغاية» ثم توغْلوا في باطن العربة. 
فتحركت ثانية» بيد أنني سمعت نهنهة ذليلة تبعث على الرثاء ارتفعت 
غوننى نواعتل السرية» وجلية كدللة عمالو اذ الحدا كاف يكيل 
الفسقعاك: ثم ارتفع صوت السيّد ماتسرات الرصين مما جعلني أشعر 
بالاطمئنان؛ سمعته يلوم الرجال الذي ركبوا للتو ويحذرهم من ضرب 
إنسان جريح شبه ضرير يعاني من فقدان نظارته. ثمّ سمعت أحد الرجلين 
ذوي القبعتين الخضراوين يزعق: «لا تدخل نفسك في الموضوع. إنه 
سيشهد اليوم معجزته الكبرى. لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً. » 

وأثناء ما كنت أسير ببطء نحو غيرسهايم» أراد صديقي السيّد 
ماتسرات أن يعرف أي ذنب اقترف ذلك الرجل المسكين شبه الضرير» 
فاتخذ الحديث على الفور منحى غريباً: فبعد جملتين وجدنا أنفسنا في 
منتصف الحربء أو بعبارة أدّق فى الأول من ديسمبر / كانون الأوّل من 
العام التاسع والثلاثين؛ يوم اندلاع الحرب» فأطلق على شبه الضرير لقب 
رجل عصابات دافع عن مبنى البريد البولندي وخالف القانون. ومن 
العجيب هو أن السيّد ماتسرات الذي كان فى الخامسة عشرة من عمره 
آنذاك بدا مطلعاً على الأمرء فتددق على الرجل شه الضرير وثاداه ياسع 
فكتور فيلون» موزع الحوالات النقدية المسكين القصير النظر الذي فقد 
نظارته إِبَانَ الاشتباكات» فهرب بلا نظّارة» منفلتاً من الزبانية» بيد أنهم 
تمسكوا بموقفهمء فطاردوه حتى نهاية الحرب» بل إلى فترة ما بعد 
الحرب» ثم عرضا وثيقة ماء صادرة في العام التاسع والثلاثين فكانت 
عبارة عن أمر بالإعدام رمياً بالرصاص. أخيراً ألقي القبض عليه مثلما زعق 


1و7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


أحد الرجلين ذوي القبعتين الخضراوين فأكد صاحب القبعة الآخر بأنه 
أصبح سعيداً الآن؛ لأن التاريخ قد صفّي من الشوائب. لقد ضحى بأوقات 
فراغه كلها بما فيها العطل الرسمية لكي ينفذ قرار الإعدام الصادر في العام 
التاسع والثلائين» ثم أنه في نهاية المطاف صاحب مهنة؛ وكيل شركة 
تجارية؛ إضافة إلى أن صاحبه اللاجئ من الشرق الألماني يعاني من 
صعوبات»؛ إذ عليه أن يبدأ من جديد تماماًء بعدما خلفٌ في شرق ألمانيا 
محلّ خياطة رائج. أما الآن فقد انتهى الأمرء وسينقذ القرار هذه الليلة» 
لنطوي صفحة الماضي - فيا له من أمر عظيم حين أدركنا الترام. 

وهكذا تحوّلت على الضدّ من إرادتي إلى قائد ترام يقل رجلا 
محكوما بالإعدام وجلادين حملا قرار الإعدام فسار بهم إلى غيرسهايم. 
عند ساحة سوق الضاحية الفارغة الكثيرة الزوايا انعطفت إلى اليمين» عازما 
على قيادة الترام حتى المحطة الأخيرة القريبة من معمل الزجاج» لكي أفرغ 
العربة هناك من صاحبي القبعتين الخضراوين ومن فكتور شبه الضريرء 
لنعود أنا وصاحبي إلى البيت. وقبل المحطة الأخيرة بثلاث مواقف غادر 
السيّد ماتسرات باطن العربة» ثم وضع حقيبته اليدوية التي احتوت على 
البرطمان؛ كما أعلم, في المكان الذي يضع فيه قادة الترام المهنيوة 
متاعهم المحفوظ بآنية المعدن الأسطوانية. فبدا السيّد ماتسرات منفعلاً 
حين قال: «يجب أن ننقذه. إنه فكتورء فكتور المسكين! الذي لم يعثر 
على نظارة مناسبة إلى اليوم. فهو قصير النظر بشكل حادء كما أنهم 
سيعدمونه بالرصاص» فيضطر إلى التطلع في الاتجاه الخاطئ.؛ فحسبت 
الجلادين مجردين من السلاح» لكن السيّد ماتسرات انتبه إلى أن معطفي 
الرجلين ذوي القبعتين كانا منتفخين على نحو مدبب. «كان موزّع حوالات 
نقدية لدى البريد البولندي في غدانسك . والآن فإنه يمارس المهنة ذاتها في 
البريد الألماني الاتحادي. بعد انتهاء الدوام يبدءون بمطاردته؛ إذ أن قزار 
الإعدام مازال ساري المفعول.» 

وعلى الرغم من أنني لم أفقه كل ما تحدث به السيّد ماتسرات» غير 
أنني وعدته بالوقوف إلى جانبه أثناء تنفيذ حكم الإعدام» وإذا كان ممكناً 


7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


سنحيل معاً دون تنفيذ قرار الإعدام. وخلف معمل الزجاجء أي قبل 
الوصول إلى أولى الحدائق الصغيرة بمسافة قصيرة - أصبح بإمكاني رؤية 
حديقة والدتي بأشجار تفاحها تحت ضوء القمر - أوقفت عربة الترام 
وهتفت في اتجاه باطن العربة: «انزلوا رجاءً» هذه هي المحطة الأخيرة!» 
فأقبل الرجلان على الفور بقبعتيهما الخضراوين وشريطيهما السوداوين. بيد 
أن الرجل شبه الضرير لاقى صعوبة في الترجّل من سلّم العربة. ثم نزل 
السيّد ماتسرات» بعد أن أخرج طبله من تحت سترته وطلب منّي أن أحمل 
معي حقيبتي اليدوية» التي احتوت على البرطمان» أثناء النزول. 

تركنا الترام المشمّ فترة طويلة خلفنا واقتفينا آثار الجلادين ومعهما 
الضحية. وسرنا على امتداد سياجات الحدائق» فجعلني ذلك أشعر 
بالتعب. ولمّا وقف الثلاثة أمامنا لاحظت بأن اختيار موضع الإعدام قد 
وقع على حديقة والدتي. فلم يحتج السيّد ماتسرات وحدهء بل أنا أيضاً. 
فد أن الرجلين لم يعرا لنا اهتماماًء إنما أليا بالألواح الخشبية للسياج 
المتداعي أصلا على الأرض» ثم ربطا فكتور شبه الضرير» المسكين» 
مثلما لقبه السيّد ماتسرات» إلى شجرة التفاح» أسفل الفرع الذي كنت 
أضطجع عليه» ولأننا واصلنا احتجاجنا فقد أبرزا لنا مرّة ثانية قرار الإعدام 
المجعّد الذي وقع عليه مفتش القضاء الميداني المدعو تسيليفسكي. وقد 
صدر القرار في الخامس من أكتوبر من العام التاسع والثلاثين في ناحية 
تسوبوت حسبما أعتقد ثم أن الأختام كانت صحيحة أيضاًء فبات من 
المتعذر القيام بعمل ما؛ ومع ذلك تحدثئنا عن الأمم المتحدة وعن 
الديمقراطية والذنب الجماعي وعن آدناور إلى آخره؛؟ بيد أن أحد صاحبي 
القبعتين الخضراوين نسف اعتراضاتنا بملاحظة واحدة: إن هذا الشأن لا 
يخصّناء فليس هناك اتفاقية سلام» وأنه ينتخب آدناور مثلما نفعل نحن» 
لكن ما يتعلّق بالقرار فإنه ما زال ساري المفعول» وأنهما قد ذهبا بالقرار 
إلى الدوائر العلياء وحصلا على استشارات» كما أنهما لا يؤديان في نهاية 
المطاف إلا الواجب اللعين» فمن الأفضل لنا أن ننصرف. 

لكننا لم ننصرف» بل وضع السيّد ماتسرات طبله في حالة تأهب 


اكلا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


بعدما فتح صاحبا القبعتين الخضراوين معطفيهماء» مشرعين رشاشتيهما 
الأوتوماتيكيين - في تلك اللحظة شق بدر شبه كامل منبعج بعض الشيء 
الغيوم»؛ فجعل حواف الغيوم تلمع لمعان المعدن كالإطار المسئن لعلبة 
الأطعمة المحفوظة - وعلى صفيح مشابه» لكنه مقدّس» لاعب السيّد 
مضرباه بفعل اليأس. فكان عزفه غريباًء إلا أنه بدا لي معروفاء فأصبح 
حرف الضاد يستدير حول كل مرّة من جديد: ضاعء بل لم يضعء كلا 
لانه لم يضع» فبولندا لم تضع بعد! لكن هذا كان صوت فكتور المسكين 
الذي عرف النصٌ المناسب لطبل السيّد ماتسرات: إن بولندا لن تضيع ما 
دمنا أحياء. فبدا الإيقاع معروفاً حتى بالنسبة لصاحبي القبعتين 
الخضراوين» إذ أنهما انكمشا خلف قطعهما الحديديّة التى سقط عليها 
شعاع القمرء فاستحضرت أنشودة الزحف العسكري» التي رددها السيّد 
ماتسرات وفكتور المسكين عالياً في حديقة والدتي» سلاح الفرسان 
البولندي. لعل البدر قد أعان الطبل والبدر نفسه وصوت فكتور المتكسّر 
على أن تخرج جياد كثيرة مجتمعة بفرسانها من شقوق الأرض: فدوّت 
حوافرها وشخرت مناخيرهاء» وطقطقت مهاميزهاء وصهلت الأحصنة ثم 
تعالت أصوات الحتٌ والخبب. . . بيد أن شيئاً من هذا لم يحدثء فلم 
يدوٌ حافر» ولم يشخر منخر أو يطقطق مهماز أو يصهل حصان ولم 
يستحث أحد الخيل على الخبب» إنما حدث انزلاق صامت عبر الحقول 
المحصودة خلف غيرسهايم» فكانت كتيبة خيّالة بولندية مسلحة بالرماح» 
إذ أن البيارق شدّت على الأسنة بيضاء حمراء مثل طبل السيّد ماتسرات» 
كلاء لم تشدّء إنما طفت عائمة» مثلما عامت الكتيبة كلّها تحت القمر 
والتي قدمت ربما من القمرء جاءت عائمة وقد غيرت اتجاهها نحو 
حديقتنا الصغيرة» فلم يبد ما رأيناه لحماً ولا دماء ومع ذلك فقد عامء 
مركبا تركيب الهواة» كما اللعبة» جال كما الشبح؛ فكان شبيهاً ربما 
بتشكيلات الخيوط التى يعقدها معين السيّد ماتسرات: فانعقدت كتيبة 
فرسان بولندية» بلا جلبة» ومع ذلك كانت مدوّية» بلا لحم لكنها بولندية» 
مقبلة نحونا وقد ترك لها العنان» فألقينا بأنفسنا إلى الأرض» فتحملنا القمر 


07 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


والكتيبة البولندية» فاقتحم الفرسان حديقة والدتي وجميع الحدائق الصغيرة 
الشديدة الانتظام» بيد أنهم لم يخرّبوا أي واحدة منهاء إنما أخذوا معهم 
فكتور المسكين والجلادين» ثم ضاعت آثارهم في الأراضي المنبسطة 
القمر - ضاعتء لم تضع بعدء اعتلوا ظهور الجياد في اتجاه الشرق» 
نحو بولنداء خلف القمر. فانتظرنا بأنفاس ثقيلة حتى خلت الليلة من 
الأحداث والتأمت السماء من جديدء حاجبة ذلك الضوء الذي أقنع جيوش 
الخيّالة المتعفنة منذ زمن بعيد بالهجوم الأخير. فكنت أوّل من نهض» 
وهنأت السيّد ماتسرات على نجاحه الباهر على الرغم من أنني لم أستهن 
بتأثير القمر. لكنه هرّ رأسه نافياً بتعب وإحباط: «نجاح.» يا عزيزي 
غوتفريد؟ لقد حققت الكثير من النجاح في حياتي» وأودٌ الآن أن لا أحقق 
نجاحاء لكن هذا صعب للغاية ويتطلب عملا كثيرا» . 

غير أن هذه الإجابة لم تعجبني» لأنني أنتمي إلى الناس المثابرين 
المجتهدين» ومع ذلك فإنني لم أحظ بالنجاح» فبدا لي السيّد ماتسرات 
محرداء فغاتيته بالقول: (إنك متكبر يا أوسكار»! ياذئاً هكذا بجرأة؛ إذ 
أننا رفعنا صيغة المخاطبة بلقب العائلة. «الجرائد كلها مليئة بأخبارك. لقد 
صنعت لك اسماً. إننى لا أريد التحدث هنا عن المال. لكن هل تعتقد أن 
من السهل علىّء أنا الذي لا تذكرني الجرائد؛ الصمود إلى جانبك أنت 
المحتفى به؟ فكم أتمنى القيام بعمل واحد ذات يوم ويمفردي» مثل العمل 
الذي قمت به للتوء فتذكرني الجرائد بحروف مطبعية كبيرة: هذا ما فعله 
غوتفريد فون فيتلار!) لشعرت بالاستياء من قهقهة أوسكار الذي انقلب 
على ظهره وصار يمرّغ حدبته بالتراب الرخوء مقتلعاً الحشائش بيديه» 
ليرمي بها إلى الأعلى» ثم ينفجر في الضحك مثل إله خخال من الإنسانية 
قادر على كل شيء: اليس هناك أسهل من هذايا صاحبي! خذ هذه 
الحقيبة! فمن المدهش أننا لم نقع تحت حوافر كتيبة الفرسان البولنديين. 
إنني أهديها لك؛ فهذا الجلد يحتوي على البرطمان مع البنصر. خذ هذه 
الأشياء كلهاء وانطلق نحو غيرسهايم» فما زال الترام المضاء يقف هناك» 
فاركب به وسر مع الهدية في اتجاه فورستنفال حيث مديرية الشرطة. 


7171 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وارفع دعوى قضائية» لترى اسمك يتهجاه الناس ف فى الجرائد كلّها!» 
فرفضت في البدء عرضه» يعرضاً بالقوة إئة لا معطي العيق دو 
الإصبع الموضوع في الزجاجة» غير أنه طمأنني قائلاً بأنه شبع من قصّة 
الإصبع حتى التخمة» فضلا عن أنه امتلك بضعة نماذج صبّ» ثم أنه صبٌ 
تموذجاً عنه من الذهب الخالص» ا الحقيبة أخيراً» وأعود 
ترام لأسير به حتى مركز الشرطة وأ فيم دعوى. . وانطلقت أعدو» 
سامعا اليكل ماتسرات يقيقة وتنا طويلك و ات 
تأثير الليلة عليه» يقتلع الحشائش ويستغرق في الضحك» بينما سأقرع أنا 
جرس الترام قاصداً المدينة» أما الدعوى التي رفعتها - كنت رفعتها في 
صباح اليوم التالي - فقد أدخلتني إلى الجرائد مرّات عديدة بفضل طيبة 
السيّد ماتسرا 

لكنني أنا أوسكار الطيّب القلب بقيت مضطجعاً على العشب الحالك 
السواد خلف غيرسهايم؛ أتقلّب ضاحكاً تحت بعض النجوم المرئية القاتلة 
في جديتهاء ممرغاً حدبتي بتربة الأرض الدافئة» مفكراً: نم يا أوسكارء 
ا تك أن تضطجع حزً نحت الفم بد 
شيء » الاجظلت أن اخداما كان لمن وجهى : 20 وخشونة 
ورتابة وعلى نحو رطب. فهل يمكن أن تكون الشرطة التي أيقظها فيتلار 
فهرعت إلى هنا وأرادت إيقاظي باللحس؟ ومع ذلك فإنني لم أفتح عينيّ 
حالاً» بل استسلمت للحس الدافئ الحشن الرتيب الرطب» متكمتها يد 
غير مبال بمن لعقني» فخْمّن أوسكار: إِمَا أنها الشرطة أو بقرة ما. ثم 
فتحت عينيّ . كانقف حعقكة بقعا اننوواء يضاف ويقطكة إلى جاني شين 
وتلحسني إلى أن فتحت عينيّ؛ فكان النهار واقيها غائماً يميل إلى الصحو 
فخاطبت نفسي: يا أوسكار لا تطيل الإقامة لدى هذه البقرة حتى لو نظرت 
إليك نظرة سماوية» وحتى لو طمأنت ذاكرتك بلسانها الخشن وقلصتها 
باجتهاد. كان نهاراً ساطع الوضوحء وأخذ الذباب يطنّ» فعليك أن 
تهرب . فيتلار سيرفع دعرى ضدّك فعليك أن تهرب» فالدعوى الأصيلة 


:؛"9, 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


تستلزم الهرب الأصيل. دع البقرة تخور واهرب. إنهم سيقبضون عليك 
لعقتني البقرة وغسلتني ومشّطت شعريء فاعترتني نوبة قهقهة صباحية 
صافية بعد الخطوة الأولى من الهرب؛ فتركت طبلي لدى البقرة التي بقيت 
يقطحعة وتكور» يتنا هزيت أنا قناهكا. 


و7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


ثلاثون 


أي تعم» الهروب! هذا ما بقي أن أذكره. لقد هربت لكي أرفع من 
قيمة الدعوى التي سيتقدم بها فيتلار. وفكرت في أن لا هرب بلا هدف 
مفترض» ثم سألت نفسي: إلى أي شطر ستيمّم وجهك يا أوسكار؟ 
فالمعطيات السياسية؛ أو ما سمّي بالستار الحديدي» منعتني من الهرب في 
انجاء'الشرق. :إن 4 عل أن الدى الأثراي الأريسة لتجدتى آنا كرلياجك 
باعتبارها هدفاً للهرب» تلك الأثواب التي ما زالت تهفهف في حقول 
البطاطس الكاشوبية» مقدمة الملاة للهاريين؛ مع أنني اعتقدت أن القرب 
في اتجاه أثواب الجدّة - طالما الأمر كان يتعلّق بالهرب - سيكلل وحده 
بالنجاح. وإلى جانب ذلك أودّ الإشارة إلى أنني أحتفل اليوم بعيد ميلادي 
الثلاثين. فعلى من بلغ الثلاثين أن يتحدث عن موضوعة الهرب بصفته 
رجلا وليس فتى. ماريا التي حملت لي قطعة الكعك بشموعها الثلاثين 
قالت : «إنك أصبحت الآن في الثلائين يا أوسكار. فآن الأوان لتصبح 
عاقلا». 

وكليب» صديقي كليب» أهدى أسطوانات جاز كالعادة» وجلب معه 
خمسة من عيدان الثقاب ليوقد الشموع الثلاثين المحيطة بكعكة ميلادي» 
فقال: «إن الحياة تبدأ في سنّ الثلاثين»! لقد كان في التاسعة والعشرين من 
عمره. أما فيتلار» صديقي غوتفريد» الأكثر قرباً إلى قلبي» فقد أهدى لي 
حلوى؛ وانحنى على قضبان سريري وقال بغتة: «عندما بلغ يسوع 
الثلاثين» ارتحل ثم لمّ من حوله حواريه». فكان فيتلار يحبّ دائماً أن 
يبلبل أفكاري. عليّ أن أغادر سريري وأجمع الحواريين من حولي» 

كلا 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


لمجرّد أني أصبحت في الثلاثين. ثم جاء محاميي» ملوّحاً بورقة» وأطلق 
تحية عالية كما يطلق البوق النفير» وقبّع سريري بقبعته النايلون؛ مصرّحا 
أمامي وأمام ضيوف عيد الميلاد كلّهم بأنه يعتبر هذه مصادفة سارة: «إن 
موكلي يحتفل بعيد ميلاده الثلاثين. وبالذات في عيد ميلاده الثلاثين تلقيت 
ا ون بأن قضية البنصر سيعاد بها النظر 37 أخرى؛ لأن هناك أدلّة» 
جديدة» فهذه الممرضة بيآتاء كما تعلمون. ..؛ 

١‏ منذ هروبي» أعلن عنه اليوم بمناسبة عيد 
ميلادي الثلائين: لقد تم العثور على المذنب الحقيقي» وسيعاد بحث 
القضية من جديد» نايا وسيتاح لي الخروج من مصحّة الأمراض 
العقلية» وسيصادر سريريّ الجميل» ليقلى بي في الشارع البارد المعّض 
لشتى تقلّبات الطقس» وسيجبر أوسكار ذا الأعوام الثلائين على تجميع 
الحواريين من حوله. والممرضة بيأنا إذاً هي التي قتلت ممرضتي دوروتيًا 
بسبب الغيرة الصفراء مثل مح البيض . 

ولعلّكم تتذكرون؟ فقد كان هناك طبيب يدعى فيرئر وقف حائلاً بين 
الممرضتين» مثلما يحدث دائماً في الأفلام أو الحياة. قصّة مشبوهة: 
كانت بيآتا تحب فيرنر» لكن فيرنر وقع في حبّ دوروتيّاء أما دوروتيًا فلم 
نحت أخدا: أو كاذك تحت اوسكار الصغير حا مدرنا عن أكثر تقدير. 
حينئذ وقع فيرئر مريضاًء فقامت دوروتيًا تعتني به؛ لأنه رقد في قسمها. 
فلم تستطع بيآنا تقبّل هذا الأمر أو تحمّله» لذلك فإنها أقنعت دوروتيًا 
بالتنزه معها في أحد حقول الشوفان» فقتلتها بالقرب من غيرسهايم» أو 
بعبارة أدقٌ: نحّتها عن طريقها. حينئذ أصبح بإمكان بيآنا أن تعتني بفيرنر 
كما يحلو لها. لكنها اعتنت به بطريقة بقة لم تجلب له التغات بل على 
العكس . ربما قالت المعينة» المجنونة حبّاً به» في سرّها: طالما بقي 
مريضاً فإنه سيكون من. حصتي . هل تارلته الكدر من الأدرية 8 ام انها 
أعطته الأدوية غير المناسبة؟ على أية حال» لقد لقد توفي الدكتور فيرنر بتأثير 
الأدوية الكثيرة أو الخاطئة» بيد أن بيآنا لم تعترف أمام المحكمة بأن 


/7؟7 
1_طماع1© :-1عا]آنلا 1 


الأدوية كانت كثيرة أو خاطئة ونفت أيضاً بأنها ذهبت مع دوروتيًا للنزهة في 
حقل الشوفان» حيث أصبحت تلك النزهة الأخيرة للمرضة دوروتيًا. أمًا 
أوسكار الذي لم يقرّ بشيء؛ لكنه احتفظ بإصبع في برطمان لصق به تهمة» 
فأدينبسبب حقل الشوفان» لكن المحكمة لم تحسبه كامل العقل» فأدخلته 
إلى مصحّة الأمراض العقلية ووضعته تحت المراقبة. لكن أوسسكار هرب 
قبل أن يحكم أو يقاد إلى المصحّة؛ لأنني أردت أن أرفع كثيراً من قيمة 
الدعوى التي أقامها صديقي غوتفريد. 

وعندما هربت كنت في الثامنة والعشرين. وقبل ساعات قليلة توهجت 
ثلاثون شمعة حول كعكة ميلادي تقطر ذائبة بهدوء. لقد ولدت في برج 
العذراء» بيد أننى لا أريد التحدث هنا عن ولادتى تحت اللمبات» إنما عن 
هروبى. ولأن طريق الهرب في اتجاه الشرق» د الجدَّة» كان موصدا 
أمامي» رأيت نفسي مضطراً مثل أي شخص آخر في هذه الأيام إلى الهرب 
نحو الغرب. إذا كنت عاجزاً عن الهرب إلى جدّتك بسبب السياسة العلياء 
فاهرب إلى جدّك في بوفالو الولايات المتحدة» اهرب في اتجاه أمريكا 
ودعنا نرى أين سيبلغ بك الترحال! فطرأت على ذهني فكرة الرحيل إلى 
جدي كولياجك في أمريكا عندما لعقتني البقرة في الحشائش القريبة من 
فبرسهايم وآنا مقمض العيدين: لعل الساعة شارفت علن السايدة اها 
حين خاطبت نفسي بالقول: إن المحلات ستفتح في الثامنة أو في الثامنة 
والنصف . فانطلقت ضاحكاء تاركاً الطبل لدى البقرة» وقلت: إن غوتفريد 
كان متعباًء وربما سيقدم الدعوة في الثامنة أو الثامنة والنصف» فاستغل 
فرصة الوقت الصغيرة هذه. سأحتاج إلى عشر دقائق لكي أوصي في 
ضاحية غيرسهايم الوديعة على سيّارة أجرة عبر التلفون» فأقلتني سيّارة 
الأجرة إلى محطة القطارات. أثناء السفر أحصيت إمكانياتى المالية» 
تأخطات السدياتب عدة مراف لأتدي امظورت اقم إلى الضييك 
الصباحيّ الشديد الصفاء. ثم بدأت اتصتج جواز سفري» فعثرت على 
تأشيرة دخول إلى فرنسا نافذة المفعرل.» حصلت عليها بفضل رعاية وكالة 
الحفلات «فست»» وكذلك على تأشيرة صالحة لزيارة الولايات المتحدة؛ 


58 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


كانت من أغلى أماني الدكتور دوش هو أن يهدي لتلك البلدان جولة 
موسيقية من جولات الطبّال أوسكار. 

فهتفت في نفسي 70114 دعنا نذهب إلى باريس» فهذا أمر جيّد؛ ذو 
وقع حسن» يمكن أن يحدث في الأفلام»؛ حيث يطاردني الممثل غابا 
بطول أناة وهو يدن غليونه. لكن من ذا الذي #يؤدي دوري؟ أهو شابلن 
أم بيكاسو؟ حين طلب مئّي سائق التاكسي سبعة ماركات صرت أضرب 
سروالي المجمّد بيدي ضاحكاًء مأخوذاً بفكرة الهرب. فدفعت له الأجرة 
وتناولت إفطاري في مطعم المحطة. وبالإضافة إلى البيضة المسلوقة على 
النصف حملت بيدي جدول مواعيد سفر القطارات الألمانية الاتحادية» 
فعثرت على قطار مناسب» وبعد الإفطار وجدت وقتا كافياً لتبديل العملة» 
فاقتنيت أيضاً حقيبة من الجلد الناعم»» ولأنني توجست من العودة إلى 
يوليشر شتراسه. فقد حشوتها بالقمصان الثمينة غير المناسبة لجسدي» 
وبمنامة خضراء شاحبة» وفرشاة أسئان ومعجون أسنان إلى آخره» وقطعت 
تذكرة الدرجة الأولى؛ لأنني لم أرد أن أقثّر على نفسي» فشعرت بالارتياح 
بعدما جلست في المقعد المنبّد عند النافذة؛ لقد هربت» لكنني لم أضطر 
إلى السير على قدمي. ثم أن المقعد المنجّد أعانني على التفكير: ففكر 
أوسكار فيما من شأنه أن يبعث الخوف حالما تحرّك القطار وبدأت عملية 
الهروب؛ إذ لم يكن قولي بأن لا هرب بلا خوف قولاً باطلاً! فيا أوسكار 
هل هناك ما يشيع الخوف ويحتٌ على الهرب إذا كانت الشرطة لم تقم 
بشيء آخر سوى إعانتك على القهقهة الصباحية الصافية؟ 

واليوم بعدما بلغت الثلاثين» مخلّفاً الهرب والمحكمة ورائي»؛ لكن 
ذلك الخوف الذي أوهمت به نفسي أثناء الهرب ظل كما هو. فهل حدث 
ذلك بيقعل ارتهاج السكة التحديدية آم بفعل ترقيمة القطار» جاء النصض 
رتيبًء وقد خطر في ذهني قبل الوصول إلى مديئة آخن بمسافة قصيرة» 
امقر قن أعفائن سيت أسيحة ا قاضا ف عقف الدرسة الأول بويت 
جلف | متاك عدى يعدا اجدونا ادن - قطعتا الحدوه تخوالي البناعة 
العاشرة والنصف -استقر واضحاً ومثيراً للرعب على الدوام» بحيث أنني 


33غع",, 
1_طماع1© :ع1 آنلا 1 


أظهروا اهضانا اك و لخاد ته نش : 
فيتلار هذاء عذاء المسافات الطويلة! عما قريب ستحين الساعة الحادية 
عشرة» ومع ذلك فهو لم يجد طريقه إلى الشرطة متأبطاً البرطمان» بينما 
اضطررت أنا إلى الفرار بسببه منذ ساعات الصباح المبكرة» موهماً نفسي 
بالمخاوف» لكي يحظى الخوف بقوّة دفع مناسبة؛ أه كم كان خوفي عظيماً 
فى بلجيكا عندما أنشد القطار أغنية : هل جاءت الطاهية السوداء؟ بلى بلى 
بلى! هل جاءت الطاهية السوداء؟ نعم نعم نعم.. 

لقد بلغت اليوم سنّ الثلاثين» فسيعاد فتح ملف القضية؛ وسأضطر 
من جديد إلى العدو بفعل قرار البراءة المتوقع» متروكاً تحت رحمة النص 
القائل : امات 0 وراد بلى بلى بلى » اه ١‏ 
الطاهية السوداء التي توقعت ظهروها الرهيب في كل محطة . حت وحيدا 
في مقصورتي - ربما جلست الطاهية في المقصورة المجاورة -. فتعرفت 
على رجال الجمارك البلجيكيين ومن ثم الفرنسيين» فكنت أغفو بضع 
دقائق بين الحين والحين» لاستيقظ صارخاً بفزع» فأقلّب بمجلة ”دير 
شبيغل» الأسبوعية التي اشتريتها عبر نافذة مقصورتي حين وقف القطار في 
دوسلدورف, لكي لا أقع تحت رحمة الطاهية السوداء بلا حماية» 
فتعجبت من غزارة معلومات الصحفيين» ٠‏ بل أنني عثرت على تعليق ساخر 
حول الدكتور دوش» مدير أعمالي في وكالة افست))» حيث تأكد لي ما 
كنت اعرفه أصلا: إن وكالة فست لا تستند إلا على دعامة واحدة: أي 
على الطبّال أوسكار - ثمة صورة لي ممتازة حقًا. فتخيّل الدعامة أوسكار 
انهيار وكالة (فست6 قبيل الوصول إلى باريس بمسافة قصيرة؟ ذلك الانهيار 
الذي أحدثه اعتقالي والظهور الرهيب للطاهية السوداء. ولم أكن خشيت 
يوماً من الطاهية السوداء طوال حياتي؛ لكنني عندما توجب علىّ الخوف 
أثناء الفرار زحفت تحت جلدي ومكثت هناك إلى يومناء أي إلى يوم 
احتفالي بعيد ميلادي الثلاثين» حتى وإن غفت معظم الوقت» متخذة 


وى 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


أشكالاً مختلفة : فبات ممكناً أن تجعلني كلمة غوته أصحو فزعاًء فأهرب 
تحت اللحاف. وعلى الرغم من أنني درست أمير الشعراء هذا منذ الصباء 
إلا أن هدوءه الأولمبي كان يرعبني دائماًء وإذا ما جاء اليوم متنكراًء 
آسوف بهيغة طافنة؛ متتصيلا عن إشراقة وسطرتة المسيكية » مشبارزا 
تجهّم راسبوتين وظلاميته» فيقف أمام قضبان سريري ويسألني بمناسبة عيد 
ميلادي الثلاثين: «هل جاءت الطاهية السوداء»؛ فإن الرعب سيجتاحني. 
كان القطار الذي حمل أوسكار الهارب إلى باريس يقول بلى بلى 
ا را كن كود ا م 
الشمالية» أو 71084 ناك 687 كما يقول الفرنسيون. بيد أن أحداً لم يكلمني 
باستثناء حمّال فاحت منه رائحة النبيذ الأحمرء لدرجة انق لا يمن أن 
أحسبه الطاهية السوداء حتى لو توفرت لدي النيّة الصادقة» فسلمته حقيبتي 
بكل ثقة» وتركته يحملها إلى حدّ الحاجز. ثم فكرت في أن الموظفين 
والطاهية السوداء قد تفادوا دفع أجور الدخول إلى رصيف السحطة) لكنهم 
سيعتقلونك إذا ما تخطيت الحاجز. فمن الأفضل لك لو حملت حقيبتك 
بنفسك قبل الوصول إلى الحاجز. فتوجب عليّ أن أجرجر حقيبتي بمفردي 
إلى محطة قطارات الأنفاق» إذ لم يكن هناك موظفون يحملون عنّي 
حقيبتي. ولا أريد أن أحدثكم عن رائحة أنفاق القطارات المعروفة عالميا. 
فهذا العطرء يمكن شرائه ورشّهء مثلما قرأت مؤخراًء لكن ما لفت انتباهي 
أمران» أولهما هو قطار الأنفاق الذي كان يسأل عن الطاهية السوداء» شأنه 
شأن القطارء وإن فعل ذلك بإيقاع مختلف» وثانيهما هو أن الطاهية لابد 
وأن تكون معروفة من قبل المسافرين معي جميعهم فكانوا يخشون منها 
مثلي» إذ أنهم أصبحوا يتنفسون من حولي الخوف والرعب. كانت تقتضي 
بأن أستقل قطار الأنفاق حتى بلاس دإتالى لأذهب من هناك إلى مطار 
أؤرلي بسيارة أجرة. فتخبلت اعتقالي الذي سي في محطة الشمال» إن لم 
يكن في مطار أورلي الشهير - حيث ستكون الطاهية بمثابة مضيّفة -؛ 
تخيلته طريفاً وأصيلاً على السواء. كان عليّ أن أغيّر الخط مرّة» ففرحت 
بحقيبتي الخفيفة» ثم تركت قطار الأنفاق يخطفني إلى ناحية الجنوب» 


7 
1_طماع1© :121 آنلا 1 


متسائلا : : أين ستنزل يا أوسكار؟ يا إلهي كم من الأشياء تحدث في اليوم 
الواحد: فاليوم صباحاً لطعتني البقرة بالقرب من غيرسهايم» حيث كنت 
ثابت الجنان جذلة: والآن أصبحت في باريس - ففي أي محطة ستغادر» 
وكيف ستقابلك» سوداء ومثيرة للرعب؟ أفي «بلاس د إتالي؛ أم قبالة 
«البورت»؟ فنزلت قبل البورت بمحطة واحدة» أي عند ميزون بلانش» 
لأنني فكرت في: أنهم يفكرون بالطبع في أنني اعتقد بأنهم يقفون في 
البورت. لقد سثئمت من الوضع أيضاًء فالهرب والإبقاء المضني على حالة 
الهرب جعلاني مرهقا. فلم يعد أوسكار راغبا في الذهاب إلى المطارء إنما 
وجد «ميزون بلانش؛ أكثر أصالة من مطار أورلي» فكان محقّاً في رأيه؛ إذ 
أن هذه المحطة كانت مزوّدة بسلّم آلىّ ساعدني على الشعور بالنشوة 
وقرقعة السلّم المتحرك: هل جاءت الطاهية السوداء؟ بلى بلى بلى! فرأى 
أوسكار نفسه في وضع محرجء وقد شارف فراره على الانتهاء» وبالفرار 
سينتهي تقريره أيضاً. فهل سيكون السلّم المتحرك لمحطة ميزون بلانش 
عالياً» قائماً ورمزياً بما يكفي ليصلّ صليلاً يصلح صورة ختامية ليومياته؟ 
لكن عيد ميلادي الثلاثين اليوم قد خطر في ذهني الآن. الا 
عيد ميلادي الثلائين خاتمة إلى أولئك الذين لا يشعرون بالضيق من 
صخب السَلم الآلي ولا يخشون من الطاهية السوداء. ألا يعتبر العيد 
الثلاثون للميلاد من أكثر أعياد الميلاد وضوحا؟ فهو يحتوي على رقم ثلاثة 
ويدلل على الستين فيجعلها فائضة عن الحاجة. اليوم صباحاًء حين توقدت 
الشموع الثلاثون حول كعكة عيد ميلادي وددت أن أبكي من فرط النشوة 
والسعادة. لكننى استحيت من ماريا: فعلى المرء أن لا يبكى فى سنّ 
الثلاثين . وحالما استلمتني أوّل درجة من السلّم الآلي - إذا 5 استتمال 
عبارة درجة على السلّم المتحرك - انتابتني نوبة ضحك عارمة. فضحكت 
على الرغم من الخوف. أو بسببه. فصعد بي السلم إلى الأعلى باستقامة 
وعلى مهل - وهناك رأيتهم منتصبين. بيد أنني وجدت الوقت كافياً 
لتدخين نصف سيجارة. ثمة عاشقان كان يداعبان بعضهما بغير ما كلفة 
فوق رأسي بدرجتين. وثمة امرأة عجوز وقفت أسفل مني بدرجة» فاتهمتها 


07 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ظلما أَوْلَ الأمر بأنها الطاعية السوحاء تفسها: كانت تتخير قبعة حملت 
زخرفة لها معاتى الفاكهة.. أثناء العدخين خطرت يبالنء بغذما أحهدتث 
نفع سمات اللي الآلى حميدياة تعن ارتكار فى الب اسفطة 
الشاعر دانتي العائد من الجحيمء وقد انتظره في الأعلى» حيث نهاية 
السلّم» مراسلو شبيغل الشطارء ليسألوه: «نه» يا دانتي» كيف كان الوضع 
هناك في الأسفل؟» - : ال ا 0 
فتركت رجال شبيغل 68 كيف وجدت الوضع هناك في الأسفل» 
لدى الأمهات. أخيراً تعبت من الشعراء» فقلت في نفسي إن رجال شبيغل 
لم يقفوا في الأعلى» ولا أولئنك الرجال الذي وضعوا علامات معدنية على 
جيوب معاطفهم, إنما وقفت الطاهية وحدهاء والسلّم الآلي يجعجع: هل 
جاءت الطاهية السوداء؟ فيجيبه أوسكار: «بلى بلى بلى!» 

وثمّة سلم طبيعي إلى جانب السلّم الآلي؛ كان ينقل المشاة إلى نفق 
المحطة» وبدا أن المطر مقط: في 'التقارج؛ إذ أن الناس أصبحوا مبللين. 
فشعرت بالقلق لأنني لم أجد وقتاً كافيا لشراء معطف مطريّ في 
دوسلدورف. لكن بنظرة واحدة إلى الأعلى لمح أوسكار السادة ذري 
الوجوه الملفتة للنظر بشكل لا يلفت النظر؛ السادة الذين حملوا مظلات 
مدنية - بيد أن ذلك لم يضع وجود الطاهية السوداء موضع التساؤل. 
فكيف أكلمهم؟ هكذا حملت همّيء مستمتعاً بالتدخين البطيء للسيجارة 
فوق السلم الآلي الذي غمرني بنشوة متصاعدة ببطء وزادني معرفة: إن 
المرء يستعيد فتوته على السّلم المتحرك» بل أن المرء يصبح عجوزا ويزداد 
هرماً على السلّم المتحرك . فلم يبق أمامي سوى خيار واحد وهو أن أغادر 
السلّم الآلي إِمّا بصفتي طفلاً في الثالثة أو في الستين من عمري» فأقابل 
الشرطة الدولية باعتباري طفلاً أو شيخاً مسئاً. متخوفاً من الطاهية السوداء 
في هذا السنّ أو ذاك. 

لقد بات الوقت متأخبراً بالتأكيد» وبدا سريريٌ المعدنيّ مجهداً تمامأء 
كذلك أظهر معيني برونو عينه البنيّة القلقة مرتين عبر العين السحرية. 
وهناك انتصيت: الجدكة غير المقكلحة وسوهيا الفلضى أسفل لرعة شقائق 


1/1 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


النعمان. لعل ماريا مازالت نائمة إلى الآن. أحد ماء أظن أنها كانت 
غوسته» شقيقة مارياء تمتّى لي حظاً سعيداً في الأعوام الثلاثين القادمة. إن 
ماريا تنام نوماً يثير الحسد. ما الذي تمناه لي ولدي كورت» تلميذ 
الإعدادية النموذجي» وأفضل تلميذ في الصف؛ بمناسبة عيد ميلادي؟! إذا 
ما غفت ماريا فإن قطع الأثاث تغفو من حولها أيضا. والآن فقد وجدتها: 
إن كورت تمنّى لي شفاءً عاجلاً بمناسبة عيد ميلادي الثلاثين! لكنني 
تمنيت لنفسي شريحة صغيرة من نوم ماريا؛ لأنني كنت مرهقاء فأوشك 
معينى أن ينضب من الكلمات. أمّا زوجة كليب الشابة فقد نظمت قصيدة 
عبد ميلاد بليدة عن حدبتى» لكنها بدت صادقة. والأمير أويغن كان 
مشوهاً أيضاً لكنه مع ذلك استولى على مديئة بلغراد وقلعتها. فعلى ماريا 
أذ تدرف قن آخر المطاف يآن الحدة دلت الخظ. ‏ فالأمير أويقن ايفياً 
كان له أبوان. الآن بلغت الثلاثين» غير أن حدبتي بدت أكثر فتوّة مني. 
لودفيغ الرابع عشر كان أحد الأبوين المفترضين للأمير أويغن. وسابقاً 
كانت النساء الجميلات كثيراً ما يتتحسسن حدبتي في عرض الشارع ابتغاءً 
للبركة. وكان الأمير أويغن مشوّه الجسدء ولذلك فقد مات موثاً طبيعيا. 
فلو كان ليسوع حدبة لأصبح من الصعب عليهم تثبيته على الصليب 
بالمسامير. فهل يتوجب عليّ الخروج فعلا إلى العالم برمته وتجميع 
المريدين من حولي لمجرد أنني بلغت الثلاثين؟ وعلاوة على ذلك فإن هذه 
لم تكن أكثر من خاطرة وردت ببالي على السلّم الآلي الذي رفعني عالياً 
فعاليا. والعاشقان غير المكترثين من أمامي وفوق رأسي ومن تحتي المرأة 
العجوز بالقبعة. وفي الخارج كان المطر يهطل» وهناك» في الأعلى تماماً 
انتتصب السادة» رجال الشرطة الدولية. ثمة عوارض أمسكت بدرجات 
السلّم الآلي. إذا ما وقف المرء على سلّم متحرك فعليه أن يعيد النظر في 
كل شيء: من آين أتيت؟ وإلى اين ستدذهت؟ ومن أنت؟ وما اسبك؟ 
وماذا تريد؟ ثم حلّقت من فوقي روائح: رائحة الفانيلا الفائحة من جسد 
ماريا الشابة. زيت علب السردين الذي كان يدفئ أمَى المسكينة» فكانت 
تشريه ساعن إلن أن فناوت جاركة تدفدث قحف الأرمن: يان برونسكي 


7 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الذي كان يسرف في استخدام ماء كولونيا المعطر ومع ذلك تنفسه الموتٌ 
المبكر من جميع ثقوب أزراره. كان قبو البقّال غريف يبعث رائحة 
البطاطس الشتوية. ثمة رائحة الإسفنج الجاف مرّة أخرى في اللوحات 
الإردوازية لتلامذة الصفٌ الأول. وصاحبتي روزفيتا التي كانت لها رائحة 
القرفة وجوز الطيب. كنت أعوام على سحابة من محلول الفينول بعدما 
رش السيّد فاينغولد محاليله المطهّرة ليشفيني من الحمّى. ثم النزعة 
الكاثوليكية في كنيسة-قلب-يسوع» حيث الثياب الكثيرة غير المعرضة 
للهواء والغبار البارد» حين أعرت طبلي أمام المذبح الجانبي في الجناح 
اليسارء لكن لمن؟ 

ومع ذلك فإن هذه لم تكن أكثر من خاطرة على سلّم آلي» واليوم 
فإنهم يريدون أن يثبتونني بالمساميرء قائلين: إنك بلغت الثلاثين» فعليك 
أن تجمّع تلامذتك الحواريين. عد بتفكيرك إلى الوراء» تذكر ما قلت 
عندما اعتقلوك. وأحسب الشموع المحيطة بكعكة عيد ميلادك» ثم غادر 
فراشك لتجمع الحواريين. فهناك إمكانيات كثيرة ستتاح لمن بلغ الثلاثين. 
فبإمكاني مثلاً أن أتقدم إلى ماريا بطلب زواج ثان إذا ما أتيح لي الخروج 
من المصحّحة. بالتأكيد ستكون فرصتي اليوم أكبر بكثير من السابق. لقد 
جهّز أوسكار متجراً لهاء كما أنه أصبح شهيراًء ومازال يتقاضى الكثير من 
المال على أسطواناته الموسيقية» ثم إِنّه بات رجلا ناضجاً بالغ السنّ. على 
المرء أن يتزوّج في سن الثلاثين! وإلا فسأبقى أعزب» واختار وظيفة من 
وظائفي» فأشتري مقلعاً للصخور جيّداً. واشمْل فيه نحاتين» وأعمل 
مباشرة من مرحلة قلع الحجر إلى البناء. على المرء أن يضمن مورد رزقه 
في سنّ الثلاثين! وإلا فسأبحث عن ربّة الفنّ أولا - في حالة كساد ألواح 
الواجهات المحضرّة مسبقاًء على المدى البعيد - لأقوم بخدمة الفنون 
الجميلة إلى جانبها من خلال الوقوف موديلا؛ ربما سأتزوّج ذات يوم من 
ربّة الفنَّ هذه التي طالما خطبت على عجل وبآجال قصيرة. على المرء أن 
يتزرّج في الثلاثين! وإلا فسأهاجر إلى أمريكاء إلى بوفالوء أي إلى حلمي 
القديم» إذا ما ضقت ذرعاً بأوربا: فابحث عن جدّي المليونير ومشعل 


17 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


الحرائق سابقاً سد كوليدك يؤقيفت كولاجك سابقا: .على المزه أن يشر 
في الثلاثين؟ أو عليّ أن أستسلم» فأتركهم يثبتونني على الصليب 
بالمسامير»ء فأخرج إلى الناس؛ لأنني بلغت الثلاثين» وأقلّد لهم المسيح 
الذي سيرونه في شخصيء وسأخلق منّ طبلي» على الرغم من كل شيء» 
أكثر مما بوسعه أن يقدمه؛ فأحيل الطبل إلى رمزء وأقوم بتأسيس طائفة 
دينية أو حزب أو محفل . 

لقد خطرت ببالي فكرة السلّم الآلي هذه. على الرغم من وجود 
العاشقين فوق رأسي والمرأة ذات القبعة من تحتي. هل قلت إن العاشقين 
وقفا فوق رأسي بدرجتين وليس بدرجة واحدة؛ فصار بإمكاني أن أضع 
حقيبتي بين العاشقين وبيني؟ إن الشباب في فرنسا غريبو الأطوار حقّاً؛ إذ 
أن الفعاة فكت أزراز سعرة العشيق حيعما مبارنينا السلم إلى الأعلن ثم 
فتحت أزرار قميصه وأخذت تعبث بجلده المكشوف ذي الثمانية عشر 
عاما. لقد فعلت ذلك بهمّة وبحركات عملّية خالية من الإثارة تماماًء 
فساورني الشكٌ بأن الشباب هنا يتقاضون من الجهات الرسمية أجوراً 
فيستعرضون حبّهم الجارف. لكي لا تفقد العاصمة الفرنسية سمعتها. لكن 
عندما بدأ العشيقان يلثمان بعضهما تبددت شكوكى : لقد كاد يختنئق تحت 
نحانهاء |3 أن ثوئة شغال أصاءع يعدا أطنات سيجارش: لك آتابل الشزلة 
الجنائية باعتباري غير مدتُّن. أمَا المرأة العجوز التي وقفت تحته وتحت 
قبعتها - أي أن القبعة كانت بموازاة رأسي لأن قامتي عادلت فرق الارتفاع 
بين درجتيّ السلّم - فلم تفعل ما يثير الدهشة» مع أنها دمدمت مع نفسها 
قليلا وقذفت بعض الشتائم» لكن هذا ما يفعله المسنون كلهم في باريس . 
رفعنا درابزين السلّم الآلي المكسو بالمطاط إلى الأعلى» فكان المرء 
يستطيع أن يضع يده على الدرابزين فتتحرك معه. فوددت أن أفعل ذلك لو 
أنني أخذت معي تمَازاً في رحلتي هذه. كان بلاط ردهة السّلم الخارجية 
يعكس قطرات من الضوء الكهربائي» وثمة أنابيب ولفات من الأسلاك 
الغليظة رافقت بلونها الأصفر الباهت صعودنا إلى الأعلى. ليس بمعنى أن 
السّلم الآلي أصدر صخباً جحيمياًء بل على العكس» فقد كان هادثاً مريحاً 


ك7 
1_طماع1© :121 ]آنلا 1 


على الرغم من طبيعته الآلية. فتراءت لي محطة ميزون بلانش أليفة؛ بل 
صالحة للسكن المريح إلى حدّ ما على الرغم من جعجعة الأشعار حول 
الطاهية السوداء الرهيبة. لقد شعرت وأنا على السلّم الآلي كما لو أنني في 
بيتي» وكنت سأحسب نفسي سعيداً؛ على الرغم من بعبع الطفولة 
والخوفء. لو أنه حمل معي أصدقائي وأقربائي الموتى منهم والأحياء. 
بدلاً من الناس الغرباء: تمنيت أن تكون أمّي المسكينة هناك» حيث ينقطع 
نفس السلّم الآلي» واقفة بين ماتسرات ويان برونسكي؛ إلى جانب الفأرة 
ذات الشعر الأشيب. الأمّ تروجنسكي وأبنائها هربرت وغوسته وفرتنس 
ومارياء وكذلك البقال غريف وزوجته المهملة ليناء والأستاذ بيبرا بالطبع 
مع روزفيتا اللدنة - أي هؤلاء كلهم الذين أحاطوا بوجودي المشكوك فيه 
والذين أخفقوا كلهم تحت وطأة هذا الوجود - تمنيت أن أرى جدتي آنا 
كولياجك تنتصب هناك كالجبل الشامخ فتضمني ومعي أتباعي تحت 
أثوابهاء أي تحت جبلهاء باعتبارها النقيض التام للطاهية السوداء» بدلاً من 
الموظفين الجنائيين. 

لكن سيّدين انتصبا هناك» ولم يرتديا أثواباً واسعة» بل معطفين 
مطريين مفصلين على الطراز الأمريكى. اعترفت أيضاً عند انتهاء الصعودء 
مبتسماً من كلّ أعماقي بما فيها أطرافي العشرة في الحذاء» بأن العاشقين 
غير المكترثين والمرأة العجوز المغمغمة تحتي هم ببساطة مخبرو شرطة. 
فما الذي عليّ أن أقوله الآن: تحت المصابيح ولدت» في سنّ الثالثة 
توققت عن النمو عسداء وطبلاً تسالهدف» وزجاجا حطيتء فنظر فائيلا 
اسيك وال الكنيية سعلة» زارضى أطعيت» وتنا زاقيف» وصلى 
النمو أصررت» وطبلاً دفنت» وإلى الغرب رحلت؛ والمشرق أضعت؛ 
فنحّاتاً تعلمت» فموديلاً وقفتء وإلى التطبيل عدت فالخرسانة تفقدت» 
ومالاً كسبت» وإصبعاً حفظت» وإصبعاً أهديت» وضاحكاً هربت» وبسلّم 
طلعت» فاعتقلت»؛ وحكمتء وإلى المصحّة نقلت» ثم برّأت» واليوم 
بعيد ميلادي الثلاثين احتفلت» لكنني خائف من الطاهية السوداء مازلت - 
أميق : 


ا 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


وتركت السيجارة المنطفئة تسقط من يدي. وعثروا لهم على مكان 
بين عوارض درجات للم الآلي» فطلع أوسكار ثلاث درجات بشكل 
أفقي بعد أن صعد إلى السماء فترة طويلة» راسماً زاوية بمقدار خمس 
وأربعين درجة» وجعلهم يزحزحونه من عوارض السلّم المتحرك إلى 
عوارض حديدية ثابتة خلف الشرطيين العاشقين وأمام جدّة الشرطة» فقال 
بعدما قدم موظفو الشرطة الجنائية أنفسهم» مطلقين على أوسكار لقب 
ماتسرات؛» قال وهو متمسك بخاطرة السلّم الآلي: «أنا يسوع!» ثم كرر 
العبارة ذاتها باللغة الفرنسية؛ لأنه وجد نفسه يقف وجهاً لوجه أمام الشرطة 
الدولية» ليقول أخيراً باللغة الإنجليزية : إؤناةء1 صة 1 

ومع ذلك فقد اعتقلت بصفتي أوسكار ماتسرات. بلا أدنى مقاومة 
وضعت نفسى تحت رعاية مظلآت الشرطة الجنائية؛ إذ أن المطر كان 
يهطل فى أفئيو دإتالى» وأخذت أتلفت فى الوقت ذاته بقلق؛ باحفاً» 
لفحت عله مرّات الوجه الهادئ لمعك للطاهية السوداء من خلال 
جموع المشاة وسط الشارع, في الزحام حول سيّارة الشرطة المربعة 
كالصندوق - لابد أن تكون الطاهية عينها. لقد خلا وفاضى من الكلمات» 
رمع ذلك يجي أن أتكر يما نيتعله اوبتكار بعد خروجه الكنكم ين 
مصّحة الأمراض العقلية. فهل سيتزوّج» أم يبقى أعزب؟ وهل سيهاجرء 
أم يقف موديلا؟ وهل سيشتري تقلغا أم يلم الحواريين من حوله؟ أم أنه 
سيؤسس طائفة. ولابد من مراجعة جميع الإمكانيات التي تعرض نفسها 
على من بلغ الثلاثين هذه الأيّام» فبأي شيء سأراجعها إذا لم أراجعها 
بطبلي! إذاً سأقرع على طبلي ذلك اللحن الذي صار يزداد حيويّة ورعباً 
على الدوام؛ فاستحضر الطاهية واستجوبهاء لكي أبلغ معيني برولو غداً 
صباحاً بنمط الوجود الذي نوى أوسكار ذو الثلاثين عاماً على الاهتداء به 
في ظلّ بعبع الأطفال الذي يزداد سواداً باستمرار؛ وإلا فما هذا الذي كان 
يرعبني زماناً على السلالم» في القبو» ويطلق أصوات رعب أثناء ما كنت 
أجلب الفحم» لدرجة أنني كنت أضطر إلى الضحكء ذاك الشيء الذي 
كان موجوداً هناك دائمء يتكلم بأصابعه» ويسعل عبر ثقب الباب» يزفر 


74 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


في الموقد؛ يصرخ مع الباب» يتصاعد غيماً من المداخن إذا ما نفخت 
السفن أبواقها فى الضبابء أو إذا ما احتضرت ذبابة طوال ساعات بين 
الزجاج المزدوج للنوافذء وكذلك عندما كانت أسماك الثعبان تتلهف إلى 
مي وأمّي تتلهف إليها إذا ما اختفت الشمس وراء «تورمبيرغ» لتعيش 
لنفسهاء كهرمان! فما الذي قصده هربرت عندما هجم على الخشب؟ 
كذلك خلف المذبح الرئيسي - فيما قيمة المذهب الكاثوليكي بدون 
الطاهية التى تسوّد كراسى الاعتراف كلّها؟ لقد ألقت بظلالها عندما 
تايف لع ايك ماركوسن: وكان الأطفال المشاكسون في باحة 
البناية» أكسل ميشكه» ونوجي آيكه» زوزي كاترء وهانس كولين يلفظون 
اسمها وينشدونها عندما يحضرون حساء القرميد: «هل جاءت الطاهية 
السوداء؟ بلى بلى بلى! فأنت المذنب» أنت صاحب الذنب الأكبر. فهل 
جاءت الطاهية السوداء. . .» كانت موجودة هناك دائماً» بل كانت موجودة 
في المسحوق الفوار نفسه؛ حتى لو كانت رغوته خضراء بريئة؛ فكانت 
تقرفص في خزانات الملابس كلها التي قرفصت فيهاء وقد استعارت فيما 
بعد وجه لوتسي رنفاند الثعلبي المثلث؛ وصارت تلتهم شطائر السجق 
بالقشورء وتقود النافضين إلى برج القفز - فلم يختلّف عنهم سوى أوسكار 
وحده الذي بقي يراقب النملء عارفاً بأن تلك كانت ظلالها التي 
تضاعفت» مقتفية آثار الحلاوة وجميع الكلمات: المباركة» المتوجعة» 
المبجّلة» عذراء العذارى» والصخور كلّها: البازلت» التوف البركاني؛ 
صخر الديابيز؛ الأعشاش في الصخر الذي تحجرت فيه القواقع» المرمر 
الناعم . . . والزجاج كله المهروس بالغناء» الزجاج الشمّاف» الشديد الرقة؛ 
وبضاعة المستعمرات: طحيئاً وسكراً فى أكياس زرقاء من فئة نصف الكيلو 
وربعه. وأربعة هررة فيما بعد» واحد بنها اسمه بيسمارك» الجدار الذي 
توجبت معالجته بالجصّ حديثاًء بولندا المغالية حدّ الموت» كذلك 
البلاغات الخاصة, إذا ما أغرق أحد شيئاً ماء البطاطس المتساقطة من 
القبّان بجلبة خفيفة» وذاك الذي ضاق عند القدمين» مقابر وقفت فيهاء 
وركعتء. ألياف جوز الهند رقدت عليها. . .كل ما هو مدكوك في 


7 
1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


الإسمنت» عصير البصل الذي يستدر الدموع؛ الخاتم في البصرة والبقرة 
التي لعقتني. . . فلا تسألوا أوسكار من هي! لقد نفدت كلماته. إذ أن ما 
حل في ظهري زماناً ثم صار يقبّل حدبتي؛ سينزل على رغبتي منذ الآن: 

كانت الطاهية سوداء خلفى دائما. 

رلك عل رقص الأقه سوداة: 

تدفع الحساب بالعياة السوداء» سوداء. 

بينما الأطفال لا ينشدونء إذا انشدوا: 


هل جاءت الطاهية السوداء؟ بلى-بلى-بلى! 


ىىآ”, ‏ 
1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


الفهرس 


الإيقاع وصداه البعيد: حول ترجمة غونتر غراس إلى العربية ... 0 


الكتاب الأوّل 


الثوب الواسع ل ل 
تحت الرّمث 1 
الفراشة والمصباح ا 0 
ألبوم الصور يي ل ل 
زجاج وزجاج محطم 0000 
جدول الدروس لعن تسمه وقح مسف كو 311 11313 6 1زلرورااق شر طاو اق 4 1 946 
راسبوتين وحروف الأبجدية 00 
غناء بعيد الأثر ينطلق من البرج 11 
المنصة ماس فم وااو اواو ل ا 1 
واجهات العرض م نان دعر 1ن اله قط 1غ امسو اواو واو م 121087 
ليس هناك معجزة 1 
طعام الجمعة الحزينة 0 
١ليىو2”»‏ 


1_طماع1© :11 ]آنلا 1 


ظهر هربرت تروجنسكي امم ا لو ل ام ا 1100 
و 00 
إيمان ورجاء ومحبة 1 


حطام تبحا رح في مالف توا لاقو لاس رلا لامو الور ال للم لو ور 1 ]7 
البريد البولندي ب ل ل 
بيت الورق 111 0000001 
راقد فى «سازيه» 0 اا 
قرا 0000 
المسحوق الفوّار 1[ 0010101 
بللاغات عاجلة لواف وان ماز لان لوو مادم اق أل لز وام وس 11101 
حمل العجز إلى السئدة غريف 0 
خبسة وسيغوة كيلوقراما 0 0 0 
مسر يبرا العيدائي 1 10000070 
تفقّد الخرسانة - أو الضجر الذي لا يحتمل ما 1 
خلفاء المسيح ا اك 
النافضون ممم وس نه العامة سول لان وخا الو جل ع ل نسي اع ب 0 248 
تمثيلية الميلاد 0 0000001 

يق النمل وم ل ا م ابا ألو ل و 2 545 

0 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


حجر صوان وشواهد 8 
فورتونا الشمالية 00 0 0 0ن 
عذراء 69 قنخ جع فق قف لقو وري 2 21 ون فرق د قورف ف مقو لقم قل قات جو 681 
القنفذ ا ا ا ا اك 
في خزانة الثياب ا 
كليب ل 
على حصيرة الليف ا ا ااا ااا 0 
فى قبو البصل 0 
على ساتر الأطلسيء أو المخابئ التي لا تستطيع التحرر 

من خرسانتها م اي ل 0 
البنصر ااا ا 
الترام الأخير أو عبادة البرطمان 0 
ثلاثون ا 11[ 1 ا 

7 


1_طماع1© :1ع ]آنلا 1 


هذا الكتاب 


«طبل الصفيح», الرواية الأكثر شهرة في ألمانياء والتي 
تَحِد من أجي, الأغتمالالأدبية:التى عبت بعد التجرت 
العالمية الثانية» وما زالت إلى اليوم مثار جدل واسع في 
مختلف الأوساط. الثتانية الكاسية والديئية. وقد.جاءت 
رداً عنيفاً على مقولة الْفِيلكونٍ أدوارنو الذي شككك في 
قدرة الألمان علىا سير اع تعد المتجازف 
النازية . وهي رواية مندّرة وَاجِلابّة وعميقة الدلائل وذكيّة 
في تناولها للموضوعاتء. المحرّم منها والمباح» ولاذعة 
في سخريتها. دحوت ريض اللياياعاي لساري 
السّرد العربي القديم الذي ينتمي إليه غراس حسبما أكد 
في مناسبات عديدة. إِنْها قطعة فريدة من الأدب العالمي؛ 
ولم تفقد شيئاً من حيويتها وسحرها على الرغم من مرور 
أقتى من أربعين اما على صدورها للمرة الأولى؛ وقد 
توّجت بجائزة نوبل للآداب في عام ١9199‏ . 


1